غريغوريوس النيصيّ (+ 394)

غريغوريوس النيصيّ (+ 394)

غريغوريوس هو أخو باسيليوس الأصغر. رُسم قارئًا وهو شاب، ثمّ مال إلى البلاغة وتزوّج. فأعاده صديقُه، غريغوريوس النازينزيّ، إلى الحياة النسكيّة. فصار كاهنًا ثمّ مطران نيصة في آسية الصغرى.

هو فكر اغتنى بثقافة دنيويّة، وتغذّى بالفلسفة الأفلاطونيّة. استكشف إيمانه بقوّة فكره. ألّف خمس عظات حول صلاة الربّ، فتفسيرُه الملطّف يميِّز الحركة البلاغيّة.

أبانا الذي في السماوات

حين أدخل موسى شعبَ إسرائيل في أسرار الجبل، لم يسمح لهم بأن يقتربوا من الله إلاّ شرط أن يتطهّروا أوّلاً بالعفّة والاغتسال. ولكن بعد هذه التطهيرات بعينها، ما استطاعوا أن يتحمّلوا قدرة الله. أرعبتهم النارُ والظلمة والدخان والأبواق. فلبثوا بعيدين، وطلبوا من مسوى أن يكون لهم وسيطًا ليعرفوا إرادة الله. ما كان باستطاعتهم أن يقتربوا منه ولا أن يحتملوا نظره.

غير أنّ مشترعنا وربّنا يسوع المسيح، قادنا إلى النعمة الإلهيّة، فما كشف لنا جبل سيناء المغطّى بالظلمة والدخان، وما أسمعنا صوت الأبواق الذي يزرع الرعب، وما طهّر النفوس بعفّة تدوم ثلاثة أيّام ولا باغتسالات في الماء. ما ترك الجمهور كلَّه عند أسفل الجبل بحيث يمنح لشخصٍ واحد أن يصعد إلى فوق ويضيع في ظلمة مجد الله. فقادنا، لا إلى الجبل، بل إلى السماء ففتحها لفائدة البشر. ما أعطانا فقط أن نرى الله، بل أن نذوق من ملئه، وأعطى جميع الذين يقتربون منه، أن يشاركوا في الطبيعة السامية. ما أخفى في الظلمة، المجد الذي لا يُوصَف، وكأنّه يحوِّله عن الذين يطلبونه، غير أنّ شعاع مجده نفذ في المجد الذي لا يُوصَف. استقى مياه التطهير، لا من ينابيع غريبة، بل من ينبوع نفوسنا (سواء طانت طهارة النظر أو القلب) الذي لا يعرف الخطيئة.

ما فرض علينا ربُّنا فقط أن نمتنع عن الحياة الزوجيّة الشرعيّة، بل أن نهرب من تحرّكات الحواسّ والرغبات. وهكذا قادنا بالصلاة إلى الله.

قال يسوع: "حين تصلّون قولوا: أبانا الذي في السماوات. حين يعطيني جناحين مثل الحمامة، قال داود في مقطع من مقاطع مزاميره. أودّ أن أهتف مثله: من يعطيني لأرتفع ارتفاع الروح إلى علوّ هذه الكلمات السامية، فأترك الأرض، وأعبر بحر الأهوية، وألج جمال السماء. من يعطيني أن أرتفع إلى النجوم وأشاهد معجزاتها، أن أمضي إلى البعيد وأتجاوز كلّ ما هو حركة وتبدّل لكي أدرك الجوهر الذي لا يتبدّل، والقدرة اللامتزعزعة التي لا تستند سوى إلى نفسه والتي توجِّه كلّ موجود وكلَّ ما يرتبط بمخطّط الكلمة الإلهيّة والذي لا يُسبر. من يعطيني أن أترك في الروح كلّ ما هو خاضع للتقلّبات الباطنيّة لا تثبّت في ما لا يتحرّك ولا يتبدّل. حينئذٍ إستطيع أن أطلق أكثر الألفاظ حميميّة وأقول: أبّا.

أيّ قلب يجب أن يكون لي لكي أستعمل هذا اللفظ! أيّة حميميّة وأي وجدان لأدرك مجد الله الذي لا يُدرك، بقدر الإمكان، في انطلاق من كلمات تعبِّر عن طبيعته. يجب أن نعرف أنّ طبيعة الإنسان خان، قداسة، نشوة، قدرة، مجد، نقاوة، قداسة، وأنّها تعبّر دومًا عن نفسها في الأمور عينها وبالشكل عينه، تتجرّأ أن تستعمل مثل هذا اللفظ وتدعو هذا الجوهر الإلهيّ "أبًا"، مهما كانت فكرة الإنسان الذي يستنير بالكتاب المقدّس والعقل البشريّ.

من الواضح أنّ إنسانًا عاقلاً لا يسمح لنفسه بأن يستعمل لفظ "أب" إذا لم يرَ شبهًا معه. فالذي هو بطبيعته صالح لا يمكن أن يلد الشرّ. والذي هو قدّوس لا يلد النجاسة. وما ثو ثابت لا يلد ما هو وقتيّ وعرضيّ، وأبو الحياة لا يلد الموت. ومن هو طاهر ولا وصمة فيه، لا يلد الرغبات المشينة ومن هو الإحسان بالذات لا يلد البخلاء والذي هو كمال لا يمكن أن يكون أبا الذين يخضعون للخطيئة.

فإن دخل إلى نفسه ذاك المحتاجُ إلى الكمال، فاكتشف ضميره بعد أن ثقبته الرذائل والنجاسات. وإن افتخر الخاطئ بقرابته مع الله بحيث يدعو أبًا ذاك الذي هو الطهارة، دون أن يتطهّر قبل ذلك من خطاياه، مثل هذا الإنسان معتدّ بنفسه ومجدِّف. وكأنّه يدعو ذلك من إثمه. فاسم الأب يدلّ على علاقة بنوّة، فإن دعا ضميرٌ نجسٌ الله أبًا، نسب له مسؤوليّة فساده.

قال الرسول: لا نستطيع أن نجمع النور والظلمة، بل نجمع النور مع النور والبرّ مع البرّ والجمال مع الجمال، والكمال مع الكمال. فالنقائض قريبة من المشابهات. فالشجرة الصالحة لا يمكن أن تعطي ثمرة رديئة (مت 7: 18). فمن كان قلبه قاسيًا، كاذبًا، حسب كلام الكتاب، بحيث يتلفّظ بهذه الأقوال، فليعرف أنّه لا يدعو أبا السماء بل أبا جهنّم الذي هو كاذب وأبو الكذب البشريّ (يو 8: 44). إنّه خطيئة وأبو الخطيئة. لهذا السبب، فالذين يخدمون رغبات اللحم والدم يدعوهم الرسول: أبناء الفساد (يو 17: 21)، الإنسان الكسولَ والمخنَّت، ابن النساء العاهرات.

أمّا الذين ضميرهم بلا عيب فيدعَون أبناء النور والنهار، والذين استقوا قدرة الله، أبناء القدرة. فإن كان الربّ يعلّمنا لكي ندعو الله في الصلاة: أبّا، يبدو لي أنّه يريد في الأساس أن يفرض علينا حياة كريمة، كاملة. فالحقيقة لا يمكن أن تعلّم الكذب لتجعلنا نحسب نفوسنا غير ما نحن، فنأخذ اسمًا لا يتجاوب مع طبيعتنا، بل يجب علينا ونحن ندعو "أبّا" ذاك الذي هو قداسة وبرّ وصلاح، أن نبرهن بحياتنا عن قرابتنا معه.

هل أنت واعٍ للمجهود الذي يتطلّب هذا، للحياة التي يجب أن نعيشها؟ أيّة غيرة يجب أن نبذل لنرتفع بنفوسنا إلى هذه الحميميّة التي تسمح لنا بأن ندعو الله "أبّا". وإذا التصقت بالمال، أو سُحرتَ بسحر العالم، إن طلبتَ المديح من البشر، إن لاصقت رغبات اللحم والدم، ثمّ قلتَ هذه الصلاة، فماذا يفكّر ذاك الذي يتفحّص قلبك حين يسمع كلماتك: أتخيّل الله يجيب بهذا القول: حياتُك نجسة، وتدعو أبًا من هو الأب اللافاسد والقدّوس! لماذا تدنِّس بلسانك النجس الذي لا عيب فيه؟ لماذا تغتصب هذا اللقب؟ لماذا تجدِّف على قداسة الله؟ فلو كنت ولدي، لدللت على صفاتي الإلهيّة في حياتي. فأنا لا أجدُ فيك صورة طبيعتي. فأنت منها على طرف نقيض. أيّة وحدة يمكن أن تكون بين النور والظلمة، أيّة قرابة بين الحياة والموت، أيّ رباط بين ما هو نقيّ وما هو نجس؟

كبيرة هي المسافة التي تفصل الكريم عن البخيل. لا نستطيع أن نوفّق بين اللطف والقساوة وهما يتنافران. آخر هو أبو رذائلك. أولادي يمتلكون كمالات والدهم. ابنُ الرحيم رحيمٌ، وابن النقيّ نقيّ. النجس غريب عمّا لا نجاسة فيه. وبمختصر الكلام، الصالح يلد الصالح، والبارّ يلد البارّ. "أنتم لا أعرف من أين أنتم" (لو 13: 25). من الخطر، قبل إصلاح حياتنا، أن نتلو هذه الصلاة، وندعو الله أبانا.

لنقل أيضًا هذه الأقوال. وبقدر ما نكرّرها نلج معناها الخفيّ. أبانا الذي في السماء. سبق وبيّنّا بسرعة أنّ علينا أن نتوافق مع الله بحياة من الفضيلة. ولكن يبدو لي أنّ هذه الأقوال تحمل أيضًا معنى أعمق. هي تشير إلى وطننا الذي خسرناه، إلى أصلنا النبيل الذي تغرّبنا عنه.

في مثل الشابّ الذي ترك البيت الوالديّ وفضّل الحياة مع الخنازير، كشف لنا الكلمة (يسوع المسيح) الشقاء البشريّ. فعرض بشكل خبر ورواية، ضلالنا وحياتنا الفاسدة. فالمبذّر (الابن الضال) لم يسترجع سعادته الأولى إلاّ بعد أن وعى الانحطاط الحاضر الذي هو فيه، ودخل إلى ذاته، وردّد أقوال التوبة. بدت أقواله شبيهة بأقوال صلاتنا. قال: يا أبي، خطئتُ إلى السماء وأمامك (لو 15: 18) ما كان اتُّهم بأنّه خطئ إلى السماء لو لم يكن مقتنعًا أنّ السماء كانت وطنه، وأنّه أذنب حين تركها. هذا الإقرار سهَّل له العودة إلى والده. والوالد أسرع إليه، ارتمى على عنقه وقبّله. أعطاه الحلّة، لا حلّة جديدة بل الأولى التي خسرها بعصيانه حين ذاق الثمرة المحرّمة فجعل نفسه عريانًا. والخاتم في يده يعني الختمَ المحفور في الحجر لصورة مستعادة، وحمى قدميه بنعلين بحيث يسحق رأس الحيّة دون أن يتعرّض لعضّتها.

وكما أنّ هناك الأب هناك، سهَّل للشاب، العودةَ إلى البيت الوالديّ – والبيت الوالديّ يعني السماء الذي خطئ إليه. كما قال لوالده – كذلك هنا علّمنا أن ندعو الآب الذي في السماوات. فالربّ يريدك أن تفكّر بوطنك الجميل لكي تحفر في نفسك رغبة محرقة إلى الخير، وأن يرجعك في طريق العودة. فالطريق التي تقود إلى السماء ليست سوى الهرب من الخطيئة. فلا سبيل آخر للهرب منه، كما يبدو لي، إلاّ أن نتشبّه بالله. أن يصير الإنسان شبيهًا بالله يعني أن يصير بارًّا، قدّيسًا، صالحًا والباقي. فإن اجتهد إنسان بكلّ إمكاناته، بأن يحقّق هذه الفضائل بحياته، فهو ينتقل انتقالاً طبيعيًّا وبدون تعب، من هذا الوجود الأرضيّ إلى المدينة السماويّة. لا شيء يفصل الإلهيّ عن البشريّ. ولا حاجة إلى حيلة لتنقل بشريّتنا الثقيلة والتعبة، الأرضيّة إلى الحياة اللاجسديّة والروحيّة. فكما أنّ لا مسافة بين الفضيلة والرذيلة، يبدو لي أنّ إرادتنا وحدها تجعلنا نجد نفوسنا حيث تحملنا رغبتنا. بما أنّ لا مجهود نقوم به لاختيار الخير، وأنّ الاختيار يجعلنا نمتلك غرضه. تستطيع، في اتّحادك بالله، أن تسكن منذ الآن في السماء. إذا كان الله في السماء، كما يقول سفر الجامعة (5: 1) فأنت متّحد بالله (مز 73: 28): من اتّحد بالله وجد نفسه بالقرب منه، بدون أيّ شك. فإذا أمرنا الله في صلاتنا، أن ندعوه "أبًا" فهو يأمرك بكلّ بساطة أن تتشبّه حياتك، بالآب السماويّ. وهو يأمرك أيضًا بشكل صريح حين يقول: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ كامل هو" (مت 5: 18).

فإن فهمنا معنى هذه الصلاة، فقد حان الوقت لنعدّ نفوسنا فتتلفّظ بهذه الكلمات وتقول بثقة: أبانا الذي في السماوات. وبما أنّ شبهنا بالله جليّ، الذين قبلوه أعطاهم أن يصيروا أولاد الله، وتقبُّل الله يعني تقبُّل كماله – فهناك أيضًا علامات طبيعة شرّيرة تستبعَد من ابن الله، لأنّه يحمل صورة معاكسة، أتريد أن تعرف علامات طبيعة شرّيرة؟ الحسد، البغض، الافتراء، الكبرياء، البخل، الطمع، اللاشبع، الطموح الذي يمرِّض. كلّ هذا يدلّ على عكس صورة الله. فإن حمل إنسان كلَّ هذه النجاسات ودعا الآب، فأيّ أب يسمع له؟ لا شكّ، ذاك الذي يشبهه. ويكون أبا جهنّم لا أبا السماء. لا يتعرّف إليه إلاّ ذاك الذي يشبهه. فصلاة الخاطئ المنغمس في الخطيئة تنادي الشيطان. ومن هرب من الخطيئة وعاش في الفضيلة، يدعو الآب الذي هو الصالح.

فحين نقترب من الله، نتفحّص أوّلاً حياتنا. فإن وجدنا فيها صورة الله، حينئذ وحينئذٍ فقط نجسر أن نتلفّظ بهذه الكلمات. فالذي علّمنا أن نقول "أبانا" ما سمح لنا أن نكذب. والذي عاش حسب أصله الإلهيّ النبيل، تتطلّع عيناه إلى المدينة السماويّة. فيدعو الملك السماويّ أباه، والسعادة وطنه.

ماذا يعني هذا؟ يجب أن تفكّر في الخيرات العلويّة، التي هي لدى الله، هناك نجعل أساسات مسكننا، نودع غنانا، نثبّت قلبنا. حيث يكون منزل هناك أيضًا يكون قلبك ويجب أن نتأمّل على الدوام جمال الآب ونملأ منه نفسنا. فالله لا يحابي أحدًا (روم 2: 11)، كما يقول الكتاب. فاحفظ جمالك من كلّ هذه النجاسات. فلا يشوّهك الحسد ولا الكبرياء ولا ما يشوّه الجمال الإلهيّ.

حين تصل إلى هنا تستطيع أن تدعو الله بثقة بنويّة، وتنادي ربّ الكون أباك. فيحوّل نحوك نظره الأبويّ، ويلبسك الحلّة الإلهيّة، ويجعل الخاتم في إصبعك، ويضع في قدميك نعلَي الإنجيل فتنطلق في الطريق العلويّ. فيعيدك إلى الوطن السماويّ بيسوع المسيح ربّنا الذي له المجد والسلطان في دهر الدهور. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM