بين عيسو ويعقوب

بين عيسو ويعقوب

حين أراد بولس الرسول أن يشدّد على حرّية الله في اختياره، لا بحسب التقاليد، بل بحسب النعمة، ذكر عيسو ويعقوب. فأورد ما في كتاب ملاخي النبيّ: «أحببتُ يعقوب وأبغضت عيسو». هذا يعني في لغة قديمةٍ لم تعرف فعلاً يقابل «أحبّ»؛ فضلتُ يعقوب على عيسو. وسوف نرى لماذا فضّل الربّ يعقوب على عيسو، كما سبق له ففضّل هابيل على قايين، واسحق على اسماعيل. بانتظار ان يفضّل داود على جميع اخوته الذين كانوا رجال حرب وقوّة، ساعة لم يكن داود يصلح إلاّ لرعاية الغنم. في أي حال، أسرارُ الله غير اسرار البشر، وطرقه ليست طرقهم. ونحن نعود إلى سفر التكوين لنقرأ ما قيل فيه عن عيسو ويعقوب.

1- ولدان توأمان

اعتاد الكاتب الملهم أن ينطلق من الحاضر ليعود إلى الماضي من أجل العبرة الروحيّة. بعد أن مات عيسو ومات يعقوب، قرأ حياتهما منذ الحبل بهما في حشا أمّهما رفقة. عاد الكاتب فشدّد على أن الأولاد هم عطية الله. كانت رفقة عاقراً، فصلّى اسحاق فاستجاب له الربّ صلاته. وحبلت رفقة امرأته. وتأخّرُ الحبل لدى المرأة يدلّ على مهمّة خاصة يهيئّها الله للولد الذي سيُولد منها. يكفي أن نتذكّر حنّة أمَّ صموئيل. واليصابات أم يوحنا المعمدان. كان هذان النبيان محطّتين في الاستعداد لمجيء المسيح. وتأخّرت رفقة في الحبل، فبان أن لهذين الولدين مهمّة عظيمة في تاريخ الاعداد لمخطّط الله. هنا نقرأ النصّ الكتابيّ: «فلما اكتملت أيام حبلها، تبيّن أن في بطنها توأمين. فخرج الأول أسمر اللون كله كفروة شعر فسمّوه عيسو ثم خرج اخوه ويده قابضة على عقب عيسو فسمّوه يعقوب» (التكوين 25: 24- 26).

عيسو هو الأول، هو البكر. إذن، له الأولوية. ومع ذلك سوف يصبح الثاني. له القوّة الكافية لكي يكون ذاك الصيّاد الماهر، ولكن الله اعتاد ان يختار ضعفاء هذا العالم ليخزي الأقوياء، كما قال القديس بولس. وقالت مريم في نشيدها «انزل الجبابرة عن عروشهم ورفع الوضعاء» (لو 1: 52). كان قايين البكر وصاحب المقتنى، فما رضي الله عن ذبيحته كما رضي عن ذبيحة هابيل الذي هو ضعيف، ضعفَ الدخان المتلاشي. وكان اسماعيل البكر في بيت ابراهيم وكان رامياً بالقوس، فأقام في صحراء فاران. وقد قيل فيه: «تكون يده على الجميع ويد الجميع عليه» (تك 16: 12). وهو منطق القوّة أيضاً الذي لا يرضى به الله. ونقول الشيء عينه عن عيسو، ذاك الرجل الذي يعيش بقوة سلاحه. وسوف نراه عند عودة يعقوب من حاران، ليلاقي أخاه مع أربعمئة رجل (تك 33: 1). ما هو عملهم؟ السلب والنهب والعيش بقوّة السلاح.

ويقدّم الكاتب ملاحظة بسيطة ولكنها تحمل معنى عميقاً: وُلد عيسو كفروة شعر. من يُولد كذلك؟ لا الانسان ابداً، بل الحيوان. وهذا يعني في اللغة الرمزية انزلاق عيسو عن مستوى الانسان المخلوق على صورة الله، وعيشه في الرغبات الحيوانيّة بحيث لا قيمة عنده إلاّ للأمور الحسيّة، لا لمواهب نالها من الربّ ويجب أن يحافظ عليها. هنا نتذكّر سفر دانيال الذي يصف الممالك القويّة بشكل حيوانات. هو الحيوان يسيطر على البشرية، هو الوحش الذي يصل إلى سفر الرؤيا ويريد أن يبتلع المرأة وابنها. أما ابن الانسان الآتي على سحاب السماء فيرفع الانسان من حيوانيته إلى عرش الله. هو يسوع المسيح. وسوف نرى يعقوب يتشبّه بأخيه. حين جاء يأخذ من ابيه البركة، لبس ثياب عيسو، وجعل جلد المعز على عنقه وعلى يديه. عندئذٍ تصرّف كالحيوان، فكذب على ابيه الاعمى اكثر من مرّة بل جعل الله «كاذبا» حين قال: «الربّ إلهك وفقني» (تك 27: 20). الحمد لله أن هذا اللباس كان موقتاً. ولكنه سيترك أثراً في حياة يعقوب الذي لعب لعبة الكذب والاحتيال مع خاله لابان، فاغتنى وصار قوياً جداً (تك 30: 43). ولكنه في الوقت عينه صار ذاك الضعيف أمام خاله، فهرب منه. وأمام أخيه، فسجد له يستعطفه وقدّم له الهدايا. لهذا سوف يهتمّ الربّ به ويحامي عنه.

2- وخسر عيسو مواهب الله

ورسم لنا الكاتب تصرّفات عيسو تجاه أخيه يعقوب. كان عيسو صياداً ماهراً، فذكّرنا بنمرود ذاك الصيّاد الجبّار الذي أطلق سهامه على الله متمرداً. أما يعقوب فكان رجلاً مسالماً. هو السلم تجاه الحرب، والحوار مكان العنف. أما هكذا انتهى الأمر بين يعقوب وخاله: «الله شاهد بيني وبينك» (تك 31: 50). ووُضعت الحدود بحيث لا يتعدّى الواحد على الآخر.

وبدأ عيسو ثورته على والديه. تزوّج امرأتين من بنات الحثّيين اللواتي لا يعرفن إله ابراهيم. ترك الاله الذي يعبده والده، وأخذ بعادات الأمم الوثنية، وكلُّنا يعرف آثار الحثّيين وحروبهم في هذا الشرق. كان هذا الزواج «لاسحق ورفقة خيبة مرّة». وأضاف عيسو خطأ على خطأ تاركاً عرض الحائط الوصيّة التي تدعوه إلى إكرام الوالدين. قالا له: لا تتزوج بامرأة من بنات كنعان بسبب ما في الديانة من مجون لا يعرفه رعاة الغنم. ومع ذلك فعل عيسو عكس إرادة ابيه وأمه. اما يعقوب فكان مثال الطاعة. قالا له: اذهب إلى آرام وتزوج بامرأة من هناك «فيباركك الله القدير ويحميك» (تك 28:2- 3). وسوف يقول الترجوم عن يعقوب: «كان رجلاً تاماً في الاعمال الصالحة، يسكن في بيت الدرس» أي يتأمل في الاسفار المقدّسة باحثاً عن إرادة الله فيها.

أما الخطيئة الكبرى التي استبعدت عيسو من بركة الله، مع أن حظّه كان كحظّ اخيه إذ حُبك بهما معاً، ووُلدا معاً، بل وُلد هو قبل أخيه، وأحبّه ابوه حباً خاصاً، والأب مركز القرار. الخطيئة الكبرى نقرأها ايضاً في سفر التكوين:

«وطبخ يعقوب طبخاً فلما عاد عيسو من الحقل وهو خائر من الجوع، قال ليعقوب: ''اطعمني من هذا الأدام (او: الاحمر) لأني خائر من الجوع». لذلك قيل له ادوم، فقال له يعقوب: «بعني اليوم بكوريتك». فأجاب عيسو: «أنا خائر من الموت، فما لي والبكورية»؟ فقال له يعقوب: احلف لي اليوم. «فحلف له وباع بكوريته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزاً وطبيخاً من العدس، فأكل وشرب وقام ومضى. واستخفّ عيسو بالبكورية». (تك 25: 29- 34).

أجل، استخفّ عيسو بالكورية. استخفّ ببركات الله وعطاياه. فماذا بقي له سوى البكاء. فحين سمع كلام ابيه حول البركة التي اعطاها ليعقوب «صرخ عالياً بمرارة: باركْني أنا أيضاً يا أبي» (تك 27: 34). لا بركة لعيسو بعد الآن. هذا ما شعر به فأراد ان يتصرّف مثل قايين وعزم على قتل أخيه. ولكنه لم يصل إلى مبتغاه بعد أن هرّبت رفقة التي كانت تحب يعقوب، ابنها إلى خاله في ارض آرام. في ذاك الوقت قال عيسو: «اقتربت أيامُ الحداد على أبي فأقتل يعقوب أخي». وهكذا لخّص عيسو تاريخ البشرية في بدايته: في آدم، «تحدّى» الانسان الله، فسمع للحيّة وأراد ان يصير شبيهاً بالله بقوّة السحر. فطُرد من الجنّة وخسر البركة الممثلة بالماء والاشجار المثمرة. وفي مرحلة ثانية، قتل أخاه وداس محبّة القريب. وذاك كان وضع عيسو. استخف بالله وبعطاياه. وهو يستعدّ ليقتل أخاه. إذا كانت وصيّتا المحبة شرطاً لنوال الملكوت، فقد ابتعد عيسو عن الملكوت. وإذا ارتبطت الحياة الأبدية بحفظ الوصايا (مر 10: 17- 19؛ لا تقتل، لا تزنِ...)، فقد خسر عيسو هذه الحياة التي لا يرثها الخطأة، كما يقول بولس الرسول (1كور 6: 9- 10).

3- أحببتُ يعقوب وابغضت عيسو

في هذا الاطار نفهم كلام القديس بولس في الرسالة إلى رومة (روم 9: 13). اشتكى اليهود لأن الله بدّل عهده معهم. كانوا في الداخل فصاروا في الخارج. اعتبروا أنهم كانوا من نسل يعقوب الذي احبّه الله، فصاروا من نسل عيسو الذي أبغضه الله، أو بالأحرى تركه جانباً. في الواقع، هم تركوا الله، ولم يعرفوا أن زمن الخلاص دخل بيسوع المسيح. رفضوا الله فقطفوا ثمار رفضهم. كان الوثنيون بعيدين فصاروا قريبين، وكان اليهود يعتبرون نفوسهم قريبين فإذا هم صاروا بعيدين. كان اليهود يرون الوثنيين بدون مسيح، خارج الرعيّة التي يُقيم فيها شعب اسرائيل، غرباء عن عهود الموعد. «هم بلا رجاء في هذا العالم، ولا إله لهم» (اف 2:11) ويتابع الرسول كلامه متوجهاً إلى هؤلاء الذين لم يكن لهم عهد مع الله: «اما الآن في المسيح يسوع، فأنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين، قد صرتم قريبين بدم المسيح، لأنه هو سلامنا، هو الذي جعل الشعبين واحداً، إذ نقض الحائط الحاجز بينهما، أي العداوة'' (أف 2: 11- 14).

الشعبان هما اليهود والوثنيون. كان الواحد يجهل الآخر، يحتقر الآخر، يعادي الآخر. ولكن المسيح أزال الحاجز الذي بينهما، وأراد أن يكون الشعبان واحداً في عهده، كما كان عيسو ويعقوب. ولكن عيسو رفض، فكان في الخارج بعد أن استخفّ بعطايا الله. أما يعقوب فنال بركات وصل بها إلى يسوع المسيح عبر يهوذا ابنه وداود الخارج من قبيلة يهوذا. والشعبُ اليهودي الذي له التبني حيث اعتبر نفسه ابن الله. الذي له المجد، مجد الله الذي تجلّى له في الغمامة على جبل سيناء. الذي له العهود. عهد مع ابراهيم، مع موسى، مع يشوع، مع داود. هو الله يقيم عهداً معهم يشبه عقد العريس مع عروسه. لهم الشريعة واهمّ ما فيها الوصايا العشر. لهم العبادة والمواعيد والآباء ابراهيم واسحق ويعقوب. وفي النهاية، كان منهم المسيح بحسب الجسد (روم 9: 4-5). فماذا ينقصهم بعد؟ ومع ذلك صاروا خارجاً فاعتبروا ان الله نبذهم.

أو بالأحرى هم الذين نبذوه، ما آمنوا به وبقدرته، بل آمنوا بأعمال الناموس. آمنوا بالختان الذي هو علامة خارجية في جسدهم، ونسوا ختان القلب والأذنين: نفهم كلام الله، نسمعه، نعمل به. قاموا بممارسات خارجية ظنّوا أنهم تحمل إليهم الخلاص ونسوا كلام النبيّ اشعيا: هذا الشعب يكرّمني بشقيه وقلبه بعيد عني. فباطلاً يعبدونني. وذاك كان وضع عيسو الذي استهان بعطايا الله، واستند إلى ما حباه الله من قوّة وعزم. فجاءت الخطيئة بعد الخطيئة. وسوف يقول الترجوم فيه: وهكذا احتقر عيسو بكوريته وانكر قيامة الموتى، كما انكر الحياة في العالم الثاني». ويقول ترجوم آخر: «اقترف في ذلك اليوم (يوم باع بكوريته) خمس خطايا: استسلم إلى عبادة الأوثان، سفك الدم الزكي، دخل على ابنة مخطوبة، انكر الحياة في العالم الآتي. احتقر حقّ البكورية».

الخاتمة

«أحببتُ يعقوب وأبغضت عيسو». هذا الكلام الذي ورد على لسان النبيّ، يجب ان نقرأه بالأحرى: أحبّ الله يعقوب فأحبه يعقوب. أحبَّ الله عيسو فأبغض عيسو الله. تقبّل يعقوب بركات الله فأزداد بركة على بركة. ورفض عيسو عطايا الله، فلاحقته اللعنة كما لاحقت قايين من قبله. إذا كانت أرض فلسطين هي ارض الموعد وجنّة الفردوس لأن الله يقيم فيها، فكل أرض خارج تلك الأرض لا يمكن ان تكون إلاّ ارض اللعنة. من لا يعرف ان الصحراء هي موضع الغياب والموت جوعاً وعطشاً. أما لهذا تذمّر العبرانيون على موسى المرّة بعد المرّة؟ إلى هذه الصحراء البعيدة مضى قايين. اعتبر ان الله طرده، حجب وجهه عنه. اعتبر نفسه طريداً شريداً ينتظره الموت (تك 5: 14). فقايين هذا هو صورة بعيدة عن عيسو. مثله ضاع في غياهب الصحراء وخسر البركات المرتبطة بنسل ابراهيم مع أنه كان بإمكانه أن يدخل في تاريخ الخلاص. ما أراد، ولهذا حلّت محلّه تامار كنّةُ يهوذا، واليعازر ربيب بيت ابراهيم، بانتظار راعوت وراحاب. بيتُ الله مفتوح للجميع، ولا يكون في الخارج إلاّ من يرفض الدخول في الباب الضيق. أما هذا الذي فعله عي

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM