الفصل 9: مجموعة الرسائل في كورنتس الثانية

مجموعة الرسائل في كورنتس الثانية

حين نتكلّم عن أحداث أفسس، نستطيع أن نفهم المراسلة بين الرسول وجماعة كورنتس. بعد ما صارت الرسالة الأولى إلى كورنتس، حيث يرى البعض أكثر من رسالة. ها نحن نتوقّف عند الرسالة الثانية إلى كورنتس. فيبدو أنّ الرسالة "القانونيّة" (التي دخلت في قانون أو لائحة العهد الجديد) الثانية إلى كورنتس هي مجموعة رسائل كتبها الرسول. لا بدّ من إسناد هذه النظرة لكي نفهم الحوار الذي كان بين بولس والجماعة. نشير هنا إلى أنّ التوافق بدأ يكبر حول الخطوط الكبرى لتحليل أدبيّ من هذا النمط، مع حذر تقطيع الرسائل إلى مقاطع وشذرات وفتافيت.

1- ف 8-9

يبدأ ف 8 كما يلي: "نريد أيّها الإخوة، أن نخبركم بما فعلته نعمة الله في كنائس مكدونية (مع عاصمتها تسالونيكي)" (آ 1). كانوا أسخياء في العطاء من أجل كنيسة أورشليم والجوار. فماذا تنتظر جماعة كورنتس؟ "أنتم تعرفون نعمة ربّنا يسوع المسيح. كيف افتقر لأجلكم، وهو الغنيّ، لتغتنوا بفقره" (آ 9). وسيستعيد الرسول الكلام عينه في ف 9، للكلام إلى منطقة آخائية التي عاصمتها كورنتس: "وأرى من الفضول (لا أحتاج) أن أكتب إليكم في إعانة الإخوة القدّيسين، لأنّي أعرف رغبتكم وأفتخر بها عند المكدونيّين وأقول لهم إنّ إخوتنا في آخائية مستعدّون منذ العام الماضي. فغيرتكم حرّضت كثيرًا من الناس" (آ 1-2). وأعطى الوجهة الروحيّة: "من زرع قليلاً حصد قليلاً، ومن زرع كثيرًا حصد كثيرًا" (آ 6).

السمة اللافتة في هذين الفصلين الموسّعين، أنّ بولس يرافع من أجل جماعة أورشليم لكي يدعو جماعة كورنتس وآخائية إلى جمع المال لإعانتهم في فقرهم. هذا يعني أنّ العلاقات طيّبة بين بولس والكنيسة التي أسّسها. وما أن ينتهي هذان الفصلان، حتّى ننتقل في ف 10-13 إلى لهجة حادّة "حربيّة" تكاد تكون قريبة ممّا في الرسالة إلى غلاطية. هذا التنافر العميق لا يمكن أن يُشرَح فقط بواسطة أخبار وصلت إلى الرسول وهو يملي كلامه، أو حلم منعه من النوم. فالذي يستعمل في ف 10-13 لهجة قاسية، ساخرة، تهكّميّة، ويفتح كلّ "جوارير" الدفاع لينتزع جماعة كورنتس من يد مرسَلين غرباء وافقتهم الرأي، لا يستطيع أن يرافع للحصول على عطايا، ولا يمكنه أن ينتظر النجاح. فمن أضاف ف 10-13 إلى التبرّعات الماليّة، دمّره. وهكذا تفترض ف 10-13 مناخًا بين بولس والجماعة، لا يمكن أن يكون المناسب لتبرّع طوعيّ يتمّ برعاية الرسول وكلامه الليّن، المتوسّل.

2- ف 10-13

في هذه الفصول يردّ بولس على الذين يطلقون الاتّهامات على خدمته الرسوليّة "أرجو أن لا تدفعوني، وأنا عندكم، إلى تلك الجرأة التي أرى أن أعامل بها الذين يظنّون أنّنا نسلك سبيل البشر" (10: 1).. بل هو سبيل الروح. بعد أن تركنا كلّ معرفة بحسب اللحم والدم، بحسب البشريّ. صرنا في المسيح خليقة جديدة، فكيف تعيدوننا إلى العالم القديم (5: 16ي). وتأتي لهجة مازحة، ساخرة في 11: 1: "ليتكم تحتملوني ولو أظهرتُ قليلاً من الحماقة. نعم احتملوني"، كما تحتملون الآخرين الذين يستغلّونكم، يستثمرونكم.

وهكذا لا تكون علاقة بين ف 10-13 وف 8-9. فلا انتقال من مناخ إلى آخر. شخصان كتبا. في مناسبتين كُتبت كلّ مجموعة. بل يمكن القول إنّ ف 10-13 يشكّل كتلة مستقلّة بالنسبة إلى كلّ ما قيل في كورنتس الثانية. واستقلاليّة هذا القسم ترتبط بالفنّ الأدبيّ (المرافعة حيث الدفاع والهجوم. أبولوجيا = كلام من أجل الشخص وتبرير مواقف) وبالمضمون.

نكتشف في هذه الفصول بنية مبنيّة بناء محكمًا، ومركزه خطبة رجل جاهل، أحمق. "أكرّر القول: لا يظنّ أحدٌ أنّي جاهل، وإلاّ فاقبلوني ولو كجاهل. ليكون لي شيء أفاخر به. ما أقوله هنا، لا أقوله وفقًا للربّ، بل أقوله كجاهل له الجرأة أن يفاخر" (11: 16-17). ويعود الكلام في 12: 6، 11 (صرتُ جاهلاً، وأنتم أجبرتموني).

ونهاية الرسالة (13: 11-13) تتضمّن خاتمة رسائليّة تُشبه مثلاً ما في 1 تس 5: 16ي أو فل 4: 4ي. وتستعيد الكلمات المفاتيح في 13: 9: "وكم نفرح عندما نكون نحن ضعفاء وأنتم أقوياء. وما نصلّي لأجله هو أن تكونوا كاملين".

ماذا ينقص لهذا الدفاع؟ عنوان كُتب بخطّ كبير، كما فعل الرسول في غل 6: 11. قد يكون سقط من أجل ارتباط ف 8-9 مع ف 10-13. وحينئذٍ يبدو الطرح كما يلي: حرم المدوِّن الأخير ف 10-13 من كونها رسالة مستقلّة، وربطها بكتلة رسائل صارت الثانية إلى كورنتس.

3- بين الرسول والجماعة، أوضاع ثلاثة

ولكنّ هذا العمل في النقد الأدبيّ لا يكفي لكي نشرح الوضع المتبدّل وعلامات القطع في 2 كور. فإن دقّقنا في الأمور نجد في 2 كور ثلاثة أشكال من العلائق المختلفة بين بولس والجماعة، لا يمكن أن يكون بينها تناغم وانسجام. كيف نفسّر الشكل الأوّل، الوضع الأوّل؟ على بولس أن يدافع عن نفسه من اتّهامات سبّبها مرسلون أغراب. وهي تتناول طريقة حياة الرسول وطريقة كرازته. "نحن لا نتاجر مثل كثير من الناس بكلام الله، بل نتكلّم في المسيح كلام الصادقين. كلام رسل الله أمام الله" (2: 17). لا نشوّه هذا الكلام، ولا نقول شيئًا ونفعل آخر، لا نخفي شيئًا ولا نجعل من كلام الله موضوع تجارة لنربح ودّ الناس، وربّما مالهم. نحن لا ننسى أن بولس بشّر كورنتس ورفض أيّة مساعدة مادّيّة.

ونقرأ في 3: 1-2: "هل عدنا إلى تعظيم شأننا، أم أنّنا نحتاج مثل بعض الناس، إلى رسائل توصية منكم أو إليكم؟ أنتم أنفسكم رسالتنا، مكتوبة في قلوبنا. يعرفها ويقرأها جميع الناس". تلك عادة عرفتها الكنيسة أيضًا. فبولس حين أراد الذهاب من أفسس إلى كورنتس، شجّعه الإخوة وكتبوا إلى التلاميذ هناك أن يرحّبوا به" (أع 18: 27). فمن يا ترى سيوصي بالرسول إلى كنيسة كان لها الأب قبل أن يكون المربّي وحامل البشارة، بحيث يختلف أسلوبه عن أسلوب العالم: ننبّه كلّ تصرّف خفيّ، شائن، ولا نسلك طريق المكر، ولا نزوِّر كلام الله، بل نظهر الحقّ فيعظم شأننا لدى كلّ ضمير إنسانيّ أمام الله" (4: 2). أمّا الذين لا يريدون أن يقتنعوا، فلأنّ "إله هذا العالم أعمى بصائرهم" (آ 4). والموقف: لا نريد أن نشكّك أحدًا، أن نكون عائقًا لأحد "لئلاّ ينال خدمتنا لوم" (6: 3).

لا يعالج الرسول هذه الاتّهامات القاسية التي نقرأها في ف 10-13 بل هو يضع في قلب توسّعاته، عرضًا طويلاً حول حرّيّة الإنجيل التي منحها الروح، حول الرجاء المسيحيّ، حول سرّ المصالحة (3: 4-6: 2). إذن، حاول أن يرسم وجهة نظره عبر تفسير إيجابيّ، بعيد قدر الإمكان عن السلبيّة وعن القساوة. وإذ فعل ما فعل، عرف أنّ الجماعة هي، في العمق، متعلّقة به، وأنّ الثقة المتبادلة ما زالت حاضرة. لهذا وجّه كلامه بلهجة حارّة، أبويّة، جاذبة. "كلّمناكم بصراحة، يا أهل كورنتس، وفتحنا لكم قلوبنا. نحن لا نضيق بكم، وإنّما الضيق في قلوبكم. أكلّمكم كما لو كنتم أبنائي. عاملونا بمثل ما نعاملكم، وافتحوا أيضًا قلوبكم لنا" (6: 11-13). وسيقول لهم الرسول في 7: 4: "فأنا عظيم الثقة بكم وكثير الافتخار، ومع كلّ مصاعبنا، فقلبي ممتلئ بالعزاء فائض فرحًا".

إذن، تطلّع الرسول إلى الأحداث الجديدة في كورنتس بما فيها من ظنّ، وأخذ على محمل الجدّ النقد الآتي عليه من مرسلين غرباء. وانتظر أن لا تتأثّر علاقاته مع الجماعة، وهي التي لبثت حتّى الآن صالحة وبدون بلبلة. بل هو حسب أنّه يستطيع أن يستند إليهم، ويسيطر على الخطر الآتي من الخارج بدفاع معتدلٍ يعرض الوضع بطريقة موضوعيّة، فيتبيّن الطريقة التي بها يفهم الإنجيل.

ب- الوضع الثاني

نستطيع أن ننظر إلى الوضع الثاني على أنّه صورة أخطر ممّا عرض في الوضع الأوّل. ونحن نكتشفه في ف 10-13. فالآن، توقّف الرسول توقّفًا جدّيًّا عند الأمور التي يتّهمه فيه المرسلون "الخصوم"، بحيث كرّس لهذا الموضوع كلّ خطابه. هاجم وما وفّر، بل دعا خصومه "إبليس" أو "شيطانًا" يضع الصعوبات والعوائق ويرفض عمل الروح. قال: "أطلب أن لا أتجاسر، وأنا حاضر، بالثقة التي بها أرى أنّي سأجترئ على قوم يحسبوننا نسلك سلوكًا بشريًّا" (10: 2). ويواصل كلامه في آ 12: "لا نجترئ أن نعدّ أنفسنا بين الذين يمدحون أنفسهم، ولا نقابل أنفسنا بهم. بل هم إذ يقيسون أنفسهم على أنفسهم، ويقابلون أنفسهم بأنفسهم لا يفهمون". أضاعوا رؤوسهم، حين اعتبروا نفوسهم المقياس، ما نقص بولس عن سائر الرسل، الذين يعتبرهم الكورنثيّون "متفوّقين" لأنّهم يعودون إلى الشريعة الموسويّة ومتطلّباتها. ويصف بولس الخصوم: "رسل كذبة، فعلة ماكرون، بدّلوا شكلهم إلى شبه رسل المسيح. ولا عجب، لأنّ الشيطان نفسه يبدّل شكله إلى شبه ملاك نور. فلا نعجب إن كان خدّامه أيضًا يبدّلون شكلهم كخدّام للبرّ، الذين نهايتهم ستكون حسب أعمالهم" (11: 12-14).

كما أنّ إبليس يستعمل "سحره" ليضلّ المسيحيّين ويبعدهم عن طريق الحقّ، هكذا يفعل هؤلاء (2: 11). يريدون أن يميلوا بالمؤمنين عن رسولهم، وبالتالي عن إنجيل الحرّيّة الذي يكرز به بولس. أحسّ الرسول أنّه أصيب في الصميم، باتّهاماتهم، فلجأ إلى وسيلة تخرج من العادي، لكي يدافع عن نفسه. يتصرّف مثل جاهل، أحمق، مجنون. قال: "هم جريئون وأنا جرئ أيضًا. هم عبرانيّون وأنا عبرانيّ أيضًا. هم نسل إبراهيم وأنا أيضًا. هم خدّام المسيح. وأنا أفضل منهم. وهنا يقول الرسول عن نفسه إنّه أضاع رشده. وذكر الأتعاب والضربات والسجون والأخطار. وفي النهاية يقول: "إن كان لا بدّ من الافتحار، فأنا أفتخر بضعفي، وبأوهاني" (2 كور 11: 30).

وأدرك بولس أنّ الاتّهامات التي تصيبه ليست بالأمور الخاصّة، ولا هي تطلب شخصه. بل طريقته في فهم الإنجيل: الآتي يكرز بيسوع آخر. والسامعون يأخذون روحًا آخر. أو يقبلون إنجيلاً آخر (11: 4). فهل نجد أمام المؤمنين إنجيلين. كلاّ. ليس هناك من إنجيل آخر. والذين يقدّمون إنجيلاً آخر، يحوّلون إنجيل المسيح (غل 1: 7). ويعلن الرسول في آ 8: "إن بشرناكم نحن، أو ملاك من السماء (إذن، تعليم من فوق الشر. ونحن لا ننسى أنّ الملائكة حملوا الشريعة إلى موسى، كما قال التعليم الرابّينيّ) بغير ما بشرناكم فليكن محرومًا". أناتيما في اليونانيّة، أي ينال عقابًا يخرجه من شعب الله. فالعودة إلى الفرائض اليهوديّة هو إفساد للإنجيل، يجعل مسبّبه خارج النعمة.

كما رمى بولس "الحرم" (أناتيما) على الذين ما زالوا متعلقين بالنظم اليهوديّة، كذلك فعل بالذين اعتبروا نفوسهم متفوّقين على الرسل. هم خدّام الشيطان المخفيّين وراء أقنعة. وآخرتهم سوف تكون تعيسة. وعلاقته بالجماعة أثقلت بالصعوبات وتبلبلت في العمق، فأدرك الخطر الكبير بأن يفسّرها كلّها، لأنّها تتوافق مع هؤلاء المرسلين، وبالتالي تعارض النظرة البولسيّة.

هدّد الرسول جماعته، وأعلن لها أكثر من مرّة أنّه سيتدخّل بشكل "جامد" في مجيئه القريب: "قلتُ للذين خطئوا فيما مضى ولسواهم ما أقوله اليوم وأنا غائب: إن عدتُ إليكم فلا أشفق على أحد" (13: 2). وكان قد سبق فقال في 12: 20: "وأنا أخاف، إذا جئتُ إليكم، أن أجدكم على غير ما أحبّ أن تكونوا، وأن تجدوني على غير ما تحبّون أن أكون. أخاف أن يكون بينكم خلافٌ وحسد وغضب ونزاع وذمّ ونميمة وكبرياء وبلبلة". أهكذا يتكلّم من يحسب نفسه سيّد الموقف؟ لا شكّ في أنّ بولس يرجو للجماعة الجديدة تجدّدًا تامًّا. ويدعوها إلى "الوفاق". "والآن، أيّها الإخوة، إفرحوا واسعوا إلى الكمال. وتشجّعوا وكونوا على رأي واحد وعيشوا بسلام، وإله المحبّة والسلام يكون معكم" (13: 11). ولكن تعداد القلاقل والكلام عن حوار لا يعرف أن يسير سيرته، يبينّان أنّ العلاقة بين بولس وكورنتس مثقلة بالنزاع.

ج- الوضع الثالث

بدا الوضعُ الثالث في مستهلّ 2 كور (1: 1-2: 13) وفي مقطع يعبّر فيه الرسول عن شعوره العميق بالفرح حين جاء إليه تيطس وحمل له الأخبار الطيّبة عن توبة الجماعة (7: 5-16). أجل، هي لهجة الفرح والارتياح بعد أن تمّت المصالحة. "وكم يُسرّني أن اثق بكم في كل شيء" (7: 16). وسبق وقال في البداية: "رجاؤنا فيكم ثابت، لأنّنا نعرف أنّكم تشاركوننا في العزاء مثلما تشركوننا في الآلام" (1: 7). وأعلن: "نحن فخرٌ لكم وأنتم فخر لنا في يوم ربّنا يسوع" (آ 14). وهكذا ينتهي التوسّع، وفيه يرغب بولس أن يشارك في فرح الجماعة يلاحظ ثباتها في الإيمان (1: 24).

أمّا النزاعات في الماضي، فقد صارت على الهامش، شبه منسيّة. "سيرتنا... سيرة بساطة وتقوى، لا بحكمة البشر، بل بنعمة الله" (1: 12). "أنتم رسالتنا، مكتوبة في قلوبنا" (3: 1). الماضي مضى، والرسول تجاوز الصعوبات، والغفران وصل إلى هذا العضو في الجماعة، الذي أخاف الرسول. "فالذي كان سببًا للحزن، ما أحزنني أنا وحدي، بل أحزنكم كلّكم بعض الحزن، لئلاّ أبالغ. ويكفي هذا الرجل من العقاب ما أنزله به أكثركم" (2: 5-6). وأضاف: "فمن صفحتم عنه، صفحتُ عنه أنا أيضًا" (آ 10). كانت رسالة قاسية دوِّنت من قبل، وها الرسول يعيد قراءتها بشكل يميل إلى التسامح. وما أن انتهى الخلاف، حتّى خسرت الرسالة من حدّتها. "كتبتُ إليكم وقلبي يفيض بالكآبة، وعيني تسيل منها الدموع، لا لتحزنوا، بل لتعرفوا كم أنا أحبّكم" (2: 4). وقال في 7: 8-9: "فإذا كنتُ أحزنتُكم برسالتي، فما أنا نادم على أنّي كتبتها. وإذا ندمتُ حين رأيت أنّها أحزنتكم لحظة، فأنا أفرح الآن... لأنّ حزنكم جعلكم تتوبون".

بما أنّه لم يكن من الضروريّ مواجهة الوضع الأوّل بشكل متسامح، كما رأينا في الوضع الأوّل، فالمقابلة بين وضع ووضع يقودنا إلى القول بوجود متتالية تاريخيّة تتبع الترتيب الذي أخذنا به. في هذا المجال، نستطيع أن نستند إلى ملاحظات أخرى. ففي 13: 1، نوى بولس أن يقوم بسفرة ثالثة، بعد الثانية التي كانت نهايتُها تعيسة للرسول: أُذِلّ بولس بسبب العدد الكبير الذين رفضوا التوبة. كما أذلّ لأنّه لم يقدر أن يفرض نفسه تجاههم: "أخاق، إذا جئتكم مرّة أخرى، أن يُذلّني إلهي في أمركم، فأبكي على كثيرين من الذين خطئوا من قبل وما ندموا على ما ارتكبوه من دعارة وزنى وفجور" (12:  21). هدّد بأن لا يشفق على أحد (13: 2).

قد تكون هذه الزيارة الثانية حصلت بعد الأيّام السعيدة التي قضاها في بداية رسالة امتدّت ثماني عشر شهرًا. هذا ما يعبّر عنه الرسول في 1: 15-2: 11. قال: "كنتُ على ثقة بهذا كلّه حين عزمتُ على السفر إليكم حتّى تتضاعف الفائدة لكم" (1: 15). ولكن وجب عليه أن يبرّر الأسباب التي رفعته إلى تبديل مخطّط سفره. قال: تجنّبتُ زيارة أخرى تكون عاقبتُها تعيسة. لهذا كتب رسالة تفيض بالكآبة والدموع. هي رسالة حملها تيطس (2: 13)، فأغرقت الجماعة في الحزن. ولكن بمساعدة تيطس تحوّل الوضع، وتبدّل موقف الكورنثيّين.

ما نستنتجه من النصّ يقودنا إلى المتتالية اللاحقة: بعد زيارة ثانية لم يحالفها النجاح، كتب بولس رسالة قاسية نقلها تيطس. وبعد ذلك، كتب رسالة مصالحة. وهكذا قد يكون 2: 14-7: 4 قد كُتب قبل الصراع الصعب الذي مرماه الجماعة نفسها، أي بعد الزيارة الثانية. ففي هذه الرسالة ما زالت العلاقات بين الجماعة ورسولها طيّبة، والأخطار الآتية من المرسَلين محدودة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، بما أنّ بولس يتكلّم فقط في "رسالة المصالحة" عن خطر الموت الذي وجد فيه نفسه، في أفسس، والذي نجا منه بالهرب (1: 8-10: يئسنا من الحياة، شعرنا أنّه محكوم علينا بالموت)، كلُّ ما حصل قبل ذلك الوقت، يجد موقعه في حقبة أفسس، وقبل سجنه الأخير في هذه المدينة. أمّا الرسالة الأولى التي كانت هادئة، فقد رافقها الفشل. حينئذٍ قرّر الرسول أن يقوم بزيارة "مرتجلة" فكانت كارثة لم يعرف مثلها في زياراته إلى جماعات أخرى. والدفاع الذي كتبه في ف 10-13، بعد ذلك، أي بعد الرسالة في الدموع (2: 4)، سوف يتكلّل بالنجاح.

خاتمة

هكذا بدت الرسالة الثانية إلى كورنتس. قال تقليد الكنيسة وقبل العمل بالمفهوم التاريخيّ النقديّ، إنّها رسالة واحدة كتبها الرسول في أوقات مختلفة، فجاءت بشكل يوميّات متأثّر بما يصل إليه من أخبار. أمّا النظرة الأحدث، فتجعل من 2 كور مجموعة رسائل، ربّما أربع: ف 1-7. ثمّ ف 8. ثمّ ف 9. وأخيرًا ف 10-13. في أيّ حال، سواء أرسلت 2 كور بشكل وحدة، أو بشكل رسائل أربع، فهي تدلّ على شخصيّة بولس العميقة، على اهتمامه بالكنائس وبنموّ المؤمنين في الحياة المسيحيّة، حين غاب عنهم شابهوا الشعب العبرانيّ في البرّيّة.

طال موسى إقامته على الجبل، فعبد الشعب العجل الذهبيّ برفقة هارون. وابتعد بولس، فعاد الكورنثيّون إلى حياتهم السابقة على مستوى الفجور والزنى. فبدا إذن ما عمله عبثًا. لهذا تألّم الرسول، وبدا قاسيًا فأبكى الجماعة. وفرح ببكائها، لأنّ هذا البكاء أقبل بها إلى التوبة. الرسول هو أبعد ما يكون عن "مدبّر" يهتمّ بالأمور الخارجيّة، التنظيميّة. فقد يفعل غيره في الجماعة أفضل منه. الرسول هو من يرافق الجماعة في عمق خطيئتها ومصالحتها: يضعف واحد فيضعف معه الرسول. يسقط واحد فيحترق عليه الرسول من الحزن (11: 29). وهكذا وجدت 2 كور بعيدة مثلاً عن روم المبنيّة بناء منطقيًّا. 2 كور تفصح عن قلب الرسول في فشله ونجاحه، في فرحه وحزنه، في بكائه ونشيده. وكلّ هذا ينتهي في قلب الثالوث: "نعمة ربّنا يسوع المسيح، ومحبّة الله (الآب)، وشركة الروح القدس" (13: 13).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM