أجعل روحي فيكم فتحيون 37: 1-14

أجعل روحي فيكم فتحيون

37: 1-14

"يبست عظامنا وخاب رجاؤنا وانقطعنا". ما الجواب على اليأس الذي يعرفه الشعب؟ وسبق هذا الكلام تشكّ سابق قال فيه الشعب: "معاصينا وخطايانا علينا، ونحن نغنى بها، فكيف تريدنا أن نحيا"؟ (33: 11). القضيّة هي قضيّة موت أو حياة. وهنا استعمل الشعب في يأسه، صورة العظام اليابسة. من هنا انطلق النبيّ في الرؤية، ومن هنا كان كلامه. وها نحن نورده (37: 1-14):

1 وحلّت عليّ يدُ الربّ

فأخرجني بالروح ووضعني في وسط الوادي،

وكان ممتلئًا عظامًا.

2 وقادني بين العظام وحولها،

فإذا هي كثيرة جدًّا ويابسة تمامًا.

3 فقال لي: يا ابن البشر،

أتعود هذه العظام إلى الحياة؟

فقلت: أيّها السيّد الربّ، أنت وحدك تعلم

4 فقال لي: تنبّأ على هذه العظام وقل لها:

أيّتها العظام اليابسة، إسمعي كلمة الربّ:

5 هكذا قال السيّد الربّ لهذه العظام:

سأدخل فيك روحًا فتحيين

6 أجعل عليك عصبًا، وأكسيك لحمًا،

وأبسُط عليك جلدًا، وأنفخ فيك روحًا،

فتحيين وتعلمين أنّي أنا هو الربّ.

 

7 فتنبّأتُ كما أمرتُ

وبينما كنتُ أتنبّأ سمعت خشخشة

فإذا العظام تتقارب، كلّ عظمة إلى عظمة

8 ورأيتُ العصب واللحم عليها،

والجلدَ فوقها، وما كان فيها روح بعد

9 فقال لي الربّ: تنبّأ للروح،

تنبّأ يا ابن البشر، وقل للروح:

تعال أيّها الروح من الرياح الأربع

وهبّ على هؤلاء الموتى فيحيوا

10 فتنبّأتُ كما أمرني،

فدخل فيهم الروح فحيوا،

وقاموا على أرجلهم جيشًا عظيمًا جدًّا.

 

11 فقال الربّ لي: يا ابن البشر،

هذه العظام هي بيت إسرائيل بأجمعهم.

هم يقولون: يبست عظامنا،

وخاب رجاؤنا وانقطعنا.

12 لذلك تنبّأ وقل لهم:

هكذا تكلّم السيّد الربّ:

سأفتح قبوركم وأصعدكم منها، يا شعبي،

وأجيء بكم إلى أرض إسرائيل،

13 فتعلمون أنّي أنا هو الربّ

حين أفتح قبوركم وأصعدكم منها، يا شعبي

14 وأجعل روحي فيكم فتحيون،

وأريحكم في أرضكم

فتعلمون أنّي أنا الربّ

تكلّمت وفعلت، يقول الربّ.

1- سياق النصّ

جاءت رؤية "العظام اليابسة" أبسط من رؤية "مركبة يهوه" (ف 1-3) وأبسط وبدت غنيّة بما فيها من صور، فاتّخذت مكانة كبيرة في فكر حزقيال كما في تاريخ الوحي البيبليّ.

متى دُوِّن هذا النصّ؟ لا نعرف بالضبط. ثمّ لا علاقة له بما سبق. يبقى لنا أن نحدّد سياقه. النبيّ هو في بابل، وسط المنفيّين بعد الجلاء الكبير الذي حصل سنة 587-586، في وقت يهدّدُ الجماعةَ التعب واليأس. فالوضع خطير جدًّا.

منذ بضع سنوات، مرّت على بني إسرائيل عواطفُ متعارضة. فبعد الجلاء الأوّل، سنة 598، كانت التجربة الكبرى ثقة بليدة تقود إلى افتراض خاطئ: لا يمكن أن يدون المنفى. وسيرجع المسبيّون قريبًا إلى أرضهم. وسبق لإرميا فتدخّل ليعلن للمنفيّين أنّ المحنة ما زالت في بدايتها. وأفهمهم الواقعيّة والخضوع (إر 29):

5 ابنوا بيوتًا واسكنوا

واغرسوا بساتين وكلوا من ثمرها

6 وتزوّجوا ولِدوا بنين وبناتٍ

وزوّجوا بنيكم وبناتكم ليلدوا بنين وبنات،

واكثروا هناك ولا تقلّوا.

ولكن بعد سنوات قليلة، بعد سقوط أورشليم ودمار المدينة والهيكل، خسر المنفيّون كلّ أمل: يبست عظامنا. دُمِّر رجاؤنا. لم يبقَ لنا شيء ننتظره (آ 11). هذا ما قالوه ليفسّروا وضعهم المأساويّ. ولكن من وجهة مخطّط الله في شعبه، يشكّل اليأس خطرًا أكبر من الاعتداد والافتراض الخاطئ. لهذا أرسل الله إلى نبيّه رؤية جديدة معدّة لإيقاظ الرجاء.

2- دراسة النصّ

قبل أن نقسم هذا المقطع قسمين، الرؤية وشرح الرؤية بفم الربّ نفسه، نتعرّف إلى الألفاظ الغنيّة في هذه الرؤية الرائعة.

هناك فعل "ي ر ع": عرف، علم. ظهر هذا الفعل في موضعين هامّين. في آ 3 (أنت تعلم) وفي آ 14 (فتعلمون). سأل الله النبيّ: أتعود هذه العظام إلى الحياة؟ وكان جواب النبيّ: أنت تعلم. دلّ على جهله، وأعاد السؤال إلى الذي طرحه. كلّ شيء هو في يد الله. وحده يعرف وهو الذي يجعل الشعب يعرف. فبعد الرؤية وعطيّة الحياة للعظام، وبعد الوعد بعطيّة الروح والعودة إلى الأرض، ينتهي عند حزقيال، وترد في هذا المقطع مرّتين. هنا (آ 13) وفي آ 6: "وتعلمين أنّي أنا هو الربّ". تنتقل الجماعة من لامعرفة إلى معرفة، بفضل عمل إلهها وبواسطة نبيّه.

"ب ا" (ب وا، باء في العربيّة): جاء، أتى، وصل. ثمّ "ه ب ي ا" أدخل، جلب، جعله يدخل. نقرأ في آ 5: "أدخل فيك روحًا فتحيين". هو برنامج يدلّ على هدف العمل الإلهيّ: جاء الروح إلى العظام كي تحيا. في آ 9-10 يرد الفعل مرّتين: "تعال أيّها الروح". ثمّ "فدخل فيهم الروح". أمر النبيّ الروح أن يجيء فجاء. وفي آ 12 قال الربّ: "سأجيء بكم". دخول الروح هو الشرط للدخول إلى الأرض.

"م ل ه"، صعد. نقرأ في آ 6: "أصعد عليكم لحمًا" وفي آ 8: "رأيت الجلد فوقها" (يصعد). في آ 12-13: "أصعدكم منها يا شعبي... حين أفتح قبوركم وأصعدكم منها". الله هو من يُصعد. سواء من مصر، أرض الحديد والنار، أرض العبوديّة والموت (كما في البرّيّة). أو من أرض بابل حيث وضع المنفيّين غارق في العبوديّة وفي الموت.

"روح". الريح والروح. نجد اللفظ في آ 5 (أدخل فيك روحًا)، آ 6 (أنفخ روحًا)، آ 8 (ما كان روح). لا نجد هنا أل التعريف قبل اللفظ ونحن نستطيع أن نترجمه: نسمة الحياة، النفَس. هو من يحيي العظام اليابسة. في آ 9، يسبق أل التعريف اللفظ، فيبدو الروح شخصًا: تعال أيّها الروح. في آ 14 يعد الله فيقول: أجعل روحي، أعطي روحي. كلّ هذا يقودنا إلى ما في العهد الجديد والروح الذي هو الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس.

3- الرؤية (37: 1-10)

منذ الكلمات الأولى، ندخل في عالم الوحي الفوطبيعيّ (فوق الطبيعة): "يدُ الربّ" مدّت على النبيّ. ترد العبارة أكثر من مرّة (1: 3؛ 3: 23؛ 4: 1) لتدلّ دومًا على الله الذي يمتلك النبيّ. هي خبرة اختطاف. عندئذٍ يأخذ الروحُ النبيَّ على عاتقه (11: 5، 24). والله هو من يقود الكلمة. وتبدو القبضة هنا أقوى ممّا هي في عدد من النصوص الأخرى. لا يُوجَّه النبيّ فقط، بل "يُرفَع" بشكل عجائبيّ، "ويوضَع في وادٍ". "في وادي عميق" (ب ق ع ة). قد تكون تلك المذكورة في 3: 22-23:

ثمّ أخرج إلى الوادي وهناك أكلّمك

فقمتُ وخرجتُ إلى الوادي

فإذا بمجلد الربّ واقفٌ هناك

كما رأيته على نهر خابور،

فسقطتُ على وجهي ساجدًا.

ولكنّ العبارة غامضة، وما من تفاصيل تساعدنا على تحديد موقع هذا الوادي، هذا إذا افترضنا أنّنا أمام وادي ملموس، يمكن معرفة واضع على الجغرافيا. هذا يعني أنّنا لا نستطيع أن نقول شيئًا عن مدّة هذه السَفرة ولا عن نهايتها. تطلّع بعضهم إلى فلسطين، قد يكون قريبًا من أورشليم، بعد أحداث سنة 587 المؤلمة، مع أرض امتلأت بالعظام المتروكة للوحوش والطيور الكاسرة. ولكنّ هذا القول يبقى مجرّد فرضيّة لا يستطيع شيء من وصف حزقيال، أن يثبّتها.

بدأ النبيّ يجول في الوادي. فسار فيها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. فاكتشف هناك عددًا كبيرًا من العظام اليابسة المنثورة على الأرض. وهنا بدأ الحوار، كما يحبّه حزقيال. سأل الربّ: هل تحيا هذه العظام بعد؟ كان فيها حياة فغابت عنها الحياة. من الواضح أنّها عظام مائتة. ومع ذلك، هل تستعيد الحياة؟ وهي ما هي فيه من حالة تعيسة؟ من الواضح أنّ هذا السؤال يتوجّه إلى إيمان النبيّ. فما من قوّة بشريّة تقدر أن تعيد الحياة إلى عظام يابسة. ولكن من يمنع الله بأن يفعل؟ من هنا جاء جواب النبيّ وكأنّ فيه بعض الشكّ. في الواقع، هو جواب مليء بالإيمان بقدرة الله: أنت تعلم. إذًا، أنت تفعل. وهذا ما انتظره النبيّ والتالي الشعب الذين سمعوا له.

تجاوب الله مع إيمان النبيّ. فاختاره لكي يجري المعجزة. أمره الله أن "يتنبّأ أي أن يتكلّم بسلطان، باسم الربّ (6: 2؛ 11: 4؛ 13: 2)، نستطيع القول إنّ الله أملى عليه "القول النبويّ" الذي سيتلوه على العظام. هكذا يعلن قيامتها بمجيء الروح (آ 5)، أي بإعادة تكوين الجسد وفيض الروح، الذي يعطي العظام حياة ويدفعها للإقرار بعمل الله (آ 6).

وحالاً، وحسب الأمر المُعطى، شرع حزقيال يتنبّأ. فتمّت المعجزة، تقاربت العظام والأعصاب واللحم وتكونّ الجلد. واستعادت العظام وجهًا بشريًّا. ولكن بقي نفص فيها: "لا روح فيها" (آ 8). جاء الروح من موضع آخر، وما صدر عن العظام دعاه النبيّ "من الرياح الأربع" لينفخ على الموتى ويحييهم. هذا ما قال الربّ (آ 9). وهذا ما تحقّق بكلمة من فم النبيّ: جاء الروح، فوقفت العظام مثل "جيش عظيم" (آ 10).

إن قرأنا في هذا النصّ أمثولة عن الأنتروبولوجيّا (أو علم الإنسان) نخطئ خطأ كبيرًا، لا نتساءل إذا كان "الروح" هنا يوافق ما تُسمّى "النفس البشريّة". لا كلام عن النف (ن ف ش)، مبدأ الحياة الذي عرفه بنو إسرائيل. ما يشدّد عليه النصّ هو أهميّة الروح، مبدأ الحياة العالية الآتية من عند الله. وهكذا نلتقي مع إشارات عديدة في "اللاهوت" البيبليّ. في الخبر الكهنوتيّ حول خلق العالم، وقبل أن ينظّم الله كلَّ شيء، كان "روح الله" هنا، يرفرف على المياه رفرفة الانتظار. ويستعدّ لكي يحيي كلَّ ما يخلقه الله.

في الخبر الأقدم حول خلق الإنسان، وبعد أن كوّن الله الجسد البشريّ، نفخ الربّ في منخري الإنسان "نسمة حياة" (تك 2: 7). فالله هو من بروحه يعطي الحياة. هذا ما قاله المرتّل في امتداحه جمالات الخلق: "تنزع روحك فتموت... ترسل روحك فتخلَق من جديد (مز 104: 29-30)، واستعاد سفر الجامعة استعارة دقيقة تمثّل حزقيال حين لاحظ بكآبة، أنّ في الموت "يعود التراب إلى الأرض التي أُخذ منها، ونسمة الحياة إلى الله الذي أعطاها" (جا 12: 7).

4- شرح الرؤية (12: 11-14)

بعد الخبر، قدّم الله الشرح، أو بالأحرى شرع الله يربط صورة العظام مع "بيت إسرائيل". هؤلاء الناس الذين دلّت كلماتهم على اليأس وفقدان العزيمة (آ 11، يبست عظامنا)، فجاءت الرؤية. ثمّ أوكل الربّ نبيّه لمهمّة جديدة. كما تنبّأ على العظام فأنهضها، كذلك يتنبّأ على بني إسرائيل المنفيّين.

ولكن نجد هنا اختلافًا بين تدخّلين نبويّين: لم تعد الصورة هي هي في دقّتها. لم نعد أمام عظام يابسة، بل موتى موضوعون في القبور. لم يعد الموضوع إعطاء الحياة أيضًا، بل فتح القبور لكي "يصعد من هذه القبور" الشعب ("شعبي"، آ 13). وهذه المرّة أيضًا، في شعب أُعيد تكوينه، جعل الله روحه. وسيجعل شعبه في أرضه فيعرفه هذا الشعب (آ 14).

يدلّ هذا التحوّل في الصورة على انزلاق في الأفكار الواردة. لا شكّ في أنّ الفكرة الأساسيّة لم تتبدّل: الله "يخلّص" شعبه ويعيده إلى فلسطين بعد التوبة. ولكنّ النبيّ لم يشدّد أوّلاً على فكرة اليأس (والعظام اليابسة) بل أورد فكرة أسر وسجن (القبور) بانتظار الحرّيّة. حينئذ لن يكون الروح الذي يحلّ على هؤلاء الأسرى المحرَّرين ويعطيهم الحياة مبدأ قيامة في الدرجة الأولى، بل مبدأ اهتداء وحياة فائقة الطبيعة (آ 14).

وهكذا نلتقي مع الوحي الكبير في ف 36، حين يعلن النبيّ تجمّع بني إسرائيل المشتّتين وعودتهم إلى أرضهم ويعدهم لا بأن يطهّرهم فقط (36: 25) بل بأن يجعل فيهم روحًا جديدًا فيحلّ قلب اللحم محلّ قلب الحجر. وفي النهاية، يضع روحه فيهم ويجعلهم يسيرون بحسب شرائعه (36: 26-27): عبارة لافتة عن تجديد باطنيّ أو كما نقول اليوم: أولويّة النعمة.

وتكرار عبارة "فتعرفون أنّي أنا هو الربّ" تُبرز إبرازًا خاصًّا الخاتمة العاديّة في أقوال حزقيال النبويّة. فالله بعمله أكان عقابًا أو تجلّي حنان، يدعو السامعين، أصدقاء ومعادين، لكي يتعرّفوا إلى عمله الخلاصيّ.

ذاك هو معنى الرؤية الكبيرة هذه: إعلان صورة مسبقة عن زمن جوهريّ من أزمنة مآثر الله، وعن تدخّله العجيب في تاريخ إسرائيل وفي تاريخ العالم، وإذ صوّر الله (بفم نبيّه) أمام بني إسرائيل القيامة القريبة لشعبه وتحريره من الأسر، أرجع إلى بني إسرائيل الثقة بمصيرهم والاتّكال على كلمته.

الخاتمة

قرأ التقليد المسيحيّ هذا النصّ، فراح بعيدًا عن معناه في العالم اليهوديّ الذي لم يكن يؤمن آنذاك بحياة بعد الموت وبالقيامة. رأت الكنيسة هنا أوّل وصف وأعظمه للقيامة في الدينونة الأخيرة. هذا لا يعني أنّ آباء الكنيسة أخطأوا حين بحثوا عن مدلول رؤية حزقيال وبُعدها المباشر. لقد عرفوا كلّ المعرفة أنّهم تجاوزوا المعنى الحرفيّ للنصّ.

في هذا المجال، قام ترتليانس بالتمييزات الضروريّة، وفي الوقت عينه لاحظ أنّنا "لا نستطيع أن نذكر لوحة قيامة العظام، لو لم يكن الحدث سوف يتمّ في يوم من الأيّام". وأضاف: "نحن لا نستطيع أن نقدّم مثلاً له قيمته انطلاقًا من لا شيء". وقال إيرونيمُس في المعنى عينه: "ما كنّا استعملنا صورة القيامة لكي نتمثّل ولادة شعب إسرائيل، لو لم نكن نؤمن بالقيامة المقبلة، فلا يفكّر إنسان أن يُثبت شيئًا لا أكيدًا بشيء لا موجود".

ذاك هو المدى البعيد في رؤية حزقيال بما فيها من غنى تعليميّ. تطابق بنو إسرائيل المنفيّون، فتدخّل الله لكي يُشعل فيهم الرجاء. ولكنّ التقليد اللاحق رأى صورًا تمثّل أحداث الأزمنة الأخيرة وبالتالي تشير إلى قيامة الموتى.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM