الفصل الرابع :كيف تكلم أيّوب عن الله

الفصل الرابع
كيف تكلم أيّوب عن الله

سفر أيّوب(1)كتاب مليء بالأسرار، ما يزال يدهشنا ويملأنا إعجابًا ويدعونا إلى بناء أنفسنا، وما زال الشرّاح يدرسونه ليلجوا إلى أعماقه (2) وليوضحوا معناه.
هناك أوّلاً مسألة الألم التي ترافق "بطل " الكتاب. وقد بحث الباحثون عن مرض أيّوب، عن هذا القرح الخبيث الذي إلّم به (قال بعضهم: ليس البرص التقليدي). ولكن لا يكفي أن يقول إنّ أيّوب يعالج مسألة الألم، فنحن أمام إلى البريء(3) (الخاطئ وحده يُعاقَب حسب تقليد التوراة). وتتكاثر الأسئلة والمجادلات. هل يُنظَر إلى هذا الألم الذي يتحمّله البريء من جهة الإنسان أم من جهة الله؟ قال بعض الكتّاب بالرأي الأوّل، واعتبروا أنّنا أمام كتاب عملي ووجودي، كتاب يعالج الجانب البشري، الوجهة الأخلاقية: ماذا يجب على الإنسان أن يعمل في الألم؟ كيف يجب عليه أن يتصرّف(4) (قال غونزاليس: ليس الألم الموضوع المركزي في أيّوب، بل الصراع للخروج من الألم)؟ فشدّدوا على الوجهة التي تتحدّث عن محنة الإيمان: كيف نحافظ على الإيمان (قال تاريان(6) : ما بحث الشاعر عن حل لمسألة الألم. بل كان هدفه أن يبيّن انتصار الإيمان فيْ تجرّد الإنسان الكامل عن ذاته؟ وهكذا يِدرس الكاتب التصرّف الأخلاقي والديني لبريء يتألّم. وأخذ كتّاب آخرون بالرأي الثاني فاعتبروا أنّ الكتاب يتطرّق إلى الجانب الإلهي من مسألة الألم. إنّ مسألة ألم البريء يطرح مسألة العدالة الإلهية، والصراع بين عدالة الله وعدالة الإنسان(7) فيقلب رأسًا على عقب التعليم عن المجازاة. قال بوب : لسنا أمام مشكلة الألم. بل أمام الإله المتسامي. ما هو دوره في عالم الإنسان وفي أموره؟ وهكذا يصبح الكتاب علمًا عن الإلهيات. وعُرضت أيضاً مواضيع أخرى: الصلاة(9) (تواجه الإنسان مع الله فلم يعد يقدر أن يتحدّث إليه، ولكنّه في النهاية استطاع أن يكلّمه من جديد)، العلاقات البشرية(10) (صعوبة الناس في التفاعل والحوار والتفاهم)، الصداقة(11) (هل نكتشف أصدقاءنا حين نخسر الله؟)... لا شكّ في أنّ الكتاب يتطرّق إلى هذه الوجهات المتعدّدة. ولكنّنا نطرح السؤال: ما هو الموضوع الرئيسي؟ فمان اكتشفناه كان الباقي شيئًا ثانويًا.
ويرتبط هذا البحث بمسألة تأليف الكتاب. شدّد الشرّاح في الماضي على الوجهة التفصيلية(12) وابرزوا الفروقات في الأسلوب: المقدّمة والخاتمة هما خبر قديم وكتاب شعي دُوّن نثرًا، بينما دوّنت الحوارات شعرًا. وتحدّثوا عن التعارضات في داخل الكتاب: أيّوب رجل صبور في المقدّمة (رج يع 5: 11)، ولكنّه ثائر في الخطب والحوارات. وهناك بعض الفوضى: من أين جاء اليهو وهو الذي لم يُذكر في المقدّمة ولا في الخاتمة. ويودّ هذا التحليل التفصيلي أن يكتشف مراحل تدوين الكتاب: ماذا كان في البداية؟ ما الذي زيد فيما بعد؟ كيف تطوّر الكتاب؟ مثلاً، درس الأب لافاك الأقسام النثرية ثمّ الأقسام الشعرية وأخيرًا الزيادات والقراءات الجديدة. واستنتج شرّاح أنّ أيادي عديدة كتبت أيّوب. واستنتج آخرون أنّ يدًا واحدة كتبته. وقالت فئة ثالثة: دوّن الكاتبُ كتابَه مرّة أولى ومرّة ثانية ومرّة ثالثة(13) .
ولكن بدأ الشرّاح يعودون إلى القراءة الإجمالية(14). أخذوا الكتاب كما هو الآن، وكما يجده القارئ بين يديه. ونحن سننطلق من عبارة وردت في أواخر الكتاب. قال الرب لأليفاز التيماني: "اضطرم غضبي عليك وعلى صاحبيك، لأنّكم لم تتكلّموا أمامي (أو عنّي) بحسب الحق (أو بصورة صحيحة) كما فعل عبدي أيّوب " (42: 7). إنّ هذه الآية تبدو صعبة وهي تطرح سؤالاً. كيف نقدر أن نقول، بعد أن نقرأ بعض تعابير أيّوب الجريئة، إنّ أيّوب تكلّم أفضل من أصحابه، إلامَ يلمّح هذا الكلام؟ هل يلمّح إلى ما قاله أيّوب خلال حواره مع أصحابه، أو إلى جوابه إلى الله؟ وتتعقّد المشكلة لدى الذين يفصلون القسم النثري (المقدّمة والخاتمة) عن القسم الشعري: ولكنّ الأصحاب لا يقولون كلمة في مقدّمة الكتاب، بل هم ظلّوا صامتين "سبعة أيّام وسبع ليال ولم يكلّمه أحد منهم بكلمة" (13:2). وفرضَ بعضُ الشرّاح وجود حوار قصير بين أيّوب وأصحابه في القسم النثري، ولكنّ هذا الحوار اختفى يوم أقحم الحوار الشعري الطويل. ولكن ماذا نعرف عن هذا الحوار القصير؟ نحن أمام مجرّد افتراض لا نستطيع أن نبرهن عنه. وبحث الشرّاح عن التعارضات: لماذا لم يظهر أليهو في بداية الكتاب ولا في نهايته؟ جاء الأصدقاء الثلاثة من مكان بعيد، وظلّوا وقتًا طويلاً مع أيّوب. أمّا أليهو فأقام مدّة قصيرة. ما إن جاء حتّى ذهب. أمّا الشيء الأكيد بالنسبة إلينا فهو الكتاب في شكله الحالي. نحن لا نهتمّ الآن هل دوّن أيّوب مرّة واحدة أم على دفعات، هل هناك كاتب واحد أم كتّاب عديدون. نحن ندرس الثمرة الأخيرة التي يتذوّقها القارئ العادي ويتغذّى منها. نحن ندرس نصًّا له معناه المحدّد بالنسبة إلى "الناشر" الذي قدّم لنا الكتاب.

أ- هدف سفر أيّوب: كيف نتكلّم عن الله ساعة الألم
هناك مبدأ أوّل: ما هو التحوّل الذي تمّ في شخص من الأشخاص بين البداية والنهاية؟ هذا ما نطبّقه على أيّوب. فالمقدّمة تصوّر الحالة الأولى لأيّوب (1: 1- 5) والنهاية تصور الحالة الأخيرة (42 : 10- 17). في المقطعين، يعدّد الكاتب الحيوانات التي يمتلكها أيّوب ، ويعلن أنّه كان له سبعة بنين وثلاث بنات. كان أيّوب رجلاً غنيًا، رجلاً سعيدًا، رجلاً باركه الله. هذا ما نقوله في البداية وهذا ما سنقوله في النهاية: "رأى أيّوب بني بنيه إلى أربعة أجيال. ثمّ مات شيخًا قد شبع من الأيّام " (42: 16). وسيزيد النصّ اليوناني ليبرز سعادة أيّوب: " وكُتب أنّه سيقوم في اليوم الأخير مع الذين يقيمهم الرب ".
ولكن كان تبدّل بين البداية والنهاية. فالنصّ يقول: "وردَّ الرب إلى أيّوب ما خسره، بل ضاعف ما كان له من أموال " (42: 10). "وبارك الرب حالة أيّوب الأخيرة أكثر من حالته الأولى" (42: 12). وهذا ما نقدر على ملاحظته: في البداية، 7000 من الغنم، 3000 من الإبل، 500 جوز من البقر و 500 أتان. وفي النهاية: 14000 من الغنم، 6000 من الإبل، 1000 جوز من البقر، ألف أتان (1: 3 و 42: 12). إذن، حصل شيء ما. لقد صار أيّوب أغنى ممّا كان، وكان وضعه الأخير نتيجة ما أعاد إليه الله وزاد، هذا يفترض حرمانًا. ونحن نلخّص التحوّل في الخبر كما يلي: كان أيّوب غنيًّا فخسر كل شيء. ولكن تبدّل وضعه فعاد إلى غناه(15) .
هنا نتساءل: ما الذي سبّب هذا التحوّل؟ ما هي المناسبة التي أعطتنا خبرًا؟ نحن نجد الجواب في المقدّمة، وحالاً بعد الوضع الأوّل الذي نرى فيه أيّوب. نجده في المحادثة بين الشيطان والرب (1: 6- 12؛ رج أيضاً 2: 1- 7أ). إمتدح الربُ أيّوب أمام الشيطان: "هل لاحظت عبديَ أيّوب؟ لا مثيل له على الأرض " (1: 8). ولكنّ الشيطان شكّ وارتاب في كمال أيّوب المزعوم. ليس من الصعب أن يكون الإنسان مستقيمًا حين تسير الأمور على أحسن ما يرام. ولكن ماذا يفعل أيّوب حين يحلّ به الضيق؟ واقترح الشيطان اقتراحًا خبيثًا: سيراهن الرب: "مدّ يدك وامسس (ضع يدك على) أملاكه. أقسم لك (أراهنك على) أنّه سيجدّف عليك في وجهك " (1: 11). تدلّ هذه العبارة بوضوح على المحنة التي سيمرّ فيها أيّوب. ونزلت المصائب بأيّوب تمتحنه. أمّا السؤال المطروح: ماذا سيقول أيّوب حين يحلّ به الشقاء؟ إنّ الشيطان مقتنع بأنّ أيّوب سيجدّف على الله في وجهه. سمح الرب بأن يُحرَم أيّوب من كل شيء، ونحن ننتظر ماذا سيقول أيّوب بعد أن صار فقيرًا.
وإذا أردنا أن نعرف مَن ربح الرهان، يجب أن ننتظر نهاية الخبر. الجواب في ما قاله الرب لاليفاز: "اضطرم غضي عليك وعلى صاحبيك لأنّكم لم تتكلّم عنّي بطريقة صحيحة كما فعل عبدي أيّوب " (42: 7). المهمّ لا ما قالوا من كلام، بل الطريقة التي بها قالوا هذا الكلام أو ذاك (16).
ونتساءل: أما كان يجب أن يحلّ الرهان بين الله والشيطان؟ أمّا هنا فالرب يقدّم تقديره لأيّوب لا إلى الشيطان بل إلى اليفاز. ولكنّ هذه الصعوبة ظاهرة أكثر منها حقيقية. فقد بدأ الرهان في البلاط السماوي، ولكنّ أيّوب تحمّل المحنة على الأرض. وعلى الأرض اتّهم الأصدقاء الثلاثة أيّوب بعدم أمانته، ووبّخوه على كلامه الذي لا احترام فيه، فلعبوا بصورة من الصور دور الشيطان هنا. إنّهم قد دفعوا أيّوب إلى مثل هذه الأجوبة بكلماتهم المثيرة. وقد سمّاهم بعض الشرّاح "شيطانيين " (أعطوا الحقّ للشيطان وتوسّعوا في أخلاقيّة تجارية). إذًا، يبدو أنّ الجواب على رهان الشيطان تتضمّنه كلمة الله لأليفاز. لقد أعلن الرب أنّ أيّوب ربح الرهان. هو لم يلعن الله في وجهه، بل كان الوحيد الذي تكلّم عنه بصورة صحيحة.
وإذ نقابل بين البداية والنهاية نتوقّف عند تفصيلين. لمّا رأى الشيطان أنّ أيّوب لم يلعن الله مع أنّه خسر كل أمواله، عاد إلى هجومه وحاول أن يمتحنه بالمرض. إذن، يُقدَّم الرهان على دفعتين: "أقسم لك أنّه يجدّف عليك في وجهك " (1: 11، 2: 5). ونحن لا نعجب إن امتدح الله أيّوب مرّتين. "لم تتكلّما عنّي كما فعل عبدي أيّوب " (7:42، 8).
في البداية، كان أيّوب يقدّم محرقة عن كل من أبنائه السبعة ويقول: "لعلّهم خطئوا وجدّفوا على الله في قلوبهم " (1: 5). إنّ أيّوب الذي امُتحن على مستوى الكلام (هل سيلعن، هل سيجدّف؟) اهتمّ بكلام أبنائه فقدّم عنهم ذبائح. وفي نهاية الكتاب سنجد ذبائح أيّوب وتشفّعه من أ"جل سبب مماثل: لم يتكلّم أصدقاؤه بطريقة صحيحة مع الله (بل بصورة خاطئة). قال الرب: "والآن خذوا لكم سبعة ثيران وسبعة كباش وانطقوا إلى عبدي أيّوب. أصعدوا محرقة عنكم، وعبدي أيّوب يصلّي من أجلكم " (8:42).
إذن، المسألة هي مسألة كلام: كيف سيتكلّم؟ لقد تكلّم بطريقة صحيحة. إنّ عبارة "كيف يتصرّف " في البداية ستصبح في النهاية: كيف سيتكلّم؟ ونحن نعلم أنّ الكتاب مؤلّف من حوارات. لا أحداث تحصل فيه والحركة الوحيدة هي تدخّل محاور أو خروجه. لا تورد الخطبُ أيَّ حدث. فالأشخاص يكتفون بالكلام. والكلام حاضر في القسم الشعري كما في القسم النثري. وحين تحلّ الضربات بأيّوب، فهولا يشاهدها، بل تصل إليه عبر كلام يحمله إليه المرسَلون. ويتكلّم أيّوب فيستنتج الراوي: "في كل هذا الشقاءْ لم يخطأ أيّوب ولم يوجّه إلى الله عتابًا غبيًّا" (1: 22). وهذا يبيّن أنّ الخطيئة التي كان بإمكانه أن يرتكبها هي خطيئة الكلام. وفي الامتحان الثاني، كان أيّوب في حوار مع امرأته بعدما إلى به المرض، قال الراوي: "وفي كل هذا الشقاء لم يخطأ أيّوب في كلامه " (2: 10).
إذًا "الكلام " هو الذي يوحّد كل نصّ أيّوب. ولكنّنا نميّز بين ما "يقال" و "كيف يقال ". فالكتَّاب الذين اعتبروا أنّ مضمون الكتاب هو الألم أو العدالة، أو شيء آخر، شدّدوا على ما قيل في الكتاب. ولكنّنا شدّدنا بالأحرى على "كيف قيل ". فهذا الإنسان الذي يتألّم، كيف سيتكلّم عن الله. هذا هو الامتحان.
ولكنّ الكلام يتوجّه إلى شخص آخر. قد يكلّم الإنسان نفسه فنكون أمام مونولوج. وقد يكلّم شخصاً آخر فنكون أمام حوار. ندّد النصّ بالأصدقاء لأنّهم لم يتكلّموا بطريقة صحيحة عن الله. أمّا الشخص الوحيد الذي كلّموه فهو أيّوب. أمّا أيّوب فقد كان له محاورون عديدون: نفسه، امرأته، أصدقاؤه الثلاثة، أليهو (ظلّ أيّوب أمامه صامتًا)، الرب. ونلاحظ أنّ الأفق يتّسع فيضمّ كل عناصر النصّ: كيف نتكلّم عن الله عندما نتألم؟ كيف نكلّم الإنسان المتألّم عن الله؟ وهكذا نستطيع أن نحدّد هدف سفر أيّوب: كيف نتكلّم عن الله في وقت المرض؟ هذا ما يسمّى الكلام الديني.
فما هو هذا الكلام الديني الذي يتوسّع فيه الكتاب؟ هناك أنواع عدِّة، ونحن لن نهتمّ
بما يقال، بل بطريقة قوله، مع العلم أنّ الوجهتين مرتبطتان ارتباطاً عميقًا. ولا ننسى أنّنا مع سفر أيّوب في عالم الحكمة الذي يشدّد على الكلام وعلى الصمت.

ب- أنواع الكلام الديني في سفر أيّوب
1- لغة الإيمان الشعبي: أيّوب وامرأته (1: 13- 22؛ 2: 7 ب- 10)
قَبل الربّ رهانَ الشيطان وصار أيّوب فقيرًا. عليه في هذه الحال أن يمرّ في المحنة. أعلن أيّوب: "عريانًا خرجت من بطن أمّي وعريانًا أعود إلى بطن الأرض. الربّ أعطى والرب أخذ، فليكن إلى الربّ مباركًا" (1: 21). وهكذا عبر أيّوب الامتحان بنجاح. لم يستعمل لغة اللعن كما أعلن الشيطان فقال: "أقسم لك إنّه يلعنك في وجهك " (1: 11). بل استعمل لغة المباركة، وشتّان ما بين اللعن والمباركة.
وبعد محاولة الشيطان الثانية وضرب أيّوب بالبرص، قالت امرأة أيّوب لزوجها: "لماذا أنت ثابت في طريق الكمال؟ جدّف (أو العن) الله ومُت " (2: 9). نحن ننتظر أن يربح الشيطان رهانه في هذه المرّة. فلقد أشارت المرأة على أيّوب أن يفعل كما انتظر الشيطان فيستعمل لغة اللعن. ولكن لم يحدث شيء من هذا. أجاب أيّوب امرأته: "أنت تتكلّمين وكأنّك مجنونة. إذا كنّا نقبل الخير (أو السعادة) (عطيّة) من الله، فلماذا لا نقبل أيضاً الشرّ (أو الشقاء) " (2: 10)؟
وخرج أيّوب منتصرًا على دفعتين. ولكن بأيّ نوع من الكلام؟ إنّ ما قاله أيّوب يشبه كليشاهات. فكأنّي به يورد أمثالاً قديمة(17) يردّدها الناس الأتقياء في أيّامنا حين يمرّون في ظروف قاسية. لا يهمّنا أن يكون أيّوب اخترع هذه العبارات أو أخذها من اللغة الدينية في عصره. إنّ أيّوب وامرأته يستعملان "لغة الإيمان الشعبي ". فأمام الألم والمرض والحرب والموت، موقف الناس هو هو. بعضهم يرفض إلهًا يُفترَض أن لا يسمح بمثل هذه المصائب. إنّ امرأة أيّوب تدخل في هذه الفئة. وبعضهم يقبل هذا الإله في إيمان أعمى يعبّرون عنه بكليشاهات شبيهة بتلك التي استعملها أيّوب. قد ينبع هذا الكلام عن إيمان عميق فيكفي الإنسان في حياته أو أقلّه في قسم من حياته. ولغة الإيمان الشعبي كفت أيّوب ليقبل بفقره ومرضه في هذه المرحلة الأولى.

2- اللغة اللاهوتية: أصدقاء أيّوب الثلاثة (2: 11- 31: 40)
ويتواصل الخبر بمجيء أصدقاء ثلاثة هم: اليفاز التيماني، بلدد الشوحي، صوفر النعماتي. أُخبروا بالشقاء الذي حلّ بأيّوب. لا يدلّنا النصّ على مصدر معلوماتهم، بل يكتفي بأن يشير إلى نيّتهم: "قرّروا معًا أن يأتوا إليه فيرثوا له ويعزّوه " (2: 11). يريدون أن يحملوا إليه كلام التعزية. ولمّا وصلوا إلى "بيته " صمتوا: "جلسوا بقربه (معه) على الأرض، وظلّوا هكذا سبعة أيّام وسبع ليال، ولم يكلّمه أحد بكلمة حين رأوا ألمه العميق " (2: 13). إذن، صمتهم هو كلمة تعزية. في ساعة الألم، يتوقّف اللسان عن الكلام، لان ليس له ما يقوله. فالإنسان المتألّم يحتاج إلى حضور لا إلى كلام. ماذا نقول للمريض؟ إن قلنا له أنت بصحّة جيّدة، نكذب عليه. فهل نقول له: أنت في حالة سيّئة؟ يروى عن امرأة تزور مريضة أنّها كانت تقدّم لها هذا الخبر أو ذاك... لا تبقى طويلاً حتّى لا تتعب المريضة.
ورأى أيّوب ألمه يتواصل والسؤالات تنطرح: "لماذا لم أمت من الرحم؟ لماذا صادفت ركبتين؟ لماذا يُعطى للشقيّ نور وللمجروح حياة؟ لماذا تُعطى الحياة لإنسان تبدو الطريق أمامه مسدودة" (3: 11، 12، 20، 23)؟ ويُلقي أيّوب خطبة طويلة (3:3- 26) يكلّم فيها نفسه. هو لا يكلّم أحدًا. لا يوجّه كلامه مباشرة إلى الله ولا إلى أصدقائه. من له أذنان سامعتان فليسمع. نحن أمام مونولوج. الشكّ بدأ يدخل إلى قلب أيّوب المؤمن. ويلخّص الراوي هذا المونولوج بأمانة فيقول: "أخيرًا، فتح أيّوب فمه ولعن يومًا وُلد فيه " (3: 1، رج آ 8). ولكنّ الشيطان لم يربح بعد رهانه. فأيّوب لم يلعن الله في وجهه. صار أيّوب المؤمن الذي يتساءل، الذي يحاول أن يفهم. إنّه يوجّه نفسه نحو اللغة اللاهوتية، والاهوت كما قال الأقدمون هو الإيمان الذي يطلب العقل.
وظنّ الأصدقاء الثلاثة أنّهم مدعوّون إلى الإجابة على الأسئلة التي طرحها أيّوب. وستتحرّك المحادثة في مجال التفاسير والأجوبة. إذن، نحن هنا في ملء اللاهوت. كيف سيتصرّفون؟ كيف سيكلّمون هذا الإنسان المتألم(18) عن الله؟
لن نبحث عن ميزات لغة كل من الأصدقاء الثلاثة (لهجة مفخّمة أو مثيرة للأعصاب)، بل نأخذ كلامهم بطريقة إجمالية. إنّهم يحدّثون أيّوب في صيغة الخاطب المفرد: "إن وجَّهنا إليك كلمة، هل تتحمّل " (4: 2)؟ رغبوا في أن يقولوا له شيئًا، في أن يقدّموا له تفسيرًا. ما هي منابع تفكيرهم؟ الوحي الإلهي. قال اليفاز: "قد وصلت إليّ في السرّ كلمة وحي " (4: 12). ثمّ التقليد. قال بلدد: "إسأل الأجيال السابقة" (8: 8). وتكلّم اليفاز عن "تقليد الحكماء" (18:15). ثمّ الخبرة الشخصية والتأمّل فجها. قال واحد: رأيت أنّي أتكلّم عن خبرة (8:4؛ رج 17:15). وقال آخر: رأيت الغبيّ يتأصل (تتثبّت أصوله) (3: 5). وهكذا استنفدوا منابع اللاهوت الثلاثة فاستعدوا لإعلان عقيدة المجازاة: "للبار السعادة وللشرير الشقاء" (رج 4: 7- 8). والعقيدة لا تُناقض: "هذه هي الحقيقة" (27:5).
وبعد أن عرضوا نظريّتهم، طبّقوها على وضع أيّوب كما لمسوه. أيّوب يتألّم، إذن هو شرّير. فإذا كان الواقع الملموس يعارض النظرية، حينئذ نميّز بين الظاهر والحقيقي. قال أيّوب إنّه بار. لا، إنّه يبدو بارًّا. هذا في الظاهر، أمّا في الوافي فهو ليس ببار. أيّوب هو في عين نفسه بار، ولكنّه في عالم الغشّ في عين أصدقائه. وأسندوا كلامهم إلى الحكمة والخبرة: "كيف يمكن للإنسان أن يكون طاهرًا، كيف يكون ابن المرأة بارًّا" (15: 14)؟
وتمرّ أوقات نحسّ فيها وكأنّ أيّوب يتابع مونولوجه دون أن يوجّه كلامه إلى محاور معيّن. هو ما زال يطرح على نفسه الأسئلة: "أينهق الحمار البريّ والعشب أمامه؟ أيخور الثور والعلف بجانبه؟ هل يؤكل التافه من دون ملح؟ هل من طعم للعاب البقول؟ من يعطيني بأن تتحقق صلاتي فيمنحني الله ما أرجو؟ ما هي قوّتي حتّى أنتظر؟ ما هي نهايتي حتّى أبقى في الحياة؟ هل قوّتي قوّة الحجارة وهل لحمي من نحاس؟ أيكون العدم هو العون الذي أنتظر؟ هل أفلت منّي كل عون؟ " (2:6- 13).
ويدخل أيّوب في حوار مع أصدقائه، فيوجّه إليهم كلامه في صيغة الخاطب الجمع: "هل أنتم موجودون؟ لا. رأيتم بليّتي ففزعتم. أنيروني فأسكت. بيّنوا لي ما أخطأت فيه " (6: 21، 24). ويجعل أيّوب نفسه على مستواهم، على مستوى العقل والشروح "الحكمية": "وأنا أيضاً، لي عقل كما لكم، لا أقصّر عنكم في شيء " (3:12). "كل هذا رأته عيني وسمعته أذني ففهمته. أنا أعرف كما تعرفون " (12: 2- 2). تكلّم مثلهم، ولكنّ استنتاجاته اللاهوتية غير استنتاجاتهم. هو انطلق من واقع ملموس وواجه العقيدة. ظنّ نفسه بارًّا لا في الظاهر فقط، بل في الحقيقة. إنّه بارّ: "أنا لا أقول إنّكم على حقّ. وحتّى النفس الأخير أحافظ على القول ببراءتي. أنا متمسّك ببرّي فلا أرخيه. وفي أعماق ضميري لا أخجل من أيّامي " (27: 5- 6). ماذا يقول بعد هذا؟ إنّه يعرف عقيدة المجازاة كما يعرفها أصدقاؤه (16: 2: سمعت كلامًا كثيرًا من هذا النوع. حقًّا، أنتم معزّون متعبون). هنا يُطرح السؤال: هل من تعارض في ظاهر الله وحقيقته؟ يبدو الله ظالمًا في نظر أيّوب. أما يجب إذن أن نستنتج أنّه ظالم؟ وذلك عكس ما يقوله الأصدقاء الذين يعتبرون الله بارًّا. يقولون: الله بارّ هو. فإن لم يكن بارًّا في هذا الواقع المعيّن، فهذا سرّ. وينطلق أيّوب من واقعه. يقول: لا يبدو الله بارًّا (عادلاً). إذا الله هو "الخطأ".
بعد هذا، سيُجمل اليهو براهين أيّوب فيقول: قال أيّوب: "أنّا نقيّ وبلا معصية، أنا طاهر ولا إثم فيّ. ولكنّ (الله) يخترع حججًا (عللاً) ضدّي، يعاملني كعدّو له " (33: 9- 10). "أنا بارّ، لكنّ الله رفض حقي. يبدو ديّاني قاسيًا عليّ " (34: 5- 6).
إنطلق أصحاب أيّوب من المبدأ فطبّقوه على الواقع. وانطلق أيّوب من واقعه ليواجهه مع النظرية. ولكنّنا في كلا الحالين أمام عقيدة واحدة هي عقيدة المجازاة. لم يعرف أصدقاء أيّوب أن يكلّموه عن الألم بطريقة صحيحة. فهل سمعوا له حقًّا؟ قال: "اسمعوا، اسمعوا كلامي. هكذا تعزّونني. احتملوني فأتكلّم وبعد أن أتكلّم تهزأون إذا شئتم " (21: 2- 3). يرفض أيّوب أجوبتهم التي هي "أمثولة تعلّموها" على مقاعد الدراسة. "ما تعرفونه أعرفه أنا أيضاً". ويتّهمهم بأنّهم أصدقاء خيبّوا له أمله (6: 14- 15): "يحقّ للبائس أن يشفق عليه قريبه وإلاّ تخلّى عن مخافة القدير. خيّبني إخوتي كسيل انقطع " (6: 14- 15).
لم تعطِ اللغة اللاهوتية حلاً. حينئذ توجّه أيّوب إلى الله. من المفيد أن نلاحظ أنّ أصدقاء أيّوب لم يتكلّموا إلى الله. يعرفون كل شيء عن الله وهم يتكلّمون عنه. وأيّوب يعرف أيضاً، ولكنّه يشكّ ويرتاب. كل الكلمات عن الله لم تعط نتيجة. فقرّر أيّوب أن يكلّم الله؛ أريد أن أخاطب القدير... أمّا أنتم فأطبّاء دجّالون " (3:13- 4). انتقل أيّوب إلى لغة الصلاة (هناك 54 آية يحدّث فيها أيّوب الله، 7: 7، 8، 12- 14، 16، 17- 21، 9: 27- 28، 30- 31 ؛ 10: 2- 4، 16- 17، 18، 20؛ 13: 19، 20- 27؛ 14: 3، 5- 6، 13، 15- 17، 19- 20؛ 16: 7- 8؛ 3:17، 4؛ 30: 25- 23. ثمّ هناك 4 آيات في الخطبة الختامية).
ويُظنّ أنّ هذه اللغة أصبحت في غير محلّها في نظر أصدقاء أيّوب: "ولكنّ الإنسان يصبح أضحوكة صديقه حين يصرخ إلى الله لينال جوابًا" (12: 4). وتوسّل أيّوب إلى الله: "تذكّر أنّ حياتي هي نسمة، وأنّ عيني لن ترى السعادة" (7: 7). وذهب إلى اتّهام الله: "ما دام غضبك " (13:14). ويطلب من الرب أن يبرّر نفسه: "متى تنتهي من مراقبتي؟ أما تتركني أبلع ريقي؟ إن أخطأت، ماذا فعلت لك يا رقيب البشر؟ لماذا جعلتني هدفًا لسهامك؟ بماذا اثقّل عليك " (7: 19- 20)؟ ليبرّر الله عمله وليسمع اتّهام أيّوب له. لم تعد صلاته مديحًا. ولكن إن بيّن أيّوب مرارته، فهو لم يلعن الله ولم يجعل الشيطان على حقّ في رهانه مع الله. وسيكون له وقت يعبّر فيه عن رجائه وإيمانه: "أعرف أنا أنّ وليّ (الذي يدافع عنّي، يتولّى أمري) حيّ. أنا، أنا سأشاهده. عيناي ستريانه. لهذا يشتعل قلي في داخلي " (25:19- 27).
ليست اللغة اللاهوتية هي اللغة الدينية التي توافق زمن الألم. عندما يتألّم الإنسان فهو لا يتكلّم كما لو كان في صحّة جيّدة. وهذا ما لاحظه أصحاب أيّوب فقالوا له: "كنت تنبّه الكثيرين وتشدّد الأيدي المسترخية. كنت أقوالك تنعش العاثرين وتثبّت الركب الملتوية. أمّا الآن، فجاء دورك وفقدتَ صبرك " (3:4- 5). وجاء جواب أيّوب في محلّه. هل كانوا يتكلّمون أفضل منه لو كانوا مكانه (رج 16: 4)؟ من السهل أن نتكلّم حين نكون في صحّة جيّدة "أمّا أنا... " (8:5). "أمّا أنت " (6:8) (19)(19).
ترك أيّوب اللغة اللاهوتية التي لم تشف غليله، واستعاد مونولوجه (ف 29- 31).
هو لا يتوجّه إلى الآخرين في صيغة الخاطب، بل يكلّم نفسه كما في البداية. من أراد أن يسمع فليسمع، ويحدّث نفسه عن الله. فيقول: "من يعيد إليّ الشهور السالفة (شهر العسل)، من يعيد إليّ الأيّام التي كان الله فيها يسهر عليّ، حين كان سراجه يضيء فوق رأسي فأسير على ضيائه في ظلام الليل، كما كنت عليه في أيّام عنفواني، حين كان الله يجالسني في خبائي. حين كان القدير بعد معي وصبيتي يحيطون بي " (29: 2- 5)؟ "أيّ نصيب يعيّن الله للإنسان من فوق، أيّ ميراث يحدّده القدير من الأعالي " (31: 2)؟ ولكنّه سيفلت من ذاته، ويتوجّه مباشرة إلى الله: "أصرخ إليك وأنت لا تجيب " (20: 20). لو يتنازل الله ويجيبه على صلاته. ولكنّ الله يبقى صامتًا. لقد استعمل أيّوب لغة الإيمان الشعبي، ولغة الشكّ، واللغة اللاهوتية، ولغة الصلاة. فلم يبق في يده حيلة: "قلت كلمتي الأخيرة وأنا أترك القدير يجيبني " (31: 35). إنّ أيّوب يريد أن يسمع الآن لغة الله. يتحدّث في صيغة الغائب لأنّه لا يجسر أن يطب حوارًا مباشرًا مع الله. حتّى الآن، لم يجب الله. ولكن قد يوجد إنسان يتكلّم لغة العهد. وتوقّف أيّوب عن الكلام. فكتب الراوي: "تمّت أقوال أيّوب " (31: 40 ب).

3- اللغة النبوية أو المواهبيّة: أليهو (وأيّوب): ف 32- 37
ما استطاعت اللغة اللاهوتية أن تُسمعنا لغةَ الله، "توقّف هؤلاء الرجال الثلاثة عن محادثة أيّوب " (32: 1). ولكنّ هناك أناسًا آخرين يعتبرون نفوسهم حاملي كلمة الله. إنّ الأنبياء كانوا يبدأون كلامهم قائلين: هذا ما يقول الرب. وينهونه بقولهم: هذا ما قاله الرب. إذن، تُعتبر اللغة النبوية والمواهبية نفسها لغة إلهية.
كم تمنّى أيّوب أن يسمع مثل هذه اللغة(20) ، وها هو أليهو يقولها له. هو شاب (32: 6)، ولكنّه ليس أدنى من الاهوتيين الذين تكلّموا قبله. غضب على أيّوب وعلى أصدقائه لأنّ لغتهم اللاهوتية لم تفِ بالمراد (32: 2- 3). بدا أليهو عنيفًا، ولكنّه كان في الواقع شخصيًا في حديثه. وهو وحده سمّى أيّوب باسمه (33: 1؛ 37: 4 1). إنّه مليء بالغيرة والحماس. وينبوع معرفته يختلف عن ينبوع معرفة الأصدقاء الثلاثة. هو مقتنع بأنه إنسان كسائر الناس: "أنا نظيرك ولست إلهًا (33: 6). ولكنّه واع من جهة ثانية أن روح الله أمسك به: "أنا مليء بالأقوال، يضايقني (يحرّكني) روح داخلي " (18:32؛ رج 8:32؛ 33: 4). ظنّ الأصدقاء الثلاثة أنّ لغتهم إلهيّة لا بشرية، ولكن لم يكن الأمر هكذا. أمّا أليهو فسيكون له لغة مختلفة: "لا تقولوا إذن، لقد وجدنا الحكمة. إنّ تعليمنا إلهيّ لا بشريّ. أمّا أنا فلن أناقش هكذا" (13:22- 14). عرف أليهو أنّه نال وحيًا، لهذا نستطيع أن نتكلّم عن شخص مواهبي(21).
الألم في نظر أليهو لغة الله. "يتكلّم الله بطريقة، ثمّ يتكلّم بأخرى ولا أحد يهتمّ " (33: 14). الألم هو أمثولة وعبرة (33: 19 ؛ 36: 10). يشبه أليهو كل الأنبياء كل المواهبيين: إنّه متفائل حتّى أصبح فيه التفاؤل عرضة للهزء. حين يبدو كل شيء ضياعًا وسوادًا، يبقى الأنبياء معلِّقين بالرجاء. فبعد الظلمة سيأتي النور. وإن ظنّ أيّوب أنّه قريب من الموت (33: 20 ي) فهو سينجو: سيخرج بدون جراح، بل سيستعيد شبابه. "سيستعيد لحمُه طراوةَ الشباب " (33: 25). من يسمع لغة الالم يغتنِ. "إن سمعوا وأطاعوا، انتهت أيّامهم في السعادة وسنوهم في النعيم " (36: 11). وإنّ قارئ الكتاب يعرف كم أنّ نهاية الخبر ستدلّ على أنّ أليهو كان على حقّ. وبعد هذا الكلام المتفائل، انتقل أليهو إلى التحريض الأخلاقي يوجّهه إلى أيّوب: "إحذر بعد الآن " (36: 18). ويختم كلامه بمديح لله (26: 22؛ 37: 24): يدعو أيّوب إلى التأمّل في الله وفي حكمته، لئلاّ ينغلق على ذاته، بل لكي يفتح عينيه وينظر حوله (35: 5)، لكي يتأمّل في الآخر (الذي هو الله) وفي عجائبه ومذهلاته: "أنظر الله العظيم في قدرته " (36: 22؛ 37: 4 1). فعلى الإنسان المتألّم أن يحاول أن ينسى نفسه ليفكّر بشيء آخر.
مرّات عديدة، أعطى أليهو لأيّوب مناسبة لكي يجيبه. قال: "أجبني، إن كنت تقدر" (33: 5، 32). ولكنّ أيّوب ظلّ صامتًا بعد أن قال كلمته الأخيرة. واكتفى بما أوصى به أليهو في نهاية حديثه: "يرهبه كل الأنام وهو لا يحسب حساب من يظنّ نفسه حكيمًا" (37: 24). لن يتكلّم أيّوب اللغة اللاهوتية ولا لغة الصلاة والتوسّل والبكاء. إنّه يتكلّم لغة السجود والعبادة.

4- اللغة الصوفية: يهوه وأيّوب (38: 1- 42: 6)
وصل أيّوب إلى موقف التأمّل والمشاهدة، وهو مستعدّ الآن لكي يسمع لغة الله لا عبر وسيط نبويّ بل بصورة مباشرة في قلبه. دعا ألهو أيّوب لكي يخرج من ذاته ومن مشكلته الخاصّة لكي يرى الأمور العظيمة. وإذ تحقّق أيّوب كم هو صغير، أخذت الأشياء حجمها الحقيقي. وتلاحقت أسئلة الله. هو لم يعط الأجوبة المطلوبة. إنّه يتكلّم عن مواضيع عديدة، ولكنّه لا يعالج مشكلة أيّوب. إنّه يدعوه لكي ينسى نفسه، يدعوه إلى التأمّل والإعجاب والاندهاش. حينئذ شاهد أيّوب مرّة أخرى العظمة والجمال والحكمة والبهاء.
وكان جواب أيّوب الصمت. وإن تكلّم بعد فلكي يقول إنّه لن يتكلّم (40: 4- 5)، إنّه أساء عندما تكلّم (42: 2- 3) وإنّه يتراجع عن كلامه: "لهذا أُنكر مقالتي وأندم في التراب والرماد" (42: 6). لقد وصلنا إلى مستوى لغة المشاهدة، اللغة الصوفية، حيث يحلّ الصمت محلّ الكلام. وبعد الكلام والصمت جاء دور النظر: "كنت أعرفك بالسماع، أمّا الآن فرأتك عيناي " (42: 5). كان على البطل أن يتكلّم وها هو الآن يرى.
وها نحن نلخّص الطريق الذي قطعناه: لغة الإيمان الشعبي، اللغة اللاهوتية، اللغة النبوية، اللغة الصوفية. لغة الشك والارتياب (مونولوج: من يقدر أن يجيبني؟). لغة الصلاة (توسّل ورجاء: لو أراد الله أن يجيبني). لغة العبادة والسجود.
خرج أيّوب منتصرًا من المحنة الرئيسية. هو لم يلعن الله في وجهه، فخسر الشيطان رهانه. لقد وصل البطل إلى المحنة التي تصل به إلى المجد: أقرّ الرب أنّ أيّوب، في مرضه، تكلّم عنه بطريقة صحيحة أمام الآخرين. وسار أيّوب في طريق طويل، وانتقل من لغة إلى أخرى. قد لا يكون هذا الطريق طريق كل مؤمن، ولكنّ مؤمنين عديدين يجدون نفوسهم فيه. فبعد القبول للألم قبولاً أعمى في الإيمان، تأتي الشكوك والبحث عن الأجوبة النظرية. وحين لا تكفي هذه، يتوجّه الإنسان نحو الله في الصلاة. هناك عدد من الناس يجد الإلهام في التيّار المواهبي وعدد آخر يجد السلام في المشاهدة الصوفية الصامتة.
حلَّ التوبيخ بأصدقاء أيوب لأنّهم لم يكلّموا الإنسان المتألّم عن الله بطريقة صحيحة. تصرّفوا بصورة خاطئة ولكنّهم لم يكونوا كاذبين. ليست اللغة اللاهوتية لغة دينية كاذبة، ولكنّها قد لا تنفع الإنسان المتألّم. في هذا الوقت تترك المكان وتحلّ محلّها لغات تحدّث الإنسان في قلبه وتعيد إليه الرجاء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM