الفصل العشرون: من هيكل اورشليم إلى أقاصي الأرض

الفصل العشرون

من هيكل اورشليم إلى أقاصي الأرض

24-1:66

 

مقدمـــــة

حين عاد المنفيّون من السبي البابليّ، واجهتهم الصعوبات العديدة: قيل لهم إنَّ الأرض تستقبلهم »عسلاً ولبنًا«، كما في الخروج الأوَّل، الخروج من مصر. فإذا هذا الخروج الثاني يصدمهم. بيوت مهدَّمة، أراضٍ مقفرة، أو وَضَعَ الغرباءُ يدهم عليها. هيكل بدأوا ببنائه ولكنَّهم توقَّفوا بسبب المعادين لهم ولا سيَّما في السامرة مع حاكمها الذي عيَّنه الملك الفارسيّ. وأسوار أورشليم مزعزعة، مهدومة في أكبر جزء من أجزائها، فصارت مدينة مستباحة، لا يمكن أن ينام الناس فيها مطمئنِّين من الأعداء، واللصوص العاملين في السلب والنهب وترويع السكّان. ذاك هو المناخ الذي دُوِّن فيه ف 66 من النبوءة الأشعيائيَّة، بين سنة 537 ق.م.، سنة عودة القوافل الأولى، وسنة 520، سنة العودة إلى البناء. ولكنَّ حُكم الله حاضر سواء بنوا الهيكل أو رمَّموا الأسوار أو تعاملوا مع المقيمين في البلاد، في أرض يهوذا أو في أورشليم. والمواضيع متعدِّدة، وكأنَّ جامع هذه النبوءة أراد أن يوجز في فصل أخير الأمور التي برزت في الرجوع من المنفى ورافقت الشعب، وما تركته لكي تحرِّره من ديانة مادِّيَّة وطقوسيَّة، وتجعلهم يتطلَّعون إلى مُلك الله الشامل، لا في إطار ضيِّق هو أورشليم وجوارها، بل في الأرض كلِّها حيث يجمع الربُّ شمل جميع الشعوب والألسنة لكي يروا مجده (66: 18).

قبل قراءة النصِّ الكتابيّ، ننظر إلى موقعه في ما يُسمّى القسم الثالث من أشعيا، الذي تتوازى فيه المقاطع الأخيرة مع المقاطع الأولى.

1- دينونة البشر (66: 1-24)

في إطار التوبيخ الذي يوجِّهه النبيّ إلى الشعب، ترد ف 65-66. منذ ف 58 كان توبيخ حول ممارسة الصوم والحفاظ على السبت. ما هذا الصوم الذي لا صدقَ فيه؟ والسبت يشبه اللبن المغشوش، حيث نفكِّر بالله إن بقيَ بعض الوقت. ويواصل ف 59 الذي يلتقي مع ف 63 في توبيخ يدعو المؤمنين إلى الإقرار بخطاياهم، وبتوسُّل ينال لهم الرحمة والغفران: »رأى الربُّ فاستاء« (59: 15). وتلتقي ف 65-66 مع ف 56-57: توبيخ للخطأة، مواعيد للمؤمنين. مضى زمن الحداد، وحلَّ العيد، وبدل النواح »يردُّ الربُّ العزاء« (57: 18). ويحلُّ السلام حيث كان الحرب والاضطراب. فيقول الربّ: »أسكن في الموضع المرتفع المقدَّس، كما أسكن مع المنسحقّ والمتواضع الروح« (57: 15). ونقرأ في 66: 2: »أنظر، (يقول الربّ) إلى المسكين والمنسحق الروح وإلى من يخاف من كلمتي«. ونعود إلى مراعاة السبت ومجيء الأمم الغريبة إلى الجبل المقدَّس. و»الغرباء... أجيء بهم إلى جبلي المقدَّس ليفرحوا في بيت صلاتي« (56: 6-7)(1).

أراد بعضهم أن يربط ف 65 بما سبق، فيكون جوابَ الله على ف 63-64 وما في هذين الفصلين من نداء، ولكن هذا لا يبدو معقولاً؛ ففي ف 63-64 نجد صلاة الثقة وإقرار المتواضع، فيجيب الله بكلام التعزية: »والآن يا ربّ، أنتَ أبٌ لنا، نحن طين وأنت جابلنا« (64: 7). فكيف يمكن أن يعود النصُّ إلى اللوم والتوبيخ في ف 65؟ لهذا اقترح الشرّاح أن يرتبط ف 65 بما في ف 66، حيث يتكلَّم الله عن »شعب متمرِّد عليّ، يسيرون وراء أهوائهم في طريق لا خير فيه« (65: 2)(2).

فصلان (65-66) يجعلان جنبًا إلى جنب الأشرار وعباد الله الأمناء، كما يصوِّران تصرُّف ناكري الإيمان الذين يبخِّرون أمام الأوثان ويأكلون من الخنـزير، ذاك الحيوان المحرَّم. ويُبرزان في الألفاظ عينها رفضًا بأن يسمع الإنسان للربّ، فيعاند ليعمل الشرّ. وأخيرًا، يشيران إلى الخليقة الجديدة وإلى تجديد أورشليم، المدينة المقدَّسة، التي تملأ بالحماس قلوبَ الذين يرونها في أحلى بهائها: »وتكون بهجة أورشليم بهجتي، وفرح شعبها فرحي« (65: 19). ويقابل هذا الكلام ما نقرأ في 66: 10: »إفرحوا مع أورشليم وابتهجوا بها، إفرحوا معها كثيرًا«.

وهكذا يشكِّل ف 65 جواب الربِّ على تضرُّعات المؤمنين: »ها أنا أخلق سماوات جديدة وأرضًا جديدة، فلا تُذكَر السالفة ولا تخطر على بال« (آ17). ويأتي كلام الربِّ في دينونة ترد في لوحتين على ما في إنجيل متّى 25: 31-46 (الخراف عن اليمين، والجداء عن اليسار). أمّا هنا فيكون عباد الله من جهة والمتمرِّدون من جهة أخرى. وما يلفت النظر هو أنَّ العباد لا يكونون فقط سكّان أورشليم وشعب يهوذا. ففي أورشليم نفسها نجد الفئتين، كما في المسكونة كلِّها، ممّا يجعلنا في خطِّ تث 30: 15ي: من جهة السعادة والحياة، ومن جهة أخرى، الشقاء والموت والإنسان يختار. وذاك يكون الوضع في ف 65 كما في ف 66.

ولكن يبدو ف 66 أكثر تراخيًا من ف 65 مع أربعة مواضيع: الأوَّل، المتمرِّدون يُعاقَبون فيخزون (آ1-6)؛ والثاني (آ7-14) يتحدَّث عن الفرح الذي ينعم به عباد الربّ؛ وترد آ14د بشكل مفصل يربط ما سبق بما في آ15-17؛ أمّا آ18-24 فتُفهمنا أنَّ هذه الدينونة تصل إلى جميع البشر، لا إلى فئة محدَّدة.

وهكذا كان ف 65 و66 وحدة في الموضوع، تجعلنا في رواق الملك السماويّ مع أورشليم بفئاتها المنظورة. تبدأ خطب يهوه بعبارة تجعلنا في جوِّ البلاط الملكيّ: »قلتُ«، (56: 1). أمّـا عند أنبياء آخرين، فهذا يدلُّ على تقديم النبيّ كلام الربّ. ولكن هنا، لا وجود لنبيّ، ممّا يدلُّ على أنَّ البلاط الملكيّ في انعقاد، وأنَّ أحكام الربِّ تُرسَل في شكل واضح. الربُّ يُقدِّم تقريرًا متدرِّجًا حول أورشليم ويعلن أنَّه سيَتمّ. كما يتحدَّث عن تدخُّله لدى المتمرِّدين في أورشليم، بما يشتكي الناس منهم ومع أنَّ هذين الفصلين يشكِّلان وحدة، إلاَّ أنَّ هناك تبدُّلات داخل النصّ. في 65: 1-16، يتوجَّه الله إلى بلاطه وإلى أهل أورشليم الذين عارضوا الرؤيا التي أرسلها. في 65: 17-66: 5، يتكلَّم الربُّ بشكل لامباشر حول أهدافه من أجل أورشليم، دون الإشارة إلى عباده ولا إلى معارضيه. وفي 66: 6-24، تتحرَّك حقيقةُ الرؤيا المتمَّمة إلى المقام الأوَّل. لا »جنّات« بَعْدُ لعابدي الأوثان، ولا ''ذبائح'' للكهنة، بل هنا ضجيج حين يتعامل الله مع معاديه. وصهيون تلد لذاتها أولادًا من أجل عصر جديد، وهكذا يكتمل مشروعها، فيجتمع إليها العابدون من كلِّ الأمم والألسنة، يصبح بعضهم كهنة، والجميع يعبدون الربّ(3).

2- متطلِّبات العبادة الحقَّة (66: 1-4)

بعد هذه النظرة إلى أشعيا الثالث، ثمَّ إلى ف 65-66 اللذين يشكَّلان وحدة تُنهي سفر أشعيا كلَّه، نقرأ المقاطع في ف 66 في أربع مراحل. ونبدأ بالمرحلة الأولى مع عرض عن متطلِّبات العبادة.

1 هكذا قال يهوه

السماوات كرسيَّ،

والأرض موطئ رجليّ،

أين هذا البيت (الذي) تبنون لي،

وأين هذا (المكان) مكان راحتي؟

2 كلَّ هذه صنعتْ يدي

كلُّ هذه (لي)، يقول الربّ.

وإلى هذا أنظر:

إلى مسكين ومنسحق روح

ومرتعد على كلمتي.

3 ناحرُ الثور قاتلُ رجل،

ذابحُ الشاة غارفُ كلب،

مُصعد تقدمةِ دمِ خنـزير،

ذاكرُ لبان مباركٌ وثنًا،

هم أيضًا اختاروا في طرقهم،

وفي قبائحهم نفسهم سُرَّت.

4 وأنا أيضًا أختار في نزواتهم،

ومخاوفَهم أجلبُ لهم،

لأنّي دعوتُ وليس مجيب،

تكلَّمتُ فما سمعوا،

فصنعوا الشرَّ في عينيّ،

وما لم يسُرَّني اختاروا(4).

ماذا ينتظر الله من المؤمنين؟ هل ينتظر بناء الهيكل؟ لا شكَّ في ذلك، في تلك السنوات البعدمنفاويَّة حيث المعبَد لم يُعَدْ بعدُ بناؤه. ربط النبيّ حجّاي سعادة هذا الشعب بإعادة البناء: وعليهم أن يقدِّموا على المذبح تقادم نقيَّة، ولا يكتفوا بالعودة إلى أروقة الربّ، بل إلى الربِّ ذاته (حج 2: 14، 17).

ولكنَّ النبيَّ بيَّن أنَّ حضور الله لا يرتبط ببناء نشيِّده(5)، فخالقُ الكون لا يُحصَر بين أربعة جدران. هو يفيض فوق كلِّ موضع، كما المياه، بحيث قيل فيه: السماء عرشي (40: 22، 57: 15)، والأرض موطىء قدميَّ (مت 5: 35). وهكذا يستحيل أن نبني مقامًا للربِّ يسعه.

في آ1، قرأنا: أين هذا؟، : أين هو؟ من هو؟ في اليونانيَّة moion: ماذا؟ في الشعبيَّة اللاتينيَّة :quae ماذا؟ في السريانيَّة : ثمَّ : أين هو؟

في آ2، قرأنا في البيسطريَّة: : وكانت كـلُّ هذه. أو: وُجدت. هي صيغة المضارع. في نصِّ قمران حـول أشعيـا، صيـغـة المـاضـي: . ربَّما في توازٍ مع الفعل الذي سبق: ، صنعت(6). في السبعينيَّة kai estin ema: السؤال في صيغة النفي. في اللاتينيَّة :et facta sunt universa ista، وصُنعت المسكونة كلُّها. في السريانيَّة: ، ولي هي هذه. تطوَّر النصُّ الماسوريّ انطلاقًا من السياق، وبالتالي نحتفظ به.

في آ2ب منسحـق، . يـرد هـذا اللفظ هنا وفي 2صم 4: 4؛ 9: 37 في السبعينيَّة hsucion، المتواضع والنقـيّ »الروح«. فـي الآرامـيَّـة : متواضع، تائب، منسحق. وكذا في اللاتينيَّة contritum. سارت السريانيَّة في خطِّ الآراميَّة، ولكنَّها لم تُلغ الروح، فلبثـت أمينـة للعبريَّــة ، متواضع الروح، منسحق الروح.

في آ3 نقـرأ »دم خنـزير«؛ بـدل كما في الماسوريّ، اقترحت نسخة شتوتغارت(8) الأخيرة التصحيح إلى : حمد، تاق، اشتهى، في توازٍ مع أسماء الفاعل: ناحر الثور...، مشتهٍ خنـزير. ولكن لا شيء في المخطوطات يتيح لنا ذلك.

* * *

أجل، نحن لا نقدر أن نبني بيتًا على قياس الربّ، ولا أن نقدِّم له شيئًا لا يمتلكه من زمان. هذا ما نستشفُّ من آ2، حيث نقرأ مرَّتين »كلّ هذه«، . إلــى مـاذا تشيـر »هـذه«؟ ظـنَّ بعضهم(9) أنَّها تعني السماوات والأرض التي تحدَّثنا عنها في آ1، وهذا موقف يُدافَع عنه على المستوى الغراماطيقيّ(10)؛ واقترح بونّار (حاشية 1، ص 484) أن تعود »هذه« إلى التقادم التي سوف نتحدَّث عنها. فالإشارة إلى الهيكل توجِّه أنظارنا حالاً إلى شعائر العبادة. ثمَّ إذا كان الله أعلن أنَّ كلَّ هذه الأشياء هي له، فلكي يبيِّن أنَّنا لا نُغنيه حين نعتبر أنَّنا قدَّمناها له. وأخيرًا، إن أضاف النصُّ أنَّ الربَّ يهتمُّ بمنسحق الروح، فلكي يفهمنا أنَّه لا يهتمُّ كثيرًا بتقادم تحملها أيدينا. فالعمل الخارجيّ يبقى خارجيٌّا، والله يقبله من المتواضعين، النادمين، الآتين إليه بانسحاق الروح، لا بالكبرياء.

إنَّ آ2 تحيلنا إلى جوِّ مز 50، مع الضحايا التي يحملها المؤمنون في عباداتهم لا يطلب المرتِّل أن تُلغى هذه الذبائح وما يرافقها من طقوس، بل يذكّر المؤمنين أنَّ ذبائحنا ليست هدايا للربّ، فنطلب منه عرفان جميل عمّا نقدِّمه له(11). في عطايانا نردُّ للربِّ ما أعطانا، وفي عبادتنا نتربّى على الشكر نرفعه إلى ربِّ الكون.

قال الله: لي جميع وحوش الوعر،

وألوف البهائم التي في الجبال،

في يدي كلُّ طيور الجبال،

ولي كلُّ حيوان في البرّيَّة (مز 50: 10-11).

نقدِّم للربِّ هذه الحيوانات فيقبلها طوعًا، شرط أن يتحلّى المقدِّمون بالطاعة لمشيئة الله. أمّا إذا كانت تقدمتنا غير صادرة عن القلب، فالربُ يميل بنظره عنّا. ذاك ما قاله عا 5: 22:

إذا أصعدتم لي محرقاتكم وتقدماتكم،

لا أرضى بها،

ولا أنظر إلى ذبائح السلامة

من عجولكم المسمَّنة.

»ينظر« الله فقط إلى المتواضع، الذليل، الذي »يخاف كلمة الربّ« ( ). تعـود هذه العبارة أيضًا في آ5 مع فعل »ارتعد«. ونحن لا نقرأها إلاّ في كتابات بعدمنفاويَّة (عز 9: 4؛ 10: 3). لسنا هنا فقط أمام المخافة بـل الـذي يـدلُّ أيضًـا علـى القلق والاهتمام في تتميم الوصيَّة (2مل 4: 13). وهذه الرعدة لا تكون تجاه هذه الذبيحة أو تلك، بل تجاه »كلمة الربّ« التي صارت العنصر الأساسيّ في المجامع يوم السبت. فالمجمع لا يرتبط بطقوس الذبائح مثل الهيكل، حيث كادت تضيع كلمة الله في الاحتفالات الكبيرة. في أيِّ حال، ذاك هو الخطر في كلِّ شعائر عبادة تنسى الجوهر وتروح إلى الأعراض والمظاهر.

وهكذا صار الهيكل أمرًا نسبيٌّا. لم يَعُد ذاك المطلق، وأنتَ لا تقدر أن تلتقي بالربّ، إن لم تمضِ إلى الهيكل (مز 42: 3). وكذا نقول عن الذبائح التي تفرض حياة توافق وصايا الله وأحكامه. ولماذا لا يرضى الله عن مثل هذه الذبائح؟ لأنَّ الآتين إلى الهيكل يقومون بطقوس تفرضها الشريعة ويمكن أن يرضى الربُّ عنها، كما يقومون بطقوس تعارض الشريعة فيمقتها الربُّ(12) وتأتي المقابلة المريعة:

من جهة، يذبحون الثور (لا 9: 4، 18؛ 22: 18-28 وهو غير البقر ثمنًا) تقدمة لله مختارة، ومن جهة ثانية، يذبحون إنسانًا: يضطهدونه أوَّلاً (آ2)، يسحقونه، ثمَّ يقتلونه. فما قيمة ذبيحتهم إذا رافقها تجاوز الوصيَّة: لا تقتل؟ هذا على مستوى القريب. وعلى مستوى الله:

من جهة، يذبحون شاة، وهو حيوان ترضى به الطقوس (تك 22: 7-8؛ خر 12: 3-5؛ 13: 13؛ لا5: 12؛ 12: 8)، ومن جهة ثانية ينحرون كلبًا. أوَّلاً، لا تذكر الشرائع الذبائحيَّة الكلب إذًا، لا مجال له هنا. ولكنَّها ترفض كلَّ الرفض الخنـزير(13). ما عاد المؤمنون يعرفون ما تطلبه الشريعة، وكلُّ هذا يعود إلى عبادة الأوثان. ضاعت الوصايا كلُّها. أهكذا تكون العودة إلى الربِّ بإزاء العودة إلى الأرض المقدَّسة؟

ما عادوا يعرفون أن يميِّزوا »ربَّ الجنود« من الوثـن، ، حرفيٌّـا: الإثم. وجود الوثن إثمٌ في حدِّ ذاته، فكيف التبخير له؟ فهي ديانة تلفيقيَة، نمضي مرَّة إلى المعبد الوثنيّ، ومرَّة أخرى إلى الهيكل، وهكذا نرضي الإله الواحد والآلهة العديدين، فنأمن شرَّ غضبهم(14).

خافوا من الأصنام، وما خافوا من الله القدير. فماذا تفعل الأصنام؟ لا شيء. لا تمنع شرٌّا، ولا تفعل خيرًا ولا شرٌّا. أمّا الربُّ فهو يعاقب الضالّين. هم اختاروا طرقهم(15)، وهو اختار طريقه. هذا ما نسمّيه »شريعة المثل«. ولكن إن عاقب الله، فهو لا يطلب العقاب والانتقام، بل العودة والتوبة. وسبب »غضب« الربّ، قساوة القلب: »تكلَّمتُ فما سمعوا« (آ4)(16).

3- فاسمعوا كلمة الربّ (66: 5-9)

تكلَّم الربُّ وها هو يفعل. إنَّه يتدخَّل من أجل شعبه، لا سيَّما وأنَّ اللامؤمنين أرادوا أن يتحدّوه مثل آبائهم في البرّيَّة (خر 17: 7: »هل الربُّ معنا أم لا؟«).

5 إسمعوا كلمة يهوه،

أيُّها المرتعدون إلى كلمته:

قالوا، إخوتُكم مبغضوكم

نابذوكم لأجل اسمي:

»يتمجَّد يهوه

فنرى (ذلك) في فرحكم،

وهم يخزون.

6 صوت ضجيج من المدينة،

صوت من الهيكل، صوتُ يهوه

متمِّم الجزاء لمعاديه.

7 قبل أن تتمخَّض وَلَدَتْ،

قبل أن يأتي حبلٌ لها

أطلقت ذكرًا.

8 من سمع كهذه؟ من رأى كهذه؟

أتتمخَّض أرضٌ في يوم واحد،

أم تولَد أمَّةٌ مرَّة واحدة؟

لأنَّ صهيون تمخّضت

فولدت بنيها.

9 هل أنا أكسر (الحشا) ولا أولِّد، يقول يهوه،

أمْ أنا المولِّد أحبس (الحشا)، قال إلهك؟

فــي آ5 نقـرأ ، يتمـجَّـد. هـو المضارع، في معنى المجهول. لهذا جعلت اليونانيَّة doxasqh، والسريانيَّة ، واللاتينيَّة glorificateur، صيغة المجهــول. وفـي آ5 أيضًــا، ، ونرى نحن. في قمران أشعيا (DSSIsa)

، ويُـــرى هـــو. وكــذلــك فـــي السبعينيَّة kai ojqh. في سائر الترجمات مع المتكلِّم الجمع. في السريـانيَّـــة ، وفــــي اللاتينيَّـــة .videbimus

إذا أردنا أن نفهم موقع ف 66، نتذكَّر التفاعل بين الفئات في أورشليم، ولا سيَّما كهنة صادوق الذين وضعوا يدهم على الهيكل وكلّ ذبيحة. فجاء الكلام النبويّ يحصر المقدّس في الهيكل، والعبادة هي قبل كلِّ شيء قضيَّة ذبيحة. كما أنَّ العائلة الكهنوتيَّة أرادت أن تكون لها الامتيازات كلُّها في الهيكل (66: 21). ولكن المناخ المعارض نجده في نح 22: 27-47 مع مشاركة واسعة في الأناشيد والصلوات والتطوافات، ممّا يعني أنَّ أورشليم كلَّها هي جبل الله المقدَّس، وإليها تأتي الأمم.

في آ7أ أرادت شتوتغارت أن تضيف الفاعل على فعل (ولدت)، ولكن لا حاجة إلى ذلك، فالفاعل هو أورشليـم. كمـا أضـافت المفعـول ، ابن: قبل أن تتمخَّض ولدت »ابنًا«. لا حاجة، بل تصبح الجملة مصطنعة.

* * *

فـي آ8 : أَوَتتمخَّــضُ الأرض؟ الفعل هو في المذكَّر، والفاعل في المؤنَّث. أضافت شتوتغارت ، شــعـب الأرض، مـن أجــل التوافق اللغويّ. ولكن اللاتوافق أمرٌ معروف في صيغة المجهول حيث لا يكون نائب فاعل(17).

اعتبر وسترمان(18) أنَّ آ6-16 تلوَّنت بلون جليانيّ. أمّا فون فَالدوفْ(19) فرأى فيها كلام دينونة ضدَّ الأمم الوثنيَّة. وباورتش (حاشية 2) قرأ في آ18-24 إعلان خلاص، ولكنَّه وافق بأنَّ الشكل الحاضر ذو طابع أدبيّ، لا بالنسبة إلى جماعة أورشليم بقدر ما إلى يهود الشتات المهتدين الجدد. أمّا حدود الحدث فتبدأ بضجّة تعلن أنَّ زمن تجديد أورشليم قد حلَّ (آ6-8)، وتنتهي في آ24 مع كلام عن مصير المتمرِّدين.

ثمَّ إنَّ شكل القول يحدِّد البنية؛ فالقول الأوَّل (آ9) يرى دور الربِّ في ولادة جديدة للمدينة. والقول الثاني (آ12أب) يعلن السلام الجديد الذي يوصله يهوه إلى المدينة. والقول الثالث (آ17) يؤكِّد أنَّ الخطأة المتمرِّدين ماضون إلى نهايتهم. في آ18-19 هي خطبة الله (وأنا عالم). ثمَّ أقوال أربعة تبيِّن الطرق التي تسير فيها أورشليم في هذا الوضع الجديد. (1) فالشعب الآتي من الأمم يسهِّل عودة اليهود (آ20). (2) بعضهم يكونون كهنة ولاويّين (آ21). (3) تدوم الذرّيَّة والاسم حتّى زمن الخليقة الجديدة (آ22). (4) والبشر كلُّهم يأتون من أجل العبادة في المدينة المقدَّسة (آ23). وتنتهي الرؤية كما بدأت مع مشهد بلاط الله السماويّ. فُتحت الحلقة والآن أُغلقت: هو موقف العابدين، لا المخرج التاريخيّ، ما يهمُّ النبيّ.

ونقرأ آ5-9. »اسمعوا«. كلام عزاء يتوجَّه إلى السامعين، الخاضعين للوصايا، فهم بحاجة إلى تشجيع، لا بسبب الغرباء فقط الذين يضطهدونهم، بل بسبب بعض إخوتهم أيضًا. هؤلاء الإخوة المبغضون الذين يتسلَّمون السلطة في أورشليم، يستبعدون المتواضعين الأمناء، يحرمونهم من حقوقهم، يستغلُّونهم (59: 15). ولا يكتفون بأن يُسيئوا إليهم، بل يسعون إلى أن يخسِّروهم إيمانهم بأقوال مشكِّكة (أش 5: 19؛ إر 17: 15؛ حز 12: 21-28؛ رج 2بط 3: 4). قالوا لهم: وعدونا بأنَّ الربَّ يملأ أورشليم بالمجد والتهليل، فإذا لا شيء! لا جواب عند الناس، بل عند الله حين يجعل الكافرين في الخزي (65: 13)، أمّا ضحاياهم فيهلِّلون (66: 10).

فهذا الإله الذي حسبوه لا يفعل شيئًا، ها هو يتجلّى. لا شكَّ في أنَّه لا يُرى، ولكنَّه يُسمع صوتَه من مدينة أورشليم، ومن الهيكل (رؤ 16: 17). هل انتهوا من البناء (آ20)، أم هم في البداية فقط؟ المهمُّ أنَّ الربَّ يُسمع صوتَه من موضع معبده كما الرعد يضجُّ في السماء. فإن شرع الله يتكلَّم بانتظار أن يفعل، فلكي يغطّي بالخزي المعادين (آ14): هم أوَّلاً بنو إسرائيل الذين جحدوا إيمانهم. ثمَّ هم الأشرار في كلِّ الأمم (آ16). أمّا العقاب فلا يقوم في أن يسحق الربُّ هؤلاء المعادين، بل أن يريهم مجدَ الذين كانوا ضحاياهم.

فالمتواضعون الأمناء (آ7-9) الذين لم ييأسوا يومًا من النور الآتي على أورشليم، سينالون البركة، فيرون ما لم يره إنسان، ويسمعون ما لم يسمعه إنسان (64: 3). والمدينة المقدَّسة التي بَدَتْ مثل أرملة، ما كان بإمكانها بعدُ أن تلد

، ولكنَّها الآن تلد ذكرًا، أي شعبًا كاملاً سوف يجتمع في مسيحه (رؤ 12: 5). أن تتمخَّض أمّ (أو: مدينة أمّ) من ولد تحمله في حشاها دون أن تحسَّ بألم المخاض، وأن يكون هذا الولد أمَّةً كبيرة، كلّ هذه معجزات تدلُّ على تدخُّل الله، وهذه »الولادة« العجيبة، هي مجيء أبناء أورشليم أفواجًا. فالربُّ القدير نفسه فتح في جسد الأمَّهات فجوة يظهر منها الأولاد: تكون فرحتُه كبيرة حين يراهم يولَدون، ولا يمنعهم من المجيء إلى العالم مقفلاً أبواب الحياة.

وهكذا برزت صورة الولادة للكلام عن المدينة الجديدة التي دُمِّرت سنة 587 ق.م.، ولبثت كذلك إلى أن عاد نحميا ورمَّم أسوارها سنة 938 ق.م(20). بعد انتظار دام قرنًا ونيِّف، بُنيَت الأسوار خلال سنتين فقط، وذاك أمر لا يُصدَّق (49: 20-21).

4- سعادة من جهة وشقاء من جهة ثانية (66: 10-17)

منذ الآن عرف المؤمنون السعادة داخل أورشليم، أمّا الأشرار فنالوا عقابهم.

10 إفرحوا مع أورشليم

وابتهجوا بها يا كلَّ محبّيها؛

سُرُّوا معها سرورًا،

يا كلَّ النائحين عليها،

11 لكي ترضعوا فتشبعوا

من ثدي تعزياتها،

وتتنعَّموا من درَّة مجدها.

12 لأنَّ هكذا قال يهوه:

ها أنا مائلٌ (واصلٌ) إليها

سلامًا، كالنهر،

وكسيل جارف مجد الأمم،

فترضعون على الجنب،

تُحمَلون،

وعلى الركبتين تدلَّلون.

13 كالرجل الذي أمُّه تعزِّيه،

هكذا أنا أعزّيكم،

وفي أورشليم تعزَّون،

14 فترون ويُسرُّ قلبُكم،

وعظامكم كالنبات تفرخ،

وتعرفُ يدُ يهوه مع عبيده،

ويُعنِّف معاديه.

آ10أ ، مع. تستعمل مع (فرح). تستعمل هنا فقط كما قال يادين(21)، في آ12، في الماسوريّ . الماضي. فترضعون (غازانيوس 464). ألغت السبعينيَّة الفعل وأدخلت ta paidia الأولاد، تفاعل من أجل الأفعال اللاحقة، ممّا دفع شتوتغــارت لأن يصحِّـــح ، ورضــاعتها. ضــاع من قمران أشعيا (DSSIsa) ثلاثة أحرف تقريبًا، وما بقي يختلف بوضوح عن الماســوريّ،

. فـــي الترجـــوم ، وتتنعَّمـون. فــي اللاتينيَّــة sugetis ترضعون كما في الماسوريّ. ومثله السريانيّ: . العطف يربط الفعل بما سبق (فترضعون)، وغياب العطف قبل »وتحللّون« تجعلنا أمام جملة جديدة.

فـي آ12، ، تُحملــون؛ فـي أشعيا قمران ، أنتِ تُحمَلين. في السبعينيَّة: arqhsontai، هم يُحمَلون. سائر الترجمات تتبع الماسوريّ . في آ12 أيضًا : تـدلَّلــون (غازانيوس 1044). أشعيا قمران (أضيفت إلى صيغة استقتل). في اليونانيَّة paraklhqhsontai، يُعزَّون. في اللاتينيَّة blandientur vobis:، يكون سرور لكم. في السريانيَّة: ، تتربّون. فــي آ13 فـي المـاسـوريّ ، تعزَّون. في أشعيا قمران . هي الأكثر استعمالاً(22). في آ14، ، ويعنِّــف (غازانيــوس 276). ويمكن أن يكون الاسم و»العنف«، ممّا يجعلنا في توازٍ مع الشطر السابق (تعزّيه). اقترحت شتوتغارت : وعنْفُه.

جاء الوقت لأورشليم لكي تفرح، بعد أن طال الحزن والحداد، كما قال سفر المراثي؛ رج 60: 20؛ 61: 2-3؛ مز 26: 8؛ 122: 6؛ 137: 6. ويلتقي بنو الشتات ويقيمون في أورشليم التي تجدَّدت فجدَّدت معها الإيمان في القلوب والرجاء. يأتون حاجّين إليها، فينالون العزاء حين يرون ازدهارها. وفي النهاية، يهوه هو ينبوع كلِّ عزاء.

كثر الآتون، فسيطر الفرح في المدينة المقدَّسة: »فرحتُ بما قيل لي إلى بيت الربِّ نذهب« (مز 122: 1). »عندما ردَّ الربُّ زهوة صهيون كنّا كالحالمين« (مز 126: 1). كان المتردِّدون يقولون: لا نرى أثرًا للفرح (آ5). ولكن ها هو الفرح في الذروة. والذين أحبّوا أورشليم وحَدُّوا عليها في الماضي، يُدعَون إلى البهجة والسرور والفرح، مع الله الذي فرح بما عمله لها، وبما عمل للعالم بواسطتها: »وتكون بهجة أورشليم بهجتي، وفرح شعبها فرحي« (65: 19). أورشليم هي أمٌّ وفي الوقت ذاته مرضع بل أفضل المرضعات، إذًا تغذّي أولادًا لا عدَّ لهم.

والسلام يأتي على المدينة كنهر فائض (آ12). والأطفال العائدون يُدلَّلون ويُجمَعون في المدينة المقدَّسة. والله يعزِّيهم فيتعزَّون. يرون خيرات الربِّ فتنتعش عظامهم ولو كانت في القبر.

ساعة كان عباد الربِّ يبتهجون في أورشليم التي لبست حلَّة قشيبة (آ10-14)، كان الأشرار ينالون عقابهم. هذا ما نقرأ في 66: 15-17.

15 لأنَّ هنا يهوه بنار يأتي،

وكالزوبعة مركباتُه،

للردِّ بحموِّ غضبه،

وزجره بألهبة نار،

16 لأنَّ بنارٍ يهوه يحكم

بسيفه كلَّ بشر،

وقتلى يهوه يكثرون.

17 المتقدِّسون والمتطهِّرون

إلى الجنّات

وراء واحدة في الوسط،

أكلوا لحم الخنـزير

والمكروه والفأر،

معًا يفنون يقول الربّ.

فـي آ15، ، فــي النـار. فـي مخطوطين عبرانيّين ، كالنار، كما في السبعينيَّة wV pur. في قمران وسائر الترجمات، مثل الماسوريّ

. ثـمَّ ، غضبـه. في قمران أشعيـــا يتكـرَّر (خطأ ناسخ؛ رج كوتشر، حاشية 6، ص 545).

فـي آ16 (انفعـل): يحـاكـم (غازانيوس 1047). في قمران أشعيا

: يـأتـي ليحكـم. رج مـز 96: 13؛ 98: 9؛ 1أخ 16: 33. (رج كوتشر، حاشية 6، ص 545). أضافت السبعينيَّة pasa h gh: كلّ الأرض. في السريـانيَّة (يـديــن). ثـــمَّ ، بسيفــه. اقترحـت شتوتغـارت

، امتحن بـهـا. رج الآراميَّـة ، امتحن. تـبـعـت هـــذا الخـطّ السريانيَّة فقالت: ، وامتحن بها (= بالنار) كـلّ بشـر. ثـمَّ ، الـربّ. ألغى قمران أشعيا هذا اللفظ. تبع السريانيّ الماسوريّ: : قتلى الـربّ. وأخيـرًا ، ويكثـرون، كما في قمران. قلب الترجوم الترتيب فــقــال: ، وكثيرون القتلى. في السبعينيَّة polloi traumatiai esontai، كثيرون يكونون جرحى.

في آ17 ، واحـد. مذكَّـر. فـي قمران: واحدة. مؤنَّث. في السريانيَّة:

: واحد بـعد واحد. ثمَّ ، والمكــروه. (غازانيــوس 1054)، لفظ يرد مرارًا في سفر اللاويّين؛ رج حز 8: 10؛ في قمران أشعيـا صيغة أكثــر انتشـارًا (رج كوتشر، ص 386). في السريانيَّة : الدبيب. أمّا سائر الترجمات فتبعت الماسوريّ.

هنا بدا الله المقاتلَ الإلهيّ(23) الذي يُعمل السيفَ فيدين ويحكم. ذُكرت النار والزوبعة فعادت بنا إلى إر 4: 13. رج مز 68: 17؛ حب 3: 8.

جاءت آ14 تؤمِّن الانتقال بين مجازاة المؤمنين بالخير وعقاب الأشرار. كان عقاب للأوَّلين، ورعب للآخرين: جاء الربُّ مع مركباته ليدين، لا بني إسرائيل وحدهم، بل كلّ بشر: فجميع الذين قاوموه، وكانوا كثيرين، سواء أتوا من الشعب أم من الشعوب، يتعرَّضون للفناء، بعد أن يُقطَعوا بالسيف.

ومن هم هؤلاء المحكوم عليهم؟ عابدو الأوثان الذين سبق وتحدَّثنا عنهم، وتُصوَّر الآن أعمالهم: »يتطهَّرون« ليشاركوا في عبادة نجسة. يتقدَّسون (65: 5). من أجل الدخول في الجنائن المقدَّسة (65: 3)، يأكلون لحم الخنـزير، والفأر، والدبيب، كما قالت النسخة السريانيَّة. فماذا ينتظرهم سوى الفناء، كما قال مز 73: 19؟

5- طاعة لله أو معاداته (66: 18-24)

مثلُ هذه الدينونة تعني بني إسرائيل كما تعني الأمم جميعًا. وما يحصل للفئتين لن يكون حالة عابرة، بل حالة ثابتة في صورة مريعة: لا الدود يموت، ولا النار تنطفئ. وما الذي يقرِّر في النهاية مصير البشر؟ الطاعة لله أو معاداته ورفض وصاياه.

بداية هذا المقطع جاءت نثرًا (آ18-21) وها نحن نوردها:

18 وأنا بأعمالهم وأفكارهم،

آتٍ لجمع كلِّ الأمم

والألسنة، فيأتون ويرون

مجدي.

19 وأجعل فيهم آية، وأرسل

منهم ناجينَ إلى الأمم:

ترشيش، وفول، ولود، جاذبي

قوس (أو: ماشك، روش)، وتوبال،

وياوان، والجزر البعيدة التي

ما سمعت سماعي، ولا رأت

مجدي، ويخبرون مجدي

في الأمم.

20 ويجلبون كلَّ إخوتكم من

كلِّ الأمم تقدمة ليهوه

بخيول وبمركبة وبهوادج

وببغال وبهجان على جبل

قدسي، قال يهوه، كما

يجلب إسرائيل التقدمة في

إناء طاهر إلى بيت يهوه.

أعمالهم وأفكارهم. اعتبر عددٌ من الشرّاح أنَّ هذين اللفظين خارج الترتيب النصوصيّ. ولكنَّ الضمير »هم« يرتبط بالوثنيّين في آ17. وإن فُهما بشكل تعارض في هذا الموضع، فهما يدخلان في السياق. فكأنَّه يقول: »بالرغم من أعمالهم...، فأنا آتٍ«. حاولت السبعينيَّة أن تواجه الصعوبة فأضافت: epistamai، أعرف. وكذلك فعلت السريانيَّـة: : وأنا أعرف، أعمالهم: . في الترجوم: ، وقدامي انجلت. أمّا قمران أشعيا والشعبيَّة اللاتينيَّة فتبعتا الماسوريَّة. اقترحت شتوتغارت أن تنقل هذين اللفظين إلى آ16: كلّ بشر بسبب أعمالهم...(24)

وطُرح سـؤال حـول : أنا آتٍ. في الماسوريّ: في صيغة المؤنَّث المفرد: أتتْ. في قمران أشعيا : أتوا (أو: أتت للأشياء)، بحيث يكون الفاعل: أعمالهم. أي: أتت أعمالُهم وأفكارهم. في السبعينيَّة ercomai: أجيء. ومثله في اللاتينيَّة venio، في السريانيَّة: لمّا جئتُ. عندئذٍ اقترحت شتوتغـــارت اســـم الفاعل ، آتٍ؛ فالكلام عن مجيء الربِّ فكرة منتشرة في البيبليا(25). أمّا هدف المجيء فجمع الأمم (55: 1-8؛ زك 8: 23) لكي يروا مجده (40: 5؛ 59: 19؛ 60: 1) بحسب ما سبق وقال. هذا ما يحصل في يهوذا (60: 1-3)، وحضور الربِّ يحمل الخلاص لشعبه (62: 11).

قيل عن الربّ إنَّه سيأتي (آ15)، وهو الآن أتى. من جهة يريد أن يكون موضوعَ أفكار وأعمال أولئك الذين يأتون إليه، ومن جهة ثانية، لا يأتي ليعاقب فقط بل أيضًا ليجمع إسرائيل ومع إسرائيل البشريَّة كلّها التي ستأتي إلى أورشليم لترى مجد الربّ. والمجد هو القدرة التي ينشرها الله ليدمِّر الشرَّ ويقيم الخير، ليشتِّت الناكرين ويجمع الذين يعترفون به مخلِّصًا. وإذ أراد الربُّ أن يجعل مجده ملموسًا لدى جميع أمم العالم، وضع في وسطهم آية، ، على جبل صهيون (حز 5: 5). ما تكون هذه الآية بالتدقيق، هذا ما لا يحدِّده النصّ، ولكنَّ السياق يفهمنا أنَّنا أمام ثبات مستمرّ تنعم به جماعة المؤمنين (آ22)، ويحمل الخزي إلى الكافرين (آ24). فكما أنَّ نجاح الخروج الحاسم صار آية مستديمة في نهاية أشعيا الثاني، ففي نهاية أشعيا الثالث صارت الدينونة الحاسمة علامة دائمة.

والفرع اليهوذاويّ الذي أقيم راية للشعوب (11: 10) لا يراه الجميع رؤية مباشرة. فبين الأمم، هناك البعيدون الذين يُتركون وشأنهم، يجهلون إلى زمن طويل المآثر التي أجراها الله وسط شعبه. لهذا أرسل الربُّ مرسلين من أورشليم إلى هذه الشعوب البعيدة. هؤلاء المرسلون دُعوا »الناجين«. فما كانوا ناجين من الأمم دُعوا للعودة إلى الله (45: 20)، بل ناجين من إسرائيل طُلب منهم أن يتوجَّهوا إلى الأمم لكي يبشِّروهم بالمخلِّص الوحيد.

أمّا مجال رسالتهم فواسع وُسعَ العالم. ولكنَّ النصَّ يعطينا رسمة سريعة عن الجهات التي إليها يتوجَّهون، ويذكر الشعوب الغريبة الذين ينتظرونهم: يزورون ترشيش أي إسبانيا ومناطق السودان والصومال، وصولاً إلى البحر الأسود وانطلاقًا إلى اليونان. هؤلاء الأمم لم يسمعوا ولم يروا ما حصل من قبل (آ8): عملُ الله الحيّ الذي هو أقوى من كلِّ قوى الشرّ، فيتغلَّب عليها ويُخرج شعبًا من المؤمنين موحّدًا. هؤلاء المرسلون يبشِّرون بمجد الله، بوزنه في العالم.

. هذه الآية(26) في 7: 14 هي طفلٌ سوف يُولَد. في 19: 20 هي نُصُب على حدود مصر. في 55: 13 هي عودة الفرح إلى أرضٍ تجدَّدت، أمّا هنا فلا تحدَّد الآية. هي »فيهم«، أي في الأمم، وقد أقامها الربّ.

* * *

في آ20 نفهم أنَّ المؤمنين في الشتات يحملون إخوتكم من كلِّ الأمم، على مستوى العهد كما على مستوى الإيمان. والمجهود لحمل الحجّاج إلى صهيون، يوازي مجهود المؤمنين في أورشليم لكي يُعيدوا بناء المدينة، فتعود البركة إليها. انفتاح على الأمم والألسنة، فلا حاجز بعد اليوم في أروقة اليهكل، بل لا حاجز على مستوى المجموعات. يُؤخَذ الكهنة واللاويّون أيضًا من الوثنيّين الآتين إلى الحجّ، والهيكل الذي كان مخصَّصًا للذبائح صار »بيت صلاة لجميع الشعوب« (56: 7).

(آ20): هجـان. نـوع من الجمال. لا يرد اللفظ إلاّ هنا (غازانيوس 503). ألغت السبعينيَّة اللفظ. في سِيّماك (ترجمة يونانيَّة غير السبعينيَّة) joreioiV، محفل، محفّة. في الترجوم ، تـسـابـيــح. فــي الـلاتـيـنـيَّــة carrucis، عجلة. في السريانيَّة: ، عجلة بحصانين.

في آ21 يُقال بحسب قمران والسبعينيَّة: ولاويّين لي. في الماسوريّ، لا وجود للعطف بين »الكهنة« و»اللاويّين«، وكأنَّ الكهنة هم اللاويّون. في السبعينيَّة والسريانيَّة نجد الواو: .

وصل البلاغ إلى هؤلاء الناس في كلِّ مكان، فانطلقوا إلى المدينة التي نعمت ببركات الله، ومعهم إخوة آتون من البعيد، وتنوَّعت وسائل النقل إلى الجبل المقدَّس. هؤلاء يحملون تقدمة في أيديهم، بعد أن صاروا كهنة من الغرباء المهتدين إلى الربّ، في خطِّ ما نقرأ في 56: 3: »لا يقُل الغريب: لا بدَّ أن يفصلني الربُّ عن شعبه!«.

وهكذا انفتحت أمام الغرباء أبواب أورشليم والهيكل. هذا لا يعني إلغاء امتيازات الشعب، بل تمتينها، لأنَّ شعب يهوذا وأرضه صارَا موضع تجمُّع أمم الكون. »نسل« يهوذا يبقى ثابتًا مثل السماوات والأرض التي أقام الربُّ (65: 17). وكما أنَّ الخلق الأوَّل وجد ذروته في نظام السبت (تك 2: 2-3)، كذلك تجد الخليقةُ المجدَّدة ذروتها في السنة، ولا مرَّة في الشهر (في بدايته) بل مرَّة كلَّ أسبوع حين يأتي بنو إسرائيل وبنو آدم، أي البشر جميعًا الساكنون في الكون: من جيل إلى جيل تحتفل أمم العالم بيوم الربِّ في أورشليم (آ22-23).

هنا نعود إلى الشعر في النصِّ الأشعيائيّ:

22 لأنَّ كما السماوات الجديدة

والأرض الجديدة التي أنا

صانع،

واقفة أمامي، يقول الربّ،

هكذا يقف زرعكم

واسمكم.

23 ويكون مدى شهرٍ بشهره

ومدى سبتٍ بسبته

يأتي كلُّ بشر للسجود أمامي

يقول يهوه.

ذاك وضع المؤمنين. ولكن حين يخرجون من المدينة، لا يمكن إلاّ أن يروا جثث المتمرِّدين على الربّ، وتلك رؤية لا يمكن أن تُنسى(27).

24 يخرجون وينظرون

في جثث الناس المتعدِّين

عليَّ،

لأنَّ دودتهم لا تموت،

ونارهم لا تنطفئ،

ويكونون ازدراء لكلِّ بشر.

، ازدراء (غازانيوس 201). لا يرد هذا اللفظ إلاّ في دا 12: 2، وفي الإطار عينه من الدينونة، وفصل الأبرار والأشرار. فقُرْبَ عظمة الهيكل تكون تعاسة جهنَّم، في خطِّ آ24. قال ابن سيراخ متوجِّهًا إلى المؤمن:

لا تصاحب الأشرار،

وتذكَّر أنَّ غضب الله لا

يبطئ.

تواضعْ إلى أقصى حدّ،

لأنَّ فساد الربِّ يصيب

الأشرار (سي 7: 16-17).

وجاء نصّ يهوديت أقرب إلى أشعيا، وذلك في النشيد الأخير مع نظرة منغلقة:

الويل لأمَّة تقاوم شعبي،

ففي الآخرة يعاقبها الربّ

بالنار والدود في لحومهم

فيتألَّمون ويبكون إلى الأبد (يه 16: 17).

وفي النهاية، وصل النصُّ إلى العهد الجديد في تحذير لمسبّبي الخطايا. يختار المؤمن الدخول إلى الملكوت أو »يُرمى في جهنَّم حيث الدود لا يموت والنار لا تنطفئ« (مر 9: 47-48). مشهد مريع يدلُّ على كارثة لا تُوصَف، وعذاب لا انقطاع له. وقد جُعل هنا لينبِّه الناس ويدعوهم إلى الخلاص. فرؤية شقاء الأشرار تكون نداء للهرب من الشرّ.

الخاتمــــة

منذ البداية إلى النهاية، بدا أش 66 موقعًا ينقسم فيه الأبرار والأشرار في دينونة أخيرة. المؤمنون من جهة، والرافضون من جهة أخرى، على ما في مشهد الدينونة في إنجيل متّى (مت 25: 31-46). لا مجال بعدُ لهيكل من حجر يريد أن يحصر الله بين جدرانه. صار الكون كلُّه هيكل الله. والناعمون بحضور الله لا يكونون فقط من شعب إسرائيل، بل من كلِّ شعوب الأرض. وكذلك الهالكون: من رفض وصيَّة الله، سواء كان من اليهود أو من الأمم، ينتظره العقاب الذي طلب، على ما قال الرسول: »الويل والعذاب لكلِّ إنسان يعمل الشرّ، من اليهود أوَّلاً ثمَّ اليونانيّين« (روم 2: 9). تبدَّل الوضع، وزال حصر الخلاص في شعب واحد. »فالله لا يحابي أحدًا« (آ11). وأورشليم لن تبقى مدينة مغلقة، بل مشرَّعَة على كلِّ شعوب الأرض. فأبوابها تبقى مفتوحة (رؤ 21: 25) لأنَّ العيد فيها لا ينتهي، والمشاركون يتوافدون ليشاهدوا مجد الربِّ في صنائعه. أرسلت أورشليم المبشِّرين إلى ترشيش وفول ولود وإلى سائر الأمم، وها هم يعودون، فيكونون »في الداخل«، لا »في الخارج«، لأنَّ »أسماءهم مكتوبة في كتاب الحياة، كتاب الحمل« (آ6). وهكذا ينتهي سفر أشعيا في قلب العهد الجديد مع وجه المسيح الديّان والمخلِّص؛ فهو في النهاية لا يريد أن يهلك أحد، بل أن يخلص الجميع ويأتوا إلى التوبة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM