الراعي الحقيقيّ 34: 11-17

الراعي الحقيقيّ

34: 11-17

إنّ موضوع "الرعاة" و"راعي إسرائيل" يشترك فيه الأنبياء الذين عاشوا في زمن المنفى. ونتذكّر أش 40: 28 عن الربّ الآتي بذراع قاضية: "يرعى قطعانه كالراعي، ويجمع صغارها بذراعه. يحملها حملاً في حضنه، ويقود مرضعاتها على مهل". وينشد المرتّلون مز 23: الربّ راعيّ فلا يعوزني شيء. في مراع خصيبة يقيلني ومياه الراحة يوردني". كما ينشدون مز 80: "يا راعي إسرائيل، أصغ، يا هادي يوسف كالقطيع، يا جالسًا على الكروبيم أشرفْ".

أجل الله هو الراعي. هذا ما قاله الكتاب المقدّس، وصولاً إلى يسوع الراعي الصالح (يو 10: 1ي). وسبقه إلى ذلك السومريّون والأكاديّون، فدعوا الملك "الراعي" وحتّى "الراعي الصالح" الذي تسلّم وظيفته من إله المدينة. فحمورابي دعا نفسه، الراعي الذي يخلّص، وطيفه طيف العدالة. وكانت عبارة نيوبابلونيّة عن أحد الملوك: "هو حقًّا الراعي الذي يجمع المشتّتين. وتقول بابل، إنّ الآلهة والملائكة يرعون الشعب. وفي مصر، صُوِّر أوزيريس على أنّه الراعي.

هذا الموضوع نقرأه في سفر حزقيال، ف 34 حول رعاة إسرائيل:

11 وقال السيّد الربّ،

سأسأل عن غنمي وأتفقّدها

12 كما يتفقّد الراعي قطيعه،

يوم يكون في وسط غنمه المنتشرة،

وأنقذها من جميع المواضع

التي تشتّت فيها يوم الغيم والضباب

13 وأخرجُها من بين الشعوب،

وأحملها من البلدان،

وأجيء بها إلى أرضها،

وأرعاها على جبال إسرائيل

وفي الأودية،

وفي جميع مساكن أرض إسرائيل.

14 في مرعى صالح أرعاها.

وفي جبال إسرائيل العالية تكون حظيرتها،

وهناك تربض في حظيرة صالحة،

وترعى في مرعى خصب على جبال إسرائيل.

15 وأنا أرعى غنمي،

وأنا أعيدُها إلى حظيرتها،

16 فأبحث عن المفقودة

وأردّ الشاردة

وأجبر المكسورة

وأقوّي الضعيفة

وأحفظ السمينة والقويّة،

وأرعاها كلّها بعدلٍ.

3 وأنتم يا غنمي،

سأحكم بين ماشية وماشية،

بين الكباش والتيوس.

1- كنتُ بين المسبيّين

خلال المنفى في بابل، فتح حزقيال نافذة بها وجد الشعب الساقط الرجاءَ في قلب الصعوبات. فالعهد السابق، عهد موسى والهيكل، ربط الله وشعبَه بالتزامات متبادلة: الله خلّص شعبه، والشعب طبّق قواعد الشريعة والعبادة. وقد أعلنت الرؤية التدشينيّة في بلاغ النبيّ حزقيال، نهاية هذا العهد: ترك الله قدس الأقداس. ومنذ الآن، انضمّ إلى المنفيّ، إلى النبيّ، خارج المدينة المقدّسة، حيث يقيم الشعب على ضفاف إحدى قنوات بابل (ف 1).

فالشعب الذي خسر أهليّة للنعمة، نقض العهد السابق. فلم يلد سوى عظام بيضاء ( ف 37). غير أنّ نبيّ الموت والانحطاط، سيكون أيضًا الرقيب الذي أوكل إليه إعلان إمكانيّة جديدة جديدة، لهذه المجموعة من المنفيّين. قل لهم: حيّ أنا يقول السيّد الربّ، لا أريد أن يموت الخاطئ، بل أن يعود عن خطيئته ويحيا" (33: 11).

بدا حزقيال على أنّه أوّل واعظ عن الخلاص الشخصيّ. قبله وجّه الأنبياء التهديدات والوعود للمجموعة كمجموعة: فالأبرار والأشرار نصيبهم واحد بفعل استحقاق إنسان واحد أو ذنبه. في أوقات أزمة لم يعرَف مثلها من قبل، على حزقيال الذي كلِّف بخدمة جديدة في إسرائيل، أن يسهر على القرار، على توبة كلّ واحد لكي تقدّم، في قلب الكارثة، إمكانيّة الحياة إلى كلّ واحد.

عالج ف 33 (ومثله ف 18) موضوعًا جديدًا حول المسؤوليّة الشخصيّة: ساعة بدا كلُّ واحد مسؤول عن اختياره، أيكون ماضي إسرائيل كشعب باطلاً وبلا فائدة؟ هل لا يُحسَب حساب بعد الآن سوى للأفراد في عمليّة حسابيّة حول الخلاص؟ نربح واحدًا ونخسر واحدًا؟

جاء ف 34 فأبعد خطر سوء التفاهم الذي قد يسبّبه ف 33 وهذه الكرازة الجديدة.

1- الراعي وسط الخراف

كيف بدا ف 33 والكلام عن خراف مشتّتة؟ مع موضوع الراعي والقطيع، نحن أمام الشعب ورؤسائه. هذا أمرٌ لا شكّ فيه. لقد توجّه الفصل كلّه نحو آ 31 كخاتمة عهد آخر: "أنتم غنمي، غنم مرعاي. أنا إلهكم". وصيغة المتكلّم الجمع (أنتم) تدلّ على الشعب كلّه، لا على مجموعة أفراد يقف الواحد بجانب الآخر. ولكن قبل أن يتفوّه الربّ بعبارة العهد الاحتفاليّة، وجّه بفم نبيّه توبيخًا، وأعلن دينونة ومواعيد خلاص للرعاة أوّلاً (آ 1-15) ثمّ إلى الخراف (آ 17- 25أ).

وترك آ 25ب-29 موضوع الرعاة فبدت بشكل توطئة لما في آ 30-31: أُعلنت الأزمنة الجديدة، فجعلتنا نفكّر بكرازة يوحنّا المعمدان (مر 1: 7، 8؛ مت 3: 11-12؛ لو 3: 15-18): فإعلانه للدينونة ونداؤه إلى التوبة، يسبقان بشكل مباشر، في تقليد مرقس، إقامة يسوع في البريّة "مع الوحوش، حيث تخدمه الملائكة" (مر 1: 12-13).

3- تقول للرعاة

إذا جعلنا آ 7-8 جانبًا وقد دوِّنتا على ضوء ما حدث للشعب الذاهب إلى المنفى، تولّى القسم الأوّل من ف 34 (آ 1-15) أن يحدّث الرعاة كما سبق للنبيّ وحدّث الأنبياء الكذبة في ف 13. "الراعي" هو اللقب التقليديّ للملك أو للقائد في شعب إسرائيل، كما في كلّ الشرق البابليّ. فالراعي هو هنا من أجل خدمة الشعب والذين يرعون أنفسهم هم رعاة أردياء يروحون عكس مهمّتهم فيعزلون من وظيفتهم. هذه الدينونة تعد الخراف بالخلاص (آ 10):

أنا أقوم ضدّ الرعاة،

فأستردُّ غنمي من أيديهم،

وأمنعهم من أن يرعوا الغنم

فلا يرعى الرعاة أنفسهم من بعد،

وأنقذ غنمي من أفواههم،

فلا تكون لهم مأكلاً.

هذا القسم الأوّل من الفصل (آ 1-15) له فقط بعد "وطنيّ". نحن أمام الشعب كلّه. إنفصل عن رؤسائه فما عادوا يمثّلونه، كما كان الأمر مرارًا في تاريخ النبوءات بل إنّ القول النبويّ توجّه إلى الشعب وإلى رؤسائه. إلاّ أنّ الرؤساء عزلوا من وظيفتهم، ساعة انتظر تبدّل كبير في المصير، الشعب الذي يتبعه تاريخ طويل صوّر تصويرًا واقعيًّا بلفظين تقليديّين: الراعي والقطيع. سار هذا القطيع حتّى الآن بقيادة خدّام الله، ولكنّه يبدّل الدليلَ والقائد. هذا يعني أنّ شعبًا جديدًا سيُولَد خارجًا عن الشعب السابق: فتبديل الملك في شعب "بيبليّ" يعني تبديل كيان. وسيظهر شعبٌ جديد، شعب "خراف الربّ". غير أنّ التواصل مع شعب رعاة إسرائيل، لم ينقطع، لأنّ الربّ الذي نظّم الرعاة في التاريخ "المقدّس" يهتمّ بخرافه اهتمامًا مباشرًا.

"أنتم خرافي". ذاك هو الوحي الذي نقله النبيُّ لشعب يتحمّل مناه. شعب لا اسم له ولا ملك ولا حاكم. إن كانت إمكانيّة صنْع "شعب الله" حيث يكون الله راعي هذا القطيع من الضالّين الذين لا وجود لهم في عيون الأمم، فلأنّ الله ما زال المالك الوحيد لخرافه.

4- ها أنا

أيُّ وعد رائع لشعب جديد، شعب الله. هي دينونة قاسية على ملوك الشمال، في إسرائيل، وعلى ملوك الجنوب في يهوذا مع عاصمتها أورشليم. فماذا يحصل حين يأخذ مالكُ القطيع الأمورَ على عاتقه؟ يصبح أصدق الرعاة، ويكون القطيع أسعد القطعان وأصدقها. قال النبيّ هذا الكلام بدقّة أدبيّة كبيرة مستعملاً عبارات تقليديّة ليعلن أمورًا نورويّة. فقد بدأت آ 11 بمدخل (هذا ما قال أدوناي يهوه) شكله شكل "بلاغ"، فأعطى لكلمات حزقيال وزن قرار يُنقَل فترافقه سلطةُ الملك. والمسؤوليّة الأخيرة لهذه الأقوال التي لا تردّ، تعود إلى الربّ نفسه. "ها أنا. أهتمّ بخرافي وأسهر عليها". وآ 15 التي تردّ هي أيضًا، تستعيد القول النبويّ: "أنا أرعى الخراف. وأنا أربطها، يقول الربّ".

من هو هذا "أنا"؟ هو الربّ الذي يتصرّف كراعٍ حقيقيّ. كراعٍ من أجل قطيعه، عكس الذين صوّرتهم آ 2-3: "أنا أطلب غنمي وأهتمّ بها". فعلى المسؤول عن القطيع أن يعدّ الخراف، فيبحث عن الضائع، يعيده، يشفيه إذا اقتضى الأمر. هنا نفكّر بمثلي الراعي الذي يبحث عن خروفه (مت 18: 12-14؛ لو 15: 1-7). بعد التعب، الفرح لا على الأرض وحسب، بل في السماء أيضًا.

متى يتمّ كلّ هذا؟ "يوم يكون الراعي وسط الخراف المشتّتة" (آ 12). ونجد صورة جديدة من يوم الربّ، الذي سبق حزقيال فصوّره بطريقة أخرى في 30: 3:

ها هو يقترب، يوم الربّ يقترب

يومٌ حالكٌ كالليل

ووقتُ هلاكٍ للأمم.

هو نهار جديد يقابل "يوم الغمام والضباب" الذي يعرفه معاصرو النبيّ. في آ 13، صار هذا اليوم الموعود، يوم خروج جديد. سيكون هناك صعود جديد خارج مصر، و"تجمّع" يعيد تكون الشعب، وغرسه من جديد في أرضه. نقرأ هنا ثلاثة ألفاظ تشير إلى الخروج كما ذكّرنا بذلك الأدبُ البيبليّ والتقوى اليهوديّة. اللفظ الأوّل "أخرج" (ي ص ه) من مصر. الثاني، "جمع" (ق ب ص) الشعب المختار. الثالث، أتى، جاء (ه ب ي د) من أجل الإقامة في الأرض.

أمّا آ 14 التي هي تكملة آ 13، فصوّرت شعائر العبادة، لا الخروج من مصر والدخول إلى الأرض. فراعي حزقيال قريب من الراعي الصالح الذي حدّثنا عنه مز 23، وهو يهتمّ بشعبه على أرضه "على جبال إسرائيل". لسنا فقط، كما في المزمور، أمام مصير أكليروس له امتيازاته، بل أمام مصير تشارك فيه الجماعة المقدّسة في الأيّام الأخيرة.

ذاك هو النشاط الذي يميّز الراعي الحقيقيّ ومالكَ القطيع، الذي صار منذ الآن المسؤول عن شعبه الذي جمعه فردًا فردًا. رأينا كيف أنّ آ 15 استعارت آ 11. فأنهت هذا الكلام مع "أنا" حاسم بشكل الجديد الكبير في القول النبويّ. هكذا يعرفُ إسرائيلُ أمرين: يهوه هو وحده من يرعى القطيع ويقوده إلى مكان الراحة. والثاني، يهوه نفسه يقوم بعمل الراعي منذ الآن.

وجاءت آ 16 انتقالة ممكنة نحو مقطع جديد في النصّ يبدأ مع آ 17. فاستعادت عناصر من آ 4 وبيّنت بوضوح التعارض بين الراعي الصالح والراعي الرديء. ويظهر موضوع الدينونة: فالراعي الحقيقيّ ليس فقط مالك القطيع الذي يجد الضالّ، يجمع شعبه، يقوده، بل هو يمارس الحقّ والعدل (م ش ف ط): عدالة واستقامة نظام شرعيّ يتيح للجميع بأن يعيشوا السلام الحقيقيّ بعضهم مع بعض، بواسطة الآخرين ومن أجل الآخرين. إذًا، يُعيد على المستوى الأفقيّ شرعيّة الجماعة التي تجد في الوقت عينه الراعي الشرعيّ، الراعي الصالح.

5- أحكم بين ماشية وماشية

هنا يبدأ القسم الثاني من ف 34: مرّة أخرى، يعلن التوبيخ والدينونة، وإعلان الخلاص الواعد. ولكنّ هذا الكلام لا يعني الرعاة، الرؤساء، بل الخراف التي ستدان كما يجب على يد رعاة صالحين. "أمّا أنتم يا خرافي" (آ 17). هنا أيضًا يأتي "بلاغ" فيقدّم التوبيخ الذي نقرأ في آ 18-19:

18 أما كفى بعضكم أن يرعى المرعى الصالح

حتّى يدوس برجليه باقي مراعيكم.

وأن يشرب المياه الصافية

حتّى يكدّرها برجليه؟

19 فيكون على البعض الآخر من غنمي

أن يرعى ما انداس من المرعى،

ويشرب ما تكدّر من المياه.

ثمّ يعلن النبيّ أيضًا الدينونة الآتية، في آ 20: "سأحكم بين الماشية السمينة والماشية الهزيلة". وفي آ 21-22، تتمّ الدينونة والحكم: حكم على الأقوياء والمقتدرين، خلاص الضعفاء الذين كانوا فريستهم.

ذاك هو النشاط الأخير الذي وعد به الراعي العامل الآن في قطيعه، خيث احتقارُ الضعفاء شوّه العدالة الحقّة بحسب الربّ: فالراعي الحقيقيّ يمارسه عدالة من أجل حياة الضعفاء وشفاء المرضى. ولا يسمح أن تكون السمان قرب الضعاف، بعيدًا عن العقاب. فقطيع صالح يفرض عدالة لا تميّز أحدًا ولا تدفع أحدًا فترميه أرضًا.

في آ 18، اكتشفنا صورة بسيطة، لافتة، عن النبيّ الذي يصيب الأغنياء، الذين يسحقون الشعب: يشربون الماء ثمّ يدوسونه، ليمنعوا الآخرين من الشرب. إذًا، لم نعد فقط أمام خلاص كلّ واحد، بل أمام خلاص القطيع كلّه. وهذا الإعلان النظام جديد حقًا بقيادة يهوه، الراعي الصالح. غذّى منذ حزقيال، انتظار الشعب، انتظار المنفيّين والشعب الفقير الذي بقي في الأرض. واتّخذ "الرعاة الكاذبون" أكثر من وجه على عتبة الحقبة المسيحيّة. وسار الإنجيليّون وراء يسوع فأعطوا لأقوال حزقيال التفسير الحاسم والنهائيّ.

الخاتمة

ونصل إلى العهد الجديد مع إنجيل يوحنّا (ف 10)، حيث الخراف تسمع صوت راعيها، وتعرفه، وتتبعه. قد نكون هنا أمام أقدم كرازة عن الراعي "الصالح" الذي يعمل باسم مالك القطيع ويُعرَف في عمله، وبالعلامات التي يُعطيها والتي تدلّ على توكيل من قبل الآب السماويّ. وهكذا نال كلُّ سلطان فحقّ له أن يدعو كلّ خروف باسمه وأن يقضي في القطيع.

وحين قدّم متّى (18: 12-14) في مثل الخروف الضالّ، للجماعة المسيحيّة الجديدة، لجماعة الأزمنة الأخيرة، نموذج نظام يتوجّه نحو الاهتمام بالصغار والمحبّة الأخويّة، فسّر قول حزقيال على ضوء الفصح.

كان حز 34 تعليمًا حول الراعي، حول هويّته وعمله. وأعطانا في الوقت عينه، تعليمًا أساسيًّا حول شعب هذا الراعي: أيّ خراف يَدين من أجل خلاص القطيع كلّه.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM