الفصل الثامن: المعمَّدون الأوَّلون فـي مكدونية

 

الفصل الثامن

المعمَّدون الأوَّلون

فـي مكدونية

بشَّر بولس وبشَّر في آسية الصغرى، وما يحيط بها من أماكن تقع في تركيّا الحاليَّة التي عرفت في فترة من فترات تاريخها خمسمئة أسقف ونيِّف. فلا بدَّ من الانتقال إلى أوروبّا. والباب الذي دخل فيه هو مكدونية القديمة التي هي اليوم جزء من اليونان (غير مكدونية الحديثة التي هي دولة ذات سيادة بعاصمتها سكوبجي). هذه المنطقة التي عرفت حضارة واسعة عاد بعضها إلى العصر الحجريّ المصقول أو العصر الحجريّ الجديد والأخير (نيوليتيّ). عُرفت بأنَّها بلاد الإسكندر المقدونيّ الذي غزا الشرق وصولاً إلى الهند. فجمع الحاضرة اليونانيَّة إلى الحاضرة الشرقيَّة وكان من هذا التفاعل ما يُدعى الهلّنيَّة (كانت اليونان تُدعى هلاس، هلادوس).

بعد الإسكندر بن فيليب وحقبة الملوك خلفائه، وصلت رومة إلى مكدونية سنة 168ق.م. فاحتلَّتها ونظَّمتها في أربع مقاطعات مستقلَّة، قبل إنَّها تعود إلى الحكم الرومانيّ المباشر. إلى هذه الأرض، أرض مكدونية، وصل بولس مع الفريق الرسوليّ. من ساموتراكية، تلك الجزيرة في بحر إيجه، إلى نيابوليس (أو: المدينة الجديدة، وفي لغتنا: الحدث) التي هي مرفأ فيلبّي. ومن فيلبّي مضى إلى تسالونيكي، تلك المدينة التي تضربها الأمواج والتي سمّاها أحد خلفاء الإسكندر كاساندرا حين أسَّسها سنة 311 ق.م.، على اسم زوجته. وفي النهاية، كان بولس وسيلا في بيريه (التي هي اليوم Veria)، تلك المدينة الحصينة منذ الحقبة الهلنيَّة والتي لبثت كذلك مع الرومان.

وها نحن نرافق بولس والذين معه، فنتعرَّف إلى الفريق الرسوليّ الجديد، وإلى ليدية وأهل بيتها، وإلى سجّان فيلبّي الذي تعمَّد مع جميع أهل بيته بعد أن بشَّرهم الرسولان بكلام الربّ.

1- الفريق الرسوليّ الجديد

قبْل مجمع أورشليم الذي عُقد سنة 49-50، أي عشرين سنة بعد موت يسوع وقيامته، والذي فتح الطريق أمام الأمم لكي تتقبَّل البشارة دون العودة إلى الشرائع اليهوديَّة من ختان وغيره، قبْلَ ذلك المجمع، كان برنابا الرفيق الأساسيّ لبولس. انطلقا معًا من أنطاكية بعد أن »وضعوا أيديهم عليهما بناء على إيعاز من الروح القدس« (أع 13: 2-3). وانضمَّ إليهما مرقس، قريب برنابا.

بعد المجمع وما صدر عنه من مقرَّرات، مضى برنابا وبولس برفقة اثنين هما سيلا ويهوذا ليقرأا ما كتبَ الرسلُ والشيوخ في أورشليم »إلى الإخوة اليونانيّين المهتدين في أنطاكية وسورية وكيليكية« (أع 15: 23).

»بعد أيّام قليلة، قال بولس لبرنابا: تعالَ نرجع لنتفقَّد الإخوة في كلِّ مدينة بشَّرنا فيها بكلام الربّ« (أع 15: 36). وهنا كان خلاف، كما يحدث مرّات عديدة في المجتمع كما في الكنيسة. غير أنَّ الربَّ يسمح بذلك، أو هو يستفيد حتّى من أخطائنا لكي يوسِّع الرسالة. لو لبث بولس وبرنابا معًا، لكانت رسالة واحدة. ولكن افترق برنابا عن بولس، فانطلقت رسالةٌ إلى أوروبّا قام بها بولس ورفيق جديد هو سيلا الذي أرسلته أورشليم على أن يعود إليها كما فعل رفيقه يهوذا. غير أنَّه اشتعل بغيرة الرسالة. ترك اسمه العبريّ سيلا الذي هو شاول. واتَّخذ اسم سلوانس الذي هو اسم عريق في اليونانيَّة.

كان سيلا مسيحيٌّا جاء من العالم اليهوديّ. وكان »نبيٌّا« (ي داخلاً في سرِّ الله ومتكلِّمًا باسمه، في كنيسة أورشليم حيثُ كانت له مكانة خاصَّة. ربَّما لأنَّه مواطن رومانيّ، شأنه شأن بولس كما نقرأ في أع 16: 37-38: نحن مواطنان رومانيّان). سوف يرافق بولس في هذه الرحلة الرسوليَّة، وينضمُّ إليهما تيموتاوس في لسترة (أع 16: 1-4). عرف بولس السجن في فيلبّي ومثله سيلا أيضًا. والاثنان جُلدا في ساحة المدينة (أع 16: 22). في تسالونيكي، قاسم سيلا بولس الصعوبات التي فرضت عليهما أن يتركا المدينة على عجل، ومع بولس ورد اسمه في بداية الرسالتين الأولى والثانية إلى تسالونيكي: »من بولس وسلوانس وتيموتاوس إلى كنيسة تسالونيكي« (1تس 1: 1). وفي رفقة رسول الأمم، كان سيلا (أو سلوانس) وتيموتاوس (= خائف الربّ) يبشِّران في كورنتوس (2 كو 1: 19). وفي النهاية، كان سلوانس الرباط بين بطرس وبولس، في الدور الذي لعبه في رسالة بطرس الأولى. قال الرسول وهامة الرسل: »أكتبُ إليكم هذه الرسالة الوجيزة بيد سلوانس، وهو عندي أخٌ أمين، لأشجعِّكم بها« (1بط 5: 12). فهو بلا شكّ عرف بعض الذين أُرسلت إليهم هذه الرسالة البطرسيَّة، لأنَّه رفيق بولس: »إلى المختارين المتغرِّبين في غلاطية وآسية (الصغرى) وكبادوكية...« (1 بط 1: 1).

ذاك كان الفريق الرسوليّ البولسيّ، الذي انطلق نحو اليونان، بدءًا بمكدونية. والفريق الرسوليّ البرنابيّ، مضى إلى قبرص. هما اثنان، على ما أمر الربّ (لو 10: 1): برنابا ومرقس. برنابا ابن التعزية كان في أساس رسالة بولس وسط الأمم، وذلك حين مضى إلى طرسوس ودعاه إلى أنطاكية حيثُ بشَّرا سنة كاملة (أع 11: 25-26). كان برنابا من قبرص، فعاد إلى قبرص. وتروي أعمال برنابا (كتاب تقويّ دُوِّن في بداية الكنيسة لكي يبيِّن دور قبرص في الجماعات المسيحيَّة) أسفار برنابا في قبرص حيثُ مات شهيدًا: »جرُّوه من المجمع اليهوديّ إلى حلبة سباق الخيل وهناك أحرقوه بالنار.«

أمّا مرقس فيبدو أنَّه كان تلميذًا ليسوع، بحسب تفسير مر 14: 51-52 الذي يرى في ذلك الشابّ الذي »ترك عباءته وهرب عريانًا« مرقس الإنجيليّ. بمرقس ارتبط الإنجيل الثاني. وبمرقس ارتبطت كنيسة الإسكندريَّة. وهناك استشهد، كما تقول الرواية، ونقل رفاته إلى البندقيَّة Venise (إيطاليا) في القرن الحادي عشر. كان مرقس قريب برنابا، والتلميذ القريب إلى بطرس وعنه أخذ إنجيله كما يقول المؤرِّخ أوسابيوس، ابن قيصريَّة في فلسطين.

بسبب مرقس افترق بولس وبرنابا. ما ارتاح بولس حين رأى مرقس يتراجع خلال الرحلة الرسوليَّة الأولى. أتراه كان بعدُ شابٌّا فخاف من الصعوبات؟ أمّا نحن فنقرأ: »فارقهما يوحنّا (مرقس) ورجع إلى أورشليم« (أع 13: 13). ولكنَّنا سوف نجد ذاك الذي كان شابٌّا ويمضي إلى حيث يريد (يو 21: 18، هذا قيل عن سمعان بطرس)، سوف نجده عند بولس في نهاية حياته. هو سجين مع بولس السجين من أجل المسيح وكلمة الله (فلم 24). بل صار رسولاً مثل بولس. نقرأ في الرسالة إلى كولوسّي: »يسلِّم عليكم... مرقس ابن عمِّ برنابا. وهو الذي طلبتُ منكم أن ترحِّبوا به« (كو 4: 10).

الفريق الواحد المؤلَّف من برنابا وشاول، صار فريقين. ولكن من يؤكِّد لنا أنَّ هذا الافتراق كان لخير الرسالة؟ الروح القدس. كما مضى برنابا إلى قبرص، أراد بولس وسيلا أن لا يخرجا من آسية الصغرى. ولكن »روح يسوع« لم يسمح لهما. فهو القائد الأعلى لرسالة التبشير وحمل الإنجيل. هو الذي دفع بطرس لكي يمضي إلى كورنيليوس الوثنيّ، وحلَّ على الحاضرين قبل أن ينالوا العماد. وهو الذي علَّم المسيحيّين الأوَّلين أن يخاطبوا »الناطقين باللغة اليونانيَّة وأيضًا ويبشِّروهم بالربِّ يسوع« (أع 11: 20). والروح عينه قطع الطريق على بولس ورفيقه مرَّتين لكي يوجِّههما إلى حيث يريد.

يقول سفر الأعمال:

»مرُّوا بنواحي فريجية وغلاطية، لأنَّ الروح القدس منعهم من التبشير بكلام الله في آسية« (أع 16: 6). لماذا البقاء حيث هم، ولماذا الدوران في المكان عينه، لأنَّنا نخاف من »المجهول« وننسى أنَّ الله معنا في بداية الطريق كما في نهايتها؟ لا يوضح لنا القدّيس لوقا صاحب سفر الأعمال، الصعوبة الماديَّة التي اصطدموا بها، بل يكتشف من خلال الأحداث عمل الروح في الرسالة الإنجيليَّة.

الروح منعهم. هذا يعني أنَّهم اعتادوا على الاستماع لروح الله. عرفوا صوته وإن كانوا لم يسمعوه بآذانهم البشريَّة. رأوا إشارة يده ، لا بعيون بشريَّة، فأطاعوا مثل ذاك »العبد« والعابد، الذي عينه على يد سيِّده (مز 123: 2). وحاول الفريق الرسوليّ أن يجد مخرجًا آخر يعفيه من الانطلاق في البحر الذي هو رمز الشرِّ والموت، »فما سمح لهم روح يسوع« (أع 16: 7). أجل، الله يحدِّثنا عبر الظروف البشريَّة والصعوبات التي تجعلنا نغضب سرعة ونحسب أنَّ الله يعارضنا. أمّا المؤمن فيقرأ إرادة الله ونداءه في كلِّ حالة من حالات حياته كما يقرأها من خلال صوت بشريّ.

»وفي الليل، رأى بولس رؤيا. فإذا رجل مكدونيّ واقف يتوسَّل إليه بقوله: »اعبر إلى مكدونية وساعدنا« (آ9). وفي الأصل، »نحن في خطر، مدَّ يدك وأغثنا«. رأى الفريق الرسوليّ في هذا الحلم نداء يتجاوب مع قلب المؤمن الذي لا يمكن أن يتوقَّف ما دام هناك لامؤمنون، على ما قال الربّ مرَّة للجموع التي أرادت أن تحتفظ به: يجب أن أذهب إلى القرى المجاورة وهناك أبشِّر. وكما البحر جعل التلاميذ المرافقين ليسوع يخافون (مر 4: 40)، كذلك بدا البحر عائقًا أمام الفريق الرسوليّ. فهم ضعفاء ويحتاجون إلى القوَّة. من يعطيهم هذه القوَّة؟ الروح القدس. هم لا يعرفون ماذا يفعلون وكيف يتكلَّمون. من يعلِّمهم؟ الروح القدس. لستم أنتم المتكلِّمين، بل روح أبيكم هو المتكلِّم فيكم. وتحدَّث لوقا في سفر الأعمال، في صيغة المتكلِّم الجمع بحيث اعتبر بعض الشرّاح أنَّه كان من الفريق الرسوليّ: »وطلبنا السفر في الحالّ إلى مكدونية، متيقِّنين أنَّ الله دعانا إلى التبشير فيها« (أع 16: 10).

2- ليدية وأهل بيتها

ليدية امرأة. هي أوَّل من اعتمد في أوروبّا على يد هذا الفريق الرسوليّ. ما هي بالفقيرة التي تبحث عن »عزاء« لها في الديانة الجديدة بعد أن أُغلقت في وجهها الأبواب. هي بعيدة جدٌّا عمّا نجده في أيّامنا لدى أناس أضاعوا حياتهم فما عادوا يجدون لها من معنى، فلجأوا إلى إحدى الجماعات التي تعدهم بالخلاص والراحة. وإذ يقعون في الشباك لا يستطيعون بعد أن يخرجوا فيصبحوا أسرى ما طلبوا ويفقدوا حرِّيَّتهم فتصبح حياتهم في قبضة »ريِّس« بشبه الغورو الهندي، ويعيشون مثل غنم لا فكر لهم ولا رأي.

ليدية امرأة غنيَّة. وارتبط اسمها باسم البلاد التي وُلدت فيها. أتُرى اعتبر لوقا أنَّ تلك الآتية من آسية الصغرى سبقت الفريق الرسوليّ إلى مكدونية وأعدَّت له الطريق؟ هنا نتذكَّر أنَّ ليدية كانت منطقة غنيَّة بالذهب يحمله نهر Pactole. وأنَّ ليدية كانت أوَّل من صكَّ عملة ونقدًا في العالم. ومن ليدية اشتهر غنيٌّ صار غناه محطَّ أسطورة، اسمه Crésus.

جاءت ليدية من مدينة تياتيرة، في آسية الصغرى. اشتهرت بالصباغ الأرجوانيّ. كانت ليدية تاجرة. ويبدو أنَّه كان لها مسكن فأمَّنت الاتِّصال بين مدينة تقيم فيها، فيلبّي، وبين موضع سُجن فيه بولس، وهو أفسس. فالمسافة قريبة بين المدينتين، وهكذا كانت العلاقات متواترة بين بولس وكنيسة فيلبّي، وهي الكنيسة الوحيدة التي قبل منها بولس مساعدة مادِّيَّة. وقد يعود الفضل إلى ليدية التي بدت »أمينة الصندوق« في هذه الكنيسة الفتيَّة.

بولس ورفاقه هم في فيلبّي. المدينة التي أسَّسها فيليب المقدونيّ، والد الإسكندر الكبير. فيلبّي مدينة هامَّة، واقفة على الطريق الأغناتيَّة التي تربط إيطاليا بالبوسفور التركيّ. شاهدت معركتين قام بهذا أوغسطس أوَّل إمبراطور رومانيّ. وبعد ذلك أخذت اسمًا ارتبط بيوليوس قيصر Julia وآخر باسم أوغسطس (أوغسطا، نتذكَّر بلدة غوسطا قرب حريصا)، مع اسمها الأوَّل: فيلبانية، في الماضي، كان اسمها Krènidès قبل أن تأخذ اسم فيليب، واليوم هي Kavalla.

إلى تلك المدينة وصل بولس. في أماكن أخرى، اعتاد أن يبدأ البشارة في المجمع (أع 13: 14: دخلا المجمع). أمّا فيلبّي فلا مجمع لها، لأنَّ القانون لا يسمح ببناء مجمع إن لم يكن في المدينة عشرة رجال. لهذا اعتادت الجماعة اليهوديَّة أن تلتقي عند شاطئ البحر وهناك تقيم صلاتها بعد أن تقوم بالاغتسال الطقسيّ. إلى هناك مضى الرسول. فلا موضع محرَّمًا على الإنجيل، على مثال يسوع الذي تكلَّم في المجمع، وعلى الجبل، وعند شاطئ البحر وفي البيوت.

»يوم السبت خرجنا«، قال القدّيس لوقا. ثمَّ »جلسنا نتحدَّث إلى النساء المجتمعات هناك« (أع 16: 13). هكذا جلس يسوع يتكلَّم مع امرأة سامريَّة بحيث إنَّ التلاميذ »تعجَّبوا حين وجدوه يحادث امرأةب (يو 4: 27). ففي المسيحيَّة، لا رجل ولا امرأة، لا فصل بين الرجال والنساء، بحيث يسيطر الرجل وتكون المرأة في ظلِّه. وما يلفت نظرنا هنا هو أنَّ الرسل اجتمعوا بهؤلاء النساء. وبينهنَّ ليدية.

ما الذي ميَّز ليدية؟ أوَّلا هي تصغي. في الأصل، كانت كلُّها أذنًا صاغية، غير النساء اللواتي كنَّ معها ويتحدَّثن في أمور تافهة، سطحيَّة، لكي يمضي الوقت بسرعة. إذا كانوا يقولون: كيف نؤمن إذا كنّا لا نسمع؟ ففي فيلبّي هناك من يتكلَّم وهناك من يصغي. ذاك كان وضع الكلمة التي زُرعت في قلب السامعين. قال الربُّ عن الذين حوله: »هم يسمعون الكلمة«، ويعاملونها بألف طريقة وطريقة. أمّا ليدية »فقبلت كلام الله بفرح« (لو 8: 13) وما لبثت على مستوى العاطفة التي هي مثل النار في القشّ: تشتعل بسرعة وتنطفئ بسرعة. بل راحت أبعد من العاطفة، وتغلَّبت على »هموم الدنيا وخيراتها وملذّاتها« (آ15).

صوَّرها الكاتب على المستوى البشريّ: بائعة أرجوان، وبالتالي غنيَّة، فما منعها الغنى من الاستماع إلى كلام الربّ. ولا هي مضت حزينة مثل ذاك الشابّ الغنيّ الذي جاء يبحث لدى يسوع عن العمل الذي يعمل لكي يرث »الحياة الأبديَّة« (مر 10: 17). أمّا على المستوى الروحيّ فهي »تعبد الله« (أع 16: 14). هي ما كانت يهوديَّة، بل فقط مؤمنة بالإله الواحد، وتحاول أن تعيش الوصايا. في الأصل، هي »خائفة الله«. لا خوف العبيد بل خوف الأحبّاء. تخاف أن لا ترضي الله، أن »تزعله« في شيء بسيط، كما العريس مع عروسه والعروس مع عريسها. نتذكَّر هنا أنَّ عددًا من اللامختونين (وكورنيليوس كان منهم) اعتادوا أن يقاسموا اليهود صلاتهم في ما يُدعى »رواق الأمم« الذي اعتبره الربُّ مقدَّسًا، شأنه شأن سائر أقسام الهيكل (مر 11: 17: بيتي بيت صلاة لجميع الأمم). لدى هؤلاء العابدين عمل الرسول، فكانوا نواة الجماعات البولسيَّة في المدن التي مرَّ فيها الفريق الرسوليّ.

»فتحَ الله قلبها«. في هذا المجال قال يسوع: »لا يأتي أحدٌ إليَّ إلاّ إذا اجتذبه الآب«. المبادرة هي دومًا من الله. فنحن لا نستطيع أن نمضي إلى الربّ إذا هو لا ينادينا. فمع كلِّ استعدادات زكّا لكي يرى يسوع، سبقه يسوع وناداه (لو 19: 5: يسوع رفع نظره). الله فتح قلبها فعلَّمها كيف تصلّي، تنصت إلى الكلمة، تتنبَّه إلى النداء. وحينئذٍ آمنت.

والإيمان يتبعه العماد على ما في نهاية مرقس: »من يؤمن ويعتمد يخلص« (مر 16: 16). لا مجال لتأخير العماد على ما كان يفعل عددٌ من المسيحيّين في الأجيال الأولى في الكنيسة، وقد عرفنا منهم الإمبراطور قسطنطين نفسه. فالوصيَّة واضحة خلال الزمن الذي فيه دُوِّنت نهاية مرقس، ربَّما في بداية القرن الثاني: أنت آمنتَ، فعبِّر عن إيمانك الذي هو في داخلك خبرة حميمة بينك وبين الله، بفعل خارجيّ هو أن يُرشَّ عليك ماء العماد. مثل هذا الإيمان يقود إلى الخلاص، لأنَّنا نضع يدنا بيد الربّ. أمّا إذا رفضنا أن نؤمن، فالهلاك ينتظرنا، »ومن لا يؤمن يُحكم عليه ويُدان«، دينونة قد تقود إلى الهلاك.

أمّا ليدية فآمنت هي وأهل بيتها من بنين وبنات. سواء كانوا صغارًا أو كبارًا، من العبيد والجواري، من أشخاص يعملون معها في التجارة. وهكذا تكوَّنت »كنيسة« في بيتها. واعتاد المؤمنون في فيلبّي أن يذهبوا إلى »البيت« على ما نقرأ في الأناجيل (مر 2: 1: هو في البيت). فالمؤمنون يجتمعون في البيوت (أع 2: 46) لأنَّه لم يكن لهم بعدُ كنائس. هناك بيت مريم أمِّ يوحنّا مرقس (أع 12: 12). وبيت كورنيليوس (أع 10: 24).

»قالت لنا راجية: أدخلوا بيتي وأقيموا فيه إذا كنتم تحسبونني مؤمنة بالربّ. فأجبرتنا على قبول دعوتها« (أع 16: 15). لماذا إلحاح ليدية؟ لأنَّ بولس اعتاد أن لا يثقِّلَ على أحد، فيعمل هو والفريق لكي يؤمِّنوا الحاجات المادِّيَّة. وكانت ليدية أوَّل المعمَّدين والمعمَّدات في أوروبّا، بيدِ بولس أو أحد الرفاق. والمعمَّد الثاني كان السجّان الذي لا نعرف اسمه.

3- سجّان فيلبّي

وما هو دور هذا السجّان؟ كان حارسًا لبولس وسيلا اللذين أُلقيا في السجن. ولماذا؟ هل قاما بثورة على الدولة الحاكمة، على المدينة؟ لا. بل لأنَّهما فضحا الكذّاب في المدينة. جارية فيها مرض نفسيّ. استغلَّها سادتُها وكسبوا المال بسببها. قيل: فيها روح عرَّاف. في الأصل، روح Python الذي هو الحيَّة الحارسة النبيّات أو الأقوال التي تعتبر منبئة للناس بما يحصل لهم في المستقبل من خير أو شرٍّ (هي في مصطلحنا الحديث: برّاجة »تعرف« برج كلِّ واحد؛ أو بصّارة. أي تبصر ما لا يبصره الناس العاديّون). لا شكَّ في أنَّ هناك الدجل والاحتيال. هل كانت حاذقة تقرأ في الأفكار؟ وإذا كان فيها »روح« فما نوعُ هذا الروح؟ أمرٌ لا نجد له جوابًا.

نحن هنا في قراءة تستوحي ما نقرأ في الأناجيل. حيث الأرواح النجسة تعرف من هو يسوع، وتعلنه كي تفشِّل له رسالته. ففي بداية رسالة يسوع، نرى ذاك »الروح النجس« الذي »أخذ يصيح: ما لنا ولكَ، يا يسوع الناصريّ، أجئتَ لتهلكنا؟ أنا أعرف من أنت: أنتَ قدُّوسُ الله« (مر 1: 23-24). كيف تصرَّف يسوع مع هذا »الروح«؟ قال له: »اخرس واخرج من هذا الرجل« (آ25). وهكذا يفعل بولس. صاحت مرَّة أولى وثانية ومرَّات عديدة: »هؤلاء الرجال عبيد الله العليّ، يبشِّرونكم (أو يبشِّروننا) بطريق الخلاص« (أع 16: 17).

أمام هذا الوضع الذي تكرَّر، التفت إليها (بولس) وقال للروح: »آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها«. فخرج في الحال. أما قال الربُّ لتلاميذه: »باسمي تخرجون الشياطين؟«

ولكنَّ »التجّار« قاموا على بولس وسيلا. جرُّوهما إلى ساحة المدينة. جلدوهما. جعلوهما في السجن. »وأوصوا البوّاب أن يشدِّد الحراسة عليهما« (آ24). خاف السجّان من هذين »الغريبين« اليهوديّين اللذين »يبشِّران بتعاليم لا يحقُّ لنا قبولها والعمل بها لأنَّنا رومانيّون« (آ20). لهذا، »طرحهما في أعماق السجن«. هكذا لا يستطيعان أن يُفلتا. هما في الظلمة ولا يراهما أحدٌ فيأتي ويخلِّصهما. ولكنَّ الظلمة انقلبت نورًا، والسجن صار كنيسة تُتلى فيها الصلاة وتُرتَّل فيها التراتيل. هي ليتورجيّا في قلب السجن. »بولس وسيلا يصلِّيان ويسبِّحان الله، والسجناء يصغون إليهما« (آ25). مع يسوع تحوَّل الصليب من أداة عار إلى شارة مجد وافتخار. فلماذا نتعجَّب أن يتحوَّل السجن موضعًا لحمل البشارة ورفع الدعاء وإنشاد الأناشيد لله؟ هذا ما كان يفعله المسيحيّون طوال الليل الذي يسبق موتهم شهداء من أجل الله وكلمته. والفريق الرسوليّ سبقهم. أمّا القيود الخشبيَّة، التي كبَّلت أرجل الرسولين، فهي لم تمنعهم من الكلام، بحيث إنَّ حرِّيَّة المؤمن لا يمكن أن تقيَّد.

ولماذا؟ لأنَّ الله حاضر في هذا المكان. وما الذي يدلُّ على حضوره؟ الزلزال. كانوا يرون الأرض مثبَّتة على أربعة عواميد. يهزُّها الربُّ فيدلُّ على قدرته، وعلى »غضبه« من أجل الفقراء والمساكين الذين يُظلمون. ذاك ما فعل في سجن فيلبّي. القيود فكِّكت. الأبواب فُتحت. لا شيء يقف في وجه الله وكلمته. فلماذا نلبث نحن خائفين، متردِّدين، وكأنَّنا وحدنا. ولو جاء الموت على بولس وسيلا؟ سبق الرسول وقال لنا: »حياتي هي المسيح، والموتُ ربحٌ لي« (فل 1: 21).

تكلَّم الله في قلب هذا الليل. فحسب السجّان أنَّ ما سمعه من صوت إلهيّ، خطير جدٌّا. فخاف أن يكون السجناء فرُّوا ولا سيَّما هذين السجينين اللذين خاف منهما. فالعرف الرومانيّ يقول: يُعاقَب السجّان بالعقاب الذي كان معدٌّا للسجناء الذين جُعلوا في عهدته. قال الراوي: »استلَّ سيفه ليقتل نفسه« (أع 16: 27). قالا له: »لا تخف. نحن هنا«. كان باستطاعتهما أن يهربا وما فعلا. قالا له: »إيّاك أن تؤذي نفسك« (آ28).

بدا لوقا هنا راويًا رائعًا. فربط بولس وبطرس في الجهاد من أجل المسيح. بطرس وُضع في السجن، ولكنَّ الربَّ خلَّصه. قال: »الآنَ تأكَّدَ لي أنَّ الربَّ أرسل ملاكه فأنقذني من يد هيرودس...« (أع 12: 11). هي طريقة خلاص بواسطة ملاك الذي يعني اسمه الرسول. وبولس الذي وُضع في سجن فيلبّي، تزلزلت الأرض ففهمنا أنَّ الخلاص آتٍ. لا للرسولين فقط، بل للسجّان ولأهل بيته.

المهمُّ هو ما حدث بعد ذلك. اكتشف السجّان وجه الربِّ من خلال هذا الزلزال العنيف الذي هزَّ أركان السجن، كما اكتشف شاول الربَّ يسوع من خلال تلك الشمس التي أشرقت له في رابعة الظهيرة. قال شاول: ماذا يجب أن أعمل؟ والسجّان قال: »ماذا يجب عليَّ أن أعمل لأخلص؟« (أع 16: 30). مضى شاول إلى بيت حنانيا وهناك اعتمد فعاد النور إلى عينيه وإلى قلبه. وسجّان فيلبّي أخذ الرسولين إلى بيته بعد أن آمن.

هنا نقرأ ألفاظًا يمكن أن تكون عاديَّة، ويمكن أن يكون لها المعنى الروحيّ. »آمنْ«. الإيمان هو أساس الخلاص. الإيمان وحده ينقّي القلوب، كما قال سفر الأعمال (15: 9). ففي موت يسوع وقيامته، اللذين عاشهما هذان الرسولان، يقدَّم الخلاص لكلِّ من يؤمن. لهذا السجّان ولأهل بيته.

»بشَّراه«. حملا إليه الإنجيل. البشرى. الخبر الطيِّب الذي ينتظره الباحث عن الإيمان. قال لنا أحدهم: »هل تؤمن أنَّكم مخلَّصون؟« فإذا أنتم مؤمنون، لماذا هذه الوجوه الكالحة التي لا يبانُ عليها شيء من الفرح؟ لهم قال الرسول: 'يا ليتكم ملكتم!«

»غسل جراحهما«. هكذا فعل السامريُّ الصالح بالنسبة إلى الجريح الذي لقيَه في الطريق (لو 10: 34). وهكذا فعل يسوع مع تلاميذه فدلَّ على موته وآلامه والخلاص الذي يحمله. قال لبطرس: »إن كنت لا أغسلك، فلا نصيبَ لك معي« (يو 13: 8).

»وتعمَّد هو وأهلُ بيته«. هذه العبارة تذكِّرنا بما فعله إبراهيم حين تلقّى شريعة الختان. »فأخذ إبراهيم اسماعيل ابنه، وجميع المولودين في بيته والذين اقتناهم بماله، أي كلَّ ذكر من أهل بيته، فخَتن القلفة من أبدانهم في ذلك اليوم ذاته كما أمره الله« (تك 17: 23). والسجّان فعل كذلك. »واعتمد مع جميع أهل بيته«. وبعد العماد، كانت الوليمة التي يمكن أن تكون وليمة المحبَّة، وفي نهايتها، الإفخارستيّا. المهمّ: »فرحَ هو وأهلُ بيته« (أع 16: 34). أما هكذا فرح الراعي حين عادت نعجته؟ أما هكذا فرحت المرأة التي وجدت درهمها؟ وهكذا فرح زكّا والعشّارون الذين استقبلهم يسوع.

الخاتمة

وانتهى خبر فيلبّي. على مستوى الكنيسة المجتمعة »في بيت ليدية«. زارهم الرسولان وشجَّعاهم. وعلى مستوى المدينة، جاء الحكّام يعتذرون إلى بولس وسيلا، لأنَّهم فعلوا بهما ما فعلوا وهم غير عارفين وضعهما كمواطنَين رومانيّين. فما بقي للرسولين إلاَّ أن يتركا المدينة. لا خوف على هذه الجماعة، لهذا ينطلق بولس وسيلا إلى أمفيبوليس (أي: ما يحيط المدينة)، ذلك الموضع الحدوديّ، وإلى أبولّونية (مدينة أبولّون، إله الجمال والنور والفنون) قبل الوصول إلى تسالونيكي ثمَّ إلى بيرية، حيث تكون الصعوبات الآتية من قِبَل اليهود. غير أنَّ الإنجيل يتابع مسيرته. ترك البعض فحلَّ محلَّهم آخرون. وهكذا تجدَّد الفريق الرسوليّ. والإيمان قاد السامعين إلى العماد حيث المرأة تقود أهل بيتها، والرجل يدعو أهل بيته. لم نعُد فقط أمام أفراد يعتنقون الإيمان، بل أمام مجموعة فيها الرجال والنساء والأولاد، فيها الأحرار والعبيد. هكذا تكون كنيسة المسيح: لا فرق بين يهوديّ وغير يهوديّ (والفرق هو خارجيّ: لم يُختَن ولم ينتمِ إلى الشعب اليهوديّ). لا فرق بين عبد وحرّ، لأنَّ عبد المؤمن لا يمكنُ بعد أن يكون عبدًا. هو أخٌ. فكما عمَّد بولس فيلمونَ السيِّد، كذلك عمَّد أونسيمسَ العبد. فكلاهما يشاركان في حياة المسيح الواحدة. لا فرق بين الرجل والمرأة، ذاك الفرق وُجد في المجمع اليهوديّ حيث يُمنَع »النساء والأطفال« من المشاركة في الصلاة، لا في الكنيسة حيث يتنبَّأ البنون والبنات، الشبّان والشيوخ، الرجال والنساء. أتُرى كانت كنيستان في فيلبّي؟ واحدة بقيادة امرأة هي ليدية، وأخرى بقيادة رجل لم يُذكَر اسمه. كنيستان هما كنيسة فيلبّي التي تلقَّت رسالة من الذي اقتادها إلى المسيح »عروسًا« ودعا مؤمنيها »الإخوة الذين أُحبُّهم وأشتاقُ إليهم وهم فرحي وإكليلي«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM