الرؤية الأخيرة 10: 1-12: 13

الرؤية الأخيرة

10: 1-12: 13

حين أراد الكاتب أن يختتم كتابه قدّم لوحة تاريخيّة كبيرة أنهاها بنظرة إسكاتولوجيّة، وجعلها في إطار رؤية حدّد تاريخها بدقّة مدهشة. نحن الآن في أيّام كورش (10: 1)، والسنة الثالثة لحكمه في بابل تقابل سنة 535 ق.م. (رج 6: 29). و"الكلمة" التي سوف يتقبّلها، أي التعليم الذي سينقله لن يصبح مفهومًا إلاّ بالرؤية التي تفارقه.

1- الإطار الإخباريّ والرؤية (10: 2-21)

إنّ حالة الضيق التي فيها يجد نفسه شعب الله، قاد دانيال إلى صوم دام ثلاثة أسابيع (10: 2)، فلبس الحداد، وناح. وبما أنّنا في "الشهر الأوّل"، تضمّنت أيّام النواح هذه عيد الفصح وأسبوع الفطير (14-21 نيزان). قد تلمّح هذه الإشارة إلى توقّف الفرح الفصحيّ بعد أن توقّفت شعائر العبادة بسبب اضطهاد أنطيوخس. فحملان الفصح لا يمكن أن تُذبح إلاّ في هيكل أورشليم الذي كان قد تدنّس. وحصلت الرؤية في الرابع والعشرين من الشهر. فإن أخذنا بحساب الكلندار (الروزنامة) الكهنوتيّ القديم، الذي تعدّ أشهره ثلاثين يومًا، والذي تبدأ السنة فيه يوم أربعاء (تك 1: 14-18: خلق النيّرين في اليوم الرابع)، يكون الرابع والعشرون من الشهر الثاني بداية أسبوع بعد السبت الذي يلي أسبوع الفطير. وحسب لا 23: 10-11، هو يوم تقدمة الحزمة الأولى.

بدأ دانيال فذهب إلى شاطئ النهر الكبير الذي هو هنا دجلة (10: 3-4). وجاء وصفٌ للملاك الذي ظهر للرائي، مستلهمًا حزقيال ف 1 و9. غير أنّ لباسه لباس كهنوتيّ مع القميص المصنوع من الكتّان (الكتّونة) والحزام الذهبيّ (10: 5-6). حين رأى رفاق دانيال الرؤية هربوا. وهو ارتعد فلم تبقَ فيه قوّة وتحوّلت نضرته إلى ذبول (10: 7-9). غير أنّ دانيال "الرجل المحبوب" (يقابل رغبة الله) (رج 9: 23) أوقف على رجليه بهذه الرؤية السرّيّة، لأنّه مكلّف بخدمة مهمّة من أجل شعبه (10: 10-12).

هنا يقدّم النصّ أصحاب الحرب السماويّة التي يرافق حرب الممالك الأرضيّة: فلكلّ واحد في العلاء "أمير" ملاك يمثّله ويرافقه. ومخائيل "أحد أمراء الصفّ الأوّل" (أحد رؤساء الملائكة الأربعة) يساند شعب الله. وهناك أيضًا "أمير فارس" و"أمير اليونان". إنّ نصّ 10: 13 يجب أن يصحَّح مع ترجمة تيودوسيون التي قرأت نصًّا عبريًّا آخر: "مخائيل أحد أمراء الصفّ الأوّل، جاء لمساعدتي، وتركته هناك قرب أمير ملوك فارس". ومهما يكن من أمر فـ"الأمير الذي يتراءى لدانيال، سوف يشرح له الرؤية المعقّدة الآتية.

توخّت بداية الحوار (10: 15-20) أن تشجّع الرائي بعد أن تضايق وأمسك به القلق. جاءه "شبه ابن البشر" ولمس فمه ودعاه إلى استعادة قواه. وفي النهاية يرينا النصّ أمراء السماء الذين يشرفون على سلطات الأرض: أمير فارس، أمير اليونان، و"ميخائيل أميركم" والمدافع عن شعب الله (10: 20-21). إذن، لعب الملاك الموحي هذا الدور لدى "داريوس الماديّي" (رج 6: 1) أي ساعة تحقّقت العودة من المنفى. كلّ هذه الكرونولوجيّا (تسلسل الأحداث) مصطنعة، لأنّ الخبر سوف يُروى فيما بعد.

2- مسيرة التاريخ (11: 2-45)

هنا نتعرّف إلى هويّة الأشخاص وإلى توالي الأحداث الذين نراهم بشكل تلميح يشبه الألغاز التي يجب أن نفكّكها. لا شكّ في أنّنا لسنا أمام إنباء حقيقيّ يُطلق في نهاية سبي بابل. بل أمام نظرة إلى تاريخ معروف، تهدف إلى وضع الظروف الحاضرة في أفق المستقبل. نحن أمام لاهوت التاريخ، هذا التاريخ الذي هو تنفيذ مخطّط رُسم "في العلى" ويوجّهه أمراء السماء الذين يوجّهون قوى الأرض.

يلمّح النصّ إلى داريوس الأوّل وحروب الفرس ضدّ اليونان (11: 2ب). ولكن الكاتب يخلط بين الملوك الفرس فيجعل من داريوس الأوّل الملك الرابع. ويتمّ الانتقال حالاً إلى الإسكندر. بعده (11: 3) تُقسم مملكته. ثمّ يتركّز الانتباه بعد الآن على المواجهات بين ملوك الشمال (السلوقيّين في أنطاكية) وملوك الجنوب (أو اللاجيّين، البطالسة في مصر)، وذلك منذ أسّس سلوقس الأوّل سلالة تزاحم سلالة بطليمُس الأوّل (11: 5).

ويسير التاريخ بسرعة فنصل حالاً إلى زواج أنطيوخس الثاني وبرنيقة ابنة بطليمُس الثاني، حوالي سنة 250 (11: 6). بعد ذاك بدأ الصراع بين المملكتين، وتوالت الهزائم والانتصارات (11: 7-13) إلى أن قام أنطيوخس الثالث بهجوم على مصر بعد سنة 204. وتواصلت الحروب في عهد أنطيوخس الثالث الذي ضمّ حوالي سنة 200 "الأرض المجيدة" أي اليهوديّة (11: 14-16، الأرض الفاخرة). وكانت صراعات لاحقة (11: 17-19) انتهت بموت أنطيوخس الثالث حين كان يسرق هيكلاً في أليمايس (أي أرض عيلام) ليملأ خزائنه التي أفرغتها الحروب. وأشار النصّ بشكل سريع إلى حكم سلوقس الرابع مع حاشية تذكر عمل هليودورس في هيكل أورشليم (حوالي 176). ولكن هليودورس سوف يقتل سيّده (11: 20).

ويبدأ التوسيع بعد أن جاء "شخص حقير" فاستولى على الملك (11: 21): هو أنطيوخس الرابع. ويلمّح النصّ إلى خلع أوتيّا الثالث سنة 170 (11: 22)، ثمّ إلى الاستعدادات الحربيّة ضدّ مصر (11: 23-25). بعد ذلك الوقت، تصوّر الأحداث بتفاصيلها، فيرى القارئ نموّ مشاريع أنطيوخس "ضدّ العهد المقدّس" لهلينة (طبع البلاد بالطابع الهلّينيّ، اليونانيّ، بحضارة وبديانة) البلاد (11: 30ب). ونشهد تدنيس المعبد وجحود "الذين دنّسوا العهد" (11: 31-32أ). وتجاه هؤلاء صار "الذين يعرفون إلههم"، صار "العقلاء" معلّمي الكثيرين (الجموع الكثيرة) (11: 32ب-33أ). هنا عاد الكاتب إلى نشيد عبد يهوه الرابع (أش 52: 13-53: 12) وطبّقه على شهداء اضطهاد أنطيوخس الرابع (11: 33ب).

أمّا الثورة التي قام بها المكابيّون فتعتبر "نصرة يسيرة" (11: 34). هذا ما يوضح أنّ صاحب كتاب دانيال ينتمي إلى تيّار الأتقياء (حسيديم) الذي يضع ثقته في الله ولا يجعل في حسابه انتصار السلاح. هؤلاء الأتقياء الذين انضمّوا إلى يهوذا المكابيّ (1 مك 2: 42) هم "العقلاء" (مسكيليم). إستعاد الكاتب أش 52: 13 كلامًا عن عبد يهوه: ينجح، يكون فهيمًا، يكون من العقلاء. ولكنّه مع ذلك سوف يموت. وما قيل عن عبد فرد من عبيد الله ينطبق هنا على مجموعة كاملة من المؤمنين قدّمت حياتها من أجل إيمانها. لقد قاسوا المحنة حتّى الموت من أجل تنقيتهم (11: 35). وبموازاة هذا الوضع، كان سلوك أنطيوخس موضوع هجاء لاذع (11: 36-39). تركت عبادة الآلهة السلوقيّين فألّه نفسه وعبد نفسه كـ "إله متجلّ". هذا هو معنى أبيفانيوس. وهو يواصل الحرب بهذه النيّة.

بعد 11: 40 نصل إلى المنظار الأخير. نتوقّف عن مرافقة التاريخ في مسيرته بعد أن وصلنا إلى النقطة التي يقف فيها الكاتب. إذن، هو تخيّل في ألفاظ اصطلاحيّة سلسلة العمليّات الحربيّة (11: 40-45) ليدلّ على النهاية القريبة للطاغية. فهذا الطاغية الذي ألّه نفسه، أراد أن يواجه الإله الحقيقيّ. عند ذاك قدّم الكاتب نهاية أنطيوخس بشكل لا يرتبط بالأحداث. هي حملة كبيرة ضدّ البلدان المجاورة لإسرائيل: مصر ثمّ ليبيا والنوبة. بعدها جاء الطاغية إلى "الأرض المجيدة" (الأرض المقدّسة). ولما جاءته أخبار من الشمال والشرق، نصب خيامه "بين البحر والجبل المجيد المقدّس" (أورشليم، جبل الفخر المقدّس). عند ذاك "تأتي نهايته" (11: 45).

هي نظرة اصطلاحيّة. فقد ذهب أنطيوخس، لا إلى مصر، بل إلى أليمايس حيث مات في ربيع سنة 164. ولكنّ الخبر لم يصل إلى أورشليم إلاّ متأخّرًا. فتخيّل الكاتب عودة الطاغية ضدّ بيت الله. وهكذا اختفى الملك في هذا الصراع المباشر مع الله دون أن يجد من يناصره (11: 45ب؛ رج 2: 45؛ 8: 25).

2- القول النبويّ الأخير (12: 1-4)

في نهاية الرؤيا التي رافقت التاريخ في مسيرته، وضع الكاتب قولاً نبويًّا يشكّل ذروة الكتاب (12: 1-4). هنا يأخذ النصّ طابعًا شعريًّا. نترك مجال الأرض ونرتفع إلى السماء. فميخائيل، الأمير الكبير، ورئيس الجند السماويّ والشفيع الخاصّ لشعب الله، يشرف على الخلاص في النهاية. ففي عمق الأزمة، انغمس شعب الله في الضيق. ولكنّ تلك علامة النهاية القريبة. ففي الأقوال النبويّة "النهاية" هي دومًا قريبة، قريبة على المستوى السيكولوجيّ بما في القلوب من أمل ورجاء، لا على المستوى الزمنيّ.

عند ذاك ينجو شعب الله، لا كلّه فردًا فردًا، بل الأعضاء الذين سجِّلوا في سجلاّت السماء (الكتاب، أش 4: 2-3). فالذين يظلّون على قيد الحياة، يدخلون هكذا إلى "العالم الجديد". ولكن ما مصير الذين ماتوا ولا سيّما الشهداء منهم، ولمّح إليهم 11: 33، 35. حوت الكتب المقدّسة قبل ذلك الوقت صورة نستطيع أن نفهمها بشكل حرفيّ: إعلان القيامة (حز 37: 1-14؛ أش 26: 19). إذن، هؤلاء يستيقظون ليدخلوا إلى "الحياة الأبديّة". أمّا الآخرون، أعداء الله والجاحدون، فيضمحلّون في الموت الذي هو لهم "العار والذعر الأبديّ" (رج أش 66: 24).

وهكذا صار الشيول أو الأماكن السفلى أو مثوى الأموات، جهنّم التي تدلّ على حرمان الإنسان من الحياة الأبديّة. مقابل هذا، يشعّ العقلاء (11: 33) الذين برّروا الكثيرين ووجّهوهم إلى الله، كالجلد والكواكب (12: 3). ذاك هو الوعد الكبير في هذا الكتاب الذي توجّه بشكل خاصّ إلى شهداء المحنة الكبرى.

وإنّ 2 مك (ملخّص كتاب ياسون القرينيّ) هو صدى لهذا الوعد حين يبيّن أنّ الشهداء وجدوا فيه الشجاعة الضروريّة للموت في الأمانة للإله الحقيقيّ (2 مك 7: 9، 11، 14، 23، 29). فالأمل بالحياة الأبديّة مع الله، الذي استشفّته صلوات بعض المزامير (16: 9-11؛ 49: 16؛ 73: 23-28)، يجد ملء تثبيته في نصوص نبويّة تتحدّث عن قيامة الموتى. فإن قرّبنا هذا الوعد من الدينونة الإلهيّة التي تقود إلى الهلاك القوّة المعادية (دا 7: 26)، تلتق "الحياة الأبديّة" مع صورة "الملك الأبديّ" الذي وُعد به "شعب قدّيسي العليّ" (7: 27). مثل هذا التعليم سيصبح معروفًا في بعض الأوساط اليهوديّة في زمن يسوع.

هذه الرؤية التي جُعلت بشكل "خدعة" في الأزمنة القديمة، ستبقى سرّيّة حتّى اليوم الذي فيه تسمح الظروف بإعلانها، أي في زمن الاضطهاد وتبدّل الأحوال، ساعة تعود شعائر العبادة إلى هيكل تنقّى من نجاسة الأمم. وفي 12: 4، يجب أن نقرأ: يجب أن يبقى الكتاب مختومًا، سرّيًّا، "حتّى يتعلّم الكثيرون وتزداد المعرفة".

4- خاتمة الكتاب (12: 5-13)

في هذا الوقت نعود إلى موضوع رؤية البداية. وقف رجلان سرّيّان على شاطئ النهر ساعة سمح "الإنسان اللابس البياض" (أي الملاك الموحي) سؤالاً يُطرح عليه حول زمن "الانقضاء" (أو: النهاية). أجاب بعبارة قرأناها في 7: 25: زمان، زمانان، نصف زمان. أي ثلاث سنين ونصف السنة، أي نصف الرقم 7 الذي هو رقم الكمال والتمام. وهو يقابل نصف سباعيّة 9: 27، أي 1270 يومًا وهو الوقت الذي فيه توقّفت العبادة في الهيكل (أيلول 167-14 كانون الأوّل 164). كرّس الهيكل لزوش الأولمبيّ (بعل شميم كما في عالم سورية) في 7 كانون الأوّل 167 (2 مك 6: 2). ويُعطى بعد ذلك رقمان: 1290 ثمّ 1335 يومًا. قد يدلّ الرقم الأوّل على الوقت الذي فيه دوّنت النبوءة الكبرى في ف 10-12. والرقم الثاني على الوقت الذي فيه تمّ الكتاب وأعلن، أي شهرين ونصف الشهر بعد تطهير الهيكل. أمّا النبيّ فينال "نصيبه في نهاية الأيّام": إنّه سيشارك في الحياة الأبديّة التي وُعد بها الأبرار في 12: 1-3.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM