الفصل 20: المحبّة ملء الشريعة

المحبّة ملء الشريعة (روم 13: 10)

حين أعلن بولس المنادي بالإنجيل الوحيد أنّ الإنسان لا يتبرّر بأعمال الشريعة، بل بالإيمان بيسوع المسيح (روم 3: 28؛ غل 2: 16)، أفهمنا أمرين اثنين: لا فائدة من ممارسات عباديّة خاصّة بالعالم اليهوديّ من ختان وغيره. لقد انحصرت الشريعة في نظم العهد القديم، ثمّ هاجم تصوّرًا خاصًّا للتدبير الخلاصيّ، بحسبه يستحقّ الإنسان تبريره الخاصّ بممارسته للشريعة، مع أنّه تبرّر مجّانًا بذبيحة المسيح (روم 3: 21-26؛ 4: 4-5). لهذا كان هجوم بولس على الشريعة، كما يمارسها العالم اليهوديّ في أيّامه، قاسيًا. قال في الرسالة إلى غلاطية: "الإنسان لا يتبرّر بأعمال الشريعة" (2: 16). واعتبر أنّ الشريعة حملت إلينا اللعنة، فنجّانا منها المسيح (3: 13). غير أنّه سيقول في الرسالة إلى رومة إنّ الشريعة صالحة: "الشريعة مقدّسة، والوصيّة مقدّسة" (7: 12). وفي النهاية، سيجعل هذه الشريعة بكلّ فرائضها في إطار المحبّة. ففي المحبّة تعرف حدودها وتأخذ كلّ أبعادها. أجل، تجد الشريعة ملئها وكمالها في المحبّة. هذا ما أبرزه بولس في القسم الثاني من روم، في القسم الإرشاديّ الذي يبدأ فيدعونا إلى الحياة الجديدة في المسيح (12: 1ي).

1- الشريعة والشرائع

الشريعة في الأصل هي تعليم أعطاه الله للبشر من أجل تنظيم سلوكهم. إنّها تنطبق قبل كلّ شيء على مجموعة تشريعيّة يربطها العهد القديم بشخص موسى. من أجل هذا، نجد مجموعات عديدة تنتظم في شرائع وفرائض ورسوم وأحكام، وهي تنطلق على ما يبدو من خبرة موسى والشعب في سيناء.

أ‌-     الكلمات العشر

يقدّم لنا سفر الخروج الإطار الذي فيه أُعطيت الشريعة أو الوصايا العشر التي سمّاها موسى "الكلمات" (خر 24: 8). فصارت في سفر التثنية "الوصايا العشر" التي كتبها (الربّ) "على لوحين من حجر" (4: 13)، وسط الرعد والبروق والسحاب الكثيف على جبل سيناء، وصوت شديد جدًّا( خر 19: 16). جاءت هذه الوصايا في نسختين: واحدة نقرأها في سفر الخروج (20: 1-21)، وهي تبيّن أنّ موسى، الوسيط بين الله والشعب، تقبّل كلمات الله وأوصلها إلى الشعب؛ كما بيّن لهم أنّ كلّ هذه الظواهر هي امتحان لهم، ليفرض الربّ مخافته في قلوبهم ويدعوهم لإطاعة وصاياه. والنسخة الثانية نقرأها في سفر التثنية (5: 6-12)، فتشدّد على أنّ موسى سمع صوت الربّ دون أن يموت. في البداية كانت الوصايا عبارات قصيرة (لا تقتل، لا تسرق، إلخ)، سيتوسّع فيها الشرّاح في ما بعد. يذكر المؤمن يوم السبت، فيعمل كما عمل الله الذي استراح بعد أن أنجز أعماله. ويكرم أباه وأمّه ليطول عمره في الأرض التي أعطاه الربّ (خر 20: 8-12).

وتوسّعت هذه الكلمات العشر أوّلاً في ما سُمّيَ "كتاب العهد" (خر 24: 7) أو "شرعة العهد" (خر 20: 22-23: 19). ضمّت هذه المجموعة شرائع على المستوى المدنيّ والجزائيّ (21: 2-22-16)، وشرائع عباديّة (20: 24-26؛ 22: 28-30؛ 23: 10-19)، ودينيّة (20: 23؛ 22: 17، 19؛ 23: 13)، واجتماعيّة (22: 18-25)، وأخلاقيّة (23: 19).

يعود هذا التشريع إلى القرن التاسع، أو الثامن والسابع ق.م. فسبق الشرعة الاشتراعيّة التي تضمّ سفر التثنية في فصوله 12-26. يتميّز هذا النصّ بأسلوبه ولاهوته. دوّن الشرائع في لغة المحبّة، وأسندها بشروح إنسانيّة (24: 6-15: أجرة المسيكن قبل مغيب الشمس لأنّه بها يعول نفسه)، ولاهوتيّة: الربّ أختارك حين كنت عبدًا في مصر (14: 2؛ 24: 18). الربّ يجازيك ويعاقبك: يدعو المسكين عليك إلى الربّ، فتبدو مذنبًا في معاملتك لأخيك.

إذا كانت شرعة العهد ارتبطت بمحيط الأنبياء في الشمال، فالشرعة الاشتراعيّة وُلدت في محيط اللاويّين الذين كان اهتمامهم الأوّل تعليم الشعب والحفاظ على تقاليده الدينيّة التي اغتنت بشكل خاصّ في مناسبة الأعياد. وتبقى شريعة القداسة التي ارتبطت بعالم الكهنة مع عبارة تردّدت أكثر من مرّة: "كونوا قدّيسين لأنّي أنا الربّ إلهكم قدّوس" (لا 11: 44، 45؛ 19: 2؛ 20: 26).

نقرأ في سفر اللاويّين (26: 46) ما يلي: "تلك هي الفرائض والأحكام والشرائع التي وضعها الربّ لبني إسرائيل، في جبل سيناء، على يد موسى". نحن هنا في خاتمة شريعة القداسة، التي تنتهي بالبركات واللعنات، كما في تث 28ي. وقد بدأت في فصل 11، ووجدت ذروتها مع فصل 19 الذي ينطلق من الوصايا العشر (أو الدكالوغ)، ويطبّقها في الحالات الملموسة. نحن هنا أمام احترام عميق للشخص البشريّ، يلخّصه الكاتب الملهم بهذه العابرة التي سيردّدها يسوع: "أحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك" (لا 19: 18). وفرض القداسة هذا ينبع من اقتراب من الله الذي يقيم وسط شعبه. وهذه القداسة تصيب الأرض كما تصيب الشعب.

ب‌-الشريعة في الكتاب

بحثنا عن الشريعة بشكل حصريّ في أسفار موسى الخمسة (أو البنتاتوكس). فالتاريخ المقدّس الذي يرسم مخطّط الله منذ البدايات حتّى موسى، تقطعه نصوص تشريعيّة فيها أكثر من مادّة. فالتوراة، في المعنى الحصريّ، ترتّب حياة شعب الله في كلّ المجالات.

وارتبطت هذه الشريعة (أو هذه الشرائع) ارتباطًا حميمًا بالعهد. بما أنّ الله اختار له شعبًا خاصًّا ووعده بمواعيد سوف تتحقّق في التاريخ، فقد وضع لهذا الشعب شروطًا: على بني إسرائيل أن يسمعوا صوت الله ويحفظوا وصاياه، وإلاّ حلّت بهم لعنات الله. "إن سلكتم في فرائضي وحفظتم وصاياي وعملتم بها، أنزلت المطر عليكم في حينه... وألقي السلام في الأرض... وإن كنتم لا تسمعون لي، أجلب عليكم الرعب..." (لا 26: 3-16؛ رج خر 23: 21؛ تث 28: 15-68).

تسلّم الكهنةُ هذه الشريعة، وعلّم اللاويّون الشعب في ظلّ الهيكل: "وحينما يأتي جميع بني إسرائيل ليروا وجه الربّ إلههم في الموضع الذي يختاره (= في أورشليم)، تُقرأ هذه الشريعة على مسامعهم جميعًا. إجمعوا الشعب (يا بني لاوي) رجالاً ونساء وأطفالاً، والغريب الذي في مدنكم، ليسمعوا ويتعلّموا ويتّقوا الربّ إلهكم" (تث 31: 11-12).

لا شكّ في أنّنا نحن أمام عمليّة تكرار، بل إنّ الشريعة توسّعت مع الزمن. أعيد النظر فيها؛ تكيّفت وحاجات العصر؛ وُضعت فيها تفاصيل من أجل إيضاح بعض الأمور. وهكذا استعادت شرعة العهد الموجزات القديمة، واستعاد سفر التثنية ما في شرعة العهد، وتوسّع فيه، فبيّن أنّ محبّة الله هي أولى الوصايا التي تعود إليها كلّ الوصايا: "الربّ إلهنا ربّ واحد. فأحبّ الربّ إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا آمركم بها اليوم في قلبك" (تث 4: 4-6). فالله في سفر التثنية هو إله يحبّ شعبه (4: 37؛ 7: 8، 13؛ 10:15؛ 23: 6). وهو الإله الذي لا نخافه فقط، بل نحبّه وبالتالي نحفظ وصاياه (5: 10). ويعبّر الإنسان عن حبّه هذا بالتزام تامّ تجاه الله. يسأل موسى الشعب: "ماذا يطلب منك الربّ؟ تخافه، تسلك في طريقه، تحبّه، تعبده (تخدمه) بكلّ قلبك وكلّ نفسك، وتعمل بوصاياه وسننه" (10: 12). من أجل هذا ينزع الربّ الغشاوة عن قلب الإنسان ويطهّره لكي يحبّ الربّ ويحيا (30: 6).

شدّد الكهنة على الاقتداء بالله القدّوس (لا 19: 1)، ووبّخ الأنبياء أولئك الذين يهملون الشريعة؛ فقال هوشع: "بما أنّكم نسيتم شريعة إلهكم، فأنا أيضًا أنسى بنيكم" (4: 6). وذكّر الشعب بما في الوصايا العشر: وجد اللعنة، والغدر، والقتل، والسرقة، والفسق. وهذه كلّها تجاوزت كلّ حدّ، والدماء تلحق بالدماء. وقابل يشوع بن سيراخ الشريعة بالحكمة (24: 23). هذه الشريعة الإلهيّة أنشدت المزاميرُ عظمتها: "شريعة الربّ كاملة تنعش النفس، وفرائضه حقّ تجعل الغبيَّ حكيمًا" (مز 19: 8). وسيقول المرتّل حبّه للشريعة في مز 119: "لا أحبّ إلاّ شريعتك" (آ 163). هذه الشريعة ما نسيها المؤمن (آ 63)؛ فهي خير لي من ألوف ذهب وفضّة (آ 72)، وهي لي نور (آ 77). وفي النهاية، وبعد زوال الاستقلال، صارت الشريعة في قلب الجماعة اليهوديّة التي رأت مدينتها تُدمّر وهيكلها يُحرق. وبعد أن زال الهيكل سنة 70 ب.م.، لم يعد هذا المكان المقدّس رمز حضور الله وسط شعبه، بل صارت التوراة "الوسيط" بين الله وشعبه.

2- الشريعة والمحبّة

الشريعة هي ما شرّع الله لعباده من السنن والأحكام. هي طريق يوضحها الله لنا، فترتبط بالقضاء والدينونة والحكم. والشريعة هي فريضة تضعها سلطة عُليا، فتحدّد حقوق الفرد وواجباته. إذا كان الأمر هكذا، فكيف تلتقي بالمحبّة التي تنظر إلى وضع كلّ واحد، وتسعى إلى نموّه، كما يُنمّي الوالدون أولادهم؟

أ- الشريعة في بداية المسيحيّة

كلّ شيء ينطلق في هذا المجال من الوصايا العشر التي هي في قلب العالم اليهوديّ الذي عاصر المسيح والبشارة الأولى. وسوف يتوسّع المعلّمون في هذه الوصايا ويفصّلونها تفصيلاً دقيقًا، بحيث صارت 613 وصيّة أو فريضة. فيها ما أخذ من التوراة الخطّيّة، أي الكتاب المقدّس في عهده القديم، وفيها ما أخذ من التوراة الشفهيّة التي ستُجمع شيئًا فشيئًا قبل أن تتّخذ شكلها النهائيّ في تلمود أورشليم وتلمود بابل، وهذه الوصايا لم توضع في زمن موسى، أي في القرن الثالث عشر ق.م.، بل هيّأها الله منذ الخلق، وفرضها على جميع البشر في كلّ مكان وكلّ زمان؛ فأوّل كلمة قالها الله كانت الوصايا العشر، فتُرجمت حالاً إلى سبعين لغة، لكي تصل إلى شعوب الأرض التي عددها سبعون، كما يقول التقليد اليهوديّ.

انقسمت هذه الوصايا قسمين: الوصايا الإيجابيّة، تقول لنا ما يجب أن نعمله؛ مثلاً، الإيمان بوجود الله، بوحدة الله. نحبّ الربّ، نخافه، نرفع إليه الصلوات، نتعلّق به باحثين عن رفقة الحكماء؛ نُقسم به، وندعوه، نسير في طرقه، نقدّس اسمه، ندرس التوراة... وتتواصل هذه الوصايا حتّى تبلغ 248 وصيّة، مع شرائع حول الميراث. والوصايا السلبيّة تمنعنا من عبادة الأوثان والسحر والتجديف وتدنيس الاسم المقدّس، كما تحرّم علينا بعض الأطعمة، وتحذّرنا من الدَّين بالربا والسرقة والظلم...، هي 365 وصيّة.

فُرضت هذه الوصايا على المؤمنين في شريعة متكاملة، فاعتبر الملعّمون أنّ مَن أهمل وصيّة من هذه الوصايا، بدا وكأنّه أهمل جميع الوصايا، فاستحقّ الدينونة. هذا ما نكتشفه عند بولس الرسول قال: "أشهد مرّة أخرى لكلّ مَن يختتن بأنّه ملزم بأن يعمل بأحكام الشريعة كلّها" (غل 5: 3). وكان قد قال في الرسالة عينها (3: 10)، مستندًا إلى العهد القديم: "أمّا الذين يتكلّمون عن العمل بأحكام الشريعة، فهم ملعونون جميعًا. فالكتاب يقول: "ملعون من لا يثابر على العمل بكلّ ما جاء في كتاب الشريعة". من الواضح أنّ عامة الشعب لم تكن تعرف هذه الوصايا الكثيرة، ولم يكن بمقدورها أن تمارسها كلّها. لهذا احتقرهم الفرّيسيّون الذين اعتبروا نفوسهم المدافعين عن الشريعة في تعليمهم وفي حياتهم. من أجل هذا، اعتبر بولس أنّ الشريعة عرّفتني إلى الخطيئة (روم 3: 10)، ولم تعطني البرّ ولا القوّة لكي أتخطّى ضعفي. قال بعد ذلك: "فإذا بالوصيّة التي هي للحياة، قادتني أنا إلى الموت، لأنّ الخطيئة اتّخذت من الوصيّة سبيلاً، فخدعتني بها وقتلتني" (روم 7: 10-11).

هنا نفهم السؤال الذي طرح على يسوع، والذي نقرأه في الأناجيل الإزائيّة الثلاثة. في الإنجيل الأوّل نقرأ أنّ أحد علماء الناموس سأله مجرّبًا عن وصيّة هي العظمى في الناموس، فأجاب يسوع: "أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك، ومن كلّ فكرك. هذه هي الوصيّة العظمى الأولى. والثانية تشبهها: أحبب قريبك مثل نفسك. بهاتين الوصيّتين يتعلّق الناموس والأنبياء" (مت 22: 24-40). وسأل الإنجيل الثاني عن الوصيّة التي هي أوّل الكلّ (مر 12: 28). لا شكّ في أنّ العبارة المتحدّثة عن محبّة الله، قرأناها في سفر التثنية، وتلك المتحدّثة عن محبّة القريب، قرأناها في سفر اللاويّين. أمّا الجديد في الأناجيل، فهو أنّ يسوع قارن بين محبّة ومحبّة، واعتبر الثانية مهمّة مثل الأولى. فإن كانت كلّ محبّة تنبع من قلب الله، فمحبّتنا لله لا تكون صادقة إلاّ إذا تجسّدت في محبّة القريب وفي النهاية، يورد لنا الإنجيل الثاني قول السائل بأنّ محبّة القريب هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح، فيوافقه يسوع على مقاله: "لست بعيدًا عن ملكوت الله" (مر 12: 33-34). أمّا متّى فأورد كلام يسوع الذي يجعل الشريعة كلّها في هاتين الوصيّتين.

ب- الشريعة وكمالها في المحبّة

وصل هذا التقليد الإنجيليّ إلى بولس وجماعته في كورنتس التي منها أُرسلت الرسالة إلى رومة. ولا شكّ في أنّ بولس عاش مسألة الشريعة في أعماقها، وهو الفرّيسيّ، فاستطاع أن يقول في بداية شبابه: حياتي هي الشريعة. ولكنّه بعد اهتدائه سيقول: "حياتي هي المسيح" (فل 1: 21). هذه الشريعة التي كانت حملاً ثقيلاً تهرّب منها الكتبة والفرّيسيّون، وجعلوها على أكتاف الناس، "وما مدّوا إصبعًا واحدًا ليساعدوهم في حملها" (لو 11: 46). أحسّ بها بولس، وأوجز ما وجده في اللوح الثاني من الوصايا في محبّة القريب، فقال: الوصايا تتلخّص في هذه الوصيّة: أحبب قريبك مثلما تحبّ نفسك (روم 13: 8-10) واستخلص النتيجة: المحبّة كمال الناموس. من مارس المحبّة مارس كلّ أعمال الناموس، فما عاد يخاف بأن يهمل وصيّة من هذه الوصايا، بحيث لن يسمع مَن يقول له: "مَن خالف وصيّة من أصغر هذه الوصايا..." (مت 5: 19).

كان بولس يحدّث المؤمنين في روم 13: 1-7 عن اجباتهم تجاه السلطة، عن الضريبة والجزية، وها هو ينتقل في آ 8 إلى الحديث عن الدَّين في حياة الإنسان اليوميّة، يقول: يمكنكم أن تدفعوا ديونكم فلا يبقى لكم همٌّ في هذا المجال، بحيث تستغنون عن الشخص الذي لستم مديونين له في فضّة أو ذهب؛ ولكن يبقى دين لا يمكن أن نفيه مهما طالت بنا الحياة، يرافقنا حتّى الموت. نحن ندفع بعضًا منه، ولكن يبقى علينا حتّى النهاية أن نمارس المحبّة لبعضنا بعضًا. بالمحبّة وحدها نتمّ الشريعة، نعمل كلّ ما تطلبه منّا الشريعة.

"لا يكن عليكم لأحد دين إلاّ محبّة بعضكم لبعض". نقرأ في هذا القول موجزًا لجميع متطلّبات الحياة المسيحيّة. يعلن بولس أنّ الحبّ دين له دور كبير في سلوك المؤمنين، وهو لا ينحصر في المسيحيّين فقط بل يضمّ جميع البشر، وهو يتغلّب على كلّ مزاحمة في المجتمع. قرأنا أوّلاً "بعضكم لبعض"، ثمّ جاءت لفظة "الغير، الآخرين"، وفي آ 9 "القريب". هنا نتذكّر مفهوم القريب في لو 10: 29-37، ونفهم إلى أيّ حدّ تمتدّ محبّتنا. في هذا المجال، يقول بولس: "فكما سامحكم الربّ، سامحوا أنتم أيضًا، والبسوا فوق هذا كلّه المحبّة، فهي رباط الكمال" (كو 3: 14). فالمحبّة هي المحبّة العظمى (1 كور 13). هي تربط جميع الفضائل المسيحيّة في حزمة واحدة، فتحيط بالإنسان الجديد كحزام يهيئه للسفر، على مثال الشعب العبرانيّ في انتقاله إلى سيناء حيث اللقاء مع الربّ. والمحبّة تربط أعضاء الجسد بعضهم مع بعض، على ما نقرأ في كو 1: 15: "وليملك في قلوبكم سلام المسيح، فإليه دعيتم كلّكم لتصيروا جسدًا واحدًا. ويعود بولس إلى هذا الكلام في الرسالة الأولى إلى تيموتاوس: "وما غاية هذه الوصيّة إلاّ المحبّة الصادرة عن قلب طاهر" (1: 5).

"من أحبّ القريب (حرفيًّا "الآخر") أتمّ الشريعة". تعتبر المحبّة تتمّة الشريعة وكمالها. هي"ملء الشريعة"، وبدونها تبقى الشريعة ناقصة، بل فارغة من جوهرها؛ فلا هدف للشريعة سوى المحبّة. في هذا المعنى نقرأ: "فالشريعة كلّها تكتمل في وصيّة واحدة: "أحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك" (غل 5: 14). أجل، من يحبّ قريبه يتمّ الناموس، على ما قال يسوع لمعلّم الناموس في إنجيل متّى. نقرأ أوّلاً التطبيق الإيجابيّ: "أخدموا بعضكم بعضًا بالمحبّة" (غل 5: 13). هكذا تدلّون حقًّا على أنكم أحرار من أجل الخير، لا عبيد في خدمة شهواتكم. ثمّ نقرأ التطبيق السلبيّ: "إذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا، فانتبهوا أنّ لا يفني واحدكم الآخر" (آ 15). هنا نلتقي مع ما تقوله الرسالة إلى رومة: "فمن أحبّ قريبه لا يسيء إليه" (13: 10).

أجل، المحبّة هي ملخّص الفرائض التي نجدها في الشريعة. وفي روم 13: 9 نقرأ تفصيل هذه الوصايا كما في الوصايا العشر، أو الدِكالُوغ: "لا تزنٍ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشتهِ". كان بإمكان الرسول أن يتابع اللائحة التي يعرفها قارئ الكتاب المقدّس، ولكنّه لم فعل، بل قال: "وسواها من الوصايا"، أي من الوصايا العشر.

ويعلن بولس: إنّ الوصايا "تتلخّص في هذه الوصيّة: أحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك" (روم 13: 9). هكذا اعتاد المعلّمون أن يلخّصوا الشريعة، بل الوصايا الست مئة وثلاث عشرة. غير أنّ القريب امتدّ مع بولس إلى أبعد ممّا نظر المعلّمون اليهود. هنا نتذكّر أنّه كانت شريعتان، واحدة تمارس داخل الشعب وأخرى مع الغريب. ونعطي مثالاً على ذلك الدَّين. نقرأ في سفر الخروج: "إن أقرضت مالاً لمسكين من شعبي، فلا تعامله كالمرابي، ولا تفرض عليه ربى" (22: 24). هذا يعني أنّه يعامل الغريب كالمرابي. وقد يعفي أخاه ممّا أقرضه من مال، أمّا الغريب فيطالبه (تث 15: 2-3). وما يقوله سفر التثنية أيضًا عن العطاء المحصور داخل شعب الله يفتحه يسوع على كلّ الناس، على كلّ مَن ألتقي به في طريقي ويحتاج إلى عطائي: "إن أحببتم من يحبّونكم، فأيّ فضل لكم؟ وإن أحسنتم إلى المحسنين إليكم، فأيّ فضل لكم؟ أحسنوا وأقرضوا غير راجين شيئًا" (لو 6: 32-35). هكذا تكونون أبناء العليّ الذي يرسل عطاياه إلى الجميع. ونقرأ في الإنجيل الأوّل: "من طلب منك شيئًا فأعطه، ومن أراد أن يستعير منك شيئًا، فلا تردّه خائبًا" (5: 42).

فالمحبّة، كما يقول بولس، لا تسيء إلى القريب، لا تسيء إلى أحد (روم 13: 10). فالمحبّة تنطلق من الإيمان، والإيمان يظهر حين نمارس المحبّة (غل 5: 6). ونقرأ في 1 كور 13: 4-6 ما لا تعمله المحبّة: "لا تعرف الحسد، ولا التفاخر، ولا الكبرياء. لا تسيء التصرّف، لا تطلب منفعتها، ولا تحقد، ولا تظنّ السوء. المحبّة لا تفرح بالظلم". أمّا الإيمان الذي يعمل بالمحبّة، فيطلب كلّ ما هو صالح بالنسبة إلى القريب.

إنّ "المحبّة هي كمال الناموس"، هي "ملء الناموس"؛ هي تُتمّ كلّ ما تطلبه الشريعة (روم 8: 4). كلّ ما يُطلب من الخاضعين للشريعة، يجب أن يُتمّوه. ولكنّ المسيح هو "غاية الشريعة" (روم 10: 4)، هو الهدف الذي إليه تتّجه في تاريخ الخلاص. عند ذاك، فالحبّ الذي هو علّة حياته ونشاطه الخلاصيّ (روم 8: 35؛ محبّة المسيح)، نفهمه على أنّه "كمال الشريعة". عندئذ تصبح المحبّة قاعدة السلوك المسيحيّ. وحين نعيشها حقًّا، نتمّ كلّ ما لأجله جُعلت الشريعة. وهكذا يبيّن بولس أنّ الإيمان يفعل عبر المحبّة (غل 5: 6)؛ كما أنّه يُثبت الشريعة (روم 3: 31) ولا يلغيها.

 

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا من الشريعة إلى المحبّة، ومن المحبّة إلى الشريعة. فلو ظلّت الشريعة على مستوى العالم القديم، لظلّت ناقصة، لهذا جاء يسوع يكمّلها. ولو انحصرت في شعب من الشعوب، وجماعة منغلقة على ذاتها، لخسرت صفة الشموليّة التي تميّز أبانا السماويّ الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويسكب غيثه على الأبرار والظالمين (مت 5: 45). ولو ظلّت موزّعة على تفاصيل، وتنوّعت في فرائض لا يستطيع أن يعمل بها المؤمن، لخلقت عقدة الذنب عند كلّ واحد منّا، لأنّها أوسع من أن نحيط بها، ونحن ضعفاء، بعد أن ألقت الخطيئة يثقلها على كاهلنا. من أجل هذا أُفيضت محبّة الله في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا (روم 5: 5). وهذه المحبّة هي التي تكمّل الشريعة، فتقودها إلى كلّ متطلّباتها، فلا تتوقّف عند القتل، بل تصل إلى الغضب. ولا تتوقّف عند الزنى، بل تصل إلى نظرة يشتهي بها الإنسان امرأة قريبه. وهذه المحبّة هي التي توجز الشريعة، بحيث يصبح هدفنا هدف أوغسطينس: "أحبب وافعل ما تشاء". وفي النهاية، المحبّة هي الله. ينبغي علينا أن لا نتوقّف عند شرائع موسّعة قد ننسى بعضها، بل أن نقتدي بالله كالأبناء الأحبّاء، ونسير في المحبّة سيرة المسيح الذي أحبّنا وضحّى بنفسه من أجلنا (أف 5: 1-2).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM