يأوي كلُّ طائر في ظلاله 17: 22-24

يأوي كلُّ طائر في ظلاله

17: 22-24

حين نتأمّل في نصّ مر 4: 26-34 حول مثل الزرع الذي يجد نموّه في نفسه، وحول حبّة الخردل، لا نستطيع إلاّ أن نتذكّر الصور العديدة في العهد القديم. فهي لا تجد كمال معناها إلاّ في العهد الجديد. أورد لنا حزقيال خبر الملوك الذين عاصروه في شكل استعارة، أليغوريّا، تذكّر الأرزة والكرمة، فتحدّث الإنجيل عن حبّة الخردل، الصغيرة بين الصغيرات التي "ترتفع لتصير أكبر النبات، وتمدّ غصونًا كبيرة، حتّى إنّ طيور السماء تجيء وتعشّش في ظلّها" (مر 4: 32). هي إشارة إلى الكنيسة في المثل الإنجيليّ، وهي ستضمّ البشريّة كلّها في جسد المسيح. أمّا عند حزقيال، فكبرياء الملوك تحطّمُ، وتعرف الإشجار "المترفّعة" "أنّي أنا الربّ أذللتُ الشجر العالي، ورفعتُ الشجر الوضيع، أيبستُ الشجر اليانعة، وأينعت الشجرة اليابسة" (17: 24).

في هذا الإطار، نقرأ 17: 22- 23:

22 وقال السيّد الربّ

سآخذ من أعالي الأرز

من رأس جذوعِه غصنًا،

وأغرسه على جبل شامخ، شاهق

23 في جبل إسرائيل العالي أغرسه،

فيُعطلع أغصانًا وتثمر،

ويصير أرزًا رائعًا

فيأتوي تحته كلُّ طائر،

كلُّ حيوان مجنَّح يأوي في ظلّ أغصانه.

1- سياق النصّ

يتضمّن حز 17 مثلين يبدوان متشابهين جدًّا للوهلة الأول. في الأوّل (آ 3-8) نرى نسرًا كبيرًا يقتلع رأس أرزة ويحمله إلى وكره. بعد هذا، زرع كرة نمت ولكنّها ظلّت هزيلة. وفي المثل الثاني (آ 22-24)، زرع الربّ نصب أرزة على جبل إسرائيل، فكان له شجرة بهيّة جاءت طيور السماء تأوي تحت أغصانها.

مثل هذه اللغة تبقى عاديّة على الذين اعتادوا قراءة مثل كليلة ودمنة وغيرها. ولكنّ الصعوبات تبدأ حين نحاول أن نترجم التعليم المخفيّ وراء هذه الصور. نحن نحتاج إلى مفتاح لندخل في هذين المثلين. نحن لا نذهب بعيدًا لنجد هذا المفتاح بعد أن شرح حزقيال نفسه المثل الأوّل لقرّائه المقبلين. فهو ما كان بحاجة إلى أن يشرحها لسامعيه وقد رأوا ما حدث سنة 598 وسقوط أورشليم وسلب الهيكل وذهاب الشعب إلى المنفى.

النسر الكبير هو نبوخذ نصّر. رأس الأرزة هو الملك يوياكين الذي أخذ أسيرًا إلى بابل سنة 597. والكرمة التي زُرعت مكان الأرزة هي عمّه صدقيّا الذي حكم أورشليم كتابع وضيع لملك بابل. إذن، نظنّ أنّ النسل (أو الغصن) الذي أخذه الربّ من الأرزة الكبيرة هو ملك من سلالة داود.

إنّ صورة الأرزة التي تدلّ على الملك، ترد مرارًا في التوراة. فحين عرض أمصيا، ملك يهوذا، معاهدة على يوآش، ملك إسرائيل (حوالي سنة 795)، رفضها يوآش وبرّر رفضه بالخبر التالي:

"إنّ العوسج الذي بلبنان

أرسل رسالة إلى الأرز الذي بلبنان

وقال: زوّج ابنتك لابني.

ولكنّ وحش البرّ الذي بلبنان عبر وداس العوسج" (2 مل 14: 9).

الرموز واضحة. ونستطيع أن نقرأ في حز 31: 3-12 مثلاً طويلاً فيه يُقابل الفرعون، ملك مصر بأرزة تمتدّ أغصانها فتحمي جميع الحيوان:

2 قل لفرعون، ملك مصر، ولجيوشه:

بماذا أشبّهك في عظمتك؟

3 أشبّهك بأرزةٍ في لبنان،

جميلة الأغصان، وارفة الظلّ،

عالية، رأسُها في الغيوم

4 المياه جعلتها تنمو

والينابيع أطالت قوامها

وأجرت من حولها أنهارًا

تفرّعت إلى جداول

تروي جميع أشجار الغابة

5 لذلك شمخت عاليًا

فوق جميع أشجار الغابة،

وكثرت أغصانها وامتدّت فروعها،

من كثرة المياه.

6 في أغصانها عشّشت كلُّ طيور السماء

وفي ظلّها سكنت جميعُ الأمم العظيمة

7 فصارت جميلة في عظمتها،

وفي طول قضبانها،

لأنّ جذورها كانت على مياه غزيرة.

ولكنّ هبوطها آتٍ، كما أتى هبوط الفرعون. "هذا هو مصير فرعون وجميع جيوشه، يقول السيّد الربّ" (آ 18). وتعود الصورة عينها في أحد أحلام نبوخذ نصّر الشهيرة كما في دا 4: 10-11:

10 وإذا بملاك قدّيس نزل من السماء

11 وهتف بصوت شديد:

إقطعوا الشجرة وقصّوا أغصانها،

أنثروا أوراقها وبدِّدوا ثمارها

فتهرب الوحوش من تحتها،

الطيور من أغصانها.

ويقدّم دا 4: 20-22 التفسير ويطبّقه على نبوخذ نصّر.

2- تفسير المثل (17: 22-24)

هكذا نستطيع أن نفهم المثل الثاني على ضوء هذه النصوص. فهو يعلن أنّ الربّ سيعيد إلى أرض إسرائيل واحدًا من نسل داود. "إنّي سآخذ من ناحية الأرز العالي نصبًا... على الجبل (جبل صهيون الذي إليه تتقاطر الأمم، أش 2: 2، الذي عليه يجعل حزقيال الهيكل الجديد) الذي يشرف على إسرائيل أغرس هذا النصب" (آ 22-23أ). وهذا النصب (هذا الفرع، رج أش 11: 1) سيصبح ملكًا قديرًا، وتطلب الشعوبُ العديدة الاحتماءَ به. "يحمل أغصانًا، ويُنتج ثمرًا، ويصير أرزة جليلة، فيأوي تحتها كلُّ طائر كلّ ذي جناح يأوي في ظلّ أغصانها" (آ 23).

نقابل هذا التعليم مع ما يقوله حزقيال في مكان آخر عن إعادة بناء الشعب الذي دمّره المنفى. فالنبيّ يصف مرّات عديدة تجمّع المنفيّين على أرض إسرائيل، وإعادة تكوين الشعب. ويجعل على رأس هذا الشعب ملكًا يكون من نسل داود. "وأقيم عليها راعيًا واحدًا (لا راعيين، لا ملكين ليهوذا وإسرائيل)... عبدي داود. أكون لهم إلهًا وعبدي داود يكون في وسطهم رئيسًا" (34: 23-24). "يسكنون في الأرض التي أعطيتها لعبدي يعقوب... وداود عبدي يكون رئيسهم إلى الأبد".

إنّ السياق القريب والبعيد يدلّ على أنّ الأرزة تدلّ دلالة شخصيّة على الملك. لسنا أمام السلالة، كما قد نتخيّل حين نرى شجرة العائلة. فشجرة العائلة تجد رمزًا لها في الجذور أو في الشجرة التي منها أخذ النصب (أو النسل) (الأرزة الكبيرة في آ 22). نحن أمام صورة فرديّة. غير أنّ هذا المدلول الفرديّ لا ينفي المعنى الجماعيّ: يكفي لذلك أن نتذكّر ما كان الملك يمثّل في الشرق القديم. فبحسب نظرة إلى الملك أخذت بها الملكيّة الداوديّة، كان الملك تشخيصًا للأمّة. إذن، الملك الذي أعلنه حزقيال يمثّل شعب الله كلّه. ونحن نجد نصًّا بيبليًّا حيث تنطبق صورة الشجرة على إسرائيل (الصورة المعروفة التي تدلّ على الشعب هي الكرمة، رج أش 5: 1-7)، لا على الملك. يقول هو 14: 5-8: "يمدّ جذوره كغاب لبنان، وتنتشر فروعه... والذين كانوا يقيمون تحت ظلّه يرجعون". إذن، نستطيع أن نطبّق هذا المنظور على خلفيّة نبوءة حزقيال الذي يهتمّ بشعب الله المقبل أكثر ممّا يهتمّ بالملك (يتكلّم عنه فقط ثلاث مرّات). ولكن يبقى أنّ المثل في ف 17 يشير إلى شخص فرد.

هل نستطيع أن نستعمل المثل الأوّل لنتعرّف إلى هويّة هذا الشخص؟ إنّ مثل الأرزة والكرمة هنا ينطبق على ملكي يهوذا اللذين عرفهما حزقيال. هل نستطيع أن نقول الشيء عينه حين نقرأ المثل الثاني؟ فهل يدلّ النصّ الذي أخذ من رأس الشجرة العالية، على يوياكين كما في آ 3-4؟ إن كان الأمر كذلك، نستطيع أن نرى في هذا القول النبويّ موقفًا سياسيًّا اتّخذه حزقيال. فنحن نعلم أنّه بين سنة 597 وسنة 586 تواجه حزبان في أورشليم وفي المنفى: حزب ساند صدقيّا الذي جعله نبوخذ نصّر ملكًا على أورشليم. وحزب آخر لا يرى إلاّ في يوياكين الملك الشرعيّ، رغم أنّه في الأسر. دلّ حزقيال على تعاطفه مع يوياكين. ولكن هل أراد أن يقول في هذا النصّ إنّ يوياكين هو الذي يحمل آمال الشعب، وسيكون الملك القدير الذي سيُزرع على جبل إسرائيل؟

يبدو أنّ الجواب هو كلاّ. فحزقيال يدلّ في كلّ كرازته على تشاؤم جذريّ جدًّا، شأنه شأن إرميا. فإسرائيل كشعب هو في نظره قد مات ودُفن (37: 12). لقد صار مجموعة عظام يابسة (37: 2). ويقول الشيء عينه بالنسبة إلى الملك. لم يعد من كلام يقال فيه سوى الرثاء والندب وكأنّه قد مات (19: 2-14). وإذا كان حزقيال قد تمسّك بهذا الحكم السلبيّ حول وضع إسرائيل الحاضر، فلأنّ رجاءه يجد في هذا الموضع سنده. وإن استطاع أن يعلن لإسرائيل مستقبلاً باهرًا، فلأنّ الشعب المقبل لن يأخذ شيئًا من بقايا الحياة التي قد يكتشفها المتفائلون في شعب تدمّر وذهب إلى المنفى.

إنّ حزقيال لا يستند إلى انتفاضة يائسة لدى شعب ينازع وقد وصل به نزاعه إلى الموت. بل إلى خلق حقيقيّ، إلى قيامة (37: 1-14) يجريها الله وحده. عند ذاك يصبح كلّ الآمال مقبولة. وإعادة بناء الشعب في إطار عهد جديد أنبأ به النبيّ، يدلّ بشكل لا يقبل الجدال، على أنّ الله قد تدخّل: "فتعلم جميع أشجار البرّيّة أنّي أنا الربّ أذللت الشجر العالي رفعت الشجر الوضيع، أيبست الشجرة اليافعة، وأينعت الشجرة اليابسة" (آ 24؛ رج 1 صم 2: 7؛ مز 18: 28؛ 75: 8).

إذن، لا نحاول أن نرى في نصبة الأرز التي نجدها في المثل الثاني، شخصًا معاصرًا لحزقيال. قد يكون قرّاؤه أخطأوا ولكن لفترة قصيرة. فيوياكين قد خرج من السجن سنة 560، ولكنّه لن يرجع إلى أورشليم. وسيلعب حفيده زربّابل دورًا من الأدوار في إعادة بناء الأمّة سنة 520. ولكنّه سيلعب دور الموظّف في خدمة الحكم الفاريّ، ولا يكون ملك يهوذا. وفي النهاية، ورغم الألقاب الكبيرة التي يلقّبه بها حجّاي (2: 23) وزكريّا (3: 8؛ 6: 12، الفرع، رج إر 33: 15 وقرّبه من حزقيال)، ظلّ زربّابل شخصًا تافهًا لا شأن له.

3- المثل في العهد الجديد

إنّ دور هذين الفرعين اللذين من داود، يجد أفضل تحديد له في إنجيل متّى الذي يجعل يوياكين (في شكله اليونانيّ: يكنيا) وزربّابل في سلالة المسيح (1: 11-12). هما حلقتان في هذه السلسلة الطويلة من الأجيال التي تؤمّن للمسيح تجذّره البشريّ. ولكنّ المسيح ليس نتاج سلسلة بشريّة، ليس تفتّح إمكانيّات مخفيّة في البشريّة. إنّه عطيّة الله، وهي عطيّة مجّانيّة ومتعالية.

ندهش حين لا نرى العهد الجديد ولا أوّل كتابات المسيحيّة قد استعادت نبوءة حز 17 التي يمكن أن نكتشف توجّهها المسيحانيّ أكثر من عدد من النصوص النبويّة التي استعملت في الدفاع المسيحيّ. إستعمل يو 15: 1-6 رمزيّة الكرمة التي تنطبق عادة على الشعب، وتمثّل عند حزقيال صدقيّا، الملك الذي تعامل مع البابليّين والذي خُتم على مصيره المأساويّ منذ اليوم الأوّل في ملكه. ولكن يبقى رمز الأرزة التي تنطبق أكثر ما تنطبق على شخص المسيح.

ومع ذلك، يبدو أنّ لهذا النصّ صدى في الإنجيل. ففي نهاية مثل حبّة الخردل في مر 4: 32 نقرأ: "جميع طيور السماء تستطيع أن تعشّش في ظلّها". غير أنّ هذه العبارة لا يُمكن أن تفهم إلاّ بمزج بين حز 17: 23؛ دا 4: 9؛ مز 104: 12. فكلّ من هذه المقاطع الثلاثة يقدّم لفظة أو لفظتين من أجل بناء نصّ مرقس. يقدّم حز 17: 32: "في الظلّ". وعبارة "طيور السماء" تعود إلى مز 104 لا إلى حزقيال الي يستعمل المفرد الجماعيّ: "كلّ طير" ولا يتبعه مضاف إليه. وإذا توقّفنا عند الأفكار وتركنا الألفاظ، يكون هو 14: 5-8 هو أقرب نصوص التوراة إلى عبارة مرقس هذه. في هذه الظروف، يصعب علينا أن نرى في نبوءة حزقيال عودة إلى مر 4: 32. قد يكون هناك تذكّرات عفويّة لتعابير من العهد القديم قد أخذها الإنجيليّون من سياقها وأعطوها ربّما معنى جديدًا.

ولكن، وإن يكن هذا النصّ المسيحانيّ الواضح لم يُستعمل في العهد الجديد، فهذا لا يعني أنّنا لا نقرأه باهتمام. وقد نتأسّف أن لا يكون نصّ حزقيال هذا قد ألهم الشعراء أو الرسّامين. فصورة الشجرة العظيمة التي تقدّم ظلاّ يحمي جميع البشر، تقدّم أفضل تعبير عمّا يفعله المسيح من أجل البشريّة.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM