من شريعة الغاب إلى عظة الجبل

من شريعة الغاب إلى عظة الجبل

حين نقرأ الكتاب المقدّس، تصدمنا بعضُ المشاهد التي تتنافى مع وصايا الله ومع إنجيل المسيح. حسبنا الكتاب مجموعةَ نصائح أخلاقيّة، فإذا هو يصّور خطيئة الإنسان في كلّ بشاعتها ولا يخفي علينا شيئًا. ونحن نرفض مثلَ هذه الصوَر لأنّها تلتقي مع الخطيئة في عمق حياتنا وتصرّفاتنا. أترى الله يرضى بذلك والكتاب كلام الله؟ كلاّ. فلماذا يردُ إذًا خبرُ لامك بن قايين هذا الإنسان الذي تجاوز ما قيل عن حياة زوجيّة بين رجل واحد وامرأة واحدة يصيران جسدًا؟ بدأ فأخذ امرأتين. وما الذي يمنعه من أن يأخذ الثالثة والرابعة وهو الأقوى؟ بل إنّ قوّته قادته إلى شريعة الغاب حيث الجرح يُقابل بالقتل، والخدش بالسحق، ولا يكون للانتقام حدود. أجل، هكذا بدأت البشريّة، وهكذا يمكن أن يكون اليوم وكلّ يوم، ولكنّ الربّ يدعوها من عمق شرّها إلى منطق الإنجيل وعظة الإنجيل مع الودعاء، ومحبّي السلام والعائشين الغفران سبعين مرّة سبع مرّات.

1- من الوصيّة إلى الوصيّة المضادّة

حين جُرّب الإنسان قيل له: يمكن أن تكون مثل الإله. هذا يعني أنّه يسنّ الشرائع التي يريد ولا يهتمّ لما يطلبه الله. هناك وصيّة الربّ على مستوى القتل: لا تقتل، لا تغضب على أخيك، لا تبغض أحدًا في قلبك، لا تسئ حتّى إلى عدوّك. وهناك وصيّة الإنسان التي تتوافق مع مصالح له. أما هكذا تصرّف قايين الذي يمثّل قوى الحضر تجاه عالم البدو؟ وإن تبع هواه وشهواته، فعل ما تمليه عليه هذه الشهوات.

هكذا كان قايين، وكلّ واحد منّا يمكن أن يكون قايين إن لم تكن محافة الله أمام عينيه. وهكذا كان لامك بن قايين الذي فتح مدرسة من نوع جديد تتنافى ووصايا الله العشر. بل تتعارض وأولى وصايا البشريّة يوم خلق الله الإنسان على صورته ومثاله. خلقه ذكرًا وأنثى، رجلاً وامرأة، يعاون الواحد الآخر، ويشارك الواحد الآخر في كلّ ما يملك وفي كلّ ما هو.

نقرأ النصّ الكتابيّ:

وعرف قايين امرأته فحملت وولدت حنوك... وفتوائيل ولد لامك. وتزوّج لامك امرأتين، إحداهما اسمها عادة والأخرى صلّة... وقال لامك لامرأتيه: ''يا عادة وصلّة اسمعا صوتي. يا امرأتيّ لامك أصغيا إلى كلامي. قتلتُ رجلاً لأنّه جرحني. وسحقت فتى لأنّه خدشني. لقايين يُنتقم سبعة أضعاف. أمّا للامك فسبعة وسبعين (سفر التكوين 4: 17، 19، 23-24).

ما نلاحظه في القراءة الأولى، هو أنّ كلام الربّ بعد مقتل هابيل قد تبدّل معناه. حين قتل قايين أخاه، رفض الربّ شريعة الانتقام رغم شرّ الفعل الذي فعله الأخ الأكبر. ووضع علامة على قايين، تدلّ على أنّه في حمايته. ما هذا المنطق «الإلهي» الذي يتعارض مع منطق البشر الذي يقول: بشّر القاتل بالقتل. ومع ذلك، فالربّ لا يريد موت الخاطئ مهما كانت خطيئته، بل حياته وعودته إلى الله وإلى إخوته. وفي أيّ حال، إنّ قُتل قاتل أخي، فماذا أستفيد أنا؟ أترى أخي يعود إلى الحياة؟ وإن كان التهديد بالانتقام رادعًا، أما من رادع أفضل منه؟

رفض الربّ وقال: يُنتقم لقايين سبعة أضعاف، يعني يُعاقب عقابًا كبيرًا. عقابًا لا حدود له. فماذا قال لامك في هذا المجال؟ حين تنتقمون سبعة أضعاف، ننتقم سبعة وسبعين. وهكذا تشوّه القولُ الإلهيّ بتصرّف من عند البشر. جعلوه شريعة توجّه حياتهم. هذا ما سمّيناه شريعة الغاب، حيث الغنيّ يسحق الفقير، والقويّ الضعيف، والكبير الصغير، والأوّل الآخر. مع أنّ الربّ يسوع قال: الأوّل يكون الآخر، والسيّد يكون الخادم، والوديع يرث الأرض، والساعي إلى السلام يُدعى ابن الله.

«يا عادة وصلّة اسمعا صوتي». تعوّدنا أن نقرأ في الكتاب أنّ الإنسان يسمع صوت الله، وحين يسمع يصغي فتكون عيناه على يد السيّد. والسماع يعني الطاعة، كما نقرأ مرارًا في التوراة: وفعل موسى ما أمره الربّ. أمّا هنا فضاع صوت الله. سيطر عليه صوت الإنسان. وماذا يكون الأمر حين تتكاثر الأصوات فلا يعود الواحد يعرف أيّ صوت يتبع، بل، ما عاد يعرف أنّ الصوت الذي يسمعه هو صوت الله، أم صوت شخص من الأشخاص، فيتبع من يقمعه، من يخاف منه، من له مصلحة معه. «إسمعا صوتي». فسمعا صوته. أمّا القابلتان اللتان كانتا في مصر، في أيّام فرعون، فلم تسمعا صوت أقوى ملك في ذلك الزمان، «لأنّهما كانتا تخافان الله» (خر1: 17).

2- من انتقام بلا حدود إلى انتقام محدود

وسارت البشريّة مسيرتها في دنيا العنف الذي وصل بالبشريّة إلى «طوفان» مريع. والماء يدلّ على الشرّ الذي يغمر البشريّة. لسنا بحاجة إلى طوفان لكي نفني بعضنا. فنحن أدرى بوسائل القتل، والتاريخ البشريّ تاريخ من الحروب كان أعظمها الحرب العالميّة الثانية التي تركت وراءها ستين مليون قتيل.

كان لامكُ المثال: الخطأ الصغير يُقابَل بالخطأ الكبير، وقتلُ واحد يُقابَل بقتل المئات والألوف. أما للانتقام حدود في هذا العالم الذي أحبّه الله وأرسل إليه ابنه الوحيد ليحمل إليه الخلاص لا الهلاك؟

وكانت حدود أولى تمثّلت في شريعة موسى، فتبقى المساواة في مناخ العدالة، وأيّة عدالة! لا يتجاوز الانتقام المعصية، ولا يكون العقاب كبيرًا جدٌّا تجاه زلّة صغيرة فيتشفّى الإنسان من غيظه وحقده وكبريائه! قالت الشريعة: «عين بعين وسنّ بسنّ، ويد بيد، ورجل برجل، وحرق بحرق، وجرح بجرح، ورضّ برضّ» (خر 21: 24-25)، نقرأَ هذا الكلام، فنشمئزّ لأنّنا نرى الإنسان يتشبّه بالحيوان. هل نظرنا إلى كلبين يتعاضّان، وإلى هرّين يتناتشان، وإلى وحشين يهجمان الواحد على الآخر... ومع ذلك، يبقى الإنسان في بعض المرّات على هذا المستوى. نشمئزّ ونقول: ما هذه الشريعة التي وُضعت في الكتب المقدّسة؟ نرفضها. لا نريد أن نسمع بها، مع أنّنا نمارسها كلّ يوم. فمنطق العنف حاضر فينا. والردّ بالشرّ على الشرّ يسبق الردّ بالخير على الخير.

لقد جُعل هذا الكلام هنا، لا ليعلّم الإنسان، كيف يجرح من جرحه، ويقلع عين من قلع له عينه، ويقطع له يده. بل جُعل ليعلّمنا أن نضع الحدود لانتقامنا. فالشرّ المتأصّل فينا، لا يرضى بأن يتساوى الردّ مع الإساءة: إنّ من أخذ سنّي آخذ له فمه كلّه. وإن قلع عيني أقطع له رأسه. وإن حرمني من رجلي، حرمته من الحياة... وهكذا نرى أنّ هذه الشريعة الموسويّة كانت تقدّمًا في مسيرة كلّ واحد منّا في طريق ترفع الإنسان عن مستوى الحيوان إلى مستوى الله الذي لو أراد أن يعاملنا بحسب خطايانا، لما نجا أحدٌ البشر. من أجل هذا نسمع صوته من خلاله صوت النبيّ هوشع: «أنا الله، لا إنسان» (11: 9). إن كان من غضب أي رفض للشرّ فللحظة. وإن كان من عقاب فللتأديب. أمّا الدمار فلا يمكن أن يكون. وفي هذا يدعونا بولس الرسول إلى الاقتداء بالله كالأبناء الأحبّاء: نتخلّص من كلّ حقد ونقمة وغضب وصياح وشتيمة، وما إلى ذلك من شرور. ونتحلّى باللطف والرحمة والغفران على مثال المسيح الذي أحبّنا وضحّى بنفسه من أجلنا (أف 5: 1-2؛ ثمّ أف 4: 31-32).

ولا يتوقّف العهد القديم عند منع شريعة الانتقام أن تأخذ مداها، ولا مدى لها حين يغلب الشرّ. بل هو يطلب منّا أن نعمل أعمالاً تكسر أمواج العنف. إن رفضتَ أن تعمل الخير مع من أساء إليك، فعلى الأقل، لا تفعل له شرٌّا. وإن كان هو أساء إليك، فلماذا تسيء إلى الطبيعة البريئة فتقطع أشجارًا يمتلكها خصمك؟ بل ما ذنب حيوان سقط ويحتاج إلى من يقيمه؟ ألأنّه يخصّ عدوّك ترفض أن تمدّ له يد المساعدة؟ في هذا قال الكتاب: «إذا لقيتَ ثور عدوّك أو حماره شاردًا، فرُدّه إليه. وإذا رأيت حمار من يُبغضك رازحًا تحت حمله، فلا تمتنع من مساعدته، وارفع الحمل عنه» (خر 23: 4-5). وإن كنّا نهتمّ بالنبات وبالحيوان، فهل ننسى أخانا الذي هو مثلنا على صورة الله، الذي يحبّه الربّ كما هو، على مثال حبّه لكلّ واحد منّا؟ في هذا المجال، قال سفر الأمثال: «إن جاع عدوّك فأطعمه خبزًا. وإن عطش فاسقه ماء» (52: 12). إن فعلتَ يُحسن الربّ جزاءك.

3- من غفران محدود إلى غفران بلا حدود

وهكذا نصل إلى عظة الجبل التي هي شرعة المؤمن، بشكل عامّ، وشرعة المسيحيّ بشكل خاصّ. هذه العظة لا تتوقّف عند شريعة موسى ومتطلّباتها الخارجيّة التي توسّعت فصارت 613 وصيّة. وقد قال لنا يسوع: إن توقّفتم عندها... لن تدخلوا ملكوت السماوات. شريعة ضيّقة، تقدّم أعمالاً تفصيليّة تجعل الإنسان مرتاح الضمير إن هو عمل بها. كما يقول: أنا لا أقتل، لا أسرق، لا أزني، إذن، أنا أعيش بحسب ما يريده الربّ منّي. وتحصر الإنسانَ في إطار أهله وبني قرابته. أساعد الذي هو قريبي، وأبغض من أحسبه عدوّي. أقرض من يُقرضني ويردّ لي، ولا أعرف أن اعطي العطاء المجّانيّ. أحبّ من يحبّني، وأساعد من يساعدني. ولكن ما هو تصرّفي تجاه الذي أظنّه لا يحبّني؟

مثلُ هذه الحياة المسيحيّة المحدودة، نتبقى ناقصة في نظر المسيح. فإن كان البغض يذهب بنا بعيدًا، أما يجب أن يُطلقنا الحبّ حتّى «إلى حيث لا نشاء» كما قال يسوع لبطرس. وإن كان انتقام لامُك، وانتقامُنا بعض المرّات، بلا حدود، أما يجب أن يكون غفراننا بعضنا لبعض بدون حدود؟ وفي أيّ حال، المسيحيّ الحقيقيّ لا عدوّ له. قال لنا يسوع: أبوكم واحد وكلّكم إخوة. فالربّ يشرق شمسه على الأخيار والأشرار، ويرسل مطره على الأبرار والفجّار. الربّ يحسن إلى الجميع ولا يميّز. فكيف لا يقتدي به المسيحيّ. وحين يعطي الله، فهو لا يحسب حسابًا لعطائه. يُعطي بلا حساب. ويغفر بلا حساب. ويطلب منّا أن نفعل مثله، أن نغفر بلا حساب. أن لا تكون حدود لغفراننا بعضنا لبعض.

سأل بطرس الربّ يومًا: «كم مرّة يخطأ إليّ أخي فأغفر له؟ أسبع مرّات» (متّى 18: 21)؟ لا ندري ماذا فعل بطرس. ولكن في أيّ حال، نجد القليل بيننا الذين يغفرون أكثر من مرّة أو مرّتين. وإن هم غفروا، فالجرح يبقى حاضرًا يتذكّرونه كلّ مرّة يشاهدون الذي أساء إليهم، ويذكّرونه ليقولوا له إنّهم غفروا له. وهكذا يحذّرونه من أن يقع في الخطأ مرّة ثانية. ظنّ بطرس أنّه عمل الكثير حين غفر لأخيه سبع مرّات. ولكن يسوع لا يقبل بأيّ حدود في حياتنا المسيحيّة. لهذا أجاب: «لا سبع مرّات، بل سبعين مرّة سبع مرّات». نلاحظ هنا أنّ هذه العبارة التي قالها يسوع وتفرّد متّى فأوردها لنا، هي جواب على ما قاله لامك بن قايين. وهكذا ننتقل من انتقام بلا حدود له ينادي به الإنسان، إلى غفران لا حدود له ينادي به الله. فالهدف هو أمامنا ويبدو بعيد المنال، ولكن ما هو مستحيل عند الناس يبقى ممكنًا لدى الله. فالربّ الذي يطلب منّا أن نغفر، يعرف الضعف الذي يحيط بنا. ومع ذلك علّمنا في الصلاة الربيّة أن نقول: إغفر لنا كما نحن نغفر. فالهدف الأخير يكون حين يعمّ الغفرانُ البشريّة كلّها، لا الغفران الآتي من عند الله وحسب، بل الغفران الآتي من كلّ واحد منّا. أمّا الواقع، فهو غير ذلك. وحين قدّم لنا الكتاب خبر لامك وغيره من أخبار الانتقام، فلكي يفهمنا أين نحن من متطلّبات الله. نسمع الناس يقولون: نحن لا نرضى بشريعة موسى مع «السنّ بالسنّ». هذا يعني أنّهم قرأوا الإنجيل، وحفظوا بعض آياته. ولكن، يا ليتهم يتساءلون: هل خرجوا من شريعة الغاب ومعاملة الإنسان بالمثل، على مستوى الشرّ، فوصلوا إلى عظة الجبل التي تلخّص الشريعة بوصاياها في محبّة الله ومحبّة القريب؟ نحن نشبه الفرّيسيّين مرارًا: نقول ولا نفعل. نعطي النصائح ولا نعمل بها. نعلّم ولا نتعلّم. لهذا يقول لنا بولس الرسول: «اسم الله يجدّف عليه بسببكم».

خاتمة

تلك هي طريق الله مع البشريّة، جاء إلينا حيث نحن كي يأخذنا إلى حيث هو. نزل معنا إلى أعماق خطيئتنا ليرفعنا إلى علوّ قداسته. حدّثنا من خلال الكتاب المقدّس عن كلام عن الغضب والقصاص والانتقام، فوصل بنا إلى وقت لا تغيب الشمس على غضبنا، ولا نطلب إلاّ الخير لإخوتنا، ونحوّل الانتقام إلى الحنان والرحمة والمحبّة. هكذا نجتذب الناس إلينا، ونسير معهم إلى الربّ. بدايةُ حياتنا قد تكون شريعة غاب مع العنف والقوّة والقتل والسلب والنهب. ولكنّ الربّ يريد لها نهاية من نوع آخر، حيث لا موت ولا ألم ولا جراح بعد أن زالت الأشياء القديمة. ونحن ماذا نختار؟ منطق لامك والذئب الذي هو ذئب لأخيه الإنسان، أم منطق الإنجيل الذي يدعو الإنسان أن يرتفع إلى ما فوق الإنسان، أن يرتفع إلى مستوى ابن الله

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM