سبعاً وسبعين مرة

سبعاً وسبعين مرة

ذاك هو الرقم الذي وصل إليه لامك، من سلالة قايين. تلك هي درجة الانتقام التي ستصل إلى آخر الحدود. إلى هنا يصل العنفُ بالانسان فلا يقف عند حدّ. لا سبع مرات سينتقم لامك كما فعل جدّه قايين لو أن أحداً لمسه بيده، والرقم سبعة هو رقم الملء والكمال، بل سبعة مضاعفة. إلى هنا وصل الانسان في عمق الخطيئة والأنانية. ولكن الله لن يتركه ينحدر وينحدر، فيعلّمه ويربّيه شيئاً فشيئاً إلى أن يصل به إلى لاحدود في المغفرة، إلى سبعين مرّة سبع مرات، كما قال يسوع لبطرس. من شخص لامك ابن قايين ننطلق، فنصل إلى شريعة موسى التي تجعل الانتقام يوازي الشرّ الذي يصيب الانسان، إلى يسوع الذي يطلب من المؤمن ان يغفر لأخيه ويغفر فلا يكون لغفراننا مثال سوى الله الذي هو قبل كل شيء إله الرحمة والغفران.

1- يا عادة وصلة اسمعا صوتي

تحدّث لامك إلى امرأتيه. منذ البداية نفهم أن صوت الربّ الذي سمعه آدم في الفردوس اختفى، وسيطر عليه صوت الانسان القوي الذي يفرض سلطته على الآخرين. في الجنة كلّم الربّ آدم وحواء، فسمعا لكلامه، ونحن ايضاً. ولكن هنا يجب الاستماع إلى كلام لامك الذي يفعل ما يشاء هو، لا ما يشاء الله. ولا يكتفي بأن يعمل الشرّ بل يعلّمه، فيبدو صغيراً، حقيراً في ملكوت السماوات كما، سيقول يسوع.

في البداية، قرأنا أن آدم عرف امرأته حواء. ما قال الكتاب إن له امرأة ثانية. ويتابع النصّ الملهم: «وعرف قايين امرأته فحملت وولدت حنوك» (تك 4: 17). وحالاً بعد ذلك نقرأ: «وتزوّج لامك امرأتين، احداهما اسمها عادة والأخرى صلّة» (آ 19). الحمدُ لله أن لكل امرأة اسماً، فلم تصبح الواحدة في حريمه، لا يعرفها الا باسم الولد الذي تعطيه. مع آدم نسي الانسان الوصيّة الأولى: أنا الربّ الهك. فأراد ان يكون إلهاً على مثال الله، يعرف، يقرّر ما هو شرّ وما هو خير. مع قايين داس الانسانُ الوصية الخامسة: لا تقتل. قتل واعتبر انه لم يفعل شراً. ومع لامك ضاعت الوصية السادسة: لا تزنِ. والوصية التاسعة: لا تشته امرأة قريبك. فالمرأة الاولى هي زوجة الرجل الشرعيّة. والثانية هي زنى. ولا نقول شيئاً عن الثالثة والرابعة. حين يبدأ الانسان التفلّت من شريعة الله، لا يعود يعرف حدوداً للطريق التي يسير فيها. هو يذهب بعيداً وينسى أن الله في البدء قال: يترك الرجل اباه وامه ويلتصق بامرأته فيكون الاثنان (لا الثلاثة والأربعة) جسداً واحداً. وأجمل ما في انسان اليوم هو أنه يبرّر نفسه حين يأخذ اكثر من امرأة، فيستند إلى ما عمله ابراهيم ويعقوب وداود وسليمان، ويدعوهم أنبياء، مع انهم في هذا المجال لم يحملوا كلام الله ولا عملوا به حين حسبوا المرأة خادمة للرجل وتحت رجليه. فموضعها قرب قلبه لأنها ضلع من أضلاعه واسمى قطعة فيه.

وقبل أن يحدّثنا الكتاب عن حدود الانتقام الذي لا حدود له في منطق لامك، أفهمنا أن أولاده اشتغلوا بصناعة النحاس والحديد. فالبشرية تبدأ اختراعاتها من اجل الشرّ والحرب والقتل. فأول استعمال للذرّة كان القنبلة الذريّة التي دمّرت مدينتين كبيرتين في اليابان، والتي تهدّد بتدمير البشرية بعد أن كثر هذا النوع من السلاح. والبشر بدأوا فصنعوا السلاح من النحاس. ولما جاء الحديد تغلّب على النحاس. إذن، لا يمكن للامك أن يبقى على مستوى جدّه قايين، فينتقم فقط سبع مرات، بل سبعاً وسبعين مرة. وماذا كان جرم الآخر؟ يكفي أن يكون جرحه لكي يقتله. أما هكذا تفعل الحيّة التي تجرح، أو وحش البريّة؟ تثور فيه غريزة الدم فتكثر قوّته قوة. فما أسهل على الانسان أن يتصرّف كالحيوان؟ أو هو فيه قوّة لا توجد في الحيوان، إن من أجل فعل الخير وإن من أجل فعل الشرّ. والشرّ هو الذي سيطر، فأنشد الانسان متباهياً بنفسه لما فعل. قال لامك لامرأتيه: «يا عادة وصلة اسمعا صوتي، يا امرأتيْ لامك أصغيا لكلامي. قتلتُ رجلاً لأنه جرحني، وفتى لأنه شدخني. لقايين يُنتقم سبعة اضعاف، وأما للامك فسبعة وسبعين» (تك 4: 23- 24)

2- سن بسن وعين بعين

إلى هنا وصل البشر في عهد لامك، ولن يقفوا في مسيرة الخطيئة والعنف التي بلغت بهم إلى الطوفان، وأنشدوا ما فعلوا كما يُنشد الناس اناشيد الحرب والبطولة. لأن لا شيء لهم يفتخرون به الاّ الخطيئة التي فيهم. وما عدا ذلك، فالخير الذي عندهم هو عطية من الله. وهذا الاله سوف يعمل من قلب الشرّ. إلى هذه الاعماق سينحدر ليأخذ الانسان ويرفعه. ولكنه سيفعل شيئاً فشيئاً كما يفعل الوالدون في تربية اولادهم ولا سيما إذا انزلقوا في المهاوي.

وكانت البداية مع موسى الذي طلب ان يُوضع حدّ للشرّ. ما استطاع ان يمنع الانتقام دفعة واحدة، ذاك الذي قال فيه سفر الامثال: «ان جاع من يبغضك فأطعمه خبزاً، وإن عطش فاسقه ماء، فتحطّ جمراً على رأسه، والربّ يُحسن جزاءك» (أم 25: 21- 22). فالربّ وحده يدين الانسان، لأنه يعرف عمق قلبه. لا شكّ في أنه يعاقب، ولكنه في النهاية يرحم ويدعو الظالم والمظلوم لكي يغرقا في رحمته وحنانه فينقلب قلباهما من الحجر إلى اللحم والدم.

قال موسى في موضوع القتل والضرب، في سفر الخروج: «وإن وقع ضرر، فنفس بنفس (او حياة بحياة)، وعين بعين، وسن بسن، ويد بيد، ورِجل برجل، وحرق بحرق، وجرح بجرح، ورض برض '' (خر 21: 23- 25). هي المساواة في الضرر والانسان لا يتعدّاها. ماذا فعل هذا التشريع؟ لم يُغلق الباب على تطوّر لاحق. وسوف يصل إلى تعويض مالي تجاه الشرّ الذي صُنع. وفي ايامنا، هناك الفدية تجاه القتل، مع ان الحياة لا شيء يوازيها. وكأن الكتاب قد قال: «وإن ضرب احدٌ عين عبده او جاريته فأتلفها، فليحرّره بدل عينه. وإن أسقط سنّ عبده او جاريته، فليحرّره بدل سنه». فالبدل يمنع الانسان من إيصال الأذية إلى قريبه آذاه.

ولكن كلام موسى بدا صعباً. فلا يقبل به سوى الضعيف. اما القوي، فإن أخذ أحد منه سنّه أخذ له فمه كلّه. وإن أخذ له عينه، أخذ له رأسه. ضاعت المساواة في الشرّ، مع أن المساواة يجب أن تكون في الخير.عندئذٍ جُعلت بعض المدن ملجأ للقاتل حتى يمتنع الانتقام. فهناك محاكمة، وقضاة المدينة ينظرون في الأمر، ولا سيّما اذا لم يكن القتل عمداً. وسوف يعلّم سفر الخروج المؤمن أن يتعالى تجاه الشرّ، فلا يشمت بقريبه إن هو وقع في مصيبة، بل يساعده. «إذا لقيت ثور عدّوك او حماره شارداً، فردّه اليه. واذا رأيت حمار من يبغضك رازحاً تحت حمله، فلا تمتنع عن مساعدته ورفع الحمل مع» (خر 23: 4- 5). من هذا الكلام ينطلق التشريع الحديث فيحكم على الانسان الذي لم يساعد أخاه حين يكون في الخطر. مثلُ هذا العمل الخيّر يكسر الجليد بين المتخاصمين. وقد يعود بهما إلى الوئام والسلام إن هما أرادا. فان كان لعمل الشرّ نتائجه، فكم يكون لعمل الخير خصوصاً أن الله يباركه. لا يضربه بأربعة، بل بألف من أجل محبّيه وعاملي مشيئته. ولكن المسيرة مع الله لا تنتهي عند هذا الحدّ. فالإنسان لا يُدعى أن يقتدي بالانسان، بل بالله الذي يغفر ويطلب منا أن نغفر. هذا هو الحدّ الذي لا حدّ له، وقد علّمنا الانجيل لا أن ننتقم سبعاً وسبعين مرة، بل أن نغفر سبعين مرة سبع مرات.

3- كم مرّة يخطأ اليّ اخي

ذاك هو السؤال الذي طرحه بطرس على يسوع، فاعتبر نفسه عمل عملاً بطولياً. لا شكّ في أنه بطوليّ على مستوى البشر، على مستوانا نحن الذي نرتبط باسم يسوع وبحياته، والذين نعيش في الواقع على مستوى موسى فنطلب الانتقام على كل شيء حفاظاً على كرامتنا. فكأننا إن رددنا على الشتيمة بالشتيمة عادت إلينا الكرامة. وإن قتلنا الذي قتل ابننا، عاد ابننا إلى الحياة. كم تختلف نظرةُ الله عن نظرة الانسان، وموقفُه عن موقف البشر. هو يريد الحياة لا الموت. بحيث منع أحداً أن يقتل قايين، بل حماه. وضع على رأسه علامة تمنع أي انسان من الاساءة إليه. بل هو يُخرج من الشرّ خيراً، فما سمح ليوسف ان ينتقم من إخوته الذين باعوه بيع العبيد. فمشروع الله أوسع من مشروع البشر، وذاك الذي مضى كعبد إلى مصر، صار سيداً هناك. أترى سيستفيد من قوّته ليحطّم إخوته انتقاماً؟ كلاّ ثم كلا. وإذ غفر يوسف، لم يفعل فقط اكراماً لأبيه يعقوب، بل لأنه لا يريد أن يحلّ محلّ الله في معاقبة البشر، بل هو يريد أن يتشبّه بالله على مثال عيسو الذي غفر لأخيه يعقوب، فقال له أخوه: رأيتُ في وجهك وجه الله.

رفض يسوع في عظة الجبل منطق «سن بسن وعين بعين». قبِلَ به موسى، بسبب قساوة القلوب، التي كانت في الماضي ولم تتبدّل كثيراً اليوم، بل عرفت كيف تتفنّن في أساليب التعذيب والقتل والانتقام والأخذ بالثأر. والحرب عندنا كانت أكبر برهان. قال يسوع: «سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا من يسيء إليكم. من لطمك على خدك الايمن فحوّل له الآخر. ومن أراد أن يخاصمك ليأخذ لك ثوبك، فاترك له رداءك أيضاً» (متى 5: 38- 40).

فهمَ بطرسُ بعض تعليم يسوع، فقبِلَ ان يغفر لأخيه سبع مرات، ولكن متطلبات يسوع لا حد لها. فهو يطلب من المؤمن ويطلب منه، لأنه يريد منه ان ينظر إلى الله الذي لا حدّ لرحمته. بل صفته الاولى هي الرحمة والمحبّة. سأل بطرس: «كم مرة يخطأ اليّ اخي فاغفر له؟ اسبع مرات؟» فما كان جواب يسوع؟ «لا سبع مرات، بل سبعين مرة سبع مرات» (متى 18: 21- 22). هكذا يُبنى ملكوت السماوات مع مَلكه الذي هو الربّ الاله الذي علّمنا في الصلاة ان نغفر كما يغفر هو. ولهذا كان آخر عمل قام به يسوع على الصليب، أنه غفر لصالبيه: «اغفر لهم يا ابتِ لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون» (لو 23: 34). فلو كان الانسان يدري ما يفعل، لو كان واعياً للشرّ الذي يتركه وراءه، لكان يبدّل طريقه كلَّ التبديل. فلا يسيء إلى قريبه عمداً مهما كانت الظروف ومهما سبق تصرّفه من مواقف. ويغفر للقريب، لأن الحقد يهدم، اما المغفرة فتبني. في القتل والانتقام أكون وحدي بعد أن أخسر مساعدة أخي. أما هكذا كان قايين؟ فيا ليته لم يقتل أخاه، لكان فهم كلام سفر الجامعة: إذا سقط الأخ يسنده أخوه. ولكن ان كان وحده بعد ان فقد اخاه، فمن يسنده؟

كان نشيد لامك نشيد الانتقام إلى ما لا حدود له. اما نشيد يسوع فكان نشيد الغفران إلى ما لا حدود له. «سبعين مرة سبع مرات». نقرأ في خطبة السهل، الخطبة المنفتحة على العالم الوثني، كلاماً أورده القديس لوقا: «ولكني أقول لكم، أيها السامعون: أحبّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم، وباركوا لاعنيكم، وصلّوا لاجل المسيئين إليكم... فإن أحببتم من يحبكم فأي فضل لكم؟ لأن الخاطئين أنفسهم يحبّون من يحبّونهم... هكذا تكونون أبناء الله العلي... كونوا رحماء كما أن الله أباكم رحيم» (لو 6: 27- 36).

خاتمة

وهكذا رسم لنا الكتابْ مسيرة الله مع الانسان، من الانتقام بلا حدود إلى الغفران بلا حدود. من القساوة التي تجعل الانسان يُصبح كالصخر تجاه أخيه، إلى الرحمة التي نتعلّمها من الأم تجاه طفلها. ومن الله الذي هو أب يغفر، وأم تتحرّك أحشاؤها حين ترى أولادها. لا، ما ترك الله الانسان يغور في خطيئته. نزل إليه. تجسّد. أخذ جسماً شبيهاً بأحسامنا. شابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. ورفعَنا فجعلنا أبناء الله وطلب منا أن نتصرّف تصرّف الابناء. رفعنا شيئاً فشيئاً. أراد أن ينمو معنا. قبلَ بموقف ناقص، لا لأنه الناقص، بل لأن الانسان يميل إلى الشرّ منذ صباه. وانتظر الوقت الذي فيه يُلغى كل نقص. لا مجال للانتقام عند المؤمن. ولكن ما حيلة الله وهو يحترم حريّتنا إلى أقصى حدود الاحترام؟ غير أنه في النهاية سوف ينتصر، وتنتصر معه المحبّة. هو ينتظر، لأن الف سنة في عينه كيوم امس الذي عبر. ولكن الانتظار يكون في النهاية ظفراً على الخطيئة والموت. وانتصاراً علينا وعلى ثقل الشرّ فينا. عندئذٍ نهتف: أين شوكة الموت، أين قوى الخطيئة؟ لقد جعل يسوع هذه القوى تحت قدميه وهو يدعونا أن نشاركه فنغلب العالم معه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM