الفصل 22: مار ديونيسيوس ابن الصليبيّ و الرسالة إلى روما

مار ديونيسيوس ابن الصليبيّ و الرسالة إلى روما

قبل أن نبدأ بتفسير هذه الرسائل نودّ أوّلاً إيضاح ما يلي:

الأسباب التي دعت الرسول إلى كتابة هذه الرسائل:

بعد أن تتلمذ الرسول قام بخمس وستّين رحلة بدءًا من دمشق إلى أورشليم، ومن هناك إلى قيسيريّة ثمّ طرسوس ومن هناك إلى أنطاكية حيث مكث فيها سنة. ومنها إلى أورشليم للمرّة الثانية ثمّ إلى أنطاكية للمرّة الثانية واقتبل فيها الرسامة، ثمّ إلى قبرص، فريجية، أنطاكية بسيدية، إيقونية، لوسطرة ودربة، بمفوليا، فريجية، إيطاليا، ثمّ إلى أنطاكية للمرّة الثالثة ثمّ إلى أورشليم للمرّة الثالثة لأجل الختان. ثمّ إلى أنطاكية رابعة ثمّ إلى سورية وقيليقية. ثمّ إلى دربة ثانية ولوسطرة حيث اختتن طيمثاوس، ثمّ إلى بلاد فريجية وغلاطية، لرسيا، طرواس، نيافوليس، فيليفوس، مقدونية، أمفيوفيوليس، تسالونيقية، يروا، أثينا، كورنتس، أفسس، ميطولينا، تطوردوسي، قيسيريّة، ومن ثمّ إلى أورشليم للمرّة الرابعة. ومن هناك أرسل إلى قيسيريّة، ومنها مخفورًا إلى رومة. ومن قيسيريّة إلى صيدون، مورادليسيا، قنيدوس، مالطا، الجزيرة التي فيها لدغته الحيّة، ثمّ إلى سورافا، أريجيون، فوطيالوس، ومن هناك إلى رومة مشيًا على الأقدام.

في التقرير الذي كتبه يعقوب من أورشليم، وورد فيه وجوب تلاوة رسائل بولس وقراءتها في الكنائس من على المنبر، وهكذا أيضًا كتب قليميس بهذا الشأن. وإنّ قليميس جمع رسائل بولس في كتاب واحد. وبحسب قول إيوانيس (يوحنّا) أسقف القسطنطينيّة إنّ الرسول كتب رسائله إلى كورنتس والعبرانيّين باللغة العبرانيّة. وإنّ لوقا نقل الرسالة إلى العبرانيّين إلى اللغة اليونانيّة. وارتأى آخرون أنّ رسائل قليميس ورسالة بولس إلى رومة كتبت باللغة اللاتينيّة. وما تبقّى من الرسائل كتبها باللغة اليونانيّة. لأنّه كان يتقن كلّ الألسنة واللغات السائدة يومذاك.

إنّ الإنجيل المقدّس يتحدّث عن تجسّد الكلمة وتدبيره الخلاصيّ بالجسد بأسلوب قصصيّ وتاريخيّ. أمّا بولس فيتحدّث عن سبب التجسّد وما وهب لنا هذا السرّ من الخيرات والعطايا. وما استأصل منّا من الشرور والرذائل.

إنّ الرسالة إلى رومة كتبت قبل أن يلتقي الرسول شخصيًّا بأهل رومة. أمّا الرسائل التي وجّهت إلى غلاطية، وأفسس، وفيليبّي، وكولوسّي، والثانية إلى طيمثاوس، وفيليمون، فقد كتبها بعد لقائه مع أهل رومة. والرسالتان إلى أهل كورنتس سبقتا رسالة رومة. والرسالتان إلى أهل تسالونيكي سبقتا الرسالتين إلى كورنتس. وقد رتّبت الرسالة إلى رومة، والرسالتان إلى كورنتس قبل سائر الرسائل الأخرى بسبب شهرة هذه المدن وذيوع صيت سكّانها. هكذا أيضًا إنّ الأنبياء الاثني عشر لم ينظّموا بحسب الترتيب الزمنيّ، فإنّ حكاي وزكريّا وملاخي رتّبوا قبل حزقيال ودانيال علمًا أنّهم جاءوا بعدهم. وقد جرت العادة لدى الأوّلين أن يسلكوا هكذا.

الرسالة إلى رومة

إنّ الداعي لكتابة هذه الرسالة ذلك أنّ بطرس الرسول كان قد بشّر أهل رومة. ولمّا أراد بولس الرسول أن يُعلم أهل رومة عن أمره، أنّه دُعي للكرازة وائتمن على خدمة الأمم حرّر لهم هذه الرسالة، موضحًا لهم فيها عن دعوته، شارحًا عن النعمة التي أخذها بالمسيح إلخ من الأمور التي حوتها هذه الرسالة.

إنّ موسى والإنجيليّين وجّهوا كتاباتهم إلى المعروفين لديهم والمطّلعين على أمورهم لذلك لم يستهلّوا كتاباتهم بذكر أسمائهم. أمّا بولس فمن حيث أنّه وجّه كتاباته إلى أناس بعيدين وبأسلوب رسائليّ لذلك استهلّ الرسالة باسمه ليعلمهم بأنّ ما تحتويه من التعليم هو له.

لماذا نستهلّ قراءات الرسول بولس لدى تلاوتها بالكنيسة ب"إخوتي" ولدى قراءة سفر الأعمال ب "أحبّائي"؟ نجيب:

إنّ بولس كتب رسائله إلى شعوب مختلفة، الذين صاروا إخوة وأبناء الآب بالمعموديّة والإيمان لذلك يدعوهم "إخوتي". أمّا لوقا فقد كتب سفر الأعمال للأحبّة وأهل الدار.

الرسول بولس

كان بولس عبرانيًّا أو بالأحرى إسرائيليًّا يهوديًّا، ذلك أنّ العمونيّين والموآبيّين أيضًا كانوا يدعون عبرانيّين بسبب لوط، ولكنّهم ليسوا إسرائيليّين من إسرائيل، ولئن ينحدر الموآبيّون من إبراهيم كما سبق ذكره في أعلاه. كان من سبط بينامين. ولد في مدينة طرسوس قيليقية، وتعلّم في أورشليم على يد غملائيل، كان يضطهد المسيحيّين ظنًّا منه أنّه يعمل برًّا، لذلك أشفق الله عليه واصطفاه فقد وجده أهلاً لذلك ومستحقًّا.

أضف إلى ذلك لئلاّ يذهب تعبه عبثًا لأنّه عمل بدون معرفة. واختير أيضًا لأنّه كان غيورًا على الناموس، وليعلم أنّ الأمم تتبرّر بالإيمان بالمسيح وليس بحفظ وصايا الناموس. عمّده حنانيا مثلما عمّد الشمّاس فيلبّس المؤمنة أي سريسا ملكة قندق. وعندما يأذن السيّد المسيح فما الذي يمنع؟ لأنّه الكهنوت يعطى بطريقتين، بالأذن، وبوضع اليد. رُسم أسقفًا في أنطاكية. ولمّا صعد إلى أورشليم وأراد اليهود قتله أنقذه لوسياس وأرسله إلى قيسيريّة فلسطين عند فيلكس. وهناك سجن سنتين إذ ظنّ فيلكس أنّه يعطيه ذهبًا ليطلقه. وبعد فيلكس جاء فورقيوس القاضي وأراد أن يحاكمه، بيد أنّ بولس التجأ إلى القيصر. فأرسله فورقيوس عند قيصر وكان معه أرسطرخس المقدونيّ ولوقا، وسجن في رومة سنتين وهو يكرز ويعلّم. أمّا لوقا وأرسطرخس فقد تركاه وذهبا ليكرزا. وفي هذه الأثناء انتهى لوقا من كتابة سفر أعمال الرسل. وأطلق نيرون من ثمّ سراح بولس، وكرز عشر سنوات أخر. ولمّا أصيب نيرون بمرض وقتل امرأته وأمّه وذويه لأنّهم قبلوا الديانة المسيحيّة، أثار للفور اضطهادًا وأرسل وطلب بولس وقتله، وذهب لوقا معه إلى رومة. فاستشهد بولس سنة 36 بعد آلام المسيح، يوم الخميس 29 تمّوز بحسب التقويم الإسكندريّ، وبالنسبة لحساب السريان واليونان 29 حزيران. وفي سنة 18 لطيباريوس تألّم سيّدنا المسيح وفي سنة 19 لطيباريوس تتلمذ بولس، أي تتلمذ بعد آلام المسيح بسنة واحدة. كرز 21 سنة. سجن في قيسيريّة سنتين، وفي رومة سنتين. ولمّا أطلق سراحه بشّر عشر سنوات. من بدء دعوته حتّى استشهاده 36 سنة أو 35 سنة كما ورد في نسخ أخرى. خمس سنوات في عهد طيباريوس وفي نسخ أخرى أربع. وأربع في عهد غايوس، و14 على عهد قلوديوس، و13 على عهد نيرون، مجموع السنوات كلّها 36 سنة. وقد ترجمت كتب بولس من اليونانيّة إلى السريانيّة بعد 436 سنة من استشهاده والآن نبدأ بتفسير كتاباته:

تفسير رسالة رومة

بعد أن قوّانا الربّ وأعاننا وانتهينا من تفسير العهد القديم برمّته، وأوجزنا آراء المفسّرين، كما فسّرنا أيضًا الإنجيل ورؤيا يوحنّا وأعمال الرسل، ننتقل أيّها الحبيب إلى تفسير كتابات الرسول الإلهيّ. وأمّا أنت فأطلب إليك أن تصلّي من أجل الغريب ديونيسيوس مطران آمد ليرحمه الله بحسب تعبه.

إنّ رسائل بولس الأربع عشرة لم تنظّم بحسب زمن كتابتها من الناحية التاريخيّة، مثلها مثل أسفار الأنبياء تمامًا، فمثلاً إنّ النبيّ دانيال سبق حزقيال زمنيًّا، في حين أنّ سفره يلي سفر حزقيال ترتيبًا، ومثل ذلك حجّاي وزكريّا وملاخي رتّبت أسفارهم بعد الذين جاءوا متأخّرين عنهم.

إنّ رسالة رومة رتّبت في البدء لأنّها كتبت إلى قوم يتحلّى بتقوى الله ومخافته فضلاً عن كونهم من ذوي الزعامة والسيادة. ولكون الرومانيّين تتلمذوا على يد الرسول بطرس أراد أن يعرفهم بأنّه دُعي لتبشير الأمم. وكتبها باللغة الروميّة اللاتينيّة في كورنتس بواسطة كاتبه طرطيوس وأرسلها بواسطة الشمّاسة فوبي. وإلى العبرانيّين كتبت بالعبرانيّة، وإلى الآخرين باليونانيّة فقد كان ضليعًا في هذه اللغات الثلاث كما صرّح هو بالذات لمّا قال:

أشكر الله أنّي أتكلّم بألسنة أكثر من جميعكم. (1 كور 14: 18). وإنّ القدّيس إيوانيس لخّص وأجمل تفسير هذه الرسالة باثنين وثلاثين مقالة.


"من أجل ذلك كأنّما بإنسان واحد دخلت الخطيّة إلى العالم وبالخطيّة الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع." (5: 12).

كأنّما بإنسان واحد دخلت الخطيّة:

إنّ الرسول جاء بهذا القول لا لكي يشتكي على آدم أو لكي يحمّل آدم الذنب، بل ليقارن حكم العدالة وسموّ النعمة التي أعطيت لنا بواسطة سيّدنا يسوع المسيح. إنّ الخطيّة دخلت بسبب تجاوز الوصيّة الخاصّة بالشجرة، ولم يقل إنّها دخلت بسبب آدم لئلاّ يظنّ أنّ دخول الخطيّة صار من البدء، بل بسبب تجاوز الوصيّة. قال ليبيّن أنّه بواسطته دخلت الخطيّة لأنّه جاوز الوصيّة، بينما إنّ الشيطان هو سبب هذا الشرّ، وبآدم بدأت ودخلت وليس بواسطة الإنسان بل بواسطة الشيطان.

إلى العالم:

إلى البشر.

اجتاز الموت:

ابتدأ الموت من واحد واستعبد الجميع.

إذ أخطأ الجميع:

لمّا صار آدم مائتًا، صار أبناؤه أيضًا مائتين لأنّهم أخطأوا. وكما زرع آدم الخطايا بجسد ظاهر. وكما دُسَّت خميرة سيّئة في كلّ جبلتنا، هكذا زرع يسوع ربّنا البرّ بالجسد الخاطئ، وبدّل خميرة جبلتنا.

"فإنّه حتّى الناموس كانت الخطيّة في العالم. على أنّ الخطيّة لا تحسب إن لم يكن ناموس." (5: 13).

فإنّه حتّى الناموس كانت الخطيّة في العالم:

إي ملكت الخطيّة، ومن شدّة كثافتها وسعة انتشارها أضحى الإنسان الذي يمارسها لا يحسّ أنّه يفعل شيئًا خطأ. ويعني هنا بالناموس، لا الطبيعيّ بل الذي أعطي لآدم بأمر إلهيّ. وقال بعضهم إنّه يشير إلى ناموس موسى.

"لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدّي الذي هو مثال الآتي." (5: 14).

لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى[1]:

لم يخطر ببال الملائكة ولا البشر أنّ مملكة الموت سوف تهتزّ وتنهار. ولمّا أخطأ الشعب وتعرّض للموت أمر هارون بالتبخير وامتنع الموت ومن هنا عرف أنّ سيادة الموت سوف تنتهي. قال آخرون منذ أن استضاء وجه موسى عرف أنّ مملكة الموت أخذت بالانحلال. وأيضًا هنا يعني بموسى "الناموس" كما جاء في سفر الأعمال: "الآن موسى منذ أجيال قديمة له في كلّ مدينة من يكرز به إذ يقرأ في المجامع كلّ سبت" (أع 5: 21)، وكقول الرسول عندما يقول: "عندما يقرأ موسى" ولهم موسى والأنبياء (لو 16: 31). يقول ملك الموت: "من آدم إلى الناموس ومتى انتهت هذه ظهر ملكوت السماء بواسطة المسيح الذي نقض الموت وأبطل الخطيّة وملكت اللاميتوتيّة".

على الذين لم يخطأوا:

بشبه تجاوز وصيّة آدم، أي ولئن لم يخطئوا خطيّة آدم نفسها ولكنّهم أخطأوا خطايا أخرى. فكلّ خطيّة تسبب موتًا، ويموتون مثل آدم الذي أخطأ أوّلاً.

على شبه تعدّي آدم الذي هو المثال الآتي:

ملك الموت على الجميع بتعدّي آدم الوصيّة، هكذا أيضًا القيامة بواسطة ربّنا، وأنّ هذه الأمور التي تخصّ آدم الأوّل هي شبه آدم الثاني. فبواسطة آدم دخلت الخطيّة وبواسطة المسيح حصل التبرير. إنّ آدم هو مثال المسيح، فكما أنّ آدم صار سببًا لموت الذين تسلسلوا منه ولئن لم يفعلوا أعمال البرارة بسبب أنّهم أخطأوا جميعًا.

"ولكن ليس كالخطيّة هكذا أيضًا الهبة. لأنّه إن كان بخطيّة واحد مات الكثيرون فبالأولى كثيرًا نعمة الله والعطيّة بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين." (5: 15).

ولكن ليس كالخطيّة[2]:

إنّ آدم ولئن كان مثالاً للمسيح باعتباره السبب والبداية، ولكنّهما يختلفان بالنسبة لأعمالهما. فآدم كان بدء للخطيّة، أمّا المسيح فهو سبب وبدء الموهبة والنعمة. ويقوله: "الخطيّة" أظهر أنّه لم يعمل ذلك لا قسرًا طبيعيًّا بل من إرادة مهملة ضعيفة. ولأنّه أضاف وقال: "إلهيّة" أظهر أنّها منحت من إرادة طيّبة.

ولكن إن كان بخطيّة واحد:

إي إذا كانت زلّة واحدة صدرت عن إنسان ضعيف بإرادته المهملة، وبسبب ذلك تسلّط الموت على الكثيرين، إذًا كم بالأولى تفيض وتنسكب النعمة والموهبة على كثيرين التي من طبيعتها إعطاء الخير.

"وليس كما بواحد قد أخطأ هكذا العطيّة. لأنّ الحكم من واحد للدينونة. وأمّا الهبة فمن جرى خطايا كثيرة للتبرير." (5: 16).

وليس كما بواحد قد أخطأ:

ليس كما في خسارة آدم هكذا الفائدة بالمسيح.

لأنّ الحكم من واحد:

بسبب أنّ آدم أذنب تسلّط عليه الموت وعلى جميع الذين ولدوا منه أي على نسله.

"لأنّه إن كان بخطيّة الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطيّة البرّ سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح." (5: 17).

لأنّه إن كان بخطيّة الواحد:

إذا كانت العدالة قد قضت بالموت على كلّ إنسان بسبب خطيّة واحد، فبالأولى الذين حصلوا على النعمة.

قال سيملكون ولم يقل ملكوا مبيّنًا بذلك أنّ تمام مواعيد المسيح لا تحصل في هذا العالم بل في العالم العتيد. وكما أنّ بخطيّة واحد صار الكثيرون خطأة، وبسبب أنّهم خطأة أصبحوا مستوجبين الحكم ومستعبدين للموت. وحيث أنّ آدم قد مات فكلّنا أصبحنا أمواتًا. وهو غير ممكن بسبب خطيّة واحد يخطأ كثيرون، ولا بسبب برّ آخر يتبرّر كثيرون. ولكنّ النفس التي تخطئ هي تموت. وكلّ يجازى بحسب أعماله. ولكن يقول: كيف أنّ آدم الذي أخطأ دخل الموت وتسلّط علينا وأصبحنا تحت الخطيّة هكذا وبسبب أنّ المسيح قد تبرّر وأخذ حياة غير مائتة وأعطانا عدم الميتوتة.

"فإذًا كما بخطيّة واحد صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة هكذا ببرّ واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة." (5: 18).

فإذًا كما بخطيّة واحد:

بسبب خطيّة آدم صار حكم الموت على كلّ البشر، وبسبب برّ المسيح صارت الغلبة على الموت والخطيّة لجميع البشر.

"وأمّا الناموس فدخل لكي تكثر الخطيّة. ولكن حيث كثرت الخطيّة ازدادت النعمة جدًّا." (5: 20).

وأمّا الناموس فدخل لكي تكثر الخطيّة[3]:

أعطي الناموس لكي تنقص الخطيّة وتنحسر، ولكن هنا حدث العكس. ليس الناموس هو السبب بل من تواني وإهمال الذين قبلوه. فإنّ الناموس الذي أعطي، بدلاً من أن يبدّد الخطيّة قد زادها وبقدر ما كانت أوامره ووصاياه كثيرة هكذا كثر التجاوز عليه.

ولكن حيث كثرت الخطيّة ازدادت النعمة جدًّا[4]:

إنّ الناموس أعطى ربوات الأوامر والوصايا وبما أنّ الشعب تجاوز عليها إجمالاً كثرت الخطيّة. وقد استحقّ الهلاك أولئك الذين كثرت عندهم الخطيّة. فظهر حنان المسيح وعظمة نعمته مبيّنًا بذلك الواسطة التي حرّرهم بها من حكم الموت.

"حتّى كما ملكت الخطيّة في الموت هكذا تملك النعمة بالبرّ للحياة الأبديّة بيسوع المسيح ربّنا." (5: 21).

كما ملكت الخطيّة في الموت هكذا تملك النعمة:

الخطيّة هي بمنزلة الملك، والموت بمرتبة العبد الذي يعمل بإمرتها. فإذا كانت الخطيّة قد أرعبت الموت، فبات معروفًا أنّ ذلك يبطل الخطيّة هو البرّ الذي دخل بواسطة النعمة، ويملك علينا بواسطة ربّنا يسوع المسيح.


"لأنّ انتظار الخليقة يتوقّع استعلان أبناء الله."[5] (8: 19).

سوف تتحمّل الخليقة شدائد ونوازل عديدة كقول الكتاب: نوحي أيّتها الكروم وولولي أيّتها الجبال فإنّ الخليقة سيصيبها فساد كبير، وننتظر الخيرات التي تلي القيامة العامّة.

"إذ أخضعت للبطل[6]. ليس طوعًا بل من أجل الذي أخضعها[7] على الرجاء[8]." (8: 20).

استعبدت الخليقة للبطل لأنّها أصبحت فاسدة. لمّا خلق الله الإنسان خلقه على صورته وعلى صورة الله كانت الخليقة كلّها من خلاله جميلة وكانت تعبده، وحتّى الملائكة كانوا يساعدونه ويؤازرونه، ولمّا سقط، اضطرب الملائكة أيضًا، واضطّروا أن يقدّموا له الخدمات اللازمة ولكن ليس مثل السابق إذ كانوا يعملون ذلك بسرور وابتهاج بل بأمر من الله الذي أعطى رجاء وأملاً أنّه سيخلّص الإنسان ويحرّره من الفساد. وفي حالة كهذه فإنّ الملائكة لا يخدمون المائت الفاسد. وهم أيضًا سيخلّصهم من الخطر والانحراف.

"لأنّ الخليقة نفسها أيضًا ستعتق من عبوديّة الفساد[9] إلى حرّيّة مجد أولاد الله."[10] (8: 21).

لا أنت فقط تتحرّر بل الذي هو أقلّ منك شأنًا أيضًا. أي أنّ الخليقة تشترك معك أيّها الإنسان بنوال الحريّة، مثل المربية التي تربّي ابن الملك وتتنعّم معه.

"فإنّنا نعلم أنّ كلّ الخليقة تئنّ وتتمخّض معًا إلى الآن." (8: 22).

متى ما تحرّرنا من الفساد والخطيّة، هكذا أيضًا الخليقة تتحرّر من التغييرات والعقاب التي أصابتها بسبب خطايانا، وفي النهاية تنجو من هذه كلّها. فإذا كانت الخليقة تنتظر هذا الأمل وتتوقّع هذا الرجاء فكم بالأولى يجب علينا نحن أن نتوقّع هذا الأمل وأن نتحمّل كلّ الضيقات بفرح.

"وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضًا تئنّ في أنفسنا متوقّعين التبنّي فداء أجسادنا." (8: 23).

من حيث يوجد لنا باكورة أي النعمة وعربون الأمور العتيدة يجب أن تصبر "وتئنّ في أنفسنا" عندما نشتاق إلى هذه الأمور العتيدة لأنّنا منذ أمدٍ ذقنا عذوبتها "متوقّعين التبنّي" أي المجد الذي يعدّ لنا نتيجة لهذا التبنّي. وتتحرّر أجسادنا من الموت والفساد.

"لأنّنا بالرجاء خلّصنا. ولكنّ الرجاء المنظور ليس رجاء. لأنّ ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضًا." (8: 24).

لأنّنا بالرجاء خلّصنا:

خلّصنا سرًّا ونحن نتوقّع الحياة الموعود بها للأبناء.

ولكنّ الرجاء المنظور ليس رجاء:

إذا كنت تريد أن تنال كلّ الأشياء هنا لماذا تطلب الرجاء، بل يجب أن تثبت في رجائنا، ونظهر صابرين، ولا نيأس ونتخاذل عندما نمرّ بالشدائد أو نواجه الآلام.

"وكذلك الروح أيضًا يعين ضعفاتنا. لأنّنا لسنا نعلم ما نصلّي لأجله كما ينبغي[11]. ولكنّ الروح نفسه يشفع فينا بأنّات لا ينطق بها." (8: 26).

وهكذا أيضًا نعمة الروح تعين ضعفنا لئلاّ نتخاذل ونفشل بسبب ضعفنا. ذلك أنّنا لا نتمكّن وليس بمقدورنا أن نحسّ بالأمور العتيدة وأن نصلّي لنكون أهلاً لها. لأنّها تفوق إدراكنا ولكن بواسطة نعمة الروح القدس التي سكبت علينا تهيّئنا لها، وهكذا بهذا يُعلن عن اهتمام النعمة نحونا. وقوله: "الروح يشفع فينا بأنّات" ولئلاّ يتبادر إلى الذهن بأنّ تلك الأنّات هي مثل أنّاتنا أضاف قائلاً: "لا ينطق بها". إنّ اهتمام النعمة نحونا لا يدرك وهذه تشبه ما قيل عن الابن إنّه يشفع فينا، أي إنّه يحبّ أن يعيننا.

وهنالك شرح آخر لعبارة "الروح يشفع فينا". إنّه يُشير بالروح إلى الموهبة ومنحة الصلاة التي تمنح للإنسان الروحانيّ ليصلّي من أجل الكنيسة كلّها. أمّا اليوم فالشمّاس هو الذي يؤدّي هذه الخدمة ويقوم بهذا العمل.

"ولكنّ الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح[12] لأنّه بحسب مشيئة الله يشفع في القدّيسين." (8: 27).

إنّ الله الذي هو فاحص القلوب ومانح النعمة الروحيّة يعلم ما تريد النعمة التي مُنحت لنا من الروح، لتحصل وتُمنح للذين صانوها ببرارة وتقوى. وأيضًا إنّ عبارة "الروح يفحص القلوب" تطلق على الروح القدس وتعتبر من أعماله وصفاته وخصائصه.

"ونحن نعلم أنّ كلّ الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبّون الله الذين هم مدعوون حسب قصده." (8: 28).

يسمح الله أن يتعذّب محبّوه لكي يتعاظم أجرهم فهو يريد لخيرهم وعونهم في شتّى الوسائل.

كلّ الأشياء:

حصر كلّ الشدائد.

هم مدعوون حسب قصده:

يعرفهم قبل أن يدعوهم، ومتى يجب أن يدعوهم ولأنّه سبق فعرفهم سبق فعيّنهم ليكونوا مدعوّين، وليس هو الذي اختار نفسه.

"الآن الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين." (8: 29).

الشيء الذي هو وحيد بالطبيعة، هذه وتلك صارت بالنعمة وليست بالطبيعة.

مشابهين صورة ابنه:

بالنسبة إلى طبعه البشريّ، وأيضًا يكتسبون عدم الميتوتة وعدم الآلام.

ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين:

صار بكرًا نظرًا لتجسّده وكونه صار إنسانًا، وليس بالنسبة لألوهيته أو من حيث هو إله.

"والذين سبق فعيّنهم فهؤلاء دعاهم[13] أيضًا، والذين دعاهم فهؤلاء برّرهم[14] أيضًا، والذين برّرهم فهؤلاء مجّدهم أيضًا." (8: 30).

الذين سبق فعيّنهم:

الذين عيّنهم نظرًا إلى سابق معرفته. دعاهم ببشارة ابنه برّرهم بالمعموديّة، ومجّدهم بواسطة القوّات والآيات التي اجترحوها ونالوا شرف التبنّي.

"فماذا نقول لهذا. إن كان الله معنا فمن علينا." (8: 31).

ماذا نقول ونفكّر بالأمور التي سبق وعرفناها مثل برّر، عيّن، دعا، فقد ظهرت بالعمل. وأيضًا بدلاً عن الشدائد والضيقات يجازينا الله بالخيرات.

إن كان الله معنا فمن علينا:

إذا كان الله يودّ معتنيًا أن يمجّدنا ويرفع من شأننا فمن هو الذي يقوم ضدّنا أي من يستطيع أن يمسّنا بأذى. وهنالك معنى آخر في عبارة "من هو علينا" من هو الذي يقول ليس هو ضدّنا إلاّ الذين هم ضدّنا الأمر الذي هو سبب تتويجنا بالأكاليل وحصولنا على الخيرات.

"الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضًا معه كلّ شيء." (8: 32).

في الوقت الذي كنّا في عداء مع الله، سلّم ابنه للموت من أجلنا. فكيف إذًا بعد المصالحة يمنع عنّا كلّ شيء؟ سواء أموالاً أو غير ذلك. ولكن إذا كنت أنت أيّها الإنسان قد حصلت على الله الخالق بالذات، فما قيمة الأموال وغيرها لتخاصم غيرك عليها؟

"من يشتكي على مختاري الله. الله هو الذي يبرّر. من هو الذي يُدين المسيح هو الذي مات بل بالحريّ قام أيضًا الذي هو أيضًا عن يمين الله الذي أيضًا يشفع فينا." (8: 33-34).

من سيشتكي على مختاري الله[15]:

من الذي لا يزكي المختارين ويعترف بتبريرهم لأنّ الله قد اختارهم. إنّ الاختيار علامة الفضيلة، فكما أنّ الله يختار الأنفس فمن الجنون والغباوة أن يلوم الله أحد على ذلك.

الله هو الذي يبرّر من هو الذي يُدين المسيح:

ومهما حاول البعض إدانة من برّرهم الله فلن يفلحوا.

هو أيضًا عن يمين الله:

إنّه مساوٍ لأبيه بالمجد والكرامة.

يشفع فينا:

من أجل محبّته الشديدة لنا فهو يشفع فينا. أو إعلانًا لمحبّة الله الشديدة المضطرمة نحونا فهو يشفع فينا. وهو يريد أن تزداد الأمور التي تفيدنا وتعيننا. ثمّ يُشير إلى عناية الله فينا كقوله: "وجاء يطلب الخروف الضالّ، وهو يطلب المفقودين."

"من يفصلنا عن محبّة المسيح أشدّة أم ضيق ام اضطهاد أم جوع أم عُري أم خطر أم سيف." (8: 35).

لا فرق لدى بولس أن يدعو ربّنا، مسيحًا أم إلهًا. ويقول: إنّ كلّ أنواع الشدائد والمخاطر لا تفصله عن المسيح.

"كما هو مكتوب أنّنا من أجلك نُمات كلّ النهار، قد حسبنا مثل غنم للذبح." (8: 36).

إنّ الإنسان يموت مرّة واحدة كما هو معلوم طبيعيًّا، ولكن نظرًا للإرادة والسرور فممكن أن يموت كلّ يوم، ويحصل على أكاليل عديدة. إذًا الموت الذي يحدث كلّ يوم والذي يُشير الرسول إليه هو موت الرسل الذين كانوا مستعدّين ليتحمّلوا الآلام والعذاب من كلّ جهة.

"ولكنّنا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبّنا." (8: 37).

أي انتصرنا بواسطة محبّته، ونحتمل الأتعاب مهما كان نوعها.

"فإنّي متيقّن أنّه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوّات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة." (8: 38).

إنّي متيقّن أنّه لأمر ثابت ومؤكّد لديّ بواسطة اتّكالي على معونة ربّنا الذي أحبّنا لا يستطيع أن يقوى على إرادتي، لا الموت الذي يُرعب ويُخيف، ولا الحياة التي تبهج وتسرّ، ولا ملائكة أي من له القوّة والبأس، ولا قوّات الذين يخيفوا، ولا رؤساء ذوي السيادة والسلطان ولهم المكانة العليا، ولا الأمور الحاضرة أي الأمور المنظورة، ولا مستقبلة التي سوف تظهر في النهاية.

"ولا علوّ ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربّنا." (8: 39).

لا علوّ بأمجاده الكثيرة، ولا عمق بكلّ ما يحويه من مغريات وشهوات، ولا خليقة أخرى وحتّى إذا وجدت خليقة أخرى معنويّة أو حسّيّة، هذه الأمور كلّها لا شيء بنظري أمام المسيح ربّنا.

 

 



[1] أي موت الخطيّة، من آدم إلى موسى كان سلطان الشيطان ظاهرًا. وأمّا الخطيّة لم تكن تحسب خطيئة لأنّه لم يكن ناموس. ومن موسى إلى المسيح كان أحيانًا يظهر وأحيانًا يختفي، ومن المسيح إلى النهاية يُضِلّ كالسارق.

[2] في تفسيره لعبارة "ولكن ليس كالخطيّة هكذا أيضًا الهبة" أي أنّ خطيّة آدم شملت المتأخّرين، أمّا نعمة المسيح فتذوّقها الأوّلون والآخرون.

[3] أعطي الناموس لتنقص الخطيّة ولكن حدث ما هو العكس بسبب إهمال الأحكام والفرائض.

[4] لدى الأمم الوثنيّة.

[5] كلّ الطبائع الروحانيّة تنتظر لتظهر بنوّتنا الروحيّة لله في العالم العتيد.

[6] أي الملائكة الروحانيّون لمساعدة البشر الجسديّين.

[7] بأمر إلهيّ مفروض.

[8] الخير الذي سيحصل للإنسانيّة.

[9] بانتقالنا من هذا العالم تبطل الملائكة من حراستنا، ويعتقد آخرون أنّ هذا يُشير إلى عمل الأنوار التي في جلد السماء.

[10] تئن وتفسد.

[11] لا نتوق إلى الخيرات الموعودين بها لأنّنا لا ندركها، لأنّ ما لا يُدرك لا يراد. ولكنّ الروح يشفع فينا أي ما يمنح لنا من الله من نعمة وعطيّة، ونعلم رحمة الله علينا ونصلّي لذلك قال الروح يشفع فينا. وقوله: بأنّات لا ينطق بها، أي نعمة الروح التي تُعطى لنا ندركها وتشفع فينا لنحصل عليها.

[12] ماذا يطلب من أجلنا.

[13] دعاهم إلى بشارته، بالمعموديّة، بالقوّات التي خوّلتهم أن يجترحوها بأيديهم.

[14] يقول إنّهم غير مستحقّين النعمة التي نالوها.

[15] يقول إنّهم غير مستحقّين النعمة التي نالوها.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM