الفصل العاشر: أما أنا حرّ، أما أنا رسول

 

الفصل العاشر

أما أنا حرّ، أما أنا رسول

ذاك ما قاله بولس الرسول لجماعة كورنتوس، في معرض حديثه عن المحبَّة الأخويَّة التي تفرض على القويّ أن يراعي الضعيف فلا يشكِّكه في إيمانه. أناس يأكلون لحمًا ممّا ذُبح في الهياكل الوثنيَّة. الأقوياء يعتقدون، وهم على حقّ، أنَّ الوثن ليس بشيء، وأنَّ لا إله سوى الإله الواحد. فاللحم الذي يُذبَح في هذه المناسبات العيديَّة، لا يختلف عن اللحم الذي نشتريه عند القصّاب، ذاك هو موقف الأقوياء. أمّا الضعفاء فيفكِّرون بالأصنام التي تركوها منذ مدَّة قصيرة ليعبدوا الإله الحيّ وابنه يسوع المسيح، فتتحرَّك فيهم عواطف قديمة مثل نار لم تنطفئ بعدُ كلُّها. حينئذٍ ينبِّه بولس الأقوياء الذين يتحدَّثون عن الحرِّيَّة، بحيث لا يريدون أن يكونوا عبيدًا لأمر تعدّاه الزمن في نظرهم. ويقول لهم: أنتم أحرار، وأنا حرّ! أنتم مؤمنون، وأنا رسول وأنتم ختمُ رسالتي. فلماذا لا تقتدون بي كما أنا أقتدي بالمسيح (1كور 11: 1)؟ في هذه المناسبة، يتحدَّث الرسول عن حياته الشخصيَّة: حرٌّ بالنسبة إلى البيت والأسرة؛ حرٌّ بالنسبة إلى المال الذي يحتاج إليه ليعيش وهو الذي يتفرَّغ للرسالة. وهذه الحرِّيَّة لا يريدها أنانيَّة فيها يفكِّر في نفسه وينسى الذين حوله، بل محبَّة للآخرين وتحرُّرًا «من أجل خدمة البشارة» (1كو 9: 18).

1- نستصحب أختًا امرأة

هنا نقرأ الرسالة إلى كورنتوس، حيث ملخَّص تصرُّف الرسول (ف 9):

3 وهذا هو ردّي على الذين يخاصمونني

4 أما لنا حقٌّ أن نأكل ونشرب؟

5 أما لنا حقٌّ مثل سائر الرسل وإخوة الربّ وبطرس أن نستصحب زوجة مؤمنة؟

6 أم أنا وبرنابا وحدنا لا يحقُّ لنا إلاّ أن نعمل لتحصيل رزقنا؟

7 من هو الذي يحارب والنفقة عليه؟ من هو الذي يغرس كرمًا ولا يأكل من ثمره؟ من هو الذي يرعى قطيعًا ولا يأكل من لبنه؟

انطلق بولس من واقع الرسالة التي عرفتها جماعة كورنتوس: هناك رسل متزوِّجون تصطحبهم امرأتهم. ذكر بولس أوَّلاً «إخوة الربّ». نحن نعرفهم من الأناجيل: يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان (مر 6: 3). إنَّهم أولاد كلاوبا ومريم، كما يقول مر 15: 40 في معرض كلامه عن الذين كانوا عند الصليب: «مريم أمُّ يعقوب ويوسي» (رج مر 6: 1). وقال يو 19: 25: «وهناك عند صليب يسوع، وقفت أمُّه، وأخت أمِّه (أي سالومة المذكورة في مر 15: 40؛ 16: 1، أنريد للأخت أن تبتعد عن أختها في تلك المحنة القاسية؟)، ومريم زوجة كلاوبا، ومريم المجدليَّة. من جهةٍ أمُّه وأخت أمِّه، ومن جهةٍ ثانية، مريم كلاوبا ومريم المجدليَّة.

عرفنا من إخوة يسوع يعقوب الذي التقى به بولس بعد خبرة دمشق والحياة في بلاد العرب (أي: حوران وشرقيّ الأردنّ) (غل 1: 19). فدوره كبير في جماعة أورشليم (ربَّما بعد أن تركها بطرس، ومضى إلى مكان آخر، أع 12: 17). هو عمود من عواميد الكنيسة مع «بطرس ويوحنّا» (غل 2: 9). وارتبطت بيعقوب رسالة أُرسلت «إلى المؤمنين المشتَّتين من عشائر بني إسرائيل» (يع 1: 1). أمّا يهوذا (أو: يودا كما في الأصل) فارتبطت به أيضًا رسالة توجَّهت «إلى الذين دعاهم الله وأحبَّهم وحفظهم ليسوع المسيح» (يهو 1). ذكر المؤرِّخ الكنسيّ (أوسابيوس في التاريخ الكنسيّ 2: 23) يهوذا بشكل عابر، ولكنَّه استطال في الكلام عن يعقوب، فتحدَّث عن ذلك البارّ الذي رجمه أبناء شعبه حين كان يصلّي من أجلهم.

إخوة يسوع هم من اليهود. واليهوديُّ كان يتزوَّج باكرًا ليكون له الأولاد بحسب كلام الربّ: «انموا واكثروا واملأوا الأرض» (تك 1: 28). ومثلهم كان بطرس، والإنجيل يذكر حماته التي كانت طريحة الفراش مصابة «بالحمّى» (مت 8: 14). ما نلاحظ هنا هو أنَّ الرسول لا يقول زوجة، بل «أخت». هي رفيقته في الرسالة، كما كانت النساء القدّيسات في زمن المسيح: «مريم المجدليَّة... حنّة امرأة خوزي، سوسنة... » (لو 8: 3).

هنا نطرح السؤال: «هل كان بولس متزوِّجًا؟ في الحقيقة نفهم من النصِّ أنَّه لم تكن له أخت. أو بالأحرى امرأة. وكانت فرضيّات عديدة. أو أنَّ امرأته تُوفِّيت، فصار حرٌّا من أجل الرسالة. أو هو تركها، بحسب الإنعام البولسيّ، على ما يقول هو نفسه في 1كو 7:

12 وأمّا الآخرون فأقول لهم أنا لا الربّ: إذا كان لأخٍ مؤمن امرأةٌ غير مؤمنة رضيت أن تعيش معه، فلا يطلِّقها.

13 وإذا لامرأة مؤمنة زوجٌ غير مؤمن...

15 وإن أراد غيرُ المؤمن أو غير المؤمنة أن يفارق فليفارق، في مثل هذه الحالّ، لا يكون المؤمن والمؤمنة خاضعين لرباط الزواج، لأنَّ الله دعاكم أن تعيشوا في سلام.

فقال أصحاب هذه النظريَّة: رفضت امرأته أن تعيش معه في سلام، فرأى في هذا الوضع مناسبة لكي يكون حرٌّا من كلِّ رباط عائليّ، لا مع امرأته فحسب، بل مع بلدته طرسوس، ومع والديه. فهو، بعد الانطلاق «الرسميّ» من أنطاكية (أع 13: 1ي) لن يعود إلى طرسوس، على مثال إبراهيم الذي قيل له: «اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك» (تك 12: 1). وكما أنَّ إبراهيم ترك الربَّ يقود حياته، و«يدلُّه على الموضع الذي ينطلق إليه، كذلك بولس. وضع يده بيد الربّ. أراد أن يُدرك المسيح بعد أن أدركه المسيح ذاك الذي أحبَّه «وضحّى بنفسه من أجل أحبّائه».

وقال بعضهم انطلاقًا من 1كو 9: 5 إنَّ بولس لم يكن متزوِّجًا. ولمّا جاءت الدعوة من الربّ أراد أن «يبقى في الحالّ» (1كو 7: 26) التي وُجد فيها ساعة ناداه الربّ. وفي أيِّ حال كان في خطِّ الإنجيل. سأل بطرس: «ها نحن تركنا ما لنا وتبعناك» (لو 18: 28). ماذا كان جواب يسوع؟ الحقَّ أقول لكم: «ما من أحد ترك بيتًا أو امرأة أو إخوة أو أبًا أو أمٌّا أو أولادًا من أجل ملكوت الله،، إلاّ نال في هذه الدنيا أضعاف ما ترك، ونال في الآخرة الحياة الأبديَّة» (آ29-30). وحده لوقا تحدَّث عن «المرأة» مع الأب والأمّ. أتُراه نظر إلى مثال بولس؟ الأمر ممكن جدٌّا. ويبقى أنَّه سواء كان غير متزوج في دُعيَ، أو كان متزوِّجًا كما اعتاد اليهود أن يفعلوا في عمر مبكِّر، وبالأحرى الفرّيسيّون، فهو ترك كلَّ شيء وراءه واندفع إلى أمامه لكي يشارك المسيح في آلامه ويتشبَّه به في موته، على رجاء القيامة من بين الأموات (فل 3: 10-11).

ويُطرَح السؤال: هل البتوليَّة أفضل من الزواج في إطار الرسالة؟ لا شكّ، كما يقول بولس الرسول في 1كو 7:

32 أريد أن تكونوا من دون همّ. فغير المتزوِّج، يهتمُّ بأمر الربِّ وكيف يرضي الربّ.

33 والمتزوِّج يهتمُّ بأمور العالم وكيف يُرضي امرأته.

34 فهو منقسم. وكذلك العذراء والمرأة التي لا زوج لها، تهتمّان بأمور الربِّ وكيف تنالان القداسة نفسًا وجسدًا، وأمّا المتزوِّجة فتهتمُّ بأمور العالم وكيف تُرضي زوجها.

35 أقول هذا لخيركم، لا لألقي عليكم قيدًا، بل لتعملوا ما هو لائق وتخدموا الربَّ من دون ارتباك.

نلاحظ أوَّلاً، الأساس: خدمة الربّ. فبطرس كان خادم الربّ. ومثله إخوة يسوع. كانوا متزوِّجين. وبولس كان متحرِّرًا وكذلك برنابا. كانا خادمين للربّ، متحرِّرين من كلِّ قيد. أمّا لماذا شدَّد بولس على البتوليَّة، فيما شدَّد؟ لأنَّ الزمان قصير. فالجماعة كانت تنتظر مجيء الربِّ القريب. وكان بولس مثالاً للمؤمنين، ومثالاً للمرسلين الذين ينطلقون بسرعة «فلا يسلّمون على أحد في الطريق« (لو 10: 4). وبالأحرى لا يحملون متاعًا يعيقهم في حمل الإنجيل. ونقول ما قلناه: الخدمة هي الأساس. من رأى أنَّه لا بدَّ أن يتزوَّج فليتزوَّج. وهو «لا يخطئ» (1كو 7: 36). ومن رأى أن لا يتزوَّج فحسنًا يفعل (آ37). وكان المبدأ الأساسيّ: «من تزوَّج فعل حسنًا، ومن امتنع عن الزواج، فعل الأحسن» (آ38).

2- نعمل لتحصيل رزقنا

كثيرون في عالمنا الحديث طلبوا أن يعملوا لكسب رزقهم، وإن كانوا مكرَّسين للرسالة. في الغرب بشكل خاصّ، ولا سيَّما مع الكهنة العمّال، الذين أرادوا أن تكون شهادتهم في قلب العالم. المثال الأوَّل، لا شكَّ، هو يسوع المسيح الذي قيل فيه: نجّار وابن نجّار (مت 13: 55؛ مر 6: 3). ومثله بولس فعل.

فأوَّل مرَّة يذكر سفر الأعمال بولس في كورنتوس، فنحن نراه في عائلة رسوليَّة: أكيلا وزوجته برسكلَّة. قال لوقا: «فجاء بولس إليهما، وأقام يعمل عندهما، لأنَّه كان من أهل صناعتهما، صناعة الخيام» (أع 18: 2-3). لا يقول بولس شيئًا، بشكل مباشر، بل بشكل غير مباشر. نقرأ مثلاً في 1تس 2: 9:

فأنتم تذكرون أيُّها الإخوة، جهدنا وتعبنا، فكنّا نبشِّركم بشارة الله ونحن نعمل في الليل والنهار، لئلاَّ نثقِّل على أحد منكم».

بهذه الطريقة يبقى حرٌّا ولا يكون مدينًا لأحد، ممّا جعل الكورنثيّين يعتبرون ترفُّعه كبرياء. فقال لهم في 2كو11:

7 فهل أخطأتُ حين حملتُ إليكم مجّانًا بشارة الله وأذللتُ نفسي لترتفعوا أنتم؟

8 حرمتُ كنائس أخرى وأخذتُ منها النفقة لخدمتكم.

9 وما ثقَّلتُ على أحد منكم حين كانت بي حاجة، وأنا بينكم. فالإخوة الذين جاؤوا من مكدونية سدُّوا حاجتي. وهكذا حرصتُ ألاّ أثقِّل عليكم في شيء وسأحرص أيضًا.

10 وبحقِّ المسيح فيّ، لن يسلبني أحدٌ هذه المفخرة في بلاد آخائية.

11 ولماذا؟ ألأنّي لا أحبُّكم؟ الله يعلم كم أنا أحبُّكم.

لا، تصرُّف بولس لا ينمُّ عن كبرياء، بل عن تجرُّد كبير في كورنتوس، تلك المدينة التجاريَّة، حيث المال هو المحرِّك الأوَّل، عند الناس، لا عند بولس، حيث العمل «إذلال»، كما قال بولس. هو كذلك إن كان الهدف «ذليلاً». ولكن إن كان مشاركة العمّال والعبيد في كورنتوس، بحيث يصير الرسول كلاٌّ للكلِّ ليربح الكلّ (1كو 9: 22)، يصير ضعيفًا مع الضعفاء ليربح الضعفاء، وذلك «في سبيل البشارة» (آ23). فمثل هذا العمل يرفع الإنسان.

هنا نتذكَّر أنَّ المؤمنين في كورنتوس، لم يكونوا كلُّهم من ذوي الحسب الشريف، لم يكونوا من الأقوياء، ولا من الحكماء (1كو 1: 26). وهذا ما نختبره خلال عشاء الربِّ. يقول الرسول: «فيجوع بعضكم ويسكر آخرون» (1كو 11: 21).

وأيُّ كنائس «أخذ منها الرسول» من أجل كورنتوس؟ ذكر منطقة «مكدونية» ونحن نتذكَّر ما فعلته جماعة فيلبّي الذين اهتمُّوا بالرسول اهتمامًا. نقرأ فل 4:

10 ... نعم، كان لكم هذا الاهتمام، ولكنَّ الفرصة ما سنحت لكم

11 ولا أقول هذا عن حاجة، لأنّي تعلَّمتُ أن أقنع بما أنا عليه

12 فأنا أعرفُ أن أعيش في الضيقة، كما أعرف أن أعيش في السعة، وفي جميع الظروف اختبرتُ الشبع والجوع، والفرج والضيق.

وسيكون بولس قاسيًا بالنسبة إلى أهل تسالونيكيّ، ولا سيَّما البطّالين بينهم (2تس 3):

6 وأوصيكم، أيُّها الإخوة، باسم الربِّ يسوع المسيح أن تتجنَّبوا كلَّ أخٍ بطّال يخالف التعاليم التي أخذتموها عنّا.

7 فأنتم تعرفون كيف يجب أن تقتدوا بنا. فما كنّا بطّالين حين أقمنا بينكم،

8 ولا أكلنا من أحد مجّانًا، بل عملنا ليلاً ونهارًا بتعب وكدٍّ حتّى لا نثقِّل على أحد منكم.

9 لا لأنَّه لا حقَّ لنا في ذلك، بل لنكون لكم قدوة تقتدون بها.

10 ولمّا كنّا عندكم أعطيناكم هذه الوصيَّة: «من لا يريد أن يعمل لا يحقُّ له أن يأكل«.

11 نقول هذا لأنَّنا سمعنا أنَّ بينكم بطّالين ولا عمل لهم سوى التشاغل بما لا نفع فيه.

12 فهؤلاء نوصيهم ونناشدهم في الربِّ يسوع أن يشتغلوا بهدوء ويأكلوا من خبزهم.

لماذا يعمل بولس؟ لكي يكون قدوةً للمؤمنين. أيكونون اعتبروا أنَّهم «ارتفعوا» في السلَّم الاجتماعيّ، حين صاروا مسيحيّين. أو، حين صاروا مسؤولين في الكنيسة. لهذا، تورَّعوا عن العمل. هذا للعبيد، ونحن صرنا أحرارًا! فكان كلام بولس واضحًا: «أنا رجل حرٌّ عند الناس، ولكنّي جعلتُ من نفسي عبدًا لجميع الناس حتّى أربح أكثرهم» (1كو 9: 19).

وبولس يعمل بيديه. تلك كانت وصيَّته الأخيرة لشيوخ أفسس، في خطِّ ما قاله صموئيل حين ودَّع بني إسرائيل وجعل لهم ملكًا (1ص 12: 3: »هل أخذت...؟ ») قال الرسول في أع 20:

33 ما اشتهيتُ يومًا فضَّة أحد أو ذهبه أو ثيابه

34 وأنتم تعرفون أنّي بهاتين اليدين اشتغلتُ وحصلتُ على ما نحتاج إليه، أنا ورفاقي.

35 وأريتُكم في كلِّ شيء كيف يجب علينا بالكدِّ والعمل أن نساعد الضعفاء.

هنا نعود إلى التقليد اليهوديّ الذي ربيَ فيه بولس، شاول من قبيلة بنيامين، الفرّيسيّ ابن الفرّيسيّ. ونبدأ على مستوى الزواج. في فصول الآباء (5: 21):

ابن الخامسة لدراسة الكتاب المقدَّس

وابن العاشرة، المشناة (أو: الشريعة الشفهيَّة)

وابن الثالثة عشرة، الوصايا

وابن الخامسة عشرة، التلمود

وابن الثمانية عشرة، الزواج.

ففي زمن بولس، كما في تاريخ الشعب الأوَّل، واجب الشابِّ بأن يؤسِّس عيلة، واجب لا مهرب منه. لهذا كانت أقوال مثل هذه: «رجل بلا زوجة، رجل ناقص». ثمَّ: «الزواج أفضل من دراسة التوراة». «لا يُدعى الرجلُ رجلاً قبل أن يتَّحد بامرأة». فهل نتصوَّر أن لا يكون بولس تزوَّج باكرًا؟ لا يمكن أن يكون الجواب بالنفي. لا شكَّ في أنَّ وصيّات الآباء تحدَّثت عن لاوي الذي تزوَّج وهو ابن ثمانية وعشرين عامًا، ويسّاكر وهو ابن خمسة وثلاثين عامًا، ولكن تلك لم تكن العادة لهذا اعتبر العددُ الكبير من الشرّاح أنَّ بولس كان متزوِّجًا حين دعاه الربّ.

وما قلناه عن الزواج، نقوله عن العمل. قال الكتاب: «حين تأكل من ثمر تعبك، تكون سعيدًا راضيًا». أو: «ما أعذب النوم لدى العامل». ثمَّ: «ما أعظم العمل الذي يمنح الإنسان كرامته! ». وأيضًا: «من يعيش من تعب يديه، أعظم من الذي يخاف السماء (= أو: الله) ». في هذا الإطار، يُلام الإنسان الذي يعيش من الصدقة ومن عطاء الآخرين. فقيل: «أفضل لك أن تعرّي هيكلاً عظميٌّا في الساحة، من أن تمدَّ يدك».

ونذكر هنا من جديد فصول الآباء (2: 2): «جميلة التلمذة للتوراة إذا ما رافقتها مهنة. فالجهد المبذول فيهما يلهي عن الخطيئة. كلُّ دراسة لا يقابلها مهنة ما، تبطل وتجرُّ نحو الخطيئة». في هذا المجال نفهم أن يكون المعلِّمون الكبار في العالم اليهوديّ أصحاب مهنة يدويَّة. مثلاً، هيلال كان حطّابًا، رابّي يهودا، خبّازًا. رابّي يوحانان، صانعَ أحذية، رابّي إسحق، حدّادًا. وكان جدال بين شمعون بريوصاي ورابّي إسماعيل. قال الأوَّل: الخير للإنسان يكون في تكريس كلِّ وقته لدراسة التوراة، بحيث إنَّ آخرين يشتغلون مكانه. أمّا رابّي إسماعيل فقال: يجب أن ترافقَ دراسةَ التوراة مهنةٌ يدويَّة.

هنا كان بولس. امتلك مهنة يدويَّة. صانع خيام. ومثله يوسف، أبي يسوع بالتبنّي: كان نجّارًا. واستفاد بولس من مهنته لئلاّ يكون عبئًا على أحد. ذلك ما كان يفعل حين يسبق الفريق الرسوليّ إلى مكان من الأماكن. ولكن حين يصل العاملون معه، يتفرَّغ أكثر للبشارة بالإنجيل. ذاك ما نفهم من سفر الأعمال، في معرض الحديث عن كورنتوس: «فلمّا وصل سيلا وتيموتاوس من مكدونية، حصر بولس كلَّ همِّه في التبشير بكلمة الله» (أع 18: 5).

3- في خدمة البشارة

سواء كان بولس متزوِّجًا حين جاءه النداء أو لم يكن متزوِّجًا! سواء تعلَّم مهنته في أورشليم أو في طرسوس! سواء أراد أن يكون ذلك الفرّيسيّ المتديِّن أو ذاك المؤمن الذي يحافظ على الشريعة في أرض الربّ أو في الشتات! كلُّ هذه مواقف جانبيَّة لا قيمة لها إلاّ بالنسبة إلى البشارة. هنا، ترك الرسول حرِّيَّته وصار عبدًا. هو مع اليهوديّ، نسي شخصيَّته وتطلُّعاته، ليكون يهوديٌّا مع اليهوديّ ليربح اليهوديّ (1كو 9: 20). في الماضي، كان بولس متعلِّقًا بالشريعة فربط بها حياته. ولكن بعد طريق دمشق، لم تعد الشريعة حياته، بل المسيح الذي فيه يحيا. ومع ذلك، هو مستعدٌّ لأن يمارس الشريعة مع أهل الشريعة، «لأربح أهل الشريعة» (آ20). غير أنَّ الرسول لا يلتصق بالشريعة فيستعدُّ أن يضحّي بالإنسان على ما فعل الفرّيسيّون مثلاً أمام الرجل الذي كانت يده يابسة: «كانوا يراقبون يسوع ليروا هل يشفيه يوم السبت» (مر 3: 2). وعند السؤال «سكتوا» (آ4). أهكذا يتجاوزون الشريعة ولو طرح عليه السبت «عمل الخير أم عمل الشرّ» (آ4).

لا. بولس ليس على هذا المستوى. فالذي لا شريعة له، يستعدُّ بولس أن يكون كمن «بلا شريعة لأربح الذين هم بلا شريعة» (1كو 9: 21). ويستطرد الرسول حالاً: لي شريعة واحدة، هي «شريعة المسيح». هي التي أتبع في كلِّ تصرُّفاتي.

ويعود بولس إلى السؤال الذي طرحه منذ البداية: «أما لنا حقّ؟» (1كو 9: 3). والجواب نعم. لنا حقٌّ شأننا شأن غيرنا. ولكن يواصل الرسول: «أمّا أنا فما استعملتُ أيَّ حقٍّ من هذه الحقوق» (آ15أ). هل ندم على ذلك؟ كلاّ. هل هو يطالب مثل عامل، أجير، مع «مفعول رجعيّ»؟ كلاّ. فقد قال أيضًا: «ولا أنا أكتب هذا الآن لأطالب بشيء ما، فأنا أفضِّل أن أموت على أن يحرمني أحدٌ هذا الفخر» (آ15ب).

وإلى هؤلاء الذين أرادوا أن ينادوا بالحرِّيَّة التي لهم في المسيح، بيَّن الرسول أمامهم «حقَّه». وأعطاهم مثلاً من حياة الكنيسة: «كلُّهم يعيشون «على حساب الكنيسة» ووحدنا يجب أن «نعمل لتحصيل رزقنا» (آ6). ثمَّ كانت براهين من الحياة اليوميَّة، مأخوذة من عالم الحرب، من عالم الزراعة، من عالم رعاية المواشي. يُطرح السؤال في شكل بلاغيّ، ولا يمكن أن يكون الجواب إلاّ بالنفي.

ويأتي البرهان الأساسيّ في «فتوى» مأخوذة من الكتاب المقدَّس: وفي شكل خاصّ إلى سفر التثنية: «لا تكمّ الثور على البيدر وهو يدوس الحصاد» (تث 25: 4). إذا كان هذا القول ينطبق على الثور، أما ينطبق على العامل، أما ينطبق على الرسول الذي يضحّي بذاته ليلاً ونهارًا؟ ويرتفع الرسول من عالم الزراعة والفلاحة ليصل إلى جماعة كورنتوس (ف 9):

11 فإذا كنّا زرعنا فيكم الخيرات الروحيَّة، فهل يكون كثيرًا علينا أن نحصد من خيراتكم المادِّيَّة؟

12 وإذا كان لغيرنا حقٌّ أن يأخذ نصيبه منها أما نحن أولى به؟ ولكنَّنا ما استعملنا هذا الحقّ، بل احتملنا كلَّ شيء لئلاّ نضع عقبة في طريق البشارة بالمسيح.

وهكذا نعود إلى البشارة، إلى الإنجيل. ذاك هو الخير الأعظم الذي من أجله نعمل ما نعمل، على مثال ذاك الذي وجد كنزًا في حقل «فمضى وباع كلَّ ما يملك واشترى ذلك الحقل» (مت 13: 44). أو على مثال ذاك التاجر الذي «وجد لؤلؤة ثمينة، فمضى وباع كلَّ ما يملك واشتراها» (آ45). هنا الفرق بين الأجير وبين الراعي. الأجير يعمل بقدر أجره. والراعي يستعدُّ أن يبذل حياته من أجل خرافه (يو 10: 11). «فإذا رأى الذئب، لا يترك الخراف ويهرب» (آ12).

الخاتمة

تلك كانت نظرة إلى حياة بولس الشخصيَّة. لا يقُال لنا شيء عن والديه. هو عاد إلى طرسوس بعد خبرتين قاسيتين في دمشق «حيث دلّوه من السور في قفَّة» بعد أن صار «اليهود يراقبون أبواب المدينة ليل نهار ليغتالوه» (أع 9: 24). وفي أورشليم حيث حاول اليهود المتكلِّمون باللغة اليونانيَّة «أن يقتلوه» (آ29). حينئذٍ يقول لوقا: «فلمّا عرف الإخوة بالأمر، أنزلوه إلى قيصريَّة ومنها إلى طرسوس» (آ30)، ولكن حين يأتي برنابا ويدعوه إلى الرسالة (أع 11: 25-26)، تغيب طرسوس عن ناظرَيْ بولس. فهذا الرسول ليس ذاك الذي «يلتفت إلى الوراء» (لو 9: 62) ولا ذاك الذي يريد أن يذهب ليدفن أباه (آ59). هو مضى ولن يستقرَّ له قرار حتّى يصل إلى رومة فيعلن بكلِّ بساطة: «حياتي هي المسيح والموتُ ربحٌ لي» (فل 1: 22). ومن هي امرأة هذا الرسول الذي كان باستطاعته أن يكون مثل بطرس، أو أقلَّه مثل أكيلا زوج برسكلَّة؟ لا نعرف. ممّ كان يعتاش في الحالات العاديَّة؟ لا نعرف أيضًا. بل هو مارس مهنة جانبيَّة تُحرِّره من طلب الصدقة ومدِّ اليد، ليبقى له هذا الخفر بأن يبشِّر بالإنجيل مجّانًا. ولكنَّه الآن في الطريق ولم تتوضَّح له المعالم. فما من شخص ملأ حياته إلى الآن وما من مشروع يستحقُّ أن يجنِّد له كلَّ طاقاته. متى يكون هذا؟ وحده الربُّ يعرف ساعته، الساعة التي لا ينتظرها إنسان.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM