الفصل 10: الافتخار في الرسائل البولسيّة

الافتخار في الرسائل البولسيّة

الخطاب الذي فيه يمتدح الإنسان بنفسه، لا يُفهم بالضروريّ على أنّه افتخار. فالإنسان الذي يمتدح بنفسه قد يحاول أن يبرّر نفسه أو عمله، فيمتدح نفسه. أو هو يدلّ على ما في عمله من شرعيّة. حين يفتخر الإنسان بشكل علنيّ، يتحدّث عن وضع من عمل تمّ، بكبرياء تبرَّر أوّلاً تبرَّر. في 2 كور 10: 7-8 ربط بولس بين لفظين: الافتخار والتوصية بالذات. قال: "فالكتاب يقول: من أراد أن يفتخر، فليفتخر بالربّ، لأنّ من يمدحه الربّ هو المقبول عنده، لزمن يمدح نفسه".

أورد الرسول إيرادًا حرًّا كلام إرميا (9: 22-23): "وقال الربّ: لا يفتخر الحكيم بحكمته، ولا الجبّار بجبروته، ولا الغنيّ بغناه، بل من يفتخر فليفتخر بمعرفتي ويعرف أنّي أنا الربّ مصدر الرحمة والحكم والعدل في الأرض. بمثل هؤلاء أرضى، يقول الربّ".

للوهلة الأولى يبدو بولس وكأنّه لا يوافق من يمتدح نفسه ولا من يفتخر. فإن فعل، استنتجنا أنّه لا يفتخر بالربّ، وهذا موقف يُلام عليه. لهذا نفهم تردّد بولس في هذا الفصل عينه: "ولا أخجل إن بالغتُ بعض المبالغة في الافتخار بسلطاننا الذي وهبه الربّ لنا لبنيانكم لا لخرابكم" (10: 8). ومع ذلك، ففي نظر بولس، لا يُستبعَد الافتخار استبعادًا جذريًّا، ولا يمكن أن نتجنّبه دائمًا. بعد ذلك، يفتخر بولس في الرسالة "كجاهل، أحمق": حسب الموقف البشريّ لا حسب الربّ. ويفتخر أيضًا بضعفه. بالإضافة إلى ذلك، هو يفتخر بنشاطه الرسوليّ وبما تمّ على يده من عمل.

وهكذا يبرز عددٌ من الأسئلة: أين (ولماذا) يكون الافتخار وامتداح النفس خطأ؟ وهل كلّ افتخار هو حماقة في شكل من الأشكال؟ وهل يحمل الخطر دومًا في ذاته؟ أيّ نوع من الامتداح استعمل بولس؟ وأي نمط يُسمع به؟

بدا بولس وكأن له أسبابه للافتخار والتكبّر. ولكن ليس كلُّ افتخار مفيدًا. بل يجب أن يترافق مع الافتخار بالربّ الذي هو معطي كلّ العطايا. مثل هذا الافتخار يدلّ على موقف إيجابيّ، وإن لم يخلُ من الخطر ومن درجة من الحماقة. أمّا وظيفة الافتخار، فالدفاع عن الذات لإظهار الحقّ، ومساعدة المسيحيّ ليتعرّف إلى الرسول الحقيقيّ. وبالقياس، يستطيع كلّ مسيحيّ أن يطبّقه على نفسه حين يمتدح نفسه ويفتخر.

*  *  *

في 12: 7-9، هتف بولس أنّه دعا الربَّ ثلاث مرّات، لئلاّ يعذّبه بعدُ مرسَلُ إبليس. وطلب أن تُبعَد الشوكةُ من لحمه. وكان جواب الربّ القائم من الموت: "تكفيك نعمتي. فقوّتي تكمل في الضعف". شرح بولس بإيجاز هذا القول، وأنهى الكلام: "حين أكون ضعيفًا، حينئذٍ أكون قويًّا" (12: 10). فالسامع (أو القارئ) يرى لغة المفارقة، فيعلق وفي الوقت عينه ينجذب. ليس من السهل أن نفهم. وقد يكون هذا حرمانًا لنا، فلا نصل إلى الحقيقة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تقود بعضَنا ظلمةٌ أولى في هذه المفارقة الظاهرة، فيطلب حقيقة، عميقة، حفيّة. وإن بدا الأمر صعبًا، فلا بدّ من معرفة ما يعنيه بولس: ضعفُه هو قوّة، يجب أن نتعرّف إلى هذين اللفظين المتعارضين.

هنا نتطلّع إلى ثلاث وجهات: شرعيّة الافتخار. خطر الافتخار. امتداح النفس.

1- شرعيّة الافتخار

يعرف بولس كلّ المعرفة أنّ الافتخار بالربّ فقط، أمرٌ مقبول. إذ يمتدح خصوم بولس نفوسهم ويفتخرون بأعمال الآخرين، ينحرفون إلى افتخار خاطئ. هم لا يفتخرون بالربّ. ولكن ماذا نقول عن امتداح بولس لنفسه، عن افتخاره بسلطانه ونجاحه الرسوليّ. هل هذا الافتخار شرعيّ؟ وهل يكون "افتخارًا بالربّ"؟

لا شكّ في أنّ بولس لم يكن مرتاحًا حين امتدح نفسه. فقال في 3: 1: "هل نبدأ فنمدح نفوسنا أيضًا"؟ وفي 5: 12: "لا نريد أن نمتدح نفوسنا أيضًا". وفي 3: 2-3، أعلن بصراحة أنّ كنيسة كورنتس هي رسالة افتخار. "مكتوبة في قلوبنا. يعرفها الجميع ويقرأونها...  رسالة المسيح". وكتب في 4: 2: "نظهر الحقيقة، فنمتدح نفوسنا لدى كلّ ضمير إنسانيّ، أمام الله". وفي 6: 3-10، أعلن أنّه لم يضع عائقًا في طريق أحد. وبالتالي لم يكن من خطأ في خدمته. فهو، كخادم الله، يمتدح نفسه في أكثر من شكل. وترد لائحة الصعوبات والمضايق. وهكذا نقرأ في ف 10 مثلاً عن الافتخار الشرعيّ الذي يمارسه بولس.

أ- بنية ف 10

تعتبر ف 10-13 وحدة مع أسلوب واحد، ولهجة تميّزها عن سائر الرسالة. أسلوب يعجّ بالحياة والعاطفة. فيه المرافعة والإرشاد، السخرية والتهكّم اللاذع، فيه التهديد والحكم القاسي. واللهجة دفاعيّة أيضًا (أين أمانة كورنتس) وهجوميّة (على المعارضين، المتطفّلين). والمفارقة هي الطريق التي يتّخذها الرسول، إن لم يكن التناقض والتعارض. في 10: 12 أعلن أنّه لا يريد أن يقيس نفسه مع أولئك الذين يمتلكون عن نفوسهم فكرة عالية. ولكنّه مع ذلك في 10: 13-16 وفي ف 11-12، قابل نفسه مع معارضيه. ومن جديد، شدّد الرسول أنّ الافتخار حماقة. ومع ذلك، وجب عليه أن يفتخر. فهو مجبر على ذلك. والمفارقة المفارقة، يفتخر في النهاية بضعفه، بأوهانه. هل مثل هذا الافتخار بعدُ حماقة؟ وبعد ذلك، هو دفاع ومرافعة في ف 10-13 ويبدو الرسول رافضًا: "ربّما تظنّون أنّنا نطيل الدفاع عن أنفسنا عندكم. فنخن نتكلّم أمام الله في المسيح، وهذا كلّه أيّها الأحبّاء، لبنيانكم" (12: 19).

إن كان ف 10 هو وحدة، فمع ذلك نستطيع أن نجد جزءين صغيرين: ’ 1-11. ثم آ 12-18. في الأوّل (آ 1-11) نعرف السبب الذي لأجله سوف يأتي الرسول إلى كورنتس (آ 2-11)، والاتّهامات المذكورة في آ 1ب (متواضع، جريء) وفي آ 10 (ضعيف، سخيف). والجزء الثاني (آ 12-18) وإن ارتبط بالجزء الأوّل بأداة العطف وبما في آ 8، إلاّ أنّه يعتبر ملحقًا مستقلاً حيث الامتداح (آ 12، 18) والافتخار (آ 13، 15، 16، 17) حاضران في شرح عن السلطان الرسوليّ في علاقته بحمل البشارة. وهذا الجزء الثاني يرتبط أيضًا بما في ف 11-12 وموضوع الافتخار.

إنّ التوازي بين آ 1-6 وآ 9-11 يتضمّن أربعة عناصر: (1) تعارض بين سلوك بولس حين يكون في كورنتس وحين يكون غائبًا. (2) حين يكون بولس بعيدًا يُقال إنّه قاسٍ. (3) يستبق بولس زيارة مقبلة إلى كورنتس. وهكذا يكون اتّهام الكورنثيّين لبولس بسبب الاختلاف في موقفه. وها هو يدافع عن نفسه. قيل إنّه قاس وقويّ حين يكون غائبًا، أي في رسائله ولكن لا نسيء فهم ما يسمّونه "الخوف" عنده النقص في الجرأة حين يكون حاضرًا. ولكن بولس يخصّ المسيح (آ 7)، وسلطانه سلطان المسيح (آ 8). من هنا امتيازاته الرسوليّة في كورنتس (آ 13-16).

ونستطيع أن نقرأ ف 10 في أربعة مقاطع. الأوّل: موقف بولس (آ 1-6): تواضع وجرأة. الثاني (آ 7-8): افتخار. الثالث: موقف بولس (آ 9-11): ضعف وقوّة. الرابع (آ 12-18): افتخار. نحن لا ننسى علاقة ف 10 مع 12: 14-13: 10. في الحالتين، يبدأ بولس فيحثّ الكورنثيّين. فلا بدّ أن يعملوا شيئًا قبل مجيئه. وفي الحالتين أيضًا، يعلن بولس زيارته (الثالثة). ثمّ لا نستطيع أن نتجنّب الشعور بأنّ بولس فكّر بأن يختم رسالته. هو يتمنّى أن يعبّر عن هدفه الأخير، ويقدّم الإرشاد الأخير. لا يحسبُه الكورنثيّون بعد رسولاً مسكينًا، ضعيفًا. وعليهم أن يكونوا طائعين، ويبتعدوا عن الفلتان والخطيئة. ثمّ يتفحّصوا نفوسهم. والمقابلة بين المقطعين، تدلّ على أنّ افتخار بولس يعتبر بشكل استطراد.

ب- فكرة بولس في 2 كور 10: 12-18.

إنّ آ 13-16 هي قلب هذا المقطع (10: 12-18). تحيط به آ 12 ثمّ آ 17-18. في هذا القسم الوسيط، تحدّث بولس عن نفسه: ما عمل وما أمل بأن يعمل. هو ما افتخر بعمل ليس عمله. وإذ حدّد ما عمل وما لم يعمل، دافع عن نفسه، وبشكل خفيّ وفي طريقة هجوميّة، قابل نفسه مع الآخرين، مع الخصوم. هذا ما يعود بنا إلى آ 12 وآ 17-18. هو بولس يردّ الهجوم. ويتّهم خصومه بامتداح أنفسهم وبمقايسة أنفسهم مع الآخرين. مثل هذا الموقف لا معنى له ولا قيمة. والمصير الكاذب للافتخار والامتداح (آ 17-18) هو أنّ المعارضون يقيسون أنفسهم بأنفسهم. وكيف يبدو البرهان؟

في مثل هذا المناخ، امتداح النفس يعني الافتخار فوق الحدّ (آ 12). أمّا بولس فيفتخر بسلطان ناله من الله (آ 13-16). هكذا يُفهَم سلطان بولس: في المنطقة التي نشر فيها الإنجيل. وكورنتس هي منطقة "كلّف" بها. وهكذا لا يتجاوز حدّه. وإذ يدافع بولس عن ماضي الرسالة في كورنتس، يُلقي نظرة إلى المستقبل: لا بدّ من حمل الإنجيل إلى أبعد من كورنتس. وذلك بعد أن يكون نما إيمانهم.

وبعد آ 16 يختم بولس مقاله. جعل طرحَهُ في صيغة الغائب. ولكن في الواقع يتطلّع إلى نفسه كما إلى الخصوم. هم قاسوا نفوسهم مع الآخرين، وافتخروا بأعمال الآخرين وامتدحوا أنفسهم. هذا يعني منتهى الغباوة (آ 12). وما من أحد يوافقهم. فعلى قارئي الرسالة أن يقابلوا بولس مع المتطفّلين ويستخلصوا النتيجة. لا يقبلون من امتدح نفسه، بل من امتدحه الربّ (آ 18).

ج- الافتخار في 10: 8 و10: 12-18

الوضع في كورنتس حرج بالنسبة إلى بولس. يقال عنه إنّه ضعيف حين يكون حاضرًا. وهم يستخفّون بكلامه. وحدها رسائله ثقيلة، قويّة. وهو يكتبها حين يكون غائبًا، يعيدًا. في الظاهر، هناك مرسلون أقوى منه على مستوى الكلام والبلاغة. وهكذا كان سلطان بولس موضع جدل. غير أنّ بولس لا يريد أن يبيّن جرأته، بل يستعدّ لكي يعاقب كلّ عصيان حين يأتي.

في 10: 8 و10: 13-16، عاد بولس إلى السلطان الذي منحه إيّاه الربّ. وذكر ما كلِّف به: تبشير الأمم الوثنيّة. وهذا التكليف يتضمّن العمل لدى الكورنثيّين. كان أوّل من وصل إلى كورنتس ومع إنجيل المسيح. إذن، هو لا يتعدّى "قياسه" بل إن وجود كنيسة كورنتس كثمرة عمله الرسوليّ، هي التوصية الحقّة والمديح، والافتخار الشرعيّ (3: 2-3).

وبراهين بولس في ف 10 تقودنا إلى خلاصة تقول: كلّ امتداح ليس خطأ. كلّ افتخار لدى الشخص بما عمل، ليس خطأ. ونطبّق هذا على الرسول. بما أنّه بنى في كورنتس بتوكيل من الله، فالعمل الذي قام به هو عمل الله. وافتخاره بإيمان الكورنثيّين هو نتيجة هذا المجهود وفي الوقت عينه افتخار بالربّ ومن خلال ما قام به نال المديح من الربّ. وهكذا يلتقي امتداحه لنفسه وامتداح الله له. قال أحد الشرّاح:  افتخار بولس بسلطانه هو تجاوبه البشريّ مع امتداح الربّ. أوكله الله، وسلّمه سلطانًا. حمل بولس هذا التوكيل وكانت النتيجة كنيسة منظورة. إذن، الكنيسة الكورنثيّة تعطي الصفة الشرعيّة لرسولها. لا شكّ في أنّ بولس لا يريد أن يفتخر بهذا السلطان. لا شكّ في أنّه أجبر على الافتخار بسبب الوضع الحرج والمؤلم في كورنتس. لا شكّ في أنّ آ 17-18 هجوم على افتخار غير مبرَّر لدى خصومه. ولكن بحسب 10: 8، 12-18، الله أوكل بولس، فبولس صار مقبولاً لديه. وهو يستطيع أن يفتخر بسلطانه وبأعماله، في شكل شرعيّ، مبرَّر.

2- خطر الافتخار

أعلن بولس في روم 3: 28 أنّ (اليهوديّ) الذي يفتخر يستبعَد، لأنّ (المسيحيّ) يتبرّر بإيمان، لا بأعمال تفرضها الشريعة. وفي روم 4، مثّل هذا الطرح الأساسيّ في شخص إبراهيم. فأبونا إبراهيم آمن بالله، وهذا حُسب له برًّا. في 4: 4-5، كان مبدأ عام: "من قام بعمل، فأجرُه حقّ لا هبة. أمّا من لا يقوم بعمل، بل يؤمن بالله الذي يبرِّر الخاطئ، مثل هذا الإيمان يعرف على أنّه برّ". تلك هي نظرة بولس: بداية الحياة المسيحيّة، التبرير الأوّل، كلّ هذا عطيّة نعمة الله عبر الفداء الذي في المسيح يسوع" (3: 24). وبقدر ما يتعلّق الأمر بالإنسان، برّ الله يُعطى "خارج الناموس"، بالإيمان بيسوع المسيح لكلّ من يؤمن" (3: 21). لهذا، بالنظر إلى التبرير، يُستبعَد كلّ الاستبعاد الافتخار بالعمل الشخصيّ وبما نستحقّ. لهذا، نفتخر بالله فقط (10: 17). وقد قال بولس في غل 6: 14: "حاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح".

ونطرح السؤال: هل ينطبق هذا الموقف على الحياة بعد التبرير، على حياتنا المسيحيّة كشعب مبرَّر يريد البلوغ إلى الخلاص النهائيّ؟ الجواب لدى عدد كبير هو بالإيجاب، بدون أيّ تردّد. وهذا يقود، على ما أظنّ، إلى فهم صحيح لمار بولس. فالرسول، كما رأينا، لا يرذل رذلاً كلّيًّا الافتخار الشرعيّ وامتداح النفس، لأنّه هو نفسه افتخر بثمرة عمله الرسوليّ في كورنتس. فهذا الافتخار يلتقي، في نظره، بافتخاره بالربّ. ونرى أيضًا في الحقيقة، أنّ كلّ افتخار ليس بشرعيّ. خصوصًا افتخار الخصوم. فهناك تعارض بين افتخار يحمل الخطيئة، يعارض الله، وافتخار قويم، شرعيّ مبرَّر. ولكن ماذا نقول عن "حماقة" بولس حين افتخر في 2 كور 11-12؟ هل هو افتخار خاطئ، شرّير" لا نظنّ ذلك.

أ- جهل وحكمة في الافتخار

في هذا السياق، هو تمييز بين افتخار أحمق، أي بحسب النظرة البشريّة (اللحم والدم)، لا بحسب الربّ. وافتخار حكيم يسمح به الربّ. هو افتخار في الربّ. في 11: 1، طلب بولس من قرّائه أن يحتملوه قليلاً وإن دلّ على بعض الجهالة. ويكرّر في آ 16: لا يظنّ أحدٌ أنّ بولس جاهل ولكن إن بدا جاهلاً، فعليهم أن يقبلوه كجاهل بحيث يفتخر بعض الشيء. هناك عديدون يفتخرون افتخارًا بشريًّا، فلماذا لا يفتخر هو (آ 18)، فماذا يريد أن يفعل؟

بما أنّ الكورنثيّين يحتملون الجهلة بفرح، فهو يتصرّف كجاهل، ويفتخر بأصله اليهوديّ: هو مثل خصومه، عبرانيّ، إسرائيليّ، من نسل إبراهيم (آ 19-22). ويتابع: "هل هم خدّام المسيح؟ أتكلّم كجاهل: أنا أفضل منهم: في الجهاد أكثر منهم. في السجن أكثر منهم. في احتمال الضرب أكثر منهم، وتعرّضت للموت مرارًا (آ 23). في آ 24-29، يقدّم لائحة بالمضايق والاضطهادات والصعوبات. في قلب هذه اللائحة، نرى تبدّلاً خفيًّا: فبولس لا يذكر المآثر التي قام بها، بل على ضعفه وشقائه. لهذا يقول في آ 30: "إن كان لا بدّ من الافتخار، فأنا أفتخر بضعفي". تشير هذه الآية إلى الهرب من دمشق الذي يتحدّث عنه في آ 32-33. كما تشير إلى الصعوبات السابقة. كلّ هذا نمط من اختبار يختلف عن اختبار "أحمق" ذكر في آ 22-23.

وفي 12: 1-4، يبدأ بولس أيضًا بشكل لم نكن نتوقّعه: "لا بدّ من الافتخار. ولكن لانفع من الافتخار. فأنتقل إلى رؤى الربّ وما كشفه لي" (آ 1). فها نحن، مرّة أخرى، أمام افتخار في الجهل. هذا في الظاهر، ولكنّه يكرّر: لا أفتخر إلاّ بضعفي". ويشير إلى "شوكة في اللحم"، إلى عذاب يأتيه من الشيطان (آ 7-8). كشف الربّ له بأنّ نعمته تكفي. وأنّ قوّته تكون أقوى حين يكون الرسول ضعيفًا، أعلن بولس مع ذلك: "لأنّي عندما أكون ضعيفًا، عندئذٍ أكون قويًّا" (آ 10). وهكذا، فالافتخار الأحمق (ف 11-12) فتح الطريق أمام افتخار "حكيم"، افتخار بالضعف.

ويطرح السؤال: هل يرى بولس نوعين من الافتخار؟ الحكيم والجاهل؟ تجاه افتخار جاهل، هناك افتخار طبيعيّ، شرعيّ، هو حكيم، لا أحمق إطلاقًا. في مثل هذا الافتخار الشرعيّ، نجد قبل كلّ شيء، في إطار المفارقة، الافتخار بالضعف. ولكنّ بولس لا يميّز بل يعتبر كلّ افتخار أحمق، جاهلاً، حاملاً الخطر. في 10: 8، لاحظنا الصعوبة والتردّد في التعبير "إن افتخرتُ بسلطاني لا أخجل". وفي 11: 30، نجد بعض الرفض لدى الافتخار بالضعف: "إن كان لا بدّ من الافتخار فأنا أفتخر بما يدلّ على ضعفي"، وإذا تحدّث عن "الفرح" (12: 9) في الافتخار بالضعف، فهذا لا يعني أنّه يرى مثل هذا الافتخار عاديًّا وفي مأمن من الخطر. فهو في افتخاره بالضعف أقرَّ بأنّه جاهل. "وأنتم أجبرتموني على ذلك" (12: 11)

لهذا نصل إلى نتيجة تقول إنّ كلّ افتخار على مستوى الوضع أو العمل أو الضعف والفقر، كلّ افتخار هو جهل ولا يخلو من الخطر. لا شكّ في أنّ هناك تدرّجًا في الحماقة، وأنّ عددًا من الافتخارات مع درجات مختلفة من الخطر. بالإضافة إلى ذلك، إن وجب على بولس أن يفتخر، وأجبر على ذلك، فهو يعبِّر بوضوح عن رأيه. ويبقى أن الخطر حاضر في كلّ افتخار. بلّ الشرّ والخطيئة في أن نعظّم نفوسنا ونمتدح أعمالنا. وبالرغم ممّا يُسمّى عون الله بأشكال عديدة، لم يكن بولس مجرّد بطّال ولا شخصًا ضعيفًا، معرّضًا.

ب- الافتخار بالضعف

هذا ما يعود بنا إلى مسألة دقيقة، حول افتخار بولس بالضعف. هل هو فقط افتخار بنقص قوّته البشريّة، ولا إمكانيّته الجذريّة، وضعفه كضعف؟ يجب أن نتذكّر قول بولس: "نحمل هذا الكنز في آنية من خزف. ليظهر أنّ تلك القدرة الفائقة هي من الله، لا منّا" (4: 7). هذا ما يقول بولس عن نفسه. بالإضافة إلى ذلك، لا شكّ في أنّ بولس يُبرز غياب القوّة والمجد والنجاح، في 11: 23-33 و12: 7-8. ويبدو لي أنّنا نخطئ إن ألغينا دقائق أمانة بولس، وثباته الناشط. لا شكّ في أنّ بولس شدّد: "بنعمة الله أنا من أنا" (1 كور 15: 10). وبنعمة الله استطاع بولس أن يثبت. غير أنّ النعمة التي منحه الله لم تبقَ بدون نتيجة. فعبر هذه النعمة، كانت قوّة بولس عجيبة، بطوليّة. نستطيع العودة هنا إلى 4: 8-10، 16: "يشتدّ علينا الضيق من كلّ جانب ولا ننسحق. نحار في أمرنا ولا نيأس. يضطهدنا الناس ولا يتخلّى عنا الله. نسقط ولا نهلك... فمع أنّ الإنسان الظاهر فينا يسير إلى الفناء، إلاّ أنّ الإنسان الباطن يتجرّد يومًا بعد يوم". وفي 6: 8-11: "مائتين وها نحن أحياء".

في 12: 9-10، التمييز بين ضعف بولس وقوّة المسيح جدّ واضحة. قال الربّ لبولس: "تكفيك نعمتي. والقوّة تكمل في الضعف". و"هكذا أفتخر بفرح بضعفي بحيث تسكن قدرة المسيح فيّ. لهذا، أنا أرضى بضعفي، بالشتم بالاضطهاد بالمضايقات من أجل المسيح"، غير أنّ هذا التمييز يختفي في لغة المفارقة، في 12: 10: "حين أكون ضعيفًا، حينئذٍ أكون قويًّا". نحن لا ننسى ما في هذه اللغة من إثارة. فالمفارقة تذكر النقيضة ولا تقدّم طرحًا تامًّا لعمالة. إذن، المفارقة ليست مطلقة. والضعف ليس قوّة، تقودنا المفارقة إلى التفكير، وبالتكفير يكتشف القارئ (السامع) طريق الخروج. وهكذا نستطيع أن نقرأ آ 10ب: "الإنسان خليقة خاطئة. إذن ضعيفة. نجد أنّ قوّة المسيح هي قوّة فيّ".

ولكن قد لا يُفهَم هذا الكلام. فبولس الذي هو المسيح وبالمسيح، هو أيضًا قويّ بشريًّا، دون أن نحسب حساب الضعف. عن هذه القوّة تكلّم بولس. هو افتخار شرعيّ، افتخار الحماقة والخطر، وإن في الربّ. ولن يزول الخطر إلاّ في نهاية حياتنا. وقد كتب بولس في 1: 3-4: "أرجو أن تفهموا حتّى النهاية، كما فهمتم بعض الفهم. وهكذا نفتخر بكم في يوم ربّنا".

3- امتداح النفس

تحدّث بولس في 12: 12 عن علامات الرسول الحقيقيّ. وفي 13: 3 قال للكورنثيّين تطلبون برهانًا على أنّ المسيح ينطق بلساني". ما هو هذا الذي يمتدح الرسول بالحقيقة؟ كيف نتعرّف إلى الرسول الصريح، كيف يكتشفه المسيحيّون فيميّزونه عن الكاذب. لقد قدّم بولس في 2 كور عناصر عديدة لبرهان لما يقول وكلّها علامات تدلّ على رسالته. هذه العلامات الوضعيّة، التي ننظرها ونتحقّق منها، تشكّل امتداح الرسول وبالتالي افتخاره الشرعيّ. ولكن يبقى تفسير هذه العلامات صعبًا لدى المسيحيّين. لهذا هم يحتاجون إلى الروح القدس، وإن لم يصلوا إلى يقين منطقيّ بعيد عن كلّ تساؤل.

أ- براهين عديدة

رأينا في القسم الأوّل أنّ بولس يعود إلى نتائج ملموسة لعمله الرسوليّ، إلى وجود كنيسة كورنتس، ليدلّ على شرعيّته. فالكورنثيّون هم فخره، وليس فقط في يوم الربّ يسوع (1: 14). هم عمله في الربّ (1 كور 9: 1). هم حقًّا رسالة توصية "كُتبت في قلبه. يعرفها ويقرأها الجميع". رسالة المسيح التي أعدّها بولس (3: 2-3). فالأولاد الذين تمخّض فيهم بولس بألم الولادة إلى أن يتكوّن المسيح فيهم (غل 4: 19) هم البرهان عن السلطان الذي منحه الربّ له، وعن التوكيل الصريح الذي أعطي له.

أكثر من مرّة، أشار بولس إلى انفتاحه التامّ على الجماعة: "نحن معروفون لدى الله. وأرجو أن نكون معروفين لضمائركم". لا شكّ في أنّ بولس متأكّد أنّ موقفه الصادق، المستقيم، يدلّ على صدق رسالته. "نبذنا كلّ تصرّف خفيّ، شائن، وما سلكنا طريق المكر، ولا زوّرنا كلام الله، بل أظهرنا الحقّ، فعظم شأننا لدى كلّ ضمير إنسانيّ أمام الله" (4: 2).

بالإضافة إلى ذلك، بدا بولس مقتنعًا في أعماقه أنّ طريقة حياته وخلقيّة سلوكه مهمّتان، حيويّتان، من أجل عمله الرسوليّ. "لا نريد أن نكون عائقًا لأحد في شيء، لئلاّ ينال خدمتَنا لومٌ. بل نظهر أنفسنا في كلّ شيء، أنّنا خدّام الله بصبرنا في الشدائد والحاجات والمشقّات" (6: 3-4). "ذاك هو فخرنا، شهادة ضميرنا. تصرّفنا في العالم بالبساطة والتقوى، لا بحكمة البشر، بل بنعمة الله، وخصوصًا بينكم" (1: 12). فسلوكه الشخصيّ كلّه يقدّم البرهان على صدق تعليمه.

قد يبدو أنّ بولس يتكلّم بطريق العرض "عن علامة الرسول الحقيقيّ" التي ظهرت في كورنتس بالصبر، والمعجزات والعجائب والأعمال الخارقة" (12: 12). ومع ذلك، لا يستطيع أحد أن ينكر على أنّ هذه العلامات والعجائب لها قيمتها الحقّة في نظر بولس. في روم 15: 15-17، أعلن أنّ النعمة أعطيت له بيد الله ليكون خادم المسيح يسوع إلى الأمم، في خدمة إنجيل الله الكهنوتيّة وهو على حقّ حين يفتخر بعمله من أجل الله. ويذكر في هذه الرسالة أيضًا "الآيات": "لا أجرؤ أن أتكلّم إلاّ بما عمله المسيح على يدي لهداية الأمم إلى طاعة الله، بالقول والعمل، وبقوّة الآيات والمعجزات وبقوّة روح الله" (روم 15: 8-9). من الواضح إذن أنّ العمل الرسوليّ والمعجزات تدلّ على الرسول الحقيقيّ.

الرغبة في حمل الإنجيل إلى الكورنثيّين، مجّانًا، هي برهان لا شكّ فيه، بأنّ تصرّفه الرسوليّ نقيّ، صادق. غير أن كورنتس لم تتوقّف عند هذا المعيار. وما تقبّلته بعرفان جميل. بل فهمته فهمًا سيّئًا (11: 7-12؛ 12: 13-19). وأبرز بولس أنّه ما استعمل حقّة كرسول ليؤمّن عيشه من الإنجيل، فلا يحرمه أحد من أساس الافتخار هذا (1 كور 9: 6-8).

ب- الضعف والامتيازات

حسب بولس، أوّل ما يبرهن عن صدق رسالته، هو ضعف الرسول. فبعد أن تحدّث مطوّلاً عن ضعفه، كتب:: "أرجو أن لا تجدوا أنّنا فاشلون" (13: 6). "يحسبنا الناس كذّابين، ونحن صادقون، مجهولين ونحن معروفون، مائتين وها نحن أحياء، معاقبين ولا نُقتَل، محزونين ونحن دائمًا فرحون، فقراء ونغني كثيرين، لا شيء لنا ونحن نملك كلَّ شيء" (6: 9-10). هكذا هم الرسل الحقيقيّون الذين يمتدحهم الله. في هذا الخطّ، يتّضح "أنّ هذه القوّة الفائقة هي من عند الله" (4: 7) لا من عند الرسل أنفسهم. فالربّ نفسه كشف لبولس، عن طريق المفارقة، أنّ القوّة تكمل في الضعف (12: 9). لهذا أضاف بولس في تأمّل شخصيّ: "أفتخر راضيًا، مبتهجًا بضعفي حتّى تظلّلني قوّة المسيح. لهذا أنا أرضى بما أحتمل من الضعف والإهانة والضيق والاضطهاد والمشقّة، في سبيل المسيح، لأنّي عندما أكون ضعيفًا أكون قويًّا" (12: 9-10).

ولكن ماذا حول جهالة افتخار بولس بأصله اليهوديّ (11: 21-22)، بأعماله التي هي أكبر من أعمال سائر الرسل (11: 23-29)، برؤاه ربّما كشف الله له (12: 1-5)؟ هل كلّ هذا يخصّ معيار صدقه؟ في 12: 6، أنكر جهالة الافتخار الذي قام به. "لو أردتُ أن أفتخر، لما كنتُ جاهلاً، لأنّي أقول الحقّ. ولكنّي لن أفتخر". وفي 12: 1، لاحظ أنّ لا منفعة من هذا الافتخار. وفي 12: 2-3 رأى أنّ عطايا الله وصلت إليه وحده. وبالرغم من ذلك، افتخر بهذه الأشياء مرّة أخرى. وشدّد أنّه يقول الحقّ. لهذا يبدو لي أنّ هذا الافتخار الخاصّ بالحماقة، وهو أكثر حماقة من أي افتخار آخر، ليس بالضرورة خاطئًا، وإن يكن خطرًا وبدون نفع من أجل شرعيّة المسيرة. وفي وضع الكورنثّين الملموس، قد يكون في هذا الافتخار عون إيجابيّ لكي تتعرّف كورنتس إلى شرعيّة خدمته. "وما أنا أقلّ شأنًا من أولئك الرسل العظام" (12: 11).

ج- استباق لقوّة القيامة

وبقي مقياس مصداقيّة لم نذكره بعد: قوّة بولس وإن في وسط الضعف. لا ينكر بولس أنّ رسائله "قاسية، عنيفة" (10: 10). إنّه متجرّئ على الكورنثيّين حين يكون بعيدًا. ولكنّه يضيف: "ما نقوله في الرسالة ونحن غائبون، نفعله ونحن حاضرون" (10: 12). وإن بدا أنّه لا يرضى بمثل هذا التدخّل، غير أنّه أراد أن يبيّن جرأته ويعاقب كلَّ عصيان في كورنتس. فقوّته ليست من البشر، بل من الله، فمن يقدر على مقاومتها (10: 1-6)؟

بما أنّ قوّة بولس إنسانيّة وإلهيّة، يلفت انتباهنا مقطع نقرأه في 13: 1-4. أعلن بولس أنّه يأتي للمرّة الثالثة. وربط قوله بما في نهاية آ 2: "لن أشفق على أحد". ونقرأ السبب في آ 3: "البرهان بأنّ المسيح يتكلّم فيّ" وفي عبارة معترضة، يقول الرسول: "المسيح غير ضعيف في معاملتكم" (آ 3). ويواصل بولس كلامه في آ 4: "ومع أنّه صُلب في الضعف، فهو يحيا بقدرة الله. ونحن أيضًا ضعفاء فيه، ولكنّنا في معاملتنا لكم، سنكون بقدرة الله أحياء معه".

لا يقدّم الرسول توازيًا بينه وبين المسيح (هكذا المسيح، هكذا نحن). فيعنيه بأن المسيح يتكلّم فيه، وأنّه كرسول هو ضعيف في المسيح، وأنّ المسيح سيظهر قدرته ويدلّ على أنّه الحيّ. وراء كلّ هذا، نجد كلامًا عن المسيح وعن بولس. فمن موت المسيح وحياته، يأتي ضعف بولس وقوّته. والبرهان الذي وراء هذا التوازي، يتطلّب قولاً مكمّلاً: "المسيح صُلب في الضعف، ويحيا بقدرة الله. هكذا نحن أيضًا ضعفاء فيه، ولكنّنا نحيا معه بقدرة الله في معاملتنا معكم".

الخاتمة

بدا بولس وكأنّه يمتلك عددًا من الأسباب للافتخار بعمله الرسوليّ: كنيسة كورنتس، انفتاحه، سلوكه الخلقيّ، الآيات والمعجزات، البشارة المجّانيّة، ضعفه، امتيازاته، قدرة قيامة المسيح التي تتجلّى منذ الآن. ومع ذلك، ليس كلُّ افتخار نافعًا. ولكن إن تلاقى امتداح النفس مع الافتخار بالربّ، معطي كلِّ خير، يكون الافتخار إيجابيًّا، وإن لم ينجُ من الخطر، وإن بدا جاهلاً إلى حدّ ما. وظيفته في الدفاع عن الذات من أجل الحقّ، يساعد المسيحيّين على اكتشاف الرسول الحقيقيّ: وما شرحه بولس في 2 كور 10-13 وتوسّع فيه حول الافتخار بعمله الرسوليّ، قد ينطبق على كلّ مسيحيّ حين يمتدح نفسه امتداحًا يلتفي مع افتخار بما عمله الربّ فيه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM