الله البعيد القريب 55:6 - 9

الله البعيد القريب

55:6 - 9

بعد أن دعا الربُّ المنفيّين إلى طلب الطعام الحقيقيّ، الروحيّ، أعلن قيام عهد يستمرّ، ومسيرةَ الأمم إلى أورشليم. فلا بدّ من الاستعداد لهذا الحدث العظيم، ولا حاجة إلى الجدال حول الطرق والوسائل التي يستعملها الله، لكي يُتمّ ما وعد به: كلمته تقول وتفعل. وشعبه سيعود فرِحاً وإن مرّ في صحراء قاحلة. فهي تتحوّل إلى جنّة غنّاء. يحلّ السروُ محلّ العليّق، والآس عِوَضَ القرّاص. هو خلاص يُقدَّم مجّاناً بفعل كلمة الله التي نتأمّل فيها هنا (55:6 - 9).

6 أطلبوا الربّ ما دام يُوجَد،

أدعوه ما دام قريباً.

7 إن تخلّى الشرّير عن طريقه،

وفاعلُ الإثم عن أفكاره،

وتاب إلى الربّ فيرحمه،

وإلى إلهنا فيغمره بعفوه.

8 لا أفكاري أفكاركم، يقول الربّ

ولا طرقُكم طرقي.

9 كما علت السماوات عن الأرض،

علتْ عن طرقِكم طرقي،

وأفكاري علت عن أفكاركم.

1 - سياق النصّ

قبل أن نتوقّف عند هذه الآيات الأربع، نودّ أن نجعلها في سياقها. إن ف 55 الذي هو الفصل الأخير في «أشعيا الثاني»، شجّع المنفيّين في السنوات 550 - 539، في نهاية سبيهم إلى بابل. اعتادت بعض الطقوس أن تقرأه كلّه لأنّها تستشفّ فيه العمل الحاسم الذي أتمّه يسوع وأكمله بشكل عجيب. هذا الفصل يشير من بعيد إلى عبور يسوع، وبالتالي إلى عبورنا، من الجوع إلى الوفر، من اللاإسم إلى اسم معروف، من التجربة إلى الانتصار على الخطيئة، من الموت إلى الحياة.

تذكّرنا آ 1 - 3أ وب الوفر الذي تقدّمه أرض الميعاد (خر 3:7 - 8: تدرّ لبناً وعسلاً): يجري اللبن كما الماء في السواقي. ويتوافر الخبزُ والخمر. ونفهم من هذه الآيات، في الوقت عينه، أنّ الطعام الجوهريّ الذي هو كلام الله، يكسف كلّ طعام ماديّ. وهذا ما يُثبته يسوع في يو 6:27: «لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبديّة». وذلك حين أعطانا فصحه، أعطانا الوليمة الافخارستيّة التي هي زاد الطريق نحو الوليمة الأبديّة. «قال الجالس على العرش: أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً» (رؤ 21:6).

وتجعلنا آ 3 ب - 5 ب في العهد الأبديّ، الذي عُقد في عيد الفصح، في دم يسوع، والذي يحقّق تحقيقاً نهائياً، عملاً وضع أوّل خطوطه مؤسّس مملكة داود. فكما أنّ داود الأوّل كوّن قطباً يجتذب العالم، بفضل الله، كذلك يسوع، داود الجديد، انطلق من أورشليم الجديدة ليجمع المسكونة كلّها (أع 13:34). ما هو فقط موجّهُ جميعِ الشعوب المجاورة والسلطة القائمة فيها، بل هو يمنح قداسة الله لجميع الأمم في الكون.

وتشدّد آ 10 - 11 على أنّ كلمة الله لا تبقى يوماً دون أن تفعل. هي دوماً ناجعة. وهي تأتي لتُخصب العالم كما يُخصب الأرضَ المطرُ النازل فيضاً من أعلى السماوات. هذا ما يجعلنا نستشفّ سموّ ما يفعله الكلمة الذي صار بشراً، فيحمل إلى الكون ملء الله بالذات: «من فيض نعمه نلنا جميعاً، نعمة على نعمة» (يو 1:16).

وأخيراً تبيّن آ 12 - 13 كيف أنّ الخروج الأول، الخروج من مصر، الذي انطبع بفصح أُكل بسرعة (52:12: لا تخرجوا مسرعين، ولا تسيروا كالهاربين)، قد تجاوزه خروجٌ جديد، الخروج من بابل. ولكنّ هذا الخروج الأخير سيكسفه الخروج النهائيّ والدائم، الذي يُتمّه يسوع حين يعبر (ويعبّرنا معه) من هذا العالم إلى أبيه (يو 13:1).

2 - اللقاء بالربّ

إنّ آ 6 - 9 التي نتأمّل فيها الآن، تقع في سياق «فصحيّ»، سياق عبور. وتقع في هذا السياق بقدر ما تتوافق مع الخيار الحاسم الذي يقدّمه للبشريّة حدثُ الفصح: التوبة الملحّة التي يدعونا إليها غفرانُ الله أبينا، الذي لا يتجاوزه غفران. غفران يقدّمه الله في شخص ابنه المصلوب، وهو يسامح كما يسامح الله، البشر جلاّديه. ولكن بما أننا نحتفل بالفصح في كلّ أحد، نستطيع أن نكتشف تعليماً يرافقنا طوال السنة، بل يرافق حياتنا وحياة العالم كلّه.

والنداء الأوّل الذي يطلقه: دعوة للقاء بالله: أطلبوا الربّ. تعالوا إلى الربّ، فهو يسمح لنا بأن نجده. أرسلوا النداء إلى الربّ. فهو قريب. إن طلبَ الربِّ وإرادته وملكه وحضوره، كلّ هذا نقرأه لدى الأنبياء. قال عا 5:4، 6.: «اطلبوني فتحيوا.. أطلبوا الربّ فتحيوا». وهوشع في 10:12: «حان أن تطلبوا الربّ حتى يجيء ويريكم ما هو حقّ». فالذين ما طلبوا الربّ، نالوا العقاب، كما قال أش 9:12. سينالهم الويل لأنّهم «لا يلتفتون إلى قدوس اسرائيل، ولا يلتمسون الربّ» (أش 31:1).

ويتساءل إرميا: لماذا لم ينجح رعاةُ الشعب، ولماذا تبدّدت الرعيّة؟ والجواب: لأنّهم لا يطلبون الربّ (10:21). بل إن المنفيّين في بابل يقدرون أن يدعوا الربّ، أن يجيئوا ويصلّوا «فأَستمع لكم. وتطلبونني فتجدونني إذا طلبتموني بكلّ قلوبكم» (إر 29:12 - 13). مثل هذا «الطلب» صار موضوعاً لافتاً في أدب المنفى. قال «موسى» في سفر التثنية: «وتطلبون هناك (في بابل) الربّ إلهكم فتجدونه إذا التمستموه بكلّ قلوبكم وكلّ نفوسكم» (4:29).

حين بعث إرميا إلى المنفيين، في بابل، سنة 597 ق م، برسالة، أعطاهم نصائح مشابهة: طلب وجد. يكفي أن يلتمسوا الربّ لكي يُحسّوا به قريباً منهم. وكان «أشعيا الثاني» تلميذ إرميا، قد وجّه كلامه إلى إخوته في المنفى: أطلبوه تجدوه. أدعوه فهو قريب. وقربُ الله في كلام هذا النبيّ يرتبط باقتراب تدخّله التحريريّ. ولكن إن انتزعنا هذا القول من سياقه التاريخيّ، كان له قيمة دائمة. فهذا الاله الذي يسمح للذين لم يطلبوه بأن يجدوه، (65:1: ظهرتُ لمن لا يسألون عني، ووُجدت لمن لا يطلبونني)، يبقى في متناول البشر. يستطيعون أن يقتربوا منه (تث 4:7). بل هو جعل نفسه قربنا، معنا، يوم تجسّد في شخص يسوع المسيح.

3 - عودة الانسان إلى الله

ولكن قبل أن تلتقي البشريّة بذاك الذي صار بشراً ليفتدي البشر من الخطيئة، دُعي بنو اسرائيل لكي يلتقوا الربّ وهو يعمل مع البشر لينجّيهم من الضيق البابلي. وهكذا يكون الاقتراب من الله، ابتعاداً عن الشرّ في الوقت نفسه. فالذي يرافق الله يتخلّى عن طريق الشرّ. نقرأ في 2 أخ 7:14:

إن اتّضع شعبي الذين تسمّوا باسمي وتضرّعوا،

إن طلبوا وجهي وعادوا عن طرقهم الشرّيرة،

فأنا أسمع من السماء وأغفرُ خطيئتهم.

وهذا ما يقوله أشعيا هنا، في آ 7: «ليتخلَّ الشرّير عن طريقه، ليتخلَّ فاعلُ الإثم عن أفكاره». فزمنُ اقتراب الله يقابل بلا شكّ زمنَ توبة الانسان الذي يجب عليه أن يترك طرقه وما فيها من سهولة، وأفكاره وما فيها من قصر نظر. لقد سمع «أشعيا» حوله من يعلن آراءً مليئة بالحذر. بما أنّ التحرّر من النير البابليّ تأخّر، أتراه سيتحقّق يوماً؟ كانوا قد تساءلوا: «أتؤخذ الغنيمة من الجبّار؟ أَيُنقذ الأسير من يد الطاغية» (49:24). فأجاب النبيّ: نعم، «سآخذ الأسير من يد الجبّار، وأنقذ الغنيمة من يد الطاغية» (آ 25).

وتساءل الناس: هل يحقّ لكورش، ملك فارس، أن يقود هذا العمل، وهل يقدر أن ينجح فيه؟ وكان الجواب بلسان الربّ: «أنا حملتُ كورش، ويسَّرتُ له جميع طرقه. هو يبني مدينتي، ويُطلق أسراي» (45:13). ولاحظ النبيّ أيضاً طموح أبناء شعبه وما فيه من محدوديّة. هم لا يتطلّعون إلى البعيد، إلى فوق. قالوا: نحسب نفوسنا سعداء إن نحن اجتمعنا في أورشليم وعشنا حياة هادئة، فنُحفَظ من كلّ شرّ ونجهل ما يحدث في العالم. بل أرادوا أن يتخلّوا عن كلّ أملٍ بالعودة، بحيث يقيمون بشكل نهائيّ في أرض غريبة، وهم يائسون من الحصول من الله على غفران صار اليوم مستحيلاً.

غير أنّ مرسل الله حارب هذه الأفكار وما يشبهها، وتابع طريقه في خطّ إرميا الذي كتب إلى المنفيّين: «لا يضلّكم أنبياؤكم والعرّافون الذي بينكم. ولا تسمعوا للأحلام التي يحلمون... أنا أعرفُ ما نويتُ لكم من خير، لا من شرّ، فيكون لكم الغدُ الذي ترجون» (إر 29:8 - 11).

أمام مثل هذا الاله، لا نستطيع أن نحتفظ بعقليّة البشر. بل تجبُ العودةُ إليه. والعودة إلى أورشليم يجب أن تقابل العودة إلى الربّ، والتوبة التي طلبها الأنبياء منذ زمن بعيد. نقرأ في هو 6:1 ما قاله المؤمنون: «تعالوا نرجع إلى الربّ، لأنّه يمزّق ويشفي، يجرح ويضمّد». وينهي هذا النبيّ كلامه: «توبوا، يا بني اسرائيل، إلى الربّ إلهكم، فأنتم بإثمكم عثرتم! ارجعوا إلى الربّ. خذوا معكم هذا الكلام: إرفع عنّا كلّ إثم، إقبل خير ما عندنا، أبرئنا من أكاذيب شفاهنا» (14:2 - 3). لا شعب يخلّصنا، ولا عتاد (آ 4). الله وحده هو من يخلّص، فيجعل الانسان قادراً على العودة إليه. لهذا هتف مرا 5:21: «أعدنا إليك فنعود»، فأنت هو الربّ إلهنا (إر 31:18).

كلّ شيء يدفعنا للتحوّل إلى الله. من جهة، يكشف حنانه الأموميّ، بل هو يتجاوز هذا الحنان. «أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ثمرة بطنها؟». هذا مستحيل في الأحوال العاديّة. «ولكن ولو أنّها نسيَتْ فأنا لا أنساك يا أورشليم. ها على كفّي رسمتك» (49:15 - 16). ومن جهة ثانية، الله يربو، ينمو، يتجاوز ذاته لكي يسامح، لكي يغفر. فرحمة الله لا حدود لها. وهي تتجاوز بلا حدود رحمة الانسان وما فيها من ضعف.

4 - حبّ الله وغفرانه

أفكاري غير أفكاركم. طرقي غير طرقكم (آ 8). الأفكار هنا تعني ما يمكن أن يحوكه الانسان لكي يتدبّر نفسه. فالمعنى ليس بسامٍ. في هذا المجال نقرأ ما قاله النبيّ عن شعبه: «أرجلكم تسارعُ إلى الشرّ، وإلى سفك الدماء البريئة. أفكاركم أفكار الاثم، وفي مسيركم خرابٌ وهدم» (59:7). وتجاه الأفكار يبرزُ الطريق حيث يقول الربّ: «مددتُ يدي نهاراً وليلاً نحو شعبٍ متمرّد عليّ، يسيرون وراء أهوائهم في طريق لا خير فيه» (65:2). أمّا طريق الربّ فسريّ، وأفكاره لا يصل إليها بشر. قال له المرتّل: «ما أعظم أعمالك يا ربّ، وما أعمق أفكارك» (مز 92:6)!

لدى الانسان، كلّ شيء يتحدّد موقعُه على الأرض. أمّا عند الله، فكلّ شيء على مستوى «قبّة» السماء. هذه المقابلة المصوَّرة تحمل معنيين: من جهة تجعلنا نلمس لمس اليد المسافة بين الدنوّ لدى الانسان والسموّ لدى الله، بل بين النجاسة والقداسة. ومن جهة ثانية، حين تتواجه أفكار الانسان مع أفكار الله، تبدو صغيرة، رديئة (آ 7). لهذا نحتفظ بوجهتَي الشقاء البشري: الضعف والخطيئة تجاه وجهتَي التسامي الالهي: القدرة والكمال. والكتاب يجمع مرّات عطوبة الخطيئة مع شعور الخاطئ بالذنب. لهذا نحن نقرأ مز 103:11 - 12 الذي يوازي نصّ أشعيا هذا ويلقي الضوء عليه. هو يتحدّث عن الانسان المجبول بالتراب الرازح تحت الخطيئة. هذا الانسان يرفع عينيه لكي يقول للربّ:

كارتفاع السماء عن الأرض،

ترتفعُ رحمته على خائفيه.

كبُعد المشرق من المغرب،

يُبعد عنّا معاصينا.

حدّد المزمور وأشعيا الثاني وجهتَي التسامي الالهي، فالتقيا مع نصّ رئيسيّ تركه هو 11:8 - 9: «كيف أتخلّى عنكم يا بيت افرايم، كيف أهجركم؟ قلبي يضطرب في صدري، وكلّ مراحمي تتّقد. لن أعاقبكم في شدّة غضبي، فأدمِّركم بعد يا بني افرايم، لأنّي أنا الله لا انسان، وقدّوس بينكم، فلا أعودُ أغضبُ عليكم».

هو حبّ يسير بالربّ إلى المسامحة والغفران. وأمانة الله لا تخضع للاأمانة البشر. وثبات الله يتجاهل نزواتنا. ونعمته تنتصر على عقوقنا. غفرانه يحيّرنا، ينهك كلّ شعور حقير لدينا. فإن استطاع مؤمن في القرن السادس ق م أن يكتشف كلّ هذا ويعبّر عنه بهذه القوّة، فكم بالحريّ نحن المؤمنين في القرن الحادي والعشرين بعد المسيح: وجه الله أبينا بحنانه الذي لا شيء يجعله يتراجع، بعيدٌ كلّ البعد عن حلم متقلقل وغير ثابت. وجه الله اكتشفناه وجه في الابن المائت على الصليب، في موقف من القداسة والغفران. لهذا نهتف مع الرسول «ما أعمق غنى الله وحكمته، وما أصعب إدراك أحكامه وفهم طرقه» (روم 11:33)!

الخاتمة

ذاك هو الإله الذي حاول النبيّ أن يعرّفنا إليه. هو بعيد كلَّ البُعد، في أعلى السماء، وبالتالي يتميَّز كلَّ التميّز عن الأصنام التي نصنعها بأيدينا بحيث نتصرّف بها كما نشاء. نحملها، نرميها، نحطّمها، نأخذها معنا إلى السبي. هي تخضع لنا وتعمل إرادتنا أو نحن نحسب الأمور هكذا. فالله ليس بإنسان لكي تكون عواطفه عواطف بشر، ونزواته نزوات انسان يغضب. هو الله المتعالي، ونحن نصعد «إلى الجبل» لكي نلتقي به. ولكنّه في الوقت عينه القريب القريب. هو أبٌ وأم معاً. يهتمّ بكلّ واحد منّا. كما يهتمّ بجماعاتنا وشعبنا. فهذا البعيد صار قريباً بحيث نقترب منه كما الابن من أبيه والعروس من عريسها. وهذا الذي تاق إليه العهد القديم، صار حقيقة وواقعاً في شخص يسوع المسيح. هو قريب منا، منذ وُلد طفلاً بين أطفالنا، وشابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة. وهو بعيد عنا بعد أن صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب. نزل من العلى فتنازل إلينا، ثمّ صعد فرفعنا معه. فشكراً له

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM