الفصل 6: بين الزواج والبتوليّة

بين الزواج والبتوليّة 1 كور 7: 1-40

مع الفصل السابع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتس، ندخل في واقع الحياة اليونانيّة والرومانيّة كما عرفها بولس في حوض البحر الأبيض المتوسّط في طرسوس وفي مدن أخرى، كما ندخل في واقع الحياة اليهوديّة التي عاشها بولس في الشتات. فإذا أردنا أن نكتشف هذا النصّ، نتذكّر الجوّ الذي كُتب فيه، فنفهم موقف بولس بما فيه من جرأة لا تفسَّر إلاّ على ضوء الإيمان المسيحيّ.

أمّا موضوع هذا الفصل فهو جواب على سلسلة من المسائل ترتبط بالزواج. بعد التوجيهات العامّة التي نقرأها في آ 1-7، "فليكن لكلّ رجل امرأته، ولكلّ امرأة زوجها"، نصل إلى الحالات الخاصّة: البتول والأرملة، تحريم الطلاق، الزواجات المختلفة، أي بين مسيحيّ وغير مسيحيّ (آ 8-16). ويرد في آ 17-24 توسّع حول الدعوة إلى الحريّة، ثمّ كلام على البتول وما في البتوليّة من فائدة في الأيّام الأخيرة التي نعيش، بل من تسامٍ على الزواج.

فصلٌ واسع ومتشّعب. أمّا نحن فنأخذ ثلاثة مقاطع نتوقّف عندها، ولا ننسى أن نجعلها تستنير بما في هذه الأجوبة على أسئلة الكورنثيّين، لا في 1 كور 7 وحسب بل في الرسالة كلّها.

1- توجيهات عامّة في الزواج (7: 1-7)

يتوجّه بولس إلى العائلات التي عرفها، إلى الزوج والزوجة وعلاقة الواحد بشريك حياته، فيفهم حياة التبادل بينهما على أنّها نعمة كبيرة جدًّا. ففي عالم يقول بأنّ الرجل يستطيع أن يتزوّج أكثر من امرأة، يعلن الرسول ارتفاع المرأة إلى كرامة رفيعة على مستوى النعمة والخلاص، وعلى مستوى الحياة اليوميّة. صارت المرأة مساوية كلَّ المساواة بالرجل، وما عادت سلعة يتصرّف بها على هواه. لا فرق بين رجلٍ وامرأة، هذا ما قاله بولس في رسالته إلى غلاطية (3: 29)، قاله بشكل عامّ، وها هو يطبّقه بشكلٍ خاصّ في هذه الرسالة.

حمل المسؤولون في كنيسة كورنتس، استفاناس وفرتوناتُس وأخائيكُس (16: 17)، رسالة إلى بولس وفيها أسئلة محرجة، وأوّلها حول الزواج. ويبدو من ترتيب 1 كور أنّه هناك كانت سلسلة من الأسئلة الملموسة والعمليّة، فما هي الظروف التي حملت هذه الأسئلة؟ شدّد الرسول على الامتناع من العلاقات الجنسيّة، بما في هذا الامتناع من فائدة (آ 1، 7، 8، 28، 38، 40)، فبيّن لنا أنّنا أمام فلتان تحدّث عنه (ويعيشه) أشخاص تأثّروا بعض الشيء بالغنوصيّة. غير أنّ هناك أسئلة أخرى: لماذا هذه الإعلانات التي تتوخّى تبرير الحياة الجنسيّة (آ 7، 28، 36، 39)، ولماذا هذا التحذير الملحّ ضدّ خطر كبح الغزيرة التي فينا (آ 2، 5، 8، 36)؟ نجد الجواب الطبيعيّ على كلّ هذا إذا قلنا بوجود ميل فيه التردّد والوسواس، والنسك والبعد عن المعاطاة داخل الحياة الزوجيّة. هل تتوافق الحياة الجنسيّة مع القداسة المطلوبة من المؤمنين؟ أمّا يُفضَّل الامتناع عن الزواج؟ هل يجب أن نتزوّج؟ وإن تزوّجنا كيف نعيش معًا؟

لن ندهش من هذه الظواهر في وسطٍ معرَّضٍ لمختلف التيّارات والاتّجاهات: في العالم الهلّنستيّ اليونانيّ، كان تخوّف من حياة الجسد، وقد يكونون أساءوا فهم كلام بولس، فأرادوا الابتعاد عن الزواج، لا سيّما وأنّ الزمان قصير. فرغم تساؤلات وما فيها من قلق ووسواس، جاء تعليم الرسول متوازنًا جدًّا. ترك الأمور الجانبيّة، وراح إلى الجوهر الذي هو علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل. ونحن نفهم هذا في إطار معاملة المرأة كسلعة في البيت، ككائن لا حقوق له إطلاقًا. في هذا الإطار نفهم الروح المسيحيّة التي نفخها بولس في عالم الزوجين، قال: "ليكن لكلّ رجل امرأته". إذن، لا مجال لتعدّد الزوجات. لم يقل: ليكن لكلِّ رجل نساؤه. بدأ بالرجل الذي اعتاد أن يُكثر نساءه. ثمّ قال: "ليكن لكلّ امرأة رجلها". إذن، لا موضع للزنى في حياة المرأة. بدأ بولس فطلب من العنصر القويّ، ثمّ عاد إلى العنصر الضعيف.

في آ 3، تحدّث بولس عن حقّ المرأة، وهل للمرأة من حقوق في عالم يسيطر عليه الذكر؟ لا حقوق لمرأة في العالم الساميّ الذي نعرفه. ففي العالم اليهوديّ الذي نعرفه اليوم، لا يحقّ للمرأة أن تطلبَ الطلاق مهما كان زوجها. ولا نقول عن عالم الأمس وما فيه من إجحاف في حقّ المرأة. ومع ذلك قال الرسول: "على الزوج أن يوفي امرأته حقّها". هذا ما يجب أن يعرفه الرجل لكي يكون عائشًا إيمانه، وإلاّ فهو لم يدخل بعدُ في منطق الإنجيل. وما طلبه الكتاب من الرجل، طلبه من المرأة: "كما على المرأة أن توفي زوجها حقه".

وما ظلّ بولس على المستوى النظريّ، على مستوى الكلمات العامّة، على مثال قولنا: "أنا أحبّ البشريّة... ولكن كيف أحبّ أخي في الواقع؟ هنا نتذكّر كلام يعقوب: ماذا ينفع أن أقول لأخي إذهب واستدفئ ولا أفعل شيئًا له؟ هنا بولس ينزل إلى المستوى العمليّ. ينزل إلى مستوى ممارسة الزواج بين الرجل المرأة: "لا سلطة للمرأة على جسدها فهو لزوجها". أجل، لا يحقّ لها أن تمارس عمل الزواج مع غير زوجها. ففي الزواج لم يعد جسدها لها. فقد قدّمت ذاتها روحًا ونفسًا وجسدًا لشريك حياتها. وما يسري على المرأة يسري على الرجل. لا فرق بين الاثنين. فجسد الرجل ليس له يعطيه لمن يشاء. إن الزوج لا سلطة له على جسده، فهو لامرأته.

وهذه المساواة بين الرجل والمرأة هي أيضًَا على مستوى الروح والحياة الدينيّة. حين نعرف أنّ العالم اليهوديّ لم يعرف لفظة "تقيّ" في المؤنّث، لأنّه اعتبر أنّ المرأة لا يمكن أن تكون تقيّة. بل التقوى خاصّة بالرجل. وحين نعرف أنّه لا يطلب من المرأة أن تحفظ الوصايا، لأنّ هذا يتجاوز قدرتها، نفهم كلام بولس الذي يقلب المفاهيم في أيّامه. نقرأ في 7: 14: "المرأة غير المؤمنة تتقدّس بالزوج المؤمن"، حتّى وإن كانت وثنيّة. هذا أمر عاديّ! ولكن سبق بولس فقال: "الزوج غير المؤمن يتقدّس بامرأته المؤمنة". فالمرأة تكون بارّة، شأنها شأن الرجل. أما هكذا كانت إليصابات؟ يقول الإنجيل عنها وعن زوجها: "كانا بارّين أمام الله، يتبعان جميع وصاياه وأحكامه، ولا لوم عليهما" (لو 1: 6). وحين يحدّثنا لوقا عن سمعان النبيّ الذي استقبل يسوع الآتي إلى الهيكل، لا ينسى أن يحدّثنا عن حنّة النبيّة: هي لا تفارق الهيكل متعبّدة بالصوم والصلاة ليلاً نهارًا. حضرت في تلك الساعة حمدت الله وتحدّثت عن الطفل يسوع (لو 2: 37-38). وماذا نقول عن مريم العذراء المباركة بين النساء، بل أجمل خلائق الله كلّها.

أجل، انطلق بولس الرسول من سؤال بسيط حول الممارسة الزوجيّة فقدّم لنا تعليمًا عن المساواة بين الرجل والمرأة في الحياة الزوجيّة. وسيقول لنا في خطّ يسوع المسيح وتعليمه (آ 10): لا تفارق المرأة زوجها، وإن فارقته، فلتبقَ بغير زواج أو فلتصالح زوجها. وعلى الزوج ألاّ يطلّق امرأته (آ 11). ذاك هو أمر الربّ يردّده بولس في الكنائس التي أسّسها حول الطلاق الذي كان الزوج يمارسه لأتفه الأمور: يمارسه كما قالت بعض العوائد اليهوديّة إذا أحرقت الزوجة الحساء أو ما عادت تروق لزوجها.

 

2- نداء إلى البتوليّة (7: 25-35)

بعد هذا الكلام إلى الزوجين المسيحيّين توجّه بولس إلى البتولين والبتولات، إلى الذين لم يتزوّجوا بعد، أو إلى امرأة تزوّجت وصارت أرملة. فالحياة في شركة مع الربّ تتيح للمؤمن وللمؤمنة اختيار زواج حقيقيّ، زواج أحاديّ (رجل وامرأة) مع تبادل تامّ، واختيار البتوليّة الحقيقيّة مع جهوزيّة تامّة لخدمة الرب. في هذا المجال يصبح الزوجان قويّين في علاقتهما مع الآخر، وينال العازب (والعازبة) مكانته في مجتمع لم يكن يقدّر البتوليّة. وهكذا ارتفعت قيمة الزواج والزوجان، كما ارتفعت قيمة البتوليّة وحياة الشابّ والشابّة في هذه الحالة الجديدة التي هي درّة ثمينة في جبين الكنيسة.

أجل، في كلام بولس الرسول، لم يعد للزواج الطابع المطلق الذي كان له في الرؤية اليهوديّة التي شجبت كلّ رفض للإنجاب. بل جاء الرسول يقدّم للمسيحيّ البتوليّة التي يختارها في اتّحادٍ ناشط مع الربّ من أجل عائلة أوسع من العائلة الصغيرة التي نعرفها والتي تتألف من رجل وامرأة وبضعة أولاد.

في آ 25، يبدأ بولس فيعطي نصيحة من عنده، لا أمرًا من عند الربّ، إلى البتولين والبتولات، إلى غير المتزوّجين: "أعطي رأيي كرجل جعلته رحمةُ الربّ موضع ثقة". وما هي هذه النصيحة العامّة؟ الحياة في البتوليّة. فإن تزوّج وجد مشقّة في هموم الحياة، والرسول يريد أن يبعده عنها. إذن، ينتفع الإنسان إن هو لم يتزوّج. وما هي الأسباب؟

السبب الأوّل: صارت نهاية العالم قريبة. هنا يتذكّر بولس الضيق الحاضر ومجيء الدهر الآتي. فلا نزد ضيقًا على ضيق، ولا نجعل على نفوسنا رباطات جديدة واهتمامات حياة زوجيّة نحن بغنى عنها. وفي هذا الخطّ يدعو بولس حتّى المتزوّجين أن يعيشوا نوعًا من العفّة. فلا تسيطر عليهم أمور الزواج. هذا ما يُسمّى في الكنيسة العفّة في الزواج على مثال العفّة في البتوليّة. أيظنّ الزوجان أنّ كلّ شيء مباح لهما؟ كلاّ. فقد يُفرض على الواحد وعلى الاثنين معًا لسبب من الأسباب، الامتناع عن الحياة الزوجيّة والممارسة الجنسيّة. عندئذٍ يعيش الرجل وكأنّ لا امرأة له. وتعيش المرأة وكأنّ لا زوج لها. يصبح الواحد والآخر وكأنّهما ليسا من هذا العالم فلا يتصرّفان كما يتصرّف أهل هذا العالم على مستوى المعاطاة الزوجيّة.

السبب الثاني: رضى الربّ. غير المتزوّج يهتمّ بأمور الربّ، كيف يرضي الربّ. والعذراء وغير المتزوّجة تهتمّان بأمور الربّ فتنالان القداسة نفسًا وجسدًا. هنا نجد نفوسنا في خطّ أشعيا النبيّ الذي يتكلّم عن نسل روحيّ في أورشليم. طوبى للعاقر التي لم تلد ولم تعرف أوجاع الولادة، وللمهجورة التي لا زوج لها. فأبناؤها أكثر من المرأة التي لها زوج (أش 54: 1). وما يقال عن المرأة يقال عن الرجل. وما قيل عن أورشليم يُقال عن البتولات والبتولين.

في هذا المجال، يشفق بولس على المتزوّج، يهمّه أن يرضي امرأته، يكاد ينسى الربّ. ويشفق على المتزوّجة: تهتمّ بأمور العالم وكيف ترضي زوجها (آ 34). ماذا يقول بولس لمثل هذا وتلك؟ أريدكم أن تخدموا الربّ بدون ارتباط. أجل، هذه الطريق ليست الطريق السهلة، ولن يتبع جميع الناس الرسول في ما يقدّم من خيار. بل يعتبر الكورنثيّون ما يقوله لهم هنا بأنّه فخ، بأنّه يحاول أن يعقّد الناس بشكل اعتباطيّ. لا، ما يريده بولس هو خير المؤمنين.

ويخاف بولس من سلطته الرسوليّة التي قد تفرض نفسها على من لا زوجة له، على من لا زوج لها، سواء تزوّجت وترمّلت، وقد يكون هذا وضع بولس كما يقول عدد من الشرّاح، سواء ما تزوّجت ويتقدّم إليها طالب زواج. إن كان لا بدّ من الزواج فليتزوّج الشابّ ولا يخطأ. ولتتزوّج الفتاة (أو الأرملة) فهي إن فعلت لا تخطأ. والمبدأ الأخير: من تزوّج حسنًا فعل، ومن لا يتزوّج أحسن يفعل. وهكذا جعل البتوليّة أسمى من الزواج في نظرة عامّة ومطلقة، لا في حياة هذا أو ذاك؛ فالإنسان يبقى حرًّا في اختياره، وإن لم يضطرّه الأمر لسبب من الأسباب، فهو يستطيع أن يتزوّج أو لا يتزوّج.

 

3- دعوة الإنسان إلى الحرّيّة (7: 17-24)

إنّ آ 17-24 التي جُعلت بين سلسلتين من التعليمات العمليّة والملموسة بدت وكأنّها ملحق لما قيل وضوء لما بعد. نستطيع أن نحذفها فلا يتبدّل معنى ما قلنا عن الزواج وعن البتوليّة. وظيفة هذه الآيات لا تلفت النظر مع أنّ علاقتها بموضوعِنا علاقة حقيقيّة، وهي تعطي الأساس للزواج والبتوليّة اللذين هما موضوع الفصل السابع في الرسالة الأولى إلى كورنتس.

قدّم الرسول أجوبة ملموسة، فأراح المؤمنين في الكنيسة حين أعطى قواعد محدّدة. ولكنّ "اللاهوتيّ" لا يكتفي بنصائح تتوقّف عند المستوى الرعائيّ. فما هو التحليل العميق لهذه الأسئلة التي طُرحت، وما هو الجواب الأساسيّ الذي يسند هذه الأجوبة الجزئيّة والمتعدّدة؟ أي ضوء يلقيه الرسول على أجوبته كي تعطي ملء معناها وكلّ حقيقتها؟ هناك سوء تفاهم خطير بين ما علّمه الرسول وما يشعر به المؤمنون في كورنتس. فكأنّي بهم يريدون أن يهربوا من حالتهم كبشر. يرجون أن يعيشوا "كملائكة" فيمتنعوا عن الزواج والحياة الزوجيّة. لهذا سوف يشرح لهم بولس أنّ الدعوة التي وصلت إليهم، قد أدركتهم في ظروف حياتهم هي تدعوهم أن يكونوا لله في هذه الظروف عينها التي فيها سمعوا نداء الربّ. أأنت متزوّج، فابقَ على الزواج. أأنت غير متزوّج، فلا تطلب امرأة. أجل، "على كلّ واحدٍ أن يبقى مثلما كانت عليه حاله عندما دعاه الله" (آ 20). هذا ما قاله في آ 17، وسوف يكرّره في آ 24. أتُرى سيفهم الكورنثيّون؟

الكلمة المفتاح في هذا المقطع هي الدعوة. ماذا كان الواحد حين دعاه الله، حين ارتدّ إلى الإيمان المسيحيّ؟ وأعطى الرسول مثلين: الأوّل على مستوى الختان. إن دُعيت وأنت يهوديّ، إذن وأنت مختون، فلا تحاول أن تُخفي ختانك. إن دُعيت وأنت يونانيّ، إذن، غير مختون، فلا تختتن. فالختان لا يزيد شيئًا على الإيمان بيسوع وعلى الخلاص الذي نطلبه. وعدم الختان لا يُنقص شيئًا. المهمّ لا الختان أو عدم الختان، بل العمل بوصايا الله. ونقول الشيء عينه على مستوى الزواج والبتوليّة.

والمثل الثاني الذي يه يحاول الرسول أن يُفهم الكورنثّين أن المهمّ هو الحالة التي كانوا فيها حين تلقّوا البشارة وجاؤوا إلى الربّ يسوع. هو مثَل العبوديّة والحرّيّة: "فعلى كلّ واحد أن يبقى مثلما كانت حاله عندما دعاه الله". وعاد بولس إلى العمق اللاهوتيّ: العبد حرّ في المسيح. والإنسان الحرّ عبد للمسيح. أما سمّى الرسول نفسه مرارًا "عبد يسوع المسيح" في بداية رسائله؟ إن كنت عبدًا فالمسيح قد افتداك، وإن كنت حرًّا فالمسيح قد افتداك. أجل، في المسيح، لا عبد ولا حرّ، بل الجميع واحد في المسيح، والمهمّ هو الخليقة الجديدة التي صرنا إليها.

وجاءت آ 21 في قراءتين اثنتين؛ أو: استفد من وضعك كعبد، أو: اغتنم الفرصة كي تتحرّر. أما هذا الذي فعله أونسيمُس حين هرب من عند فيلمون سيّده ومضى إلى بولس، إلى رومة، وهناك صار مسيحيًّا؟ أمّا نحن فنفهم هذه الآية كما يلي: إنّ قوّة الإنجيل تُتيح للإنسان أن يستفيد من الوضع الذي هو فيه كي يحوّله من الداخل. وهكذا لا نستطيع أن نقول إنّ بولس هو من المحافظين الذين قبلوا بالوضع الحاضر، وكأنّي به ما أراد تبديل الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة. أمّا أفضل تفسير لهذه الآية فالرسالة إلى فيلمون حيث أعاد الرسول أونسيمُس إلى سيّده ليخدمه كما من قبل، بعد أن صار مفيدًا لبولس وفيلمون، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، طلب بولس من فيلمون أن يعامل عبده كأخ له. لقد تحرّر أونسيمُس بعد أن اشتراه بولس من فيلمون المديون للرسول بغير الفضّة والذهب.

إنّ نداء الربّ يدرك الإنسان حيث هو وكما هو. يبقى عليه أن يستفيد من النعمة التي نالها ويسير بموجب هذه النعمة. فمن تخيّل أنّه يريد أن يزداد قداسة وطهارة، فيقمع الحياة الجنسيّة عنده في الزواج، أو يحاول أن يمحوها فيه، أو يبدّل وضعه الاجتماعيّ، فهذا لم يفهم شيئًا من نعمة دعوة الله، ومن الحرّيّة التي دُعي إليها حين دُعي إلى الإيمان. فالحال الخارجيّة لا تزيد شيئًا ولا تنقص شيئًا. أكان الإنسان مختونًا أو غير مختون، أكان يهوديًّا أم يونانيًّا، أكان عبدًا أو حرًّا. أكان متزوّجًا أو عائشًا في البتوليّة. إنّ النعمة التي نلناها حين ربطنا حياتنا بالمسيح تحوّلنا من الداخل فتصبح حالنا حالاً مسيحيّة، حال يسوع المسيح الذي كان غنيًّا فافتقر ليغنينا بفقره، الذي هو الله فصار إنسانًا ليجعل منّا أبناء الله.

 

خاتمة

ذاك هو غنى هذا الفصل من الرسالة الأولى إلى كورنتس، وفيه يجيب بولس عن أسئلة محدّدة طرحها عليه الكورنثيّون. لسنا هنا أمام مقالٍ كاملٍ حول الزواج والبتوليّة، بل أمام ملاحظات وتعليمات تتوجّه إلى أشخاص متزوّجين، إلى البتولين والبتولات، إلى الخطّاب وإلى الأرامل. أمّا المبدأ العامّ الذي يُشرف على هذه الحلول المختلفة، فنجده في قلب الفصل الذي يحدّثنا عن حرّيّة الاختيار بنعمة الله: ليبقَ كلُّ واحد منكم أمام الله مثلما كانت عليه الحال حين دعاه. وهكذا توجّه بولس إلى جماعة مسيحيّة خارجة من العالم الوثنيّ، فحاول أن يرفعها إلى قمّة العالم المسيحيّ، سواء على مستوى الزواج والحياة الزوجيّة، وسواء على مستوى الحياة في البتوليّة. وتعليمه ما زال حيًّا إلى اليوم لأنّ مجتمعنا أبعد ما يكون عن مساواة بين الرجل والمرأة وعن تقدير للبتوليّة حقّ قدرها وللعفّة في الزواج.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM