الفصل السابع : بشرناكم بكلمة الله فرفضتموها

 

الفصل السابع

بشرناكم بكلمة الله فرفضتموها

تلك كانت خبرة بولس في أنطاكيَّة بسيدية، في الأناضول الجنوبيّ وعند سفح سلسكان داغ، على علوِّ 1200 متر فوق سطح البحر. هذه المدينة التي دمَّرها العرب في القرن الثامن، لم تَعُدْ اليوم سوى حقل واسع من الخراب الرومانيّ والبيزنطيّ. واستُعملت حجارتها لبناء قرية يلفاص، التي تبعد 2 كلم إلى الجنوب الشرقيّ من الموقع الأثريّ. هذه المدينة التي أسَّسها اليونان الآتون من مغنيزية، أعاد تأسيسَها السلوقيّون من أنطاكيَّة سورية ودعوها باسم أنطيوخس الأوَّل، في سنة 25 ق.م. تسلَّمت من الإمبراطور أوغسطس لقبَ المستوطنة الرومانيَّة وامتيازاتها وتسمَّت «كولونيا أوغوسطا أنطيوكايا» أي مستوطنة أنطاكية الرفيعة.

وصل بولس وبرنابا إلى هذه المدينة التي عُرفت بوضعها السياسيّ وعباداتها، ومنها الإله »مان«، أي القمر الذي يكرَّم في الأناضول. ولكن ما قدَّمه لنا لوقا في سفر الأعمال هو مثال لما كان الفريق الرسوليّ يفعل في المدن الهلِّنستيَّة، أي تلك الحضارة اليونانيَّة التي حملها الإسكندر المقدونيّ فتفاعلت مع الفكر الشرقيّ وحضارته. وما نلاحظ في هذه المدينة، العدد الكبير من اليهود وتأثيرهم على الأرستقراطيَّة في المدينة. كلُّ هذا يرافقنا في هذه المرحلة من الرسالة البولسيَّة.

ماذا حصل في أنطاكيَّة بسيدية؟ ما الذي سبق هذه الخبرة وما الذي تبعها؟

1- ودخلا المجمع يوم السبت

تلك كانت طريق بولس في حمل الرسالة. وهي الطريق التي أخذها يسوع. انطلق من شعبه لكي يجعله كلَّه حامل رسالة. ولكنَّهم تهرَّبوا فكانت لهم الخسارة الكبيرة. وبدلاً من السير مع يسوع كما كان الشعب يسير ولا سيَّما في ذلك الصعود إلى أورشليم، رفضوا ثمَّ قاوموا. وهكذا كان الوضع بالنسبة إلى بولس وبرنابا.

أ - الصلاة في المجمع وإعلان الكلمة

في هذا العالم اليونانيّ الواسع، ذهبا إلى المجمع، واعتبرا أنَّ هذا الموقع يمكن أن يكون نقطة الانطلاق من أجل الرسالة في المنطقة، وشاركا في الصلاة وفي القراءات التي تُقرأ كلَّ سبت. أوَّلاً، شريعة موسى أو التوراة في المعنى الحصريّ: أسفار التكوين والخروج واللاويّين والعدد والتثنية. هي القراءة الأهمَّ التي تُشرف على سائر القراءات. ونتذكَّر هنا أنَّ الطفل اليهوديّ يبدأ بدراسة ديانته في سفر اللاويّين حيث تُقرأ بشكل خاصّ الفرائض الطقسيَّة والممارسات التي فيها لا يتنجَّس المؤمن خلال حياته اليوميَّة.

ثانيًا: الأنبياء. بدءًا بسفر يشوع وصولاً إلى أشعيا وإرميا وحزقيال وسواهم. فالأنبياء يُعتَبرون أنَّهم وسَّعوا فرائض موسى وطبَّقوها على الحياة الحاضرة في قلب الظروف التي يعرفها الإنسان في هذا الآن وفي المكان. هنا تختلف النظرة المسيحيَّة إلى العهد القديم. فهي تهتمُّ بشكل خاصٍّ بكتب الأنبياء، لأنَّها أعدَّت الطريق إلى يسوع. وهذا ما نقرأه أيضًا بقلم لوقا في إنجيله.

فحين جاء يسوع إلى الناصرة «دخل المجمع يوم السبت كعادته» (لو 4: 16). وماذا قرأ ؟ لا أسفار الشريعة، بل نبوءة أشعيا. يقول الإنجيل: «فلمّا فتح (يسوع) الكتاب، وجد المكان الذي ورد فيه: «روح الربِّ عليَّ لأنَّه مسحني لأبشِّر المساكين... » (أش 61: 1). ما رجع يسوع إلى أسفار الشريعة لكي يربط بها ما قاله النبيّ أشعيا، بل جعل هذا النصَّ حاضرًا بالنسبة إلى الجماعة المصلِّية في ذلك السبت. قال: «اليوم تمَّت هذه الكلمات التي تلوتُها على مسامعكم» (لو 4: 21). يا ليتهم دخلوا في هذا «الإتمام» الذي ينقلهم من مرحلة الأرض إلى مرحلة السماء. فيسوع الذي أعلن أنَّ الله أباه وهو بعمر اثني عشر عامًا، أعادوه إلى الناصرة، وإلى أسرته: «هو ابن يوسف» (آ22) وحسب. فلا يحاول أن يرتفع ويجعل من نفسه المعلِّم فينا. ونحن نعرف كيف كانت نهاية زيارة يسوع في الناصرة: «فلمّا سمع الحاضرون في المجمع هذا الكلام، غضبوا جدٌّا. فقاموا وأخرجوه إلى خارج المدينة. وجاؤوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنيّة عليه ليلقوه منها» (آ28-29). ولكنَّ شخصيَّته الفذّة جعلتهم لا يفعلون شيئًا. «فكلام النعمة الخارج من فمه» ملأهم إعجابًا (آ22). لهذا، «مرَّ من بينهم ومضى».

ب- عظة بولس

وما أصاب يسوع أصاب بولس، لأنَّ التلميذ الناجح يكون مثل معلِّمه، والعبد يكون مثل سيِّده. والقدّيس لوقا، في سفر الأعمال، يبيِّن دومًا أنَّ ما يقوم به المرسلون هو امتداد لعمل يسوع وتطبيق لهذا العمل خارج فلسطين وصولاً إلى أقاصي الأرض. وفي أيِّ حال، قال للرسل كما يقول لنا اليوم: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من آمن بي، يعمل الأعمال التي أعملها، بل أعظم منها يعمل » (يو 14: 12).

وماذا عمل بولس ورفيقه في أنطاكيَّة بسيدية؟ «فقام بولس وأشار بيده وقال: «يا بَني إسرائيل، ويا أيَّها الذين يتَّقون الله اسمعوا» (أع 13: 6).

عاد الرسول إلى «تاريخ» الشعب العبرانيّ حتّى وصل إلى داود. ومن هناك انتقل إلى المسيح، لأنَّ هدف الكتب المقدّسة هو يسوع المسيح. «وأخرج الله من نسل داود يسوعَ مخلِّصًا لشعب إسرائيل» (آ23). وهكذا ذكَّرهم بمسيرة يسوع منذ معموديَّة يوحنّا حتّى الصلب والقيامة، ليبيِّن لهم أنَّ يسوع هذا هو المسيح. فلا حاجة إلى انتظار مسيح آخر. لأنَّ الخطوة الأساسيَّة التي تنقل اليهوديّ إلى الإيمان المسيحيّ، هي الاعتراف بأنَّ يسوع هو المسيح. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى ذاك الأعمى منذ مولده. يقول الإنجيل: »«اتَّفقوا (الفرّيسيّون) أن يطردوا من المجمع كلَّ من يعترف بأنَّ يسوع هو المسيح» (يو 9: 23). وفي الواقع، هذا ما حصل للأعمى الذي اعتبر أنَّ يسوع آتٍ »من الله» (آ33). فقالوا له: «أتعلِّمنا وأنت كلُّك مولود في الخطيئة؟« وطردوه من المجمع» (آ34).

استند بولس إلى الأسفار المقدَّسة ليقول: »نحن نبشِّركم بأنَّ ما وعد الله به آباءنا تمَّ لنا، نحن أبناءهم، حين أقام يسوع من بين الأموات، كما جاء في المزمور الثاني» (أع 13: 32-33). ثمَّ ذكر «الواعظ» المزمور 16: «لا تترك قدُّوسك يرى الفساد». وبيَّن لهم أنَّ ما قيل عن داود لا ينطبق على داود بل على ابن داود الذي مات ودُفن ورأى الفساد (آ36). نلاحظ هنا صوت الكنيسة من فم بولس أو من فم بطرس. فهامةُ الرسل تحدَّث عن هذه القيامة مستعينًا بأكثر من آية من المزمور 16. ثمَّ قال: «ورأى داود من قبلُ قيامة المسيح فتكلَّم عليها وقال: «ما تركه الله في عالم الأموات، ولا نال من جسده الفساد» (مز 132: 11). في هذا المجال قال بولس الرسول بالنسبة إلى سائر المبشِّرين: «أكنتُ أنا أم كانوا هم، هذا ما نبشِّر به وهذا ما به آمنتم» (1 كو 15: 11).

وكما دعاهم بطرس كذلك فعل بولس. فبعد عظة العنصرة، قال بطرس: «فليعلم بنو إسرائيل كلُّهم علم اليقين، أنَّ الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم، ربٌّا ومسيحًا» (أع 2: 31). ثمَّ قال: «توبوا» وليتعمَّد كلُّ واحد منكم باسم يسوع المسيح، فتُغفَر خطاياكم، ويُنعَم عليكم بالروح القدس» (آ38). وقال بولس في عظة أنطاكيَّة بسيدية: «فاعلموا، يا إخوتي، أنَّنا بيسوع نبشِّركم بغفران الخطايا، وأنَّ من آمن به يتبرَّر من كلِّ ما عجزت شريعة موسى أن تبرِّره منه. فانتبهوا لئلاّ يحلَّ بكم ما قيل في كتب الأنبياء... » (أع 13: 38-40).

ج- رفض البشارة واضطهاد

ما قيمة عظة لا تنتهي بدعوة السامعين إلى التوبة وتبديل الحياة؟ وما الغاية من كلام لا يدفع الإنسان إلى العمل والانطلاق من جديد، على مثال ما دعا الله إبراهيم: «أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك» (تك 12: 1). فهناك أوَّلاً التجرُّد قبل السير في خطى يسوع. نتخلّى عن الماضي مهما كنّا متعلِّقين به تعلُّقًا عاطفيٌّا أو تقليديٌّا، ونضع خطانا في خطى الربِّ دون النظر إلى الوراء. هذا ما لم يستطعه الشعب اليهوديّ بصورة إجماليَّة. يجب أن يكون يسوع في خطِّ موسى ليُقبلَ لديهم. ولكنَّ يسوع يقول لهم: «لا تظنُّوا أنّي أشكوكم إلى الآب، فلكم من يشكوكم، موسى الذي وضعتُم فيه رجاءكم، ولو كنتم تصدِّقون موسى لصدَّقتموني لأنَّه كتب فأخبر عنّي» (يو 5: 45-46). ومع ذلك، رفضوا أن يكونوا تلاميذ يسوع. فقالوا للأعمى الذي شُفي: «أنت تلميذه (= تلميذ يسوع). أمّا نحن فتلاميذ موسى. نحن نعرف أنَّ الله كلم موسى، أمّا هذا فلا نعرف من أين هو.« (يو 9: 28-29). أو بالأحرى، ما أرادوا أن يعرفوا. بحسب المثل المعروف: «الأعمى الأعمى هو الذي لا يريد أن يرى». وهذا ما يمكن أن يقع فيه كلُّ إنسان يتسمَّر في موقعه.

وهكذا كان اليهود في أنطاكيَّة بسيدية. بعضهم قِبَل البشارة، «فكلَّماهم (بولس وبرنابا) وشجَّعاهم على الثبات في نعمة الله» (أع 13: 23). ولكنَّ الأكثريَّة رفضوا: «فلمّا رأى اليهود الجموع، امتلأوا غيرة وأخذوا يعارضون كلام بولس بالشتيمة» (آ45). وما اكتفى اليهود بذلك، لا سيَّما وأنَّ »كلام الربِّ انتشر في تلك البلاد كلِّها» (آ46). فماذا فعلوا؟ «حرَّضوا وجهاء المدينة والنساء الشريفات، عابدات الله، فاضطهدوا بولس وبرنابا، وطردوهما من ديارهم» (آ50). ويا ليتهم اكتفوا بذلك؛ فهم لاحقوا الرسولين إلى لسترة «واستمالوا الجموع فرجموا بولس وجرُّوه إلى خارج المدينة. وهم يحسبون أنَّه مات» (أع 14: 19).

هل غضب بولس ورفاقه؟ كلاّ. فهم يتشبَّهون بالمسيح الذي قال لهم: «إذا اضطهدوني يضطهدونكم، وإذا سمعوا كلامي يسمعون كلامكم. وهم يفعلون بكم هكذا من أجل اسمي» (يو 15: 20-21). وفي هذا الإطار قال الرسول لأهل تسالونيكي: «أصابهم من آلام على أيدي اليهود الذين قتلوا الربَّ يسوع والأنبياء واضطهدونا، والذين لا يُرضون الله ويُعادون جميع الناس، فيمنعونا من تبشير سائر الأمم لخلاصهم» (1 تس 2: 14-16).

وكيف تصرَّف بولس وبرنابا في هذه الحالة؟ كما علَّم يسوع: »«نفضا عليهم غبار أقدامهما، وانتقلا إلى إيقونية» (أع 13: 51). فالربُّ أوصى الاثني عشر حين أطلقهم في عمل الرسالة: «وإذا امتنع بيت أو مدينة عن قبولكم أو سماع كلامكم، فاتركوا المكان، وانفضوا الغبار عن أقدامكم» (مت 10: 14). فالرسول لا يتعلَّق بموضع من المواضع، ولا بفئة من الفئات. على مثال معلِّمه، الذي أراد الناس مرارًا أن يتمسَّكوا به. قال: «يجب أن ننطلق إلى المدن المجاورة لأبشِّر هناك، لأنّي لهذا خرجت» (مر 1: 38). وهناك خبر في حياة يسوع، يرويه لوقا الإنجيليّ: «رفض أهلها (قرية سامريَّة) أن يقبلوا يسوع، لأنَّه كان متوجِّهًا إلى أورشليم» (لو 9: 53). ولكنَّه ما بدَّل طريقه. على ما قال بولس الرسول عن نفسه: «فلو كنتُ اليوم أطلب رضا الناس، لا أكون عبدًا للمسيح» (غل 1: 10).

2- قبل وبعد

جاءت البشارة في أنطاكيَّة بسيدية محطَّة هامَّة، فأفهمتنا كيف كان بولس يكلِّم اليهود. ينطلق من الكتب المقدَّسة التي يسمعونها كلَّ سبت ويعرفون قسمًا منها غيبًا، كما عرفنا كيف اليهود استقبلوا بولس. بالإضافة إلى ذلك، سوف نرى الطريقة التي اتَّبعها الفريق الرسوليّ: يبدأون مع اليهود، وحين يرفض اليهود، يتوجَّهون إلى الأمم. ولكن قبل الوصول إلى أنطاكية هذه، مضى برنابا وشاول (أي: بولس) ويوحنّا (مرقس) إلى قبرص. والسبب: هذه الجزيرة هي موطن برنابا كما كانت طرسوس موطن شاول (بولس). فلماذا لا يعمل الرسول كما طلب يسوع من مجنون الجراسيّين؟ هذا طلب إلى يسوع «أن يأخذه معه» (مر 5: 18). ولكنَّ الربَّ قال له: «ارجع إلى بيتك وإلى أهلك وأخبرهم بما عمل الربُّ لك وكيف رحمك» (آ19). هكذا فعل برنابا، لأنَّه «الأوَّل» في الفريق الرسوليّ وساعة الخلاف يخبرنا القدّيس لوقا أنَّ «برنابا أخذ مرقس وسافر في البحر إلى قبرص» (آع 15: 39).

أ- في قبرص

قبرص، مدينة النحاس في اليونانيَّة، جزيرة كبيرة عرفت السكن منذ الألف التاسع ق. م. عرفتها الشعوبُ العديدة التي أقامت في أرضها، ومنهم الفينيقيّون بانتظار الفرس واليونان. في بداية القرن الثالث ق.م.، صارت في يد البطالسة، حكّام مصر، بانتظار أن تصبح من المقاطعات الرومانيَّة.

لامستها الكرازة المسيحيَّة سنة 36-37 على أثر رجم إسطفانس. وبدأت هذه الكرازة مع اليهود أوَّلاً الذين كان عددُهم كبيرًا في الجزيرة، ثمَّ انتقل إلى الوثنيّين. وهكذا، حين أتى برنابا وشاول (= بولس) حوالي سنة 45، كانت المسيحيَّة حاضرة هناك.

أجل، انطلق الفريق الرسوليّ من أنطاكيَّة سورية، بعد أن وضعت عليهم الجماعة يدها وكأنَّها ترسلهم في مهمَّة رسميَّة. من مرفأ سلوقية أبحرا إلى مدينة سلامينة (سلامين)، نقطة الدخول العاديَّة من سورية. هذه كانت عاصمة الجزيرة القديمة ومركزًا هامٌّا للتبادل التجاريّ مع سورية والغرب. أمّا خرائب سلامينة فلا تزال حاضرة إلى الآن إلى الشمال من فاماغوستا (ماغون) مع الجمناز والحمّامات العامَّة ومسرح يتَّسع لحوالي عشرين ألف شخصًا.

في سلامينة بشَّر شاول وبرنابا بكلام الله «يعاونهما يوحنّا» (مرقس) (أع 13: 5). ولا يذكر سفر الأعمال سوى البشارة في «مجامع اليهود». ويبدو أنَّ الفريق لم يتأخَّر طويلاً، بل مضى إلى بافوس بعد أن عبر الجزيرة نحو الجنوب مرورًا بكيتيون التي هي لارناكا الحاليَّة، وأماتوس وكريوم.

أمّا بافوس فكانت مدينتين: المدينة القديمة (بالايا) والمدينة الجديدة (نايا)، والواحدة تبعد عن الأخرى قرابة 15 كلم. كانت المدينة القديمة مركز عبادة الإلاهة أفروديت (إلاهة الجمال والحبّ) مع معبدها الواقع في قرية كوكليا الحاليَّة، على طريق ليماسول. أمّا المدينة الجديدة الغائصة في القدم، التي لم تستطع أن تفرض نفسها عاصمةً إداريَّة للمدينة، فهي الموضع الذي فيه التقى شاول مع القنصل الخاصّ سرجيوس باوْلس (أو: بولس). هناك تبدَّل اسم الرسول الذي عرفناه شاول في سفر الأعمال. ونقرأ في أع 13: 9: « وامتلأ شاول، واسمه أيضًا بولس، من الروح القدس». لا حاجة بعد إلى اسم شاول وما فيه من رنَّة غير مستحبَّة في العالم اليونانيّ (ساولوس). وفي أيِّ حال، ترك بولس اسمه الأصليّ الذي يذكِّره بالعالم اليهوديّ والفرّيسيّ، ومضى إلى العالم اليونانيّ، على ما قال هو: « أنسى ما ورائي وأنبطح إلى أمامي، فأجري إلى الهدف، الفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويَّة في يسوع المسيح» (فل 3: 13-14).

* * *

في قبرص، في بافوس بالتحديد، كان لبولس مواجهة مع عالم السحر. نتذكَّر أنَّ السحر والعرافة تسعيان للوصول إلى الهدف دون البحث عن إرادة الله ومسرَّته. هي قوَّة تجاه قدرة الله، تقريبًا كما أراد أهل برج بابل أن يرفعوا بناءهم لكي يطالوا الله في عقر داره. والسحر يسعى أيضًا للنفاذ إلى مخطَّطات الله بحيث لا يبقى للساحر أمرٌ خفيّ. مثل هذا الموقف يغيظ الله القدير، صانع السماوات والأرض. من أجل هذا يُحرَّم السحرُ والعرافة على اليهوديّ أشدَّ التحريم وكأنَّه عمل وثنيّ.

السحر في وجه بولس من قبل يهوديّ اسمه بريشوع (ابن يشوع) «يدَّعي النبوءة كذبًا» (أع 13: 6). والسحر أيضًا في وجه بطرس مع سمعان الساحر (أع 8: 19) الذي طلب أن يوسِّع سلطته بالمال. قال للرسولين، بطرس ويوحنّا، اللذين جاءا من أورشليم لإكمال عمل فيلبُّس، أحد السبعة: «أعطياني أنا أيضًا هذه السلطة لينال الروح القدس كلُّ من أضع عليه يديَّ». وجاءه التهديد سريعًا: «إلى جهنَّم أنت ومالك» (آ20). وما فعله بطرس، فعله بولس، بل جاء فعله أكثر قساوة لأنَّ بريشوع هذا كان مسيطرًا على سرجيوس بولس فجعله «شبه أعمى»، أمّا الآن وبعد أن رأى الحاكم حقيقة الإنجيل، فانتقل العمى إلى هذا «الساحر»، بشكل موقَّت.

نلاحظ هنا قدرة الله تعمل في الرسول. لا شكَّ في أنَّ لشخصيَّته دورًا، ولكنَّ قدرة الروح كانت حاضرة، فجاء كلام بولس صاعقًا كالنار، فما بقي لهذا المعارض لكلام الله إلاّ أن «يدور حول المكان متلمِّسًا من يقوده بيده» (آ19).

غريب ما حصل! فهو حصل أيضًا لشاول على طريق دمشق. يقول سفر الأعمال: «فنهض شاول عن الأرض وفتح عينيه وهو لا يبصر شيئًا، فقادوه بيده إلى دمشق» (أع 9: 8). غير أنَّ شاول خرج من عماه حين اعتمد «فسقط من عينيه ما يشبه القشور، وعاد البصر إليه» (آ18). يا ليت بريشوع اتَّبع الطريق عينها! هو مضى وما عدنا نعرف ما حصل له. أمّا الحاكم «فآمن عندما شاهد ما جرى« (أع 13: 12). وانطلق «تعليم الربِّ» وامتدَّ مثل حبَّة الخردل التي نمت »وصارت شجرة، حتّى إنَّ طيور السماء تجيء وتعشِّش في أغصانها» (مت 13: 32). تلك كانت قبرص التي نمت فيها المسيحيَّة بشكل رائع، ولا سيَّما في القرن الرابع مع قرار ميلانو (سنة 313، مع الإمبراطور قسطنطين) بحيث سعت إلى الاستقلال عن أنطاكية ونالت ما تريد بعد أن صارت كنيسة بالغة ومسؤولة عن نفسها وعن اختيار أساقفتها.

ب- في لسترة

من أنطاكية، انطلق بولس وبرنابا إلى إيقونية (أو: إيقونيوم) على الطريق الرومانيَّة الرسميَّة: أوغوسطا أو سبسطا، باسم الإمبراطور، اسم المدينة اليوم هو كونيا التي هي حاضرة كبيرة (عدد سكّانها يقارب النصف مليون)، ومركز دينيّ للإسلام. في أيّام بولس تعبَّدت لهرقلس، ذاك »الإله» الجبّار بمآثره التي جعلته يسند الأرض في إحدى زواياها، في جبل هرقل الواقع بين إسبانيا والمغرب، الذي صار اسمه جبل طارق منذ عبرَهُ طارق بن زياد مع الجيش الأمويّ الذي وصل إلى الأندلس في أسبانيا.

لا يتوسَّع القدِّيس لوقا في الكلام عن إيقونية. هناك بعض اليهود، فتصرَّف معهم الرسول كما مع أهل أنطاكيَّة بسيدية. هناك من آمن، وهناك من رفض الإيمان. والنتيجة: «اليهود الذين رفضوا أن يُؤمنوا، حرَّضوا الوثنيّين على الإخوة وأفسدوا قلوبهم» (أع 14: 2). ولكنَّ الرسالة تواصلت مع غير اليهود»،« فأقام بولس وبرنابا في تلك المدينة »مدَّة طويلة يجاهران بالربِّ. وكان الربُّ يشهد لكلامهما على نعمته بما أجرى على أيديهما من العجائب والآيات» (آ3).

وفي لسترة، كان حدث غريب. شفى بولس كسيحًا، فاعتبر الناس أنَّ الآلهة نزلوا على الأرض، وأرادوا أن يقدِّموا ذبيحة شكر لهذين الإلهين. بولس هو «زيوس» أو «زوش» كبير الآلهة. وبرنابا هو «هرمس»، إله المسافرين والتجّار والسارقين. ومع بولس الشافي، كان هو »يتولّى الكلام» (أع 4: 12). «

ما عمله بطرس مع الكسيح «عند باب الهيكل المعروف ب«الباب الجميل» (أع 3: 2)، عمله بولس مع الكسيح في لسترة. قال بطرس: «باسم يسوع المسيح، قمْ وامشِ! وأمسكَ بيده وأنهضَه» (آ6-7). وبولس قال للكسيح في لسترة، المدينة الوثنيَّة: «قُم وقفْ منتصبًا على رجليك، فنهض يمشي» (أع 14: 10). »

تحدَّثت الجموع باللغة الليقونيَّة، فما فهم الرسولان ماذا كان يُعَدُّ لهما. ممّا يعني محدوديَّة حاملي البشارة: هم لا يعرفون كلَّ اللغات، شأنهم شأن المبشِّرين في هذه الأيّام، في آسية أو في أفريقيا: يرافقهم من يترجم، أو هم يتعلَّمون لغة البلاد الماضين إليها. هكذا فعل مثلاً القدّيس فرنسيس كسفاريوس، رسول الهند واليابان الذي مات على أبواب الصين، لا بسَهم طائش، بل منهكًا من التعب والمرض.

أمّا بولس فتحدَّث مع أهل لسترة بلغة تفترق عن حديثه في أنطاكيَّة بسيدية. فكلام الله الواحد يتكيَّف مع المحيط الذي نحمله إليه. مع اليهود، انطلق بولس من الأسفار المقدَّسة في العهد القديم، فوصل إلى يسوع المسيح، إلى الموت والقيامة والنداء إلى التوبة والاهتداء إلى الربِّ. مع الوثنيّين الذين لا يعبدون الإله الواحد، بل تَعرف مدنُهم عددًا من الآلهة، هو كلام عن «الله الحيّ الذي خلق السماء والأرض والبحر، وكلَّ شيء فيها» (آ15).

في أنطاكية، ذكر بولس آباء الشعب العبرانيّ وصولاً إلى داود. هنا، عاد إلى بداية البشريَّة الثانية، مع نوح. فالطوفان الذي حصل وضع البلبلة في الكون وقتل كلَّ حياة على الأرض. مع الطوفان ما عاد الناس يميِّزون الليل من النهار، ولا الصيف من الشتاء. اختلط كلُّ شيء بكلِّ شيء، اختلط الزرع بالحصاد، وهل بقي حصاد والأرض غرقى في المياه (تك 8: 22)؟ ولكن حين انتهى الطوفان عاد كلُّ شيء إلى موضعه كما في بداية الخلق. جاء النور ففصل بين الليل والنهار، بعد أن كان الكونُ كلُّه «ليلاً». وخُلق الجلَد، ففصل بين السماء والأرض. كما فُصلت أيضًا البحار عن اليابسة (تك 1: 3-10).

ذاك كان موضوع كلام بولس. فالإنسان يكتشف الله، إمّا بالكتب المقدَّسة، وإمّا بالطبيعة المخلوقة التي فيها يقرأ ذوو الإرادة الصالحة عمل الله الواحد. قال بولس: «ولكنَّ الله كان يشهد لنفسه بما يعمل من الخير: أنزل المطر من السماء، وأعطى المواسم في حينها، ورزقَكم القوت، وملأ قلوبكم بالسرور» (أع 14: 17). في فم الرسول، هو كلام الله كما نقرأه مثلاً في مز 147: 8-9: «الربُّ يغطّي السماء بالسحب، ويهيّئ المطر للأرض، ويُنبت العشب في الجبال، الربُّ يرزق البهائم طعامها، وفراخَ الغربان حين تصرخ». أمّا في أذن السامعين، فهذا الكلام لا يرتبط بفئة من الفئات ولا بديانة من الديانات. إنَّه لغة البشر جميعًا، بعد أن صارت «السماوات تنطق بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه» (مز 19: 2).

الخاتمة

وهكذا انطلق بولس في ما دُعي «رحلة رسوليَّة أولى». أخذته من أنطاكية مع برنابا، بعد أن وضعوا الأيدي عليهما، فأوصلته إلى قبرص. ولكن ماذا بعد قبرص؟ سُرَّ برنابا لأنَّ الإنجيل وصل إلى أرض وُلد فيها وترعرع كما وُلد شاول في طرسوس وترعرع. ولكنَّ بولس يتطلَّع إلى الآفاق البعيدة، وصولاً إلى أقاصي الأرض» (أع 1: 8) بحسب وصيَّة الربّ. عمل مع اليهود أوَّلاً، ولكن حين رآهم يرفضون الكلمة الجديدة، قال لهم: «كان يجب أن نبشِّركم أنتم أوَّلاً بكلمة الله ولكنَّكم رفضتموها» (أع 13: 46). واكتشف بولس وبرنابا مخطَّط الله: «فتوجَّها إلى الوثنيّين. فالربُّ أوصانا. قال: جعلتك نورًا للأمم لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض» (آ46-47). ذاك ما قاله أشعيا (49: 6) وحقَّقه بولس وسط العالم الوثنيّ. أمّا هم «ففرحوا ومجَّدوا كلام الربِّ. وآمن جميع الذين اختارهم الله للحياة الأبديَّة» (آ48).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM