خلاص الربّ إلهنا 52:7-10

خلاص الربّ إلهنا

52:7-10

هذا النصّ الذي نقرأ جزء من مجموعة (ف 51 - 52) تقع بين النشيدين الثالث (50:4 - 11) والرابع (52:13 - 53:12) لأناشيد عبد الربّ. في ف 51، يدعو الله المنفيّين الورعين إلى التوجّه إليه أكثر من أيّ وقت مضى، ويذكّرهم بابراهيم، ويؤكّد لهم أنّه سيُعطي البرهان على برّه وخلاصه على عيون الأمم. وفي ف 52 تتكرّر النداءات الموجّهة تارة إلى الربّ، وطوراً إلى صهيون، وهي في صيغة الأمر: «استفيقي، يا صهيون» (52:1). «قومي، إجلسي» (آ 2). «اسمعي» (آ 8). «اهتفي ورنّمي» (آ 9). فالله يأتي ويحمل خلاصه معه. لهذا ينطلق المنادي فتستقبله أورشليم بالفرح. وحين نقرأ هذا النصّ في إطار عيد الميلاد، نكتشف أنّ سرّ الخلاص في وجهه التاريخيّ يجد مركزه في يسوع المسيح، الكلمة المتجسّد، الذي قال فيه الملاك: «وُلد لكم مخلّص وهو المسيح الربّ».

1 - بشارة الخير (52:7 - 9)

7 ما أجمل على الجبال،

أقدام المبشّرين

المنادين على مسامعنا بالسلام،

الحاملين بشارة الخير والخلاص،

القائلين لصهيون:

ملك إلهك

8 صوت حرّاسك!

رفعوا الصوت ومعاً يرنّمون

لأنّهم يرون بأمّ العين

رجوع الربّ إلى صهيون.

9 اهتفوا ورنّموا معاً،

يا خرائب أورشليم،

لأنّ الربّ عزّى شعبه،

وافتدى أورشليم.

الخبر السعيد يتوجّه إلى بني يهوذا المقيمين في المنفى. هو رسول يُسمع بلاغ السلام والخلاص. رسول يحمل الأخبار الطيّبة. واللفظ «ب ش ر» يترجم في اليونانيّة: أنجل، حمل الانجيل، البشارة. مدلوله مدلول دينيّ، وفي الوقت عينه اسكاتولوجيّ، لأنّه يعلن الخلاص الآتي، ويؤسّس بشكل مباشر الرجاء الذي يصل إلى الانجيل الذي هو يسوع نفسه.

صهيونُ تبشّر مدن يهوذا. أورشليم تبشّر أنّ الربّ آتٍ كالراعي الذي يجمع خرافه (40:9 - 11). بل يأتي الوثنيّون أنفسهم لكي يبشّروا أورشليم بقرب خلاصها، لأنّ خلاصهم يتبع ما تناله من بركة من لدن الله. هم قوافل يخبرون بأمجاد الربّ وعظمة أعماله (60:6). وفي النهاية، يُرسَل الملك المسيح لكي يبشّر من لا يهتمّ بهم أحد: الفقراء والمساكين والحزانى (61:1).

وماذا يقولون؟ الله مَلكَ. الآن ملكَ. لا شكّ في أنّ الله ملكٌ في شعبه كما قالت المزامير مراراً (96:10؛ 97:1؛ 99:1). ولكنّ بدا أنّ هذا الملك ترك مُلكه، ترك شعبه يذوق مرارة الهزيمة ثمّ السبي والعبوديّة. أمّا الآن، فيجب على المؤمن أن يفهم أنّ الله يملك الآن. أنّ الربّ الحيّ حاضر، وهو يفعل الآن من قلب المحنة ولا ينتظر. ذاك هو موقف الله. أن يملك، تلك هي رغبته بأن يجمع القبائل في وحدة تحيط بسكناه في البريّة كما في أرض الموعد. تلك هي العلامات الأولى لعمله الذي بدأ في بدايات التاريخ حين خلْقِ السماء والأرض وكلّ ما فيها، ويتواصل اليوم وكلّ يوم.

وماذا عن المستقبل؟ فالتاريخ القديم والاحتفال العباديّ في إطار الأنبياء، صارا الإطار لما سوف يأتي. فالأزمنة الأخيرة تصوَّر جلوساً للربّ الاله على عرشه في بهائه المجيد. ويأخذ أشعيا الثاني على عاتقه أن يحمل هذه البشارة «فيظهر مجد الربّ، ويراه جميع البشر معاً» (40:5). هنا نتطلّع إلى طبيعة هذا المُلك وأبعاده، فنصل إلى أول إعلان وجّهه يسوع إلى الآتين إليه: «تمّ الزمان. اقترب الملكوت. توبوا وآمنوا بالانجيل» (مر 1:15).

مثل هذا النداء يرافقه الفرح المؤسَّس على قدرة الله، الذي يدلّ على مجده كمخلّص يخلق السلام في الكون. ونُبرز وجهتين في موضوع الفرح: ما يتحقّق الآن. ثمّ، ما يشدّنا إلى الأزمنة الأخيرة. في الواقع، نحن هنا في منظار يشارك فيه الوحيُ البيبليّ كلّه. وخبرة الوحي الذي حمله الله إلى شعبه، يتضمّن دوماً واقع حضور ناشط، وفي الوقت عينه يدعو إلى الانتظار. هذا ما شدّد عليه الأنبياء بشكل خاص، ولا سيّما أشعيا الثاني الذي عاش في زمن المنفى والعودة من السبي. فاختبارُ حالة الأزمة هذه، حرّكت عنده ردّة فعل شخصيّة فوجّهته بشكل حاسم نحو الفرح المسيحانيّ والاسكاتولوجيّ. ففي نهاية الأزمنة يأتي المسيح.

ويميّز النبيّ مرحلتين في هذا الفرح. من جهة، موضوع العودة من المنفى يحتفظ بطابع أرضي ومضمون محدود: فيه ينكشف حضور الله الفاعل كمحرّر شعبه. ومن جهة ثانية، هذا التاريخ الذي قد يحمل الفرح أم لا، يبقى لا كافياً: فالنبيّ، «فالصوت» يتجاوزه الزمن، في مستقبل اسكاتولوجيّ. لهذا، يصبح فرحُ الحضور الالهيّ سعادةَ التذوّق المسبق لانتظار أزمنة جديدة ونهائيّة.

2 - الربّ افتدى أورشليم (52:10)

كشف عن ذراعه المقدّسة،

على عيون الأمم جميعاً

فرأت جميعُ أطراف الأرض

خلاص إلهنا.

كان اللهُ الملكَ وما زال. ولكنّ سلطته كسفها سحرُ الآلهة الكاذبة التي أخذت تنهار.

46:1 ركع الإله بيل وانحنى نبو

فحملهتهما على ثقلهما الوحوشُ والبهائم:

ما حملتموه ورفعتموه هو الآن يُحمَل

هو ثقل لبهائم منهكة.

2 انحنيا وركعا معاً،

لم يقدرا أن ينجوا،

بل حُملا حملاً إلى السبي.

الله هو ملك الآن، وهو حاضر. ويمضي المبشّرون إلى أورشليم ويحملون إليها البلاغ الالهيّ، مع هتافين اثنين. هتاف الحرّاس على ما تبقّى من الأسوار بعد سقوط المدينة سنة 587 ق م. في الماضي كانوا قلقين. قالوا:

كلّت عيونُنا عبثاً

من انتظار العون.

من أبراجنا ترقّبنا

نجدة أمّة لا تُنجد (مرا 4:17، إشارة إلى مصر).

أمّا الآن فشعّ وجههم بهجة. لأنّهم رأوا بأمّ العين (العينان في العينين) الربّ يعود إلى صهيون. ثمّ هتاف الخرائب التي تسيطر عليها مسحة الحزن. خلعت المدينة ثوب الحداد ودُعيت إلى التعبير عن فرحها بالصراخ والهتاف، لأنّ الربّ عزّى شعبه وحمل إليه الفداء. ومع أورشليم ومع خرائبها تبتهج الطبيعة كلّها: السماوات ترنّم، الأرض تهتف، الجبال والغابات وأشجارها جميعاً، لما صنعه الربّ (44:23)

رنّمي يا سماء، وابتهجي يا أرض،

ويا أيتها الجبال اهتفي:

الربّ عزّى شعبه،

وبرحمته أشفق على مساكينه (49:13).

بل إنّ المدينة الميتة، امتلأت حياة، فاندفعت تصفّق كما يصفّق البشر بعد أن عاد إليها أولادها. هي «قيامة» حقيقيّة بعد موت كاد يقضي على كلّ شيء، فحوّل المؤمنين إلى عظام مرميّة في السهل، كما قال حزقيال. أتراها تحيا؟ لا شكّ في ذلك. وينادي النبيّ: أمّا ترون، أمّا تسمعون؟

مثل هذا التجديد لا ينحصر في شعب يهوذا، بل يصل إلى جميع شعوب الأرض، لأنّ سكّان أورشليم لن يروا وحدهم الخلاص الذي يُجريه الله. فكلّ أمم الأرض يكونون له شاهدين (40:5). فالربّ قال لعبده وعابده:

أنا الربّ دعوتُك في صدق،

وأخذتُ بيدك وحفظتك.

جعلتك عهداً للشعوب،

ونوراً لهداية الأمم (42:6).

فما تكون ردّة الفعل لدى الكون، وإلى ماذا يدعوهم النبي؟

42:10 أُنشِدوا للربّ نشيداً جديداً،

تسبحة من أقاصي الأرض.

ليضجّ البحر وما فيه،

والجزر وكلُّ سكّانها

11 لترفع القفار والسكان صوتها،

والديار التي يسكنها بنو قيدار.

ليرنّم سكّان مدينة سالع

وليهتفوا من رؤوس الجبال.

12 ليعطوا للربّ مجداً،

ويهلّلوا له في جزر البحر.

دُعيت ذراع الربّ فأعانت شعبه (51:9). بدت وكأنّها نائمة. أمّا الآن فاستفاقت، كما في القديم. ولبست الجبروت. نزع الربّ ثيابه، وترك ثوبه الذي غطّى يده، وبدأ يعمل فيرى البشرُ كلّهم قداسته، أي تساميه. فما من ذراع قويّة مثل هذه الذراع. وهي تهدم وتبني. تُسقط أرضاً وترفع. وأقاصي الأرض سوف تقول كيف أخضع الربّ بابل (للفرس) فتحرّر الشعب. وفي هيكل أورشليم ارتفع المديح كما نقرأه في مز 98:

1 أنشدوا للربّ نشيداً جديداً،

لأنّ الربّ صنع العجائب.

يمينه وذراعه المقدّسة

أحرزتا لنا الخلاص.

2 الربّ أعلن خلاصه،

ولعيون الأمم تجلّى عدله.

3 تذكّر رحمته وأمانته،

لبيت اسرائيل شعبه،

فرأت جميعُ شعوب الأرض

إلى أقاصيها، خلاص إلهنا.

4 اهتفوا للربّ يا جميع الأرض،

غنّوا ورنّموا ورتّلوا.

وهكذا كانت آ 10 ذروة في هذه القطعة التي صلّيناها. أعلن الخبر، والله الحيّ يفعل بقوّة تذكّر بحضوره في مسيرة الخروج. عزّى شعبه فهتف فرحاً. وتدرّج هذا الفرح ليصل إلى الكون كلّه. كان الحرّاس أوّل من شاهدوا الله الآتي. ثمّ شعب المفديّين الذي عبّر عن بهجته. وأخيراً أعطيَ للبشريّة كلّها أن ترى الخلاص والفداء.

وتذكّرُ ملكوت الله الذي حُصر في شعب واحد، اتخذ هنا بُعدَ الشموليّة. فمنذ عاموس (9:7) ظهر ربُّ التاريخ مالكاً على الشعوب الغريبة، لا على شعبه وحده. ولكنّ مع أشعيا الثاني، نبيّ المنفى، اتخذ البلاغ الشموليّ بُعداً جديداً وصبغة لم تُعرف من قبل. غير أنّ خبرة التاريخ تجعل هذا الرجاء يسير صُعُداً نحو الأفق الأخير الذي نجده في العهد الجديد: فالبشارة يجب أن تصل إلى الكون كلّه، بل إلى الخليقة كلّها. حينئذ يسود ملكوت الله ويكون الله كلاً في الكلّ.

3 - أبعد من أشعيا

إذا جعلنا جانباً أناشيد عبد الربّ (42:49؛ 50:53)، لا يقدّم أشعيا الثاني وجه «المسيح». فالربّ نفسه يتدخّل على أنّه المخلّص الذي يعيد شعبه، وهكذا يفتح طريق الخلاص لجميع الأمم. ومع ذلك، فهذا المنظار يتوافق كلّ الموافقة مع توسّع الموضوع المسيحانيّ، ويُبرز وجهة طالما لبثت خفيّة بحيث حوّلت بعض الشيء النظرة البيبليّة إلى سرّ الخلاص. فالأساس هو حبّ الله الذي يثبت إلى الأبد، وهو يتجلّى على مدّ الوحي الذي يُوحي به عن نفسه، كالآب الذي يرسل الابن في الروح القدس.

لهذا، فالقراءة المسيحيّة لنصّ أشعيا سوف تعمّق معنى أشعيا حين ترى في المسيح تجلّي مجد الله وقدرته (يو 1:14: مجد من الآب، ملؤه النعمة (الحقّ). فوحي الربّ القديم قد بلغ ذروته في التجسّد، ونحن لا نقدر أن نفهم المسيح إلاّ إذا قلنا بأنّه متّحد بالآب اتحاداً حميماً.

من هنا هذه الميزة الخاصّة التي تدلّ على ملء مُلك الله الذي هو الموضوع الأساسيّ في البلاغ الانجيليّ. وهذا الملكوت يأتي حين يجلس المسيح ملكاً على عرشه (عب 1:1 ي؛ فل 2:9 - 11). هنا نشدّد مرّة أخرى على التناسق الحاضر في مثل هذا العالم حيث المسيحيّ يجد نفسه ملزماً بالدخول إن أراد المشاركة «بالميراث في ملكوت المسيح والله» (أف 5:5).

«فالنظرة» إلى المستقبل هي موضوع النبوءة الأساسيّ. لسنا هنا أمام حسابات لا تتوافق مع التفسير النبويّ، ولكنّ يبقى النبيّ ذاك الذي يتطلّع إلى الاسكاتولوجيا، إلى النهاية. وفي العهد الجديد، يقف الانجيل الرابع، بشكل خاص، في هذا المنظار. يكفي هنا أن نتوقّف عند فعل «رأى» «شاهد»، «شهد»... فنكتشف عبر حياتنا الشخصيّة واقع الله الحيّ الذي يتجلّى في المسيح، ونلتصق به بدون شروط. من هذه الخبرة، خبرة الإيمان والحبّ، يتفجّر فرحٌ عميق هو موضوع الخطبة بعد عشاء الربّ (يو 14:28:15:11؛ 16:24).

وشدّد يوحنا نفسه على الوجهة الشاملة لهذه الرؤية ولهذا الفرح. فبفضل الحضور الفاعل لله الوحي بواسطة المسيح، يصلان إلى جميع البشر في كلّ الأزمنة: «أبوكم ابراهيم ابتهج حين فكّر بأن يرى يومي. رآه فابتهج» (يو 8:56).

والمجيء الخارق للاله الحيّ في شخص يسوع المسيح، يحوِّل تحويلاً جذرياً وضع الانسان في تاريخ الخلاص. ومع ذلك، فهو يعيش في زمن انتظار. فملكوت الله الذي تدشّن بشكل نهائيّ بالمسيح، لا يقوم قياماً كاملاً إلاّ في المجيء الثاني «حين يُسلّم المسيح الملك لله الآب... ويُخضع الابن نفسه لذاك الذي أخضع له كلَّ شيء، لكي يكون الله كلاً في الكلّ» (1 كور 15:24 - 28).

في الحقبة الحاليّة من تاريخ الخلاص، نجد المعطيين اللذين اكتشفناهما بشكل جذريّ جديد، في سفر أشعيا: واقع الحضور ورجاء الانتظار. فسياق أشعيا، شأنه شأن سياق الانجيل، يبيّن أنّ الله يُتمّ تحوّلاً حقيقياً (إعادة البناء بعد المنفى؛ جديد الحياة المسيحيّة). لهذا، يجب على الانسان أن يتوق إلى هذا التحوّل في انتظارٍ فاعل وساهر. ويكمن هذا الانتظار في تجدّد دائم، لأنّ الربّ يأتي إلى صهيون وينتظر أن يجد فيها شعباً مستعداً باعلان مجيئه.

ولكنّ يضاف أمر آخر على مسؤوليّة شعب الله تجاه نفسه، وهو ملحّ وحاليّ، اليوم أكثر منه في الماضي. ونحن نقرأه في الخاتمة.

الخاتمة

إنّ موضوع الانتظار يقودنا بالضرورة إلى التفكير في واجب الشهادة. في أش 52:7، 10، جُعل شعب يهوذا تجاه الأمم. والكنيسة تجد نفسها تجاه العالم، في قراءتها المسيحيّة. والايراد الوحيد الصريح لهذا القول النبويّ في العهد الجديد، نراه في روم 10:15: استعاد بولس عبارة «حامل البشرى» (52:7) للكلام عن مسألة الرفض الذي به وقف بنو اسرائيل في وجه المسيح.

والسؤال يُطرح اليوم، ولكنّ على نطاق واسع، شامل، كما في أشعيا: الشهادة التي يُطلب من الكنيسة أن تؤدّيها للانجيل في العالم. وعلى المسيحيّ أن يقوم بفحص ضمير: حين ربط حياته ربطاً تاماً بالانجيل (فالشهادة حياة قبل أن تكون كلاماً)، هل كشف للعالم أهميّة تحوّله؟ وهل انتظر، مهما كانت مشاريعه، العالم الآتي بثقة ما بعدها ثقة؟ هناك يتمّ ملكوت الله بشكل نهائيّ، حين يحلّ محلّ الحزن والضيق، الفرحُ الكامل الذي لا يستطيع أحد أن يأخذه منّا (يو 16:20

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM