الفصل 19: غضب الله يعلن من السماء

"غضب الله يعلن من السماء" (روم 1: 18)

مقدّمة

حين قدّم نوح، بعد الطوفان، ذبيحة إلى الله، تنسّم الله رائحة الرضى وقال في قلبه: "لن ألعن الأرض مرّة أخرى بسبب الإنسان" (تك 9: 20-21). غضب الله على الأرض بسبب خطيئة الإنسان، فأحلّ بها ما أحلَّ من خراب ودمار، فكادت تعود إلى العدم. غضب الله هذا موضوع قديم جدًّا يعود إلى آلاف السنين، فسبق ما قيل في الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد. واحتاج الإنسان لأن يُبعد شبح هذا الغضب بتقدمة ذبيحة يُحرق شحمها على المذبح، فيصعد الدخان ويدخل إلى أنف الإله، فيهدأ غضبه، ويعيد بركته على الأرض، من زرع وحصاد، وبرد وحرّ، وصيف وشتاء، وليل ونهار (تك 9: 22). في هذا الخطّ جاءت الرسالة إلى الرومانيّين تقول "إنّ غضب الله معلن من المسماء"، وعقابه قريب بسبب الخطيئة التي تفشّت في العالم الوثنيّ كما في العالم اليهوديّ، فلا يبقى سوى عمل المسيح الذي يبرّرنا بموته وقيامته. عند ذلك، لن يعود الويل والعذاب لكلّ من يعمل الشرّ، بل الحياة الأبديّة لمن يواظبون على العمل الصالح، ويسعون إلى المجد والكرامة (روم 2: 7-9).

1- غضب ليوم الغضب

ترد لفظة "الغضب" (أورغي) إحدى عشر مرّة في الرسالة، وهي تعني عدم رضى الله عن الخطيئة التي تشوّه الإنسان وتبلبل المجتمع. كما تعني العقاب الذي ينتظر البشريّة من جرّاء هذه الخطيئة. نسارع هنا ونقول إنّ الخطيئة تحمل شرّها فيها، وإن اعتبر الكاتب الملهم أنّ الربّ الإله هو الذي أرسل الشرّ على ما يقول في 1: 24، 26، 28: أسلمهم الله إلى الفجور، إلى الشهوات الدنيئة، إلى فساد عقولهم.

أ- غضب على الوثنيّين

بعد أن أعلن الرسول عمل الله الذي يبرّر الإنسان الذي يؤمن، الذي يستسلم إلى أمانة الله وصدقه، يقول: "غضب الله يعلن من السماء" (1: 18). إنّ الله لا يرضى بالخطيئة، ولهذا فهو يكشفها، وإن كشفها فلكي يشفينا منها. ولكن إن نحن تعلّقنا بها، جرّتنا إلى عمق الغضب الإلهيّ الذي يجعلنا نسمع في النهاية كلام السيّد: "إبتعدوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديّة المهيَّأة لإبليس وأعوانه" (مت 25: 41). ويعلن الربّ غضبه من السماء، من موضع سكناه، من عرش قداسته. هو لا يأخذ بأحكام البشر ومقولات العالم. قد يكون البشر أولاد إبليس (يو 8: 44)، فتهمّهم أعمال إبليس، ويهمّهم مجد ومديح يأتيان منه إليهم. لذلك، هم لا يطلبون المجد الذي هو من الله الواحد (يو 5: 44).

لماذا أعلن هذا الغضب؟ بسبب كفر البشر وشرّهم، ولأنّهم يحجبون الحقّ بمفاسدهم (1: 18). نحن هنا أمام لوحي الوصايا؛ فالكفر يدلّ على رفض الله الذي قال للإنسان: "لا يكن لك إله غيري". والشرّ يدلّ على لامبالاة ورفض للوصايا التي تنظّم حياتنا بين بعضنا بعضًا: لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ، لا تشهد بالزور. أمّا الخطيئة الكبرى والتي شدّد عليها بولس هنا، فهي الزنى في أبشع أشكاله وأقساها: استبدلت النساء بالوصال الطبيعيّ الوصالَ غير الطبيعيّ. وكذلك الرجال فضّلوا الفحشاء بالرجال، نالوا في أنفسهم الجزاء العادل لضلالهم (1: 26-27). في هذا المعنى قول الرسول: أسلمهم الله، تركهم وحرّيّتهم، فكان ما كان.

وهكذا تعرّفنا إلى الإله الحقيقيّ الذي يكشف عن وجوده في مخلوقاته. كما في العقاب الذي يصيب الإنسان الذي يعتبر نفسه إلهًا منذ بداية البشريّة، فيخلق وصايا تقابل وصايا الله. ويكشف الله أيضًا شقاء الإنسان بما فيه من كذب مطلق ورفض عميق للحقّ. فالبشر عرفوا الله وإرادته (1: 21؛ 2: 15). ولكنّهم هشّموا الحقّ وخنقوه، بل حوّلوه إلى باطل، فدعوا الشرَّ خيرًا، والخيرَ شرَّا، وجعلوا الظلام نورًا، والنورَ ظلامًا (أش 5: 20).

عرف العالم الوثنيّ الله، ولكنّه لم يمجّده ولم يشكره (1: 21) اعتبر البشر نفوسهم حكماء، فإذا هم حمقى وأغبياء. تركوا الخالق وعبدوا المخلوق. توقّفوا عند جمال الخليقة وقوّتها، ولم يعرفوا أنّ الذي خلقها هو مصدر كلّ جمال وقوّة (حك 13: 3-4). أخذوا طريق الشرّ، فغمرهم الشرّ كما بمياه طوفان، فما عادوا يستطيعون النجاة. من أجل هذا، كان عليهم أن يصرخوا كما صرخ بولس: "من ينجّيني من جسد الموت هذا؟" (7: 24)، هذا الجسد الذي يقود إلى الموت. ويأتي الجواب: ربّنا يسوع المسيح هو الذي يُنجّيني، ولهذا فأنا أحمده.

ب- غضب على اليهود

حين نتحدّث عن غضب الله أي عن عقابه للبشريّة الخاطئة، يجب أن نعرف أنّ فكرة الخلاص سابقة. فلو لم يشعر بولس بنعمة الخلاص التي تمّت له منذ خبرته على طريق دمشق، لما كان تحدّث عن الغضب وعن الخطيئة وعن الموت. فالإنسان الذي سقط في الماء يحتاج أوّل ما يحتاج إلى الخلاص، وبعد ذلك نخبره عن الخطر الذي كان يتهدّده. فما يريد بولس أن يقوله لنا في النهاية، هو أنّنا تبرّرنا بيسوع المسيح. صرنا مع المسيح أبناء مع الابن، وورثة مع الوارث، وعادت إلينا البركة بعد لعنة بدأت مع الخطيئة الأولى (تك 3: 14، 17)، فصارت في النهاية تموت موتًا (تك 2: 17)، وتعود إلى التراب الذي أخذت منه (تك 3: 19).

-      غضب الله على الوثنيّين لأنّهم خطئوا. أعطاهم الضمير (2: 14) الذي هو صوته فيهم، فلم يسمعوا بسبب الغشاوة التي أغلقت قلوبهم، بل هم رفضوا أن يسمعوا لله، فاستسلموا إلى شهواتهم، مع أنّهم عرفوا أنّ الله حكم بالموت على من سيعمل هذه الأعمال (1: 32). ما اقتنعوا، بل أظهروا رضاهم عن الذين يعملونها، لهذا كان عقابهم كبيرًا. وهذا العقاب هو تعبير عن غضب الله على الإنسان الخاطئ.

-      وغضب الله على اليهود، لأنّهم هم أيضًا خطئوا، مع أنّ الربّ أعطاهم شريعةً يتبعونها، فاعتقدوا أنّهم قادة العميان، ونورٌ لمن هم في الظلام (2: 19)، إلاّ أنّهم لم يعملوا بهذه الشريعة، فسرقوا، وزنوا، وتعاملوا مع الأصنام، وبسببهم جدّف الناس على اسم الله (2: 24)؛ فهم أيضًا استحقّوا العقاب. إنّ خطيئتهم أظهرت قداسة الله، وضلالهم بيّن صلاح الله (3: 5). عندئذٍ اعتبروا أنّهم عملوا خيرًا حين ظهر مجد الله. وافتخروا بكذبهم الذي أظهر صدق الله (3: 7). عندئذٍ يعلن الرسول أنّ عقابهم عادل (3: 8)، وأنّ الله لم يكن ظالمًا حين أنزل بهم عضبه (3: 5).

استند بنو إسرائيل إلى المواعيد. استندوا إلى الختان الذي يمنحهم الانتماء إلى شعب الله، ويمنحهم بركاته. ولكنّهم خطئوا ونسوا مسؤوليّاتهم. هيّأوا الطريق للمخلّص، ولمّا جاء إليهم، وهم خاصّته، لم يقبلوه، فكان شأنهم شأن العالم الذي رفض أن يعرف الكلمة الذي صار بشرًا (يو 1: 10، 11، 14). لهذا سمّاهم بولس "آنية الغضب" (9: 22). فهم حين تجاهلوا الله، وتعلّقوا بالخطيئة، صاروا موضوع غضب الله. وبسبب أعمالهم، هم سائرون إلى الهلاك، وهذا هو العقاب الذي ما بعده عقاب.

2- زمن الغضب

لا نستطيع أن نتكلّم عن غضب الله دون أن نتشكّك. فالغضب في اللغة العربيّة هو بغض مع طلب الانتقام. فكيف نربط بالله المحبّة مثل هذا الشعور؟ والغضب هو حالة من العنف تنبع من إحساس الإنسان بأنّ شخصًا أغاظه أو هاجمه، فيعبّر عن هذا الإحساس بردّة فعل عدوانيّة. ولكن، أترى الله على مستوى الإنسان لكي يتأثّر بما يتأثّر به الإنسان؟ قال في هو 11: 9: "أنا إله لا إنسان. أنا قدّوس بينكم". وقداسته هي حبّه الذي جعله يعامل شعبه كما تعامل الأمّ طفلها. فقال: "لا أعود أغضب عليكم، فقلبي يضطرم في صدري، وكلّ مراحمي تتّقد. لن أعاقبكم في شدّة غضبي، ولن أدمّركم بعد" (هو 11: 8-9).

أ- الصور والواقع

إذا كان الله يرفض الغضب عند الإنسان، أتراه يقبله في شخصه؟ نقرأ مثلاً في أم 29: 11: "البليد يُخرج كلّ غيظه، والحكيم يهدّئه ويكبته". أمّا يسوع فيجعل الغضب مرادفًا للقتل (مت 5: 22). ومقابل هذا نقرأ في أم 14: 29: "البطيء الصبر يظهر حماقته". في أم 15: 18: "الرجل الغضوب يثير النزاع، والبطيء الغضب يهدّئ الخصام". لا مكان للغضب في الإنسان، بل نترك الغضب لله. نقرأ في تث 32: 35: "لي الانتقام والجزاء". وفي الخطّ عينه، في روم 12: 19: "لا تنتقموا لأنفسكم، أيّها الأحبّاء، بل دعوا هذا لغضب الله. فالكتاب يقول: "لي الانتقام، وأنا أجازي".

فماذا نعني بكلامنا حين نتحدّث عن غضب الله؟ نبدأ فنقول إنّنا أمام واقع يقول إنّ الله يغضب. لذلك يكفي أن نقرأ أش 30: 27-33: "غضبه (= غضب الله) متّقد، وهَولُه شديد. شفتاه ممتلئتان غيظًا، ولسانه كنار آكلة. لهاثه كسيل عارم يعلو إلى العنق. يغربل الأمم بغربال الهلاك، ويضع لجمًا في أشداق الشعوب... يُسمع الربّ جلال صوته ويُري كيف تهوى ذراعه للضرب في هيجان غضبه، ولهيب ناره الآكلة، في الوعد والمطر وحجارة البرد... جمع الحطب والقش... ونفخة الربّ كسيل من الكبريت، تشعل فيها النار".

نقرأ هنا الصور: النار، النفخة، العاصفة، الغضب المتّقد... أمّا نتيجة هذا الغضب، فالموت وما يرافقه من جوع ووباء وهزيمة على يد الأعداء. هذا الغضب ينصبّ على جميع الخطأة الذين تحجّرت قلوبهم. ينصبّ على الأفراد وعلى الجماعات، على شعب إسرائيل كما على الأمم، لأنّ الربّ هو إله الأرض كلّها (إر 10: 10).

وعندما نقرأ آخر ضربات مصر، نبتسم حين نرى تصرّف الله تجاه فرعون: فالرب يقف تجاه فرعون، ويريد أن يجعله يركع، أن يعترف بأنّ الربّ وحده سيّد الأرض (خر 8: 18؛ 9: 29). يستعدّ الربّ لأن يضرب. يهدّد، يضرب، يتراجع الفرعون بعض الشيء، ولكنّه بعد قليل لا يعود ينفّذ ما وعد به. فما هو معنى كلّ هذا؟ نحن أمام صور لا بدّ من فكّ رموزها لكي نفهم كلام الكتاب حين يتحدّث عن غضب الله.

ب- تفسير الواقع

ونظرح السؤال: كيف عرف الإنسان (والكاتب الملهم) أنّه في هذا الوضع أمام غضب الله؟ فالغضب لا يُرى، وصوت الله الذي يصل إلى الأعماق، لا تسمعه أذن بشريّة. من أجل هذا نتصوّر هذا الغضب كما يلي: حلّت بالشعب مصيبة، فبحث عن سبب بشريّ، فما وجد، فعزاها إلى الله. ولكنّ الله هو ذلك البار العادل، الذي يجازي كلّ إنسان (وكلّ جماعة) بحسب أعماله. فإن كان وباء أو هزيمة في الحرب، فهذا يعني أنّ الله غضب على شعبه وأخذ يعاقبه. ولماذا؟ لأنّ الشعب خطئ وترك الله. لهذا تأتي "الضربة"، فتجعل المذنبين يعون خطيئتهم ويعودون إلى ربّهم. هنا نتذكّر الرسمة الدينيّة التي تشرف على سفر القضاة. انطلق الكاتب من واقع عاشه الشعب في فترة امتدّت منذ الدخول إلى أرض كنعان مع يشوع حتّى تأسيس الملكيّة، فرأى فيه عمل الله في ساعات الضيق كما في ساعات الفرح. "فعل بنو إسرائيل الشرّ في عينيّ الربّ، فغضب الربّ على بني إسرائل، وسلّمهم إلى أيدي الناهبين، فنهبوهم" (قض 2: 11، 14). ولكن حين يتوب الشعب، كان الربّ يقيم لهم قضاة يخلّصونهم من أيدي الناهبين (قض 2: 16). ترك الكاتب الملهم الأسباب البشريّة وما توقّف عند أعمال السبي والنهب التي اعتاد عليها الشرق منذ القديم، وتطلّع إلى الله الذي يغضب فيعاقب، ويرضى فيخلّص. يكفي أن يصرخ بنو إسرائيل إلى الربّ لكي يرسل إليهم مخلّصًا (قض 3: 15).

وإن مضى الشعب إلى المنفى بسبب سياسة خرقاء في أرض يهوذا، وتصارع القوى في الشرق بين المصريّين والبابليّين والأشوريّن. فالكاتب يرى في دمار أورشليم والهيكل وذهاب الملك وشعبه إلى السبي عقابًا، هو نتيجة غضب الله، لأنّ بني يهوذا تركوا شريعة الربّ. وهكذا نعد إلى البدايات: إذا كان العمل شاقًا على الرجل، وحمل الله (وولادته) مؤلمًا على المرأة، فلأنّه وُجدت خطيئة ما زالت ترافق العيلة الأولى، مع أنّها نالت بركة حين خلقها الله (تك 1: 26-27).

3- من الغضب إلى الرحمة

منذ البداية، الإنسان خاطئ، وهو يستحقّ الموت (روم 3: 20). لقد صار موضوع غضب الله. ولكن الوضع تبدّل؛ فما عاد الإنسان فقط "إناء الغضب"، بل أيضًا "إناء الرحمة" (روم 11: 32). فالله لا يفلت العنان لعقابه؛ إنّه يدلّ على قدرته حين يصبر على الخاطئ، وعلى رحمته حين يدعوه إلى التوبة.

أ- نجاة من الغضب

حين نقرأ شروط الله من أجل شعبه، تلفت نظرنا طريقة عقابه وطريقة ثوابه. عقابه قصير الأمد، وثوابه إلى الأبد. نقرأ مثلاً في سفر الخروج: "أنا الربّ إلهك، إله غيور، أعاقب ذنوب الآباء في الأبناء، إلى الجيل الثالث والرابع ممَّن يبغضونني (= أي لا يحبّونني كما يجب، فيفضلون عليّ عبادة الأصنام)، وأرحم إلى ألوف الأجيال، من يحبّونني ويعملون بوصاياي" (خر 20: 5-6). أجل رحمة الله لا حدود لها، ونحن نعرف قيمة الرقم ألف؛ أمّا عقابه فمحدود. في هذا المجال، نتذكّر كلام المزمور: "غضبُ الربّ لحظة، ورضاه طول الحياة. إذا أبكاني في المساء، فمع الصباح أرنّم فرحًا" (مز 20: 6)، بعد أن بدّل الله أموري. ويحدّث الربّ أورشليم كما يحدّث العريس عروسه: "هجرتك لحظة، وبرحمة فائقة أضمّك. في هيجان غضب حجبت وجهي عنك قليلاً، وبرحمة أبديّة أرحمك... الجبال تزول، والتلال تتزعزع، وأمّا رأفتي فلا تزول عنك، وتعهّد بسلامتك لا يتزعزع. هكذا قال ربّك الرحيم" (أش 54: 7-10).

أجل، مهما استحقّ الشعب غضب الله، فالله لا يقطع كلّ رباط لشعبه. فبعد حادثة العجل الذهبيّ التي دفعت موسى إلى أن يكسر لوحي الوصايا، رفع هذا صلاته إلى الربّ قائلاً: "أفلا يقول المصرّيون أنّ إلههم أخرجهم من هنا بسوء نيّة ليقتلهم في الجبال ويفنيهم عن جه الأرض؟ إرجع عن شدّة غضبك، وعُد عن الإساءة إلى شعبك". فعاد الربّ عن السوء الذي قال إنّه سيُنزله بشعبه (خر 32: 12-14). ونسمع صلاة أخرى لموسى في المعنى عينه، بعد أن استحقّ الشعب ما استحقّ من عقاب: "أرنا يا ربّ قدرتك، وافعل ما وعدتنا به حين قلت: إنّك أنت الربّ البطيء عن الغضب، الكثير الرحمة، الغافر الذنب والإثم. لكنّك لا تبرئ، بل تعاقب البنين على ذنوب الآباء إلى الجيل الثالث والرابع. والآن، فاصفح يا ربّ عن إثم هؤلاء الشعب لكثرة رحمتك، كما غفرت لهم منذ خروجهم من مصر حتّى وصولهم إلى هنا" (عد 14: 17-19).

وفي النهاية إن ضربَ الله، فهو يعاقب، داعيًا إلى التوبة. فهو حين ضرب الفرعون، كانت ضربته دعوة ليعرف الإله الحقّ. وأبرز سفر الخروج تراجع السحرة في مصر، فقالوا: "هذه إصبع الله" (خر 8: 15). كما أبرز تراجع الملك. طلب من موسى وهارون أن يتشفّعا به (8: 24). ثمّ قال لهما، في الضربة السابعة: "خطئت هذه المرّة. الربّ عادل وأنا وشعبي أشرار" (9: 27). وكما قرأ الكاتب الملهم ما حلّ بمصر من "ضربات"، هي أمور تحصل في الطبيعة، البرد ، فيضان النيل، الظلمة، ورياح الخمسين، فربطها بيد الله التي تفعل، فيشير إلى غضب على فرعون الذي ظلّ قاسي القلب، ولم يعمل بما أمره الله، كذلك سيفعل صاحب سفر الرؤيا الذي قرأ في ما حلّ برومة من حروب، واعتبره نداء إلى التوبة: "أمّا البشر الذين نجوا من هذه البلايا، فما تابوا ممّا فعلت أيديهم، وظلّوا يسجدون للشياطين...، ولا تابوا عن القتل والسحر والأذى والسرقة" (رؤ 9: 20-21).

وهكذا يصبح العقاب الذي يعتبره الخاطئ نتيجة غضب الربّ، تأديبًا منه تعالى. لهذا انطلق صاحب الرسالة إلى العبرانيّين من سفر الأمثال (3: 11-18)، فقال لمؤمنين يعرفون الصعوبات والاضطهادات: "لا تحتقر يا ابني تأديب الربّ، ولا تيأس إذا وبّخك، لأنّ مَن يحبّه الربّ يؤدّبه، ويجلد كلّ ابن يرتضيه. فتحمّلوا التأديب، والله إنّما يعاملكم معاملة البنين، وأيّ ابن لا يؤدّبه أبوه؟ فإذا كان لا نصيب لكم من هذا التأديب، وهو من نصيب جميع البنين، فأنتم ثمرة الزنى، لا بنون" (عب 12: 5-7). وتقابل الرسالة بين تأديب آبائنا حسب الجسد، وتأديب الله، فنقول: "هم كانوا يؤدّبوننا لوقت قصير، وكما يستحسنون، وأمّا الله فيؤدّبنا لخيرنا، فنشاركه في قداسته. ولكنّ كلّ تأديب يبدو في ساعة باعثًا على الحزن، لا على الفرح. إلاّ أنّه يعود في ما بعد على الذين عانوه بثمر البرّ والسلام" (عب 12: 10-11). لقد تبدّلت الأمور كلّ التبدّل، فلم يعد الله إله الغضب والانتقام، بل إله المحبّة الذي يسمح لنا بالألم والمرض والموت، ولكنّه يساعدنا لكي نحوّل الشرّ الذي حولنا إلى خير. فإن كنّا نحبّ الله، يؤول كلّ شيء لخيرنا.

ب- يسوع وغضب الله

مع مجيء المسيح تبدّل الوضع تبدّلاً جذريًّا. فهو الذي يخلّصنا من الغضب الآتي (مت 3: 7؛ أش 1: 10). ويقول بولس في هذا المجال: "لأنّ الله جعلنا لا لغضبه، بل للخلاص بربّنا يسوع المسيح الذي مات لأجلنا لنحيا كلّنا معه (1 تس 5: 9-10). فيسوع انتزع من العالم خطيئة العالم، بل صار خطيئة (= ذبيحة عن الخطيئة) من أجلنا، لكي نصير به برّ الله (2 قور 5: 21). وهكذا عادت البركة إلى البشريّة. لقد التقت في يسوع قدرة الحبّ الذي يرحم، وقدرة القداسة التي تعاقب الخاطئ، فانتصر الحبّ على غضب يحلّ بالخطأة، وحرّر أولئك الذين آمنوا بالمسيح.

هذا ما يدعوه بولس الرسول "التبرير". فالله البار من أجلنا يريد أن يدخلنا في قصده الخلاصيّ، في ما هيّأه من أجل العالم. لهذا، قرّر أن يحرّرنا من العبوديّة ولعنة الخطيئة. من أجل هذا أرسل ابنه؛ فلا يبقى علينا سوى أن نتقبّل نعمة الفداء هذه، ونتقبّلها بالشكر، فننفتح على قداسة الله.

أجل، تبرّرنا بيسوع المسيح، على مثال ما حصل لإبراهيم في العهد القديم، فتحرّرنا من العقاب، وبالتالي من الغضب (روم 8: 1: "لا حكم على الذين هم في المسيح يسوع"). من أجل هذا، نقرأ عن التبرير بالإيمان ما يلي: الله يبرّر البشر "بالإيمان بيسوع المسيح... كلّهم خطئوا وحرموا مجد الله (فصاروا أبناء الغضب واستحقّوا العقاب). ولكن الله برّرهم مجّانًا بنعمته بالمسيح يسوع الذي افتداهم... (روم 3: 21-24). ويتابع بولس الرسول:" برهن الله عن محبّته لنا بأنّ المسيح مات من أجلنا ونحن بعد خاطئون. فكم بالأولى الآن، بعدما تبرّرنا بدمه، أن نخلص به من غضب الله؟!" (روم 5: 8-9). غضب الله يقابله برّ الله، وعداوتنا مع الله بالخطيئة تقابلت مع مصالحة نلناها بفضل ربّنا يسوع المسيح (روم 5: 11).

 

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا: من الغضب الذي يحمل في طيّاته العقاب، إلى البرّ الذي يحمل الفداء وغفران الخطايا؛ من نظرة فيها الكثير من الروح الوثنيّة التي تجعل الإنسان يخاف غضبة الإله الذي يريد أن ينتقم من الذين تجاوزوا شريعته وأغاظوه، إلى نظرة حبّ نستسلم فيها بكلّيتنا إلى مَن هو أب وأمّ معًا. في الماضي، ربط الناس كلّ شيء وبشكل مباشر بالله؛ ربطوا به الخير والشرّ؛ هو يميت هو يُحيي. لا شكّ في أنّ هذا صحيح؛ فحياتنا في يد الله ونهايتها في يده أيضًا. ولكنّ هذا الإله بعيد كلّ البعد عن متسلّط يتسلّط في شكل اعتباطيّ، فلا نعرف كيف نتخلّص من ضرباته، لهذا جعلناه شبيهًا بالإنسان. مثل هذه النظرة خاطئة إن لم تكن ناقصة. فإن حملت خطايانا عقابَها في طيّاتها، فالمسيح جاء يأخذ الخطايا ويأخذ العقاب معه. وهكذا برّرنا. خلقنا من جديد من أجل الأعمال الصالحة، وأفهمنا أنّ المؤمن لا يمرّ في الدينونة، بل انتقل من الموت إلى الحياة. إن كان بولس قد أعلن غضب الله من السماء، فلكي يكتشف الخطأة حضوره، ويتوبوا عن شرّ أعمالهم. أمّا نحن فتجلّى لنا برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح (روم 3: 21-22).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM