ابن الإنسان على عرشه 7: 13-14

ابن الإنسان على عرشه

7: 13-14

ورآى دانيال الله. في سمات شيخ "قديم الأيّام" أتى فأجلس ابن الإنسان على عرشه. ابن الإنسان شخص رمزيّ وهو يقف تجاه الحيوانات الأربعة التي تمثّل الممالك الغريبة التي تعاقبت على الحكم في فلسطين. والمواد التي استعملها الكاتب جاءت من أسطورة الخلق التي اعتاد الناس أن يرووها في بابل، في عيد رأس السنة. دجنّتها الأسفار المقدّسة فبيّنت كيف أنّ الله سيطر على الشواش التي تحاول العودة بالكون إلى العدم. في هذا الإطار، نقرأ ما كتب عن ابن الإنسان في 7: 13-14:

13 ورأيتُ في منامي ذلك الليل،

فإذا بمثل ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء،

فأسرع إلى الشيخ الطاعن في السن،

فقرّب إلى أمامه.

14 وأعطيَ سلطانًا ومجدًا وملكًا،

حتّى تعبده الشعوب من كلّ أمّة ولسان،

ويكون سلطانه سلطانًا أبديًّا لا يزول،

وملكه لا يتعدّاه الزمن.

1- سياق النصّ وفنّه الأدبيّ

جاء الفصل السابع من سفر دانيال بشكل حلم صوِّر (آ 2-14) ثمّ فسِّر (آ 15-27)، فبيّن التاريخ البشريّ السائر إلى غايته لكي يتمّ قصد الله السرّيّ، لبث الكاتب متّصلاً بمسائل عصره الملحّة، فأضاء عليها. لهذا، عاد إلى الوراء بالنسبة إلى عصره فجعل على المسرح شخص دانيال الذي عاش في زمن السبي البابليّ. تأمّل "دانيال" مسيرة المستقبل "في رؤى الليل". فالمستقبل هو تسلسل الممالك التي تسيطر على العالم في شكل مصطلح اكتشفنا في دا 2: بابل، ماداي، فارس، اليونان. مع مجيء الملك اليونانيّ (السلوقيّ) المضطهد، أنطيوخس الرابع، وصل التاريخ إلى ساعة حرجة، فيها يعيش كاتبُ سفر دانيال، غير أنّ هذه الأزمة تطلّعت إلى مجيء اليوم العظيم، الذي رآه الأدب الجليانيّ، قريبًا جدًّا. حينئذٍ تتمّ دينونة الله، ونجاة شعبه، وإقامة ملكوته.

كيف عُرض هذا الموضوع؟ حوّل الكاتب الطرق المصطنعة في أدب انتشر في أوساط عاشت في القرن الثاني ق.م.، الذي لجأ إلى الأحلام يرويها ويفسّرها. ما كان لاختيار هذا الفنّ الأدبيّ من أهميّة، لو لم يكن يُشرف على البنية الأدبيّة في النصّ: إن عرض حلم دانيال بنى مشاهده المتعاقبة بحسب منطق "التخيّل" حيث الرموز تتوالى وتترابط بالنظر إلى مدلولاتها المعروفة.

2- دينونة الله

صوّر القسمُ الأوّل من "رؤية الليل" تسلسل الممالك بشكل رمزيّ، من "البحر الكبير" الكونيّ، الذي حرّكته الرياح، خرجت ذريعة حيوانات هائلة: أسد بجناحي نسر (بابل). دبّ (ماداي). نمر له أربعة رؤوس تحمل أربعة أجنحة (فارس). وحش لا تحديد له، يحمل عشرة قرون (الإمبراطوريّة المقدونيّة حتّى الخليفة العاشر للإسكندر). وفي النهاية، يخرج قرنٌ حادي عشر: عيناه عينا بشر ويتلفّظ بالتجاديف (أنطيوخس أبيفانيوس). نضجت الأمور الآن: عُرضت دينونةُ الملك المضطهد في منظار إسكاتولوجيّ. وانتقل المشهد من الأرض إلى السماء، حيث يظهر الله الديّان (7: 9-10):

9 وبينما كنتُ أرى، نُصبت عروش،

فجلس شيخٌ طاعنٌ في السن.

وكان لباسه أبيض كالثلج،

وعرشُه لهيب نار،

وعجلاتُه نارٌ متّقدة

10 نهرُ نار جرى وخرج من قدّامه،

وتخدمُه ألوف ألوف،

وتقف بين يديه ربوات ربوات،

فجلس أهلُ القضاء وفُتحت الأسفار.

مشهد رائع مهيب. هو ظهور إلهيّ (تيوفانيا) يشبه ظهوري أشعيا (6: 1-4) وحزقيال (1: 4-28). غير أنّ الرمزيّة المستعملة هنا، مختلفة. نقل أشعيا الرموز الملكيّة، فجعلها في إطار عباديّ (في الهيكل). تذكّر حضور الله في السماء، بشكل ليتورجيا واسعة، ووسّع حزقيال رمزيّة الغمام والعاصفة المعروفة، فوضع فوقها صورًا كونيّة، وألّف دانيال الإطار الذي يليق بالله في وظيفته كالديّان الإسكاتولوجيّ، الآتي في نهاية الأزمنة: في هذا المشهد الناريّ، لم نعُد على الأرض. وحول شيخ مهيب يلبس البياض اللامع (علامة النصر)، تبدأ خدمةُ الملائكة في مشهد ليتورجيّ. والآيتان التاليتان (آ 11-12) أعادتا الناظر إلى الأرض لكي يشهد تنفيذ الدينونة الإلهيّة، ما خرج صوت التجاديف التي تفوّه بها القرن (أنطيوخس) بعد من أذني دانيال حتّى

11 قُتل الحيوان الرابع

وباءَ جسمُه وجُعل وقودًا للنار.

12 أمّا باقي الحيوانات فأزيل سلطانها

لكنّها وُهبت حياة تطول

إلى زمن معيّن.

هي دينونة الملك الذي انتهك الأقداس، فجسّم المقاوم لله. مثل هذا الاستحقاق يهدّد في كلّ لحظة، كلّ سلطان بشريّ تجعله كبرياؤه يقف في وجه القدير. ولكن بالرغم من أنّ الساعة دومًا قريبة، وقريبة جدًّا، فهي لا تأتي إلاّ ساعة يشاء الله. نلاحظ هنا أنّ مرمى الكاتب آنيّ وإسكاتولوجيّ معًا. فالحيوان (الوحش) هو أنطيوخس أبيفانيوس الذي يقاوم الله في الساعة الحاضرة. ولكنّه في عمل اضطهاده، يؤوِّن نوعًا ما، إحدى المركبات الجوهريّة في التاريخ: القوّة المعادية لله التي تتجلّى بوسعها عبر الأزمنة إلى ذروة تلتقي مع الأزمة الإسكاتولوجيّة. لهذا، فدينونة أنطيوخس التي أعلنها الرائي إعلانًا احتفاليًّا، تعلن، تبدأ، تصوّر مسبقًا، الدينونة التي بها ينتهي تاريخ العالم.

3- ملك ابن الإنسان

ولكنّ الدينونة هي الوجهة السلبيّة للأمور. وتقابلها لوحة رمزيّة تدلّ على ما يأتي: "رأيت في منامي..." (7: 13-14).

لا نحاول أن نكتشف هويّة هذا الإنسان (ابن الإنسان، عضو في الإنسانيّة، إنسان بين البشر) وكأنّه فردٌ محدّد. نحن أمام حلم. ويبقى أن نعرف مدلول الرمز المستعمَل هنا. من الواضح أنّ هذا المعنى يكون شفّافًا إن استطعنا تحديد مصدر هذه الصور. من هذا القبيل، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار رمزيّة الميتولوجيّات الشرقيّة القديمة.

ففي بلاد الرافدين، ثمّ في فارس، اتّخذ الصراع الفوبشريّ (فوق البشريّ) بين عالمين متخاصمين على المستوى الكونيّ، كما على المستوى الاجتماعيّ، اتّخذ تمثّلات محدّدة حيث الوحوش التي ولدها الشواش تقف ببشاعتها المرعبة في وجه قوى النظام. نتذكّر هنا فقط صراع تيامات (المياه المالحة) مع مردوك في خبر الخلق البابليّ. أخضعت المونوتاويّة (عبادة الإله الواحد) البيبليّة مثل هذه التمثّلات لتعليم محدَّد حول الله والكون والإنسان والتاريخ. ولكن في هذا المنظار الجديد، اتّخذت المواجهة بين حزب الربّ وقوى الظلمة التي تحاربه، شكلاً ملموسًا يُشبه كلّ الشبه شكل الصور القديمة عن هذا القتال.

والله ملكي من القدم

فاعلُ خلاصٍ في وسط الأرض

كسرت رؤوس التنانين (تنين هو إله بسبعة رؤوس) على المياه

أنت رضضت رؤوس لاويتان

جعلتَه مأكلاً لخفايا يم (الشعب، لأهل البريّة) (مز 74: 12، 14)

وفي مز 89: 10-11

أنت مسلّط على كبرياء البحر (يم)

في ارتفاع أمواجه أنت تهدّئه،

أنت دققت كالرمل رهب (وحش برّيّ يمثّل الشواش)

أو دققت حبّة رهب

بذراع عزّتك بذّرت (فرّخت كالبذار) معاديك

وبعد الانتصار على عالم الشرّ، تقود الخليقة إلى نظامها الأوّل كما جعله الله لها:

12 لك السماوات، لك الأرض أيضًا

المسكونة وملؤها أنت أسّست

13 أنت خلقت الشمال (ص ف و ن) والجنوب (ي م ي ن)

(بعل صافون هو إله العاصفة)

(يمين. قد تكون جمع يم، بحار، وبالأحرى ترمز إلى القدرة الإلهيّة)

فنقول: صافون ويمين أنت خلقتهما

تابور وحرمون باسمك يرنّمان

(تابور هو المكان العالي،

وحرمون، المكان المقدّس والمحرّم على البشر والبهائم)

عبدهما الكنعانيّون، وهما الآن يعبدان الربّ ويخضعان له. إرتبطت اليمين ببعل، أمّا العبرانيّون فتحدّثوا عن يمين الربّ.

14 لك ذراع مع جبروت

تعزّ يدك، ترتفع يمينك

وهكذا تجاه الوحوش الخارجة من عمق البحار، التي ترمز إلى قوى بشريّة تقاوم الله، وضع دانيال "ابن الإنسان" صاعدًا إلى السماء مع الغمام (أو على الغمام، حسب السبعينيّة، في العهد الجديد، نقرأ "مع الغمام"، و"على الغمام"). هو رمز إلى واقع ستتحدّد طبيعتُه فيما بعد. فالمشهد يقدّم جلوسًا على العرش: الشيخُ يمنح ابن الإنسان ملكًا يدوم إلى الأبد، لأنّه يتفرّع من ملكه، أو بالأحرى يُمثّل هذا الملك على الأرض.

نحن نعلم أنّ الإسكاتولوجيّا النبويّة جعلَتْ مجيء ملكوت الله (أش 24: 23) في نهاية التاريخ البشريّ. وهنا، بعد أن تتمّ الدينونة، يتّخذ هذا الملكُ المتعالي على الدوام، توالي ممالك البشر. ولكن مع ذلك، لن يكون واقعًا مجرّدًا، لا منظورًا. فحين يتجلّى على الأرض يستند إلى سند إرضيّ سنفهمه مع شرح الرؤية في نهاية ف 7.

مهما يكن أصل عبارة "قدّيسي العليّ"، فهي تدلّ هنا على الأعضاء الأبرار في شعب الله. هم يتعرّضون للمحنة والاضطهاد (7: 21-25: يحارب القدّيسين ويغلبهم؟ إلى أن يتدخّل الله من أجلهم، فيُصدر حكمه ضدّ الحيوان، ضدّ الوحش. ولكن بعد ذلك "يوهبُ الملك والسلطان وعظمة جميع الممالك تحت السماء كلّها، لشعبه قدّيسي العليّ" (7: 27)، "فيأخذون الملك ويحوزونه إلى أبد الآبدين" (آ 18). ذاك هو مدلول المشهد الذي نرى فيه "ابن الإنسان" المجيد جالسًا على عرشه تميّز عن الله، ولكنّه ارتبط به ارتباطًا وثيقًا. شارك في قداسته، ولكنّه تسلّم منه وحده مُلكه الإسكاتولوجيّ. والشعب الذي عرف الاضطهاد "لأجل اسمه"، اسم الربّ، يُشرَك في مجده.

4- تطوّر الرمز

يجب أن لا ننسى هذا المعنى الأصليّ "لعلامة ابن الإنسان" (كما في الإنجيل)، حين نجد هذا الرمز في نصوص تعود بشكل ضمنيّ إلى دانيال. في البداية، لا تماهي أبدًا بين المسيح الداوديّ المنتظر "في الأيّام الأخيرة" وهذا الشخص الرمزيّ كلّه. وبالتالي، لا تنظير حول الأصل المتعالي للمسيح. ولكن حصل له ما نجده في حالات عديدة: قاربوا نصّ دانيال مع مقاطع كتابيّة أخرى ليضيئوا عليها ويجدوا فيها ضوءًا يوضح بعدها. أو بشكل أدقّ، جعلوها فوق الصورة المعروفة لمسيح ملكيّ في مجده، كما في مجد الجلوس على العرش. وأبرزت بعض الأسفار المقدّسة هذا النموّ في معنى النصوص. هذا ما نجده في كتاب أخنوخ، في الأمثال، حيث يستعيد الكاتب دا 7: 13-14.

"أجلسه ربّ الأرواح على عرشه المجيد، وروح الترفاض عليه" (أش 11: 1). كلامُ فمه يهلك جميع الخطأة. ويزول كلّ الأشرار من أمام وجهه (أش 11: 4). فينظرون الواحد إلى الآخر، مرتاعين، خافضي الرأس، ويمسكهم الوجع حين يرون ابن الإنسان هذا جالسًا على عرش مجده" (1 أخن 62: 2-5).

وهكذا فالملك المسيح في أشعيا تبدّل وجهه: جعله الله في وظيفة ديّان، في اليوم الأخير. هكذا نعرف كيف قرأ "أخنوخ" سفر دانيال، وكيف أدخل المسيحانيّة المعروفة بعد أن حوّلها.

في هذا المنظار المماثل، أدخل يسوع الصورة عينها في قلب نظرته الإسكاتولوجيّة (مت 13: 26؛ 25: 31). في الحقيقة، أدخل في شخصه "شعب قدّيسي العليّ" الذين تحدّث عنهم دانيال. وبعد أن كان ابن الإنسان المتألّم، وعضوًا في البشريّة فقاسمنا وضعنا العاديّ حتّى النهاية، دخل في المجد "ليجلس عن يمين القدرة ويأتي على سحاب السماء" (مت 26: 64).

إنّ قراءتنا المسيحيّة لسفر دانيال تفترض تمام هذا النصّ في المسيح. ففي جلوس ابن الإنسان على العرش كما في دا 7: 13-14، نشاهد مجد المسيح القائم من الموت والذي ننتظر عودته في نهاية الزمن. وهكذا كانت صورة هذه الرؤية البهيّة، وسيلة تذكّرنا بهذا الحدث الذي يفوق الخيال الذي به يجتاح الأبدُ الزمن.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM