الفصل 15: رومة مدينة المليون نسمة

رومة مدينة المليون نسمة

رومة الإمبراطور مدينة قديمة. عمرها ثمانية قرون من الزمن. مدينة كبيرة جدًّا في عصرها، بل أكبر المدن المعروفة. هي عاصمة إمبراطوريّة واسعة تمتدّ من الفرات إلى المحيط الأطلنطيّ، ومن نهر الرين على حدود ألمانيا إلى الصحاري المغربيّة. مدينة كونيّة. تتجدّد فيها دومًا أعمال البناء والتعارض العنيف حاضر في حياة المدينة كما في حياة المجتمع، وذلك في عالم يتطوّر ويتطوّر. هي مدينة السكّان. ومدينة الرخام والمرمر. ومدينة التجدّد الفكريّ.

1-     مدينة السكّان

في عالم رومانيّ قليل السكّان نسبيًّا. سنة موت أوغسطس (14 ب.م.) في عالم ضمّ حواليّ 35 مليونًا، بينهم خمسة ملايين من المواطنين الرومان[1]، عدّت رومة قرابة مليون نسمة. بينهم 154 ألفًا من رجال الشعب، و350 ألف مواطن رومانيّ. إن كانت هذه الأرقام تقريبيّة، فهي مهمّة على كلّ وجه. هي تدلّ أوّلاً أنّ سياسة إعطاء المواطنيّة الرومانيّة لبثت محصورة. وتدلّ أيضًا أنّ العاصمة تمثّل واحدًا من أربعين من مجمل سكّان الإمبراطوريّة. هذا يعني أنّ رومة مكتظّة بالسكّان، ولكن الكثافة تختلف بين حيّ وآخر.

أ- حرس عديدون

في القرنين الأخيرين من عمر الجمهوريّة، نزح الكثيرون من الريف إلى المدينة. نزح الفلاّحون الذين افتقروا بعد أن سيطر الملاّكون الكبار على الأرض. وفي الوقت عينه، حملت الحروب عددًا من الأسرى والعبيد. ضاع الأمان في صراع اجتماعيّ، وفي حروب أهليّة. ومع ذلك، لم يتأخّر النزوح. فالسلام الرومانيّ السائد منذ أوغسطس ساعد على خلق حياة سهلة وجذّابة، يرافقها البزخ والرفاهيّة، وهكذا جاءت الشعوب لا من أقطار إيطاليا فحسب، بل من سائر بلدان الإمبراطوريّة.

وكان لهذا الاكتظاظ نتائج اجتماعيّة ومدينيّة خطيرة. فالمحافظة على النظام قد يخلق صعوبات لا يمكن تجاوزها. غير أن أوغسطس قسّم المدينة إلى 14 منطقة و265 حيًّا. وتنظّمت الشرطة في ثلاثة فيالق، وكلّ فيلق ألف رجل. ومع كلوديوس، ستكون سبعة فيالق في النهار وسبعة في الليل. وقد تساعدها فيالق القاضي أو الوالي، وحرس القصر. كانوا 12 ألفًا في أيّام كلوديوس.

ومع ذلك، كان الأمان بعيدًا: السرقة والنشل، القتل وقطع الأعناق. هذا عدا الفتيان الذين يختلط بهم نيرون في صباه، خلال الليل. وهناك أشياء أوساخ تُلقى على المارّة من النوافذ. وإضاءة المشاعل لم تكن كافية، وكانت في الوقت عينه خطرة. وكيف يعرف الغريب شارعًا من الشوارع ويكتشف بيتًا، ولا شيء يسهّل له طريقه؟

ب- وزارة تموين

إنّ تموين هذا العدد الكبير من السكّان، شكّل مصدر صعوبات كبيرة. فمنذ القرن الثاني ق.م.، كانوا يؤمّنون الطعام لمواطني رومة ثمّ الترفيه. مثل هذه الوجبة الواسعة التي تتمّ مرّة في الشهر، لم تكن تعتبر "تسوّلاً"، بل واجبًا في حياة المدينة. والذين نعموا بهذه الوجبة، حدِّد عددهم منذ عهد أوغسطس بمئتي ألف رجل.

منذ أيّام كلوديوس، اهتمّ مدير التموين بتوزيع القمح وسائر حاجات المدينة وليس بالأمر الهيّن تأمين الزاد للمدينة، ساعة النقليّات البحريّة بطيئة، والأرضيّة أيضًا، بسبب اللصوص والقراصنة، وحالات الطقس وقلّة الغلاّت من مصر ومن أفريقية ومن صقلّية وسردينية تأتي الحنطة في مرفأ بوطيولي وأوستيا وكلّ تأخّر في وصول السفن يخلق البلبلة والثورة. لهذا اهتمّ كلوديوس بمرفأ أوستيا وبنى حوضًا ثانيًا.

والزيت يأتي من إسبانيا وأفريقية، والخمر من إيطاليا وغالية (فرنسا) الجنوبيّة. واللحوم والدجاج من إيطاليا وغاليه الشماليّة، والخضر والفواكه من إيطاليا وآسية الصغرى وسورية، والكتّان وورق البرديّ من مصر، والصوف من آسية وغالية، والنمور والأسود من أجل المسرح، من أفريقية وآسية في معناها الواسع، والعطور والبخور من الشرق الأوسط. الفلافل من سري لانكا والحرير من الصين...

1- مدينة النشاط والضجّة

رومة مدينة لا تنام. تملأها الضجّة نهارًا وليلاً. أمّا رصيف المرافئ فلا تسل عن تكديس البضائع والمخازن، والشوارع لا تُطاق لأنّ قرارًا بلديًّا صدر سنة 45 ق.م.، فرض على العربات السير في الليل. قال يوفنال: "أيّة غرفة تستأجر لكي تنام فيها؟ لا ننام في هذه المدينة إلاّ بصعوبة كبيرة هذا ما يقتلنا. فالعربات التي تتداخل عند منعطف الشارع وتجاديف المكارية المغضبين لأنّهم أوقفوا. هذا يكفي لينزع النعاس من عجل يعيش في عمق البحر"[2].

لا نتخيّل أنّ رومة كانت مدينة العاطلين، وإن اكتفى عدد كبير من مواطنيها "بالخبز والألعاب" التي كان يؤمّنها لهم الإمبراطور. من يقول بالأشغال؟ العبيد الذين عدّوا 350 ألفًا أو أربعمئة ألف. ثمّ العبيد المحرّرون الذين كانوا أنشط شرائح المجتمع. أصحاب أعمال وطموح. ولكنّهم لم يكونوا كلّهم مثل زقستُس أو بوليبيوس، على رأس إدارة الإمبراطور كلوديوس، ومثل فليكس الذي كان حاكم اليهوديّة، ولكنّنا نعرف في زمن نيرون شخصًا مشهورًا اسمه تريملخيون، الممثّل النموذجيّ لهؤلاء الأغنياء الجدد. نشاطه التجاريّ مهمّ جدًّا. فحمل إلى رومة نتاج العام المتوسّطي.

ت- الشرقيّون واليهود

ونحن لا ننسى أصحاب الصنعة والتجّار الصغار في الأحياء الشعبيّة. فهؤلاء، شأنهم شأن المعتقين، هم من عالم الشرق. فأسماؤهم تدلّ عليهم. فالتجارة الكبيرة والصغيرة والصنعات، كانت كلّها تقريبًا في يد اليونان والأسيويّين والسوريّين واليهود والمصريّين. وتفوّق اليونان في عالم الطبّ. وكان دورهم مهمًا في تربية الشبّان الرومان. وحين نقرأ ستّين ألف مدوّنة في المدينة نكتشف الشرقيّين كعبيد متخصّصين، كأصحاب الحوانيت وبائعين متجوّلين. مصفقة الشر اسمها بانوبة أو بساماتي أو غنومي[3]. حامل المحقة اسمه أنطيوخس الحلاّق، زاتوس. صانع العطور، أوطيخا أو هابارونيوس. بائع البخور هو عبد مُعتق في بوطيولي اسمه الإسكندر وأضيف على اسمه الأصليّ اسم سيّده فانيوس.

في بداية الإمبراطوريّة، جاء أناس من البلدان البعيدة وتكاثروا جدًّا طلبًا للعمل في رومة. مثلاً، بائع الزيت الإسبانيّ الآتي من الأندلس. أو فارس رومانيّ مات في العاصمة بعد أن باع الزيت في الأندلس، والخمر في ليون (فرنسا) وعمل ملاّحًا على نهر السون[4] في فرنسا.

أجل، كانت رومة مدينة تلخّص الكون كلّه في القرن الأوّل المسيحيّ ونقرأ في النهاية ما قاله مرتياليس، الشاعر اللاتنييّ وإبن اسبانيا (40-104) في سخرياته اللاذعة[5]: "أتريد أن تعرف لماذا أمضي مرارًا إلى بيتي البسيط في الريف؟ فالفقير لا يستطيع أن يتأمّل ولا أن يرتاح في رومة. هناك عدد كبير من الناس يمنعونك من الحياة فيها. في الصباح معلّمو المدارس. في الليل، الخبّازون، وطوال النهار عمّال النحاس ومطارقهم. هنا الصيرفيّ يقضي وقته فيرنّ على مكتبه الوسخ قطع الفضّة، من زمن نيرون. وهناك ضارب الكتّان الإسبانيّ، الذي يسحقه على الحجر بقضيب ناعم، وهي صرخات متواصلة يطلقها كهنة متعصّبون لبالونيّ، إلاهة الحرب في إيطاليا ثمّ صوت الذي نجا من الغرق فحمل قجّته في رقبته، واليهوديّ المتعلّم الذي علّمته أمّه التسوّل، وبائع الكبريت بعينيه المرقدّتين...

2- مدينة الرخام والمرمر

أ- الجسور والمعابد

هذه المدينة التي تأسّست في القرن الثامن ق.م. على ما يقول التقليد، تكثر فيها الآثار القديمة، وهي تتمسّك بها كما بتقاليدها. ولكن حين صارت عاصمة إمبراطوريّة متوسّطيّة واسعة، عرفت منذ يوليوس قيصر، عمارات كبيرة، ضخمة، غيّرت وجهها. وفي هذا قال الإمبراطور أوغسطس كلامًا أورده ديون كاسيوس، "تسلّمت رومة قرميدًا، وأنا أسلّهما رخامًا"[6].

شكّلت رومة مدينة بشكل جسر على التيبر، واحتفظت بستّة جسور، بعضُها قديم جدًّا. من الشمال إلى الجنوب، جسر ميلفيوس[7]. كان من خشب. ثمّ بُني بالحجر في القرن الثاني ق.م. وجسر بناه أغريبا صديق أوغسطس وصهره ليربط حقل مارس بـ ترانستافار[8]. اسمه اليوم الجسر السادس[9] وضمّت جزيرة التيبريّة مع جسر فابريقيوس نحو الضفّة اليسرى وجسر قستيوس نحو الضفّة اليمنى. جسران بنيا سنة 62 ق.م. وأخيرًا، جسر إميليوس الذي بُني باتّجاه مصبّ البحر، وهو اليوم الجسر الأحمر[10]. جسر بُني بالحجر فحلّ محلّ أقدم جسر في المدينة، جسر سوبليقيدس الذي كان من خشب. وكان موقعه إلى جنوب الجسر الحالي ليؤمّن تجارة المواشي.

وكما اهتمّت رومة بجسورها، اهتمّت بمعابدها. فأوغسطس وحده يفتخر بأنّه رمّم تسعين منها.

ب- ورشة كبيرة

كانت رومة في القرن الأوّل المسيحيّ ورشة واسعة ومساحة بناء. يُبنى الجديد، ويتجدّد القديم. والسمة اللافتة في العاصمة، في الحقبة الممتدّة بين يوليوس والإمبراطور كلوديوس، هو التعارض بين الفوضى وضيق الشوارع والزحمة وشوارع صغيرة في الأحياء السكنيّة الشعبيّة التي لا تمسّ إلاّ بمناسبة الحرائق التي كانت كثيرة بسبب بيوت من خشب تضيئها مشاعل وسراج الزيت وتدفئها مواقد الجمر والحطب. وبين نبايات ضخمة تُدخَل في هذه الفوضى.

جاء بومبيوس (الكبير)، وأعطى المثل. فجعل في حقل مارس مسرحًا كبيرًا بناه بالحجر مع بوّابات وساعة. وفي القمّة، فينوس المنتصرة[11]. من يجرؤ على مجادلة هذا القائد الذي نعم بحماية الآلهة، فأعطته كلَّ هذه الانتصارات، ولا سيّما في الشرق وصولاً إلى مصر، وفي البحر على القراصنة.

ويوليوس قيصر الذي انتصر عليه في فارسال (في اليونان، سنة 48 ق.م.) تصوّر تصميم المدينة. فقسم حقل مارس ليحرّر قلب المدينة من الأبنية المتلاصقة. مُنع من تحقيق مشروعه. فاكتفى بإقامة ساحة (فوروم) تلصق فوروم الجمهوريّة القديم. هذه الساحة الكبيرة والمستطيلة، التي تحيط بها البوّابات، وُضع في وسطها تمثال القائد، ومن الوراء هيكل فينوس المنتصرة. فالإلاهة المحبوبة ولدت إينايوس الذي هو الجدّ الأسطوريّ ليوليوس قيصر. إذن، توخّى هذا المعبد أن يُنشد سموّ القائد المنتصر حسب سواتانيس، استقبل السيّد الجديد للعالم مجلس الشيوخ، أمام هيكل فينوس. هذا ما يعارض عرف الجمهوريّة. أراد باكرًا أن يكون الملك، فقُتل بيد أقرب المقرّبين إليه، بروتوس.

ج- التلال

قرب أوّل ساحات الأباطرة، جعل أوغسطس ساحته التي بُنيت بشكل آخر. كانت مستطيلة مع بوّابة ومصطبتين. يُشرف عليها تمثال الإمبراطور، ومعبد مكرّس لمارس (إله الحرب) المنتقم لموت يوليوس قيصر. دعا أوغسطس نفسه "أبا الوطن"، وقدّم نفسه على أنّه الحلقة الأخيرة في سلسلة الرجال العظام في تاريخ رومة: تماثيلهم أحاطت بتمثال، كان أنايوس من جهة ورومولس من جهة أخرى.

راى أغسطس دومًا التقليد الرومانيّ الذي صوّره الخطيب شيشرون حين قابل بين بساطة البيوت الخاصّة والعمارات العامّة. فحاول تهوية الأحياء المكتظّة بالسكّان، بعمارات ضخمة مثل مسرح مرقلّس وبوّابات أوكتافيّة وليفيّة. أمّا صهره أغريبا فشيّد البانتيون (مجمع الآلهة). واكتفى هو ببيت خاصّ على البالاتين. ولكنّه اختار الموقع، قرب "خيمة رومولس" وهيكل قيباليس، الإلاهة المحامية عن طروادة، التي خلّصت رومة  خلال الحرب الفونيقيّة الثانية (هجمة هنيبعل)، وهيكل أبولون شفيعه الشخصيّ وضمّ أيضًا في مسكنه معبد فستا[12]، شفيعة رومة. فالإمبراطور والحبر كان يعيش مع الآلهة.

كان البلاتين حتّى ذلك الوقت، تلّة العائلات الكبرى الشيوخيّة. فصارت تلّة مساكن الإمبراطور. هناك أقام طيباريوس أوّل قصر حقيقيّ له. وبعده سكن ذاك القصر كاليغولا وكلوديوس. أمّا نيرون فبنى قصره الخاصّ الذي دُعي "المسكن الموقّت"[13]. وذلك قبل الحريق الذي دمَّر كلّ هذا الحيّ مع وسط المدينة. وهذا ما أتاح له أن يبني "البيت الذهبي"[14] الشهير. دمِّر سنة 68 مع موت الإمبراطور، فحلّ محلّه قصر أسرة فلافيوس، وبُني قربه قصر عائلة ساويرُس.

تجاه الكابتول[15]، وقعت تلّةُ الآلهة. في القرن الأوّل ب.م.، بني الوسط الأجلّ للعبادة في المدينة؛ جوبيتر، يونون، مينزفا[16]، الثلاثيّ القديم على الكابيتول بُني الهيكل، في بداية القرن الخامس ق.م. ثمّ صُلِّح، جُمِّل أكثر من مرّة. خسر بعض امتيازاته مع معبد أوغسطس المكرّس لمارس المنتقم. ولكنّه بقي رمز قوّة رومة وأزليّتها قربه هيكل "أوبس"[17] يدلّ على الوفرة وهيكل "فيدس"[18]، على التزام الإيمان الذي يُعطي الحلف قيمته. ثمّ هيكل يونون[19] التي تسهر على رومة (تحذّرها من كلّ خطر يهدّدها، كما فعلت الوزّات التي هي شعار المدينة، حين اقترب الغاليون من المدينة سنة 390 ق.م.).

تجاه هذه الأحياء الرسميّة، تقع على الضفّة اليسرى للتيبر التلال الأخرى التي هي أحياء سكنيّة. تركت الأرستوقراطيّة تلّة البالاتين مكرهة، وجعلت بيوتها الفخمة على تلّة الكيرينال[20]، قرب حدائق سالوستيوس[21] التي جعل منها طيباريوس ملكه الخاصّ.

وتلّة أسقيلين[22] كانت مدينة الموتى[23]، وحيًّا شعبيًّا إلى أن غرس فيه ميساناس[24] حدائق رائعة، فصارت ملك الإمبراطور بعد موته، ورتّبت الأرستوقراطيّة الرومانيّة حدائق أخرى إلى أن ضمّ نيرون الأسقيلين إلى البالاتين في قصره. وتلّة بنشيو[25] تغطّت بالحدائق والمنازل. وكذلك قاياليوس[26] الحيّ الأرستقراطيّ بامتياز.

د- الأحياء الشعبيّة

كان الأفانتين[27] تلّة أقام فيها الشعب الفقير حول معبد خاصّ بهم للإلاهة ديانا. ولكن في القرن الأوّل المسيحيّ، امتلأ مساكن فخمة، فأبعدت الأحياء الشعبيّة إلى المناطق السفلى من الدينة. مثلاً حقل مارس في جزئه الغربيّ. لأنّ القسم الشماليّ عرف العديد من أبنية الإمبراطور أوغسطس (مدفن الأمير[28]) والقسم الشرقيّ مباني أغريبا (الحمامات، البانتيون الذي كرِّس أوّلاً لعبادة الإمبراطور) مع معبد إيزيس وسيرابيس[29] الذي أضافه كاليغولا. فالترانسفاتا، المنطقة الواحدة الواقعة على الشاطئ الآخر للتيبر، أقام فيها عمالٌ طردوا من وسط المدينة ومن شرقها سكّان أتوا من أماكن عديدة ولا سيّما من الشرق: أصحاب الصنع، ودكاكين صغيرة وتجارة. هم عشرات الآلاف. وبقيت ثلاث مناطق مكتظّة بالسكّان: أرجيلات وسوبور[30] بين أسفيليك وقيرينال فيمينال[31]، الفالابرا[32] بين الكابيتول والبالاتين، وادي مورشا[33] بين البالاتين والأفانتان. مع سوق الماشية وسوق الخضار[34] اللذين هما امتداد لغالابرا على مدّ التيبر، وصلنا إلى عالم الصنّاع والتجّار حيث الأمراء والعمارات المؤلّفة من خمس أو ستّ طوابق لا راحة فيها. بُنيت فوق الدكاكين. حدّد أوغسطس ارتفاعها: 70 قدمًا أي 20 مترًا.

3- مدينة التجدّد الفكريّ

روح جديدة نفخت على رومة. وإحدى الوجهات التي نلاحظها هو أدب جديد يهتمّ بالديانة والميتولوجيا. أنشد فرجيليوس بدايات رومة وتقوى إيناوس. كما أنشد "الإله" الجديد، فخلّص المدينة والعالم الرومانيّ. وألّف أوفيديوس قصائد إيروتيّة[35]، كما صوّر الأعياد الوطنيّة مع العبادات المرتبطة بها.

في هذه المدينة يهتمّ الأمير أوّل ما يهتمّ بتشييد أو ترميم الهياكل إكرامًا للآلهة كما في الديانة الوطنيّة الجديدة، ويتلقّى الأباطرة، وهم بعد أحياء، إكرامًا محفوظًا لله. وحين يموتون تؤسّس لهم شعائر عبادة رسميّة. ولكن بعد موت أوغسطس، زخر سينيكا نفسه في فلسفة روحانيّة تتحدّث عن الاستسلام للخالق، وسيطرت ثقافة دينيّة سيحاول الفنّ أن يعبِّر عنها.

منذ القرن الثاني ق.م. صارت رومة، في المجال الفنّيّ، حاضرة هلّنستيّة (سيطرة آتية من اليونان). وفي بداية القرن الأوّل المسيحيّ، صار الجديد الكبير على المستوى الإيديولوجيّ: أبنية ضخمة تريد أن توصل "بلاغًا". وكذا نقول عن الزينة الهندسيّة. امتلأت رومة بتماثيل الإمبراطور وأفراد أسرته. والمذابح والنقوش لا تدلّ فقط على الجمال. بل تترجم خطًّا إيديولوجيًّا يميّز رومة. واعتلى السلافت "مذبح السلام" في حقل مارس فالجماليّة الجديدة تعلن "الثورة" التي تمّت في طبيعة الدولة الرومانيّة على المستوى السياسيّ والدينيّ.

في تاريخ الديانة الرومانيّة كانت الحقبة المجيدة من يوليوس إلى كلوديوس وقتًا حاسمًا أشرف عليه عمل أوغسطس الشخصيّ لأجل أهداف سياسيّة: إعادة العبادات القديمة، مثلاً للإلهين التوأمين اللذين يحميان الشبيبة (صار أحفاده أمراء فيها). أو لأبولون، شفيعه الشخصيّ، من تأسيس ديانة جديدة، ديانة الأمير، الذي يكرَّم وهو حيّ، وهو "العليّ" (إوغسطس) منذ يوليوس قيصر. من تيّارت فلسفيّة، في وجه صوفيّ مثل النيوفيتاغوريّة التي ازدهرت في زمن كلوديوس ودلّت عليها "بازيليك" الفيتاغوريّة في الباب الكبير. ومن السحر والعرافة اللذين سيطرا في الجموع الشعبيّة بانتظار نخبة المسؤولين. في كلّ موضع، نفخت روح جديدة، ونما حسّ دينيّ جديد[36].

خاتمة

بقيت النصوص الرومانيّة العديدة في الكتب. أو في ما تبقّى منها. ونضيف أيضًا المدوّنات والكتابات. كما لا ننسى الدياميس أو السراديب التي تدفن فيها الموتى، بما فيها من رسوم وثنيّة ويهوديّة ومسيحيّة. كلّ هذا يقدّم تاريخًا واسعًا يحلّله الباحثون فيقدّمون لنا صورة عن هذه العوالم التي تداخلت في عاصمة الكون، في تلك المدينة الكوسموبوليّة (كوسموس: الكون. بوليس: مدينة، مدينة كونيّة)، في رومة. وليس أفضل في نهاية هذا الفصل من نقل مدوّنة راجينا الملكة، تلك السيّدة التي دُفنت في ديماس طريق المرفأ[37]. هو نصّ لاتينيّ يُنشد التقوى والورع والحبّ:

هنا ترقد راجينا، في مدفن جميل

بقدر ما استطاع زوجها تجاوبًا مع حبّه.

عاشت معي عقدين من السنين

وسنة وأربعة أشهر ما عدا ثمانية أيّام.

ستحيا من جديد، من جديد ستعود إلى النور

فترجو أن تقوم إلى الأبد

هذا ما وُعد به الكرام والأتقياء

استحقّت لها مكانًا في الأرض المقدّسة (= الفردوس).

هذا ما تنالينه بتقواك وبعفّتك.

بحبّك لشعبك، بأمانتك للشريعة (= موسى)

باستحقاق زواجك الواحد الذي اهتممت بتكريمه

لمثل هذا السلوك تربحين الخيرات الآتية

وفي هذه الآمال يبحث عن عزاء زوجك الحزين.

 



[1] في إحصا قام به كلوديوس سنة 47-48 كانوا 5،984،000.

[2] Juvénal, Satires III, 234-238.

[3] Panope, Isamate, Gnome

[4] Saone

[5] Epigrammes en 15 livres, XII, 57.

[6] Dion Cassius, Hist. Rom. 56, 30

[7] Milvius

[8] Transtévere

[9] Ponte Sixto

[10] Ponte rotto

[11] Venus Victrix: Vénus de la Victoire

[12] Vesta, déesse de Rome. Elle est survie par les vestales  كاهنات فستا يبقين النار مشتعلة ويحافظن على العفّة.

[13] Domus Transitoria

[14] Domus aurea

[15] Capitole  إحدى تلال رومة السبع

[16] أبو الآلهة وسيّدها في مجمع الآلهة الرومانيّ: Jupiter

زوجة جوبيتر: Junon

الإلاهة المحامية عن رومة وشفيعة الصنّاع والعاملين في المعادن: Minerva

[17] Ops

[18] Fides

[19] Juno Moneta

[20] Quirinal

[21] Salluste

[22] Esopuilin

[23] Nécropole

[24] Mécine

[25] Pincio

[26] Caelius

[27] Aventin

[28] Horlogium, Ara Pacis: الساعة الكبيرة، مذبح السلام

[29] إله الموتى: Sérapis

[30] Argilèles et Subure

[31] Quirinal-Viminal

[32] Vélabre

[33] Murcia

[34] Forum Boarum, Forum Holitorum

[35] Eros  إله الحبّ يصوّر بشكل طفل، اتّخذ الوجه الشهوانيّ

[36] Marcel Le Glay, Monde de la Bible, 5(nov-déc 1987), p. 11-19.

[37] Via Portuensis

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM