العبد المطيع للربّ 50:4-9

العبد المطيع للربّ

50:4-9

 

تطرح أناشيدُ عبد الربّ عدداً من الأسئلة. ولكنّنا نتوقّف عند نقطتين أساسيّتين. الأولى، كيف يتحدّد موقعُ هذه الأناشيد بالنظر إلى مجمل كتاب التعزية (ف 40 - 55)؟ الوضع التاريخيّ واللاهوتيّ. كاتب هذا النصّ وفكره. ثمّ، هل نرى في هذا العابد شخصاً فرداً أو جماعة، شخصاً معروفاً في الماضي أو إشارة إلى المسيح الآتي؟

بيّن بعضُ الشرّاح أنّ هذه الأناشيد جاءت مستقلّة ثمّ أدرجت في لحمة أشعيا الثاني. وهذا الادراج لم يكن وليد الصدفة، بل قابل هدفاً تعليمياً: لقد أعاد جامعُ أشعيا قراءة نصوص كتاب التعزية. لم نعد هنا أمام المنفى مع أزمة الإيمان التي حرّكها هذا الوضع، بل الشكوك واللايقينات التي ولّدتها خيباتُ أمل على أثر العودة إلى الأرض.

وأبرز آخرون مواضيع: مستقبل الأمم وشعب اسرائيل. وجه عابد الربّ ورسالته. أو: عالم النهاية، تركيز على الله، تركيز على الأرض. فأشعيا الثاني لا يهتمّ بعودة اسرائيل بقدر ما يهتمّ «بسرّ» الخلاص ومجد الربّ الذي يكشفه هذا الخلاص. وإن شدّد النبيّ على موضوع الاختيار، فهو لا يحصر نفسه في خاصيّة وطنيّة، بل ينفتح على نظرة شاملة. تروحنت فكرةُ خلاص اسرائيل ومهمّته، وتوسّعت وسع المسكونة بعد أن تركت النظريّات الوطنيّة الضيّقة.

وجاءت صورة العابد على أنّه فرد له دور ناشط في مخطّط خلاص شامل. ليس العابد فقط «موضعاً» يتجلّى فيه قصدُ الله بهياً على عيون الجميع: فهو يلعب دوراً ناشطاً، دورَ الوصيف. ثمّ لم يَعُد الألم نتيجة الخطيئة، وقد جعله الله عقاباً مطهّراً، بل هو ملتصق بمهمّة العابد الخلاصيّة.

وها نحن نقرأ النشيد الثالث من أناشيد عبد الربّ (50:4 - 9) وعنوانه: العبد المطيع للربّ.

4 الربّ أعطاني لسان التلاميذ،

لأُعين المتعَبين بكلمة.

صباحاً فصباحاً يُنبِّه أذني

لأصغي إصغاء التلاميذ.

5 السيّد الربّ يفتح أذني،

فلا أتمرّد ولا أرتدّ عنه،

6 أدير ظهري للضاربين،

وخدّي لناتفي اللحى،

واحتمل التعيير والبصق.

7 الربُّ يعينني فلا أخجل،

بل أجعل كالصوّان وجهي.

8 قرُبَت براءتي، فمن يخاصمني؟

فليتقدّم لنقف أمام القضاء.

9 السيّد الربّ يعينني،

فمن يا تُرى يحكم عليّ؟

1 - تحليل النشيد

أ - مقدّمة

نجد العابد هنا كما في 49:1 - 6 (الربّ دعاني من رحم أمّي). بدأ كلامه فتحدّث عن مهمّته. وتكرارُ العبارة الفاتحة (ادوناي. يهوه، السيّد الربّ) يقسم النشيد أربعة أقسام: آ 4، آ 5 - 6، آ 7 - 8، آ 9. أمّا تدرّج الأفكار فواضحٌ جليّ. قدّم العابدُ نفسه على أنّه انسان يُصغي إلى الله. وتقوم مهمّته في مساندة المضنَكين وتشجيعهم. وتدفعه جهوزيّته وطاعته إلى السير قُدُماً رغم العوائق والاضطهادات. وإيمانه اللامتزعزع بالربّ، يعطيه الثقة تجاه مقاوميه. هم في النهاية سيُخزَون، لأنّ الله يحكم عليهم.

إن قابلنا هذا النشيد بالأناشيد الثلاثة الأخرى (42:1 - 7؛ 49:1 - 6؛ 52:13 - 53:12) نكتشف موضوعين أصيلين في 50:4 - 9: عابد يسمع الكلمة دوماً. اضطهاد يحاصره. سوف يكون توسّع في موضوع الاضطهاد في النشيد الرابع. هو أسلوب شبيه بأقوال الأنبياء في «اعترافاتهم» على ما في نبوءة إرميا، ولكنّ السمة الحكميّة والتعليميّة تبقى حاضرة.

ب - تلميذ يُصغي (آ 4)

بدأ النشيد فصوَّر الطريقة التي بها أعدَّ الربّ العابد لمهمّته (42:1؛ 49:2). «نبَّه» كلّ صباح أذنه لكي يسمع كلام الله. «ووهبه لساناً» لكي يُعلن هذا الكلام. الرسالة واضحة. ويحدّد النصّ: لسان «ل م د ي» (ل م د: اعتاد، تمرّس، تعلّم. والاسم: معتاد، خبير، تلميذ). هناك من قال: لسان خبير، فأبرز سهولة الكلام والمهارة في الكرازة. وآخرون: لسان تلميذ. هذا ما يدلّ على الأمانة في إعلان الكلمة، وعلى الطواعيّة في قول ما يقوله الله له بشجاعة، بحيث لا يتوقّف عند النتائج مهما كانت. يبدو أنّ السياق يفرض علينا أن نقول: «لسان تلميذ».

ونجد تحديداً آخر. حسب السياق، هذا النبيّ التلميذ لا يلفت النظر فقط بأمانته في إعلان الكلمة، بل في مهارته لفهمها. هذا ما يجعلنا نفكر بتلميذ مطواع وذكيّ. إذن، صُوّر عملُ الربّ تجاه عابده على أنّه تعليم وتربية (آ 4 - 5). والتربية ليست فقط على مستوى العقل، بل أيضاً على مستوى العاطفة، والعمل والحياة. هناك من وازى بين هذه التربية الحميمة والعميقة، التي تجدّد الانسان من الداخل، وبين نصوص نبويّة حول العهد الجديد والداخليّ. رج إر 31:31 - 34؛ 32:36-41؛ حز 36:26 - 27؛ أش54:13: سيكون بنوك تلامذة لي.

المهمّة الملقاة على عابد الربّ، مهمّة تعليم وتربية على الإيمان، وتعزية تجاه «المتعَبين». لا تعب الجسد. بل التعب الخلقيّ الذي قد يقود إلى اليأس. فإذا أردنا أن نفهم هذه اللفظة، نعود إلى السياق فنرى في هؤلاء المتعبين أناساً اعتبروا أنّ الله تركهم. اعتبروا أنّ يد الله قاصرة، وبالتالي لا تقدر أن تفتدي. اعتبروا الربّ ضعيفاً وبالتالي يعجز عن الإنقاذ (50:2). أو هو نسي شعبه. أو غضب عليه فعاقبه عقاباً قد يقود إلى الموت.

لم يعد وضعُهم وضعَ المنفيّين، بل وضع ما بعد المنفى، والذي هو شرّ من المنفى. في هذا الإطار، تتحدّد رسالةُ العابد: أن يُفهم الشعبَ مدلول الأحداث الحاضرة، ويدلّ على وجهتها الخلاصيّة فيبرز موقعها في تاريخ الخلاص. وإمكانيّة السماع التي تحدّثنا عنها، صارت إمكانيّة إدراك مخطّط الله.

يحضر العابدُ كلّ صباح أمام الربّ لكي يسمعه. لسنا هنا أمام وحي في المعنى الحصريّ للكلمة، كما هو الأمر بالنسبة إلى الأنبياء. بل أمام طواعيّة مستمرّة وطاعة للربّ، أمام تأمّل متواصل في كلامه، أمام بحث عن النور (ليفهم وضعه الخاص) وعن الشجاعة (ليخدم الربّ رغم العوائق). هذا العابد هو في حوار متواصل مع الله. إنّه يشبه أحد الحكماء، وهو الذي يبحث في الكتب المقدّسة، وينعم بنور هادئ يُنميه شيئاً فشيئاً.

ج - ويحتمل (آ 6)

إنّ الأمانة للرسالة حتى الاستشهاد (آ 5 - 6) لفتت انتباه عددٍ من الشرّاح الذين عادوا إلى ما قيل عن إرميا (20:1 - 2: ضربه، حبس رجليه في القيود). لا نظنّ أنّ العابد يتماهى كلَّ التماهي مع هذا النبيّ. بل نعتبر أنّ التأمّل في مصير إرميا قد ساعد كاتبَ هذا النصّ على فهم المدلول العميق للمهمّة النبويّة (تتضمّن الاضطهاد)، على فهم منطق عمل الله الخلاصيّ.

وتعدادُ الاهانات (آ 6) يبدو متصاعداً: بعد أن أخضعوه للجلد (مز 129:3؛ أم 10:13؛ مرا 3:30)، نتفوا له لحيته (2 صم 10:4؛ نح 13:25). فمع العذاب الاذلال. والإهانة حين بصقوا في وجهه (عد 12:14؛ تث 25:9؛ أي 30:10).

هل نحن أمام إهانات تحمّلها هذا العابد حقاً، أو أمام وصف يُفهمنا أنّ الأمانة لله تعرّض النبيّ لكلّ أنواع الاضطهادات الماديّة والأدبيّة، بل أخطرها؟ هو تفصيل لا نتوقّف عنده. ويُطرح سؤال آخر: هل هو عذاب جماعة أم فرد؟ نظنّ أنّ النصّ يشير إلى شخص فرد، دون أن يستبعد الجماعة. في أي حال، هناك شيئان مهمّان. الأوّل، اسرائيل هو من يضطهد العابد الذي تعارض كرازتُه، بما فيها من صدق وأمانة للعهد، امتيازات اسرائيل أمام الأمم. في الواقع، لا تذكر آ 6 المضطهِدين. ولكنّ لا يمكن أن يكون الوثنيّون هم الذين يضطهدون. بل هم بنو اسرائيل الذين ما استطاعوا أن يتقبّلوا المهمّة التي تحملُها كرازةُ النبيّ.

سبب اضطهاد النبيّ هو رفض اسرائيل تلبية النداء إلى رسالة شاملة. ولكنّ السبب الأهمّ نجده في الطريق التي أراد العابد أن يُدخل شعبَه فيها. فالهدف الذي وضعه الربّ ليس انتصار اسرائيل على الأمم، بل خدمة الأمم. وهذا ما لم يقبل به الشعب «المختار». لهذا اضطهد نبيَّه.

ونستطيع أيضاً أن نرسم هنا خطاً فاصلاً، واضحاً، بين الفرد والجماعة. ما الذي يدلّ على أنّ العابد هو شخص فرد؟ الفنّ الأدبيّ الخاص بالاعترافات والواقع الذي يقول إنّ العذابات المذكورة في آ 6، لا تبدو عقاباً. أمّا في أشعيا الثاني فعذاب الشعب يُرى كعقاب على خياناته. طلَّقتُ أمكم، بعتكم. والحقيقة: هي آثامكم، هي معاصيكم (50:1). قال الربّ: «ألزمتَني بخطاياك، وأتعبتَني بآثامك» (43:24). غير أنّ مجمل النصّ يدعونا إلى أن نرى في «عبد الربّ» صورة نموذجيّة تستعيد تاريخ الشعب كلّه. هذه النقيضة الظاهرة نستطيع أن نحلّها، حين نتأمّل في المصير المحفوظ للأنبياء (ولا سيّما إرميا) ولمجموعة المؤمنين الحقيقيّين (التي هي أقليّة). أدرك الكاتب منطق مخطّط الخلاص (الأمانة لله يتضمّن الاضطهاد)، وهو منطق «جماعيّ، كنسيّ». مثل هذا المنطق يبدو وسيلة بها نقرأ ونفهم ما عاشه شعب الله والأنبياء في قلب هذا الشعب. وهكذا نستطيع أن نستشفّ، بل نصوّر ما سيحصل للمسيح.

د - أمام القضاة (آ 7 - 9)

ثقة عبد الربّ (آ 7) تجد موقعها فقط في الأمانة للربّ. وعبارة «جعلتُ وجهي قاسياً كالصوّان» (للدلالة على الشجاعة وعلى القرار الحازم في تتميم الرسالة) تجعلنا نفكّر أيضاً في إرميا وفي حزقيال. قال الربّ لإرميا: «جعلتك اليوم، يا إرميا، مدينة حصينة، وعموداً من حديد، وسوراً من نحاس... فيحاربونك ولا يقوون عليك» (إر 1:18). وقال لحزقيال: «والآن سأجعلك صلبةً تجاه جباههم، وأجعل جبهتك، فلا تخف منهم ولا من وجوههم» (حز 3:8 - 9).

وثقةُ العابد هذه تبيّن لنا أنّ العذابات التي يحتملها هي عذابات رجل بار، لا خاطئ. والاضطهاد الذي يقاسيه لا يجد تفسيره في ذنب اقتُرف (وإلاّ لأجبر العابد على أن يُقرّ بذنبه ويكشف عاره) ولا في وضع سياسيّ (المنفى أو اضطهاد سبّبه الوثنيّون). بل نحن أمام اضطهاد يرتبط بالدعوة النبويّة وبالرسالة، بالأمانة التامّة لله. وجاءت آ 9 واضحة في هذا المجال: دلّ الربّ أنّ عابده كان على حقّ، فأخزى مضطهديه الذين عارضوا هذا النبيّ باسم تعليم اعتبروه مستقيماً.

وهكذا يطرح اضطهادُ العابد سؤالاً. فالشرح التقليديّ الذي عاد إلى ذنبٍ اقتُرف، لا يكفي. فلا بدّ من إعادة النظر في عمل الله الخلاصيّ، في رسالة اسرائيل وعلاقته بالأمم، في الطريق التي تقود إلى الرجاء المسيحانيّ.

أمّا الألفاظ في آ 8 فتجعلنا في عالم القانون. غير أنّ هذا لا يعني أنّ العابد دخل في محاكمة، ووقف أمام القضاء. هي عبارة مقولبة تبدو جزءاً من «الاعترافات»: تأكّد العابدُ أنّه يخرجُ منتصراً في هذه المرافعة، مثل أيوب الذي قال: «ها أنا أعددت دعواي، وأعرف أنّي على حقّ. إن كان الله يخاصمني، فأنا أسكت وأسلم الروح» (أي 13:18 - 19). أو البار في سفر الحكمة: «وفي ذلك اليوم يقوم الأتقياء بجرأة عظيمة في وجه الذين اضطهدوهم» (حك 5:1).

2 - سياق النشيد

أ - السياق المباشر

إنّ الانتقال المفاجئ من آ 3 إلى آ 4، يجعلنا نظنّ أنّ الموضوع تبدّل. أعلنت آ 1 - 3 أمانة الربّ، وهي أمانة لا تتزعزع ولا تقبل التراجع. حينئذ دلّ اسرائيل على عدم إيمانه حين رأى في المنفى علامةً عن تخلّي الله عنه. غير أنّ الخطيئة الكبرى والخطيرة لدى اسرائيل تُوجَد في اللاأمانة، لأن اللاأمانة تدلّ دوماً على لافهم جذريّ للوجهة الأصيلة في حبّ الربّ لشعبه.

وفجأة مع آ 4، لم يعد موضوع الخطبة الربّ، بل العابد، وإن لبث الكلام في صيغة المتكلّم المفرد. هذا التعارض المفاجئ يدلّ على أنّ النشيد أدرِج في النصّ الأشعيائي. ولكنّه أُدرج بطريقة ذكيّة. بطريقة لها مدلولها. تجاه شعب لا أمين، يكون العابد أميناً. وهكذا لا يدلّ هذا العابد على اسرائيل التاريخيّ، بل على اسرائيل كما يجب أن يكون. لا اسرائيل الحاضر، بل اسرائيل المستقبل. وهكذا صار عبد الربّ النموذج والمعيار.

إنّ لفظ «عبد» يتوزّع في كلّ كتاب التعزية. ونحن نجده في جميع الديانات. أمّا مدلوله الدقيق فيتنوّع بتنوّع السياقات الدينيّة التي فيها يندرج، ويرتبط بفكرتنا عن الاله الذي إليه نعود. ففي اسرائيل، يدلّ العبد على الفرد أو الجماعة اللذين اختارهما الله من أجل رسالة محدّدة. نحن هنا في سياق العهد. لهذا لا يتضمّن اللفظ فقط الخضوع والطاعة، بل أيضاً الصداقة والمحبّة. فالعابد هو أوّل من ينعم بصداقة الاله. ولو كان أصمّ أو أعمى (12:19)، فهو يبقى خادم الله الذي لا تُلغى امتيازاتُه. وفي درجة ثانية، يتجاوب العبد مع مبادرة الله بتعلّق تام، بأذن مصغية إلى ما يقوله الله.

أمّا آ 10 التي هي في شكل من الأشكال، تفسير لهذا النشيد، فترى في عبد الربّ نموذجاً للجماعة. إذن، أتاح لنا السياق المباشر أن نقول إنّ الوضع الشخصيّ لعبد الربّ صار نموذج العلاقات بين الانسان وإله العهد.

ب - سياق كتاب التعزية

سبق وقلنا إن بعض سمات العابد تجعلنا نفكّر بنبيّ من الأنبياء، وسمات أخرى بأحد الحكماء. وقد ظنّ بعض الشرّاح أيضاً أنّهم وجدوا في هذا العابد شخصيّة ملوكيّة. هذا اللاتحديد ليس بمهمّ. وهو يجد أساسه في أناشيد عبد الربّ في شكل نبيّ وحكيم وملك. فوجه «ع ب د» يتحدّد موقعه في أصرح تقليد اسرائيل وآماله، عند نقطة اللقاء بين جميع التقاليد. لهذا، إن «ع ب د» ليس وجهاً مسيحانياً بين وجوه أخرى، بل هو استعادة لصور مختلفة (ومنها الصورة الملكيّة) بها يُعبَّر عن الرجاء المسيحانيّ.

ويبقى أننا نتردّد أيضاً بين الماضي والحاضر، بين التاريخ والرجاء. هناك سمات توجّهنا نحو شخص معروف في الماضي، مثل إرميا. وسمات أخرى نحو وضع حالي (بقيّة اسرائيل خلال المنفى وبعده). ولكنّ لا يكفي أن نقول إنّ التفكير في عبد الربّ وُلد من تأمّل في التاريخ السابق والحاضر، أو أنّه محاولة لإعادة قراءة النصوص الكتابيّة. حينئذ لن يكون كلامنا صحيحاً عن الطابع المثالي لسمات العابد. ففي النشيد الثالث يبدو نبياً (ملكاً وحكيماً) مثالياً. إذن، يجب أن نُضيف أنّ الكاتب الذي تأمّل في التاريخ السابق والحاضر، فكّر في اسرائيل المستقبل، في الشعب المثاليّ الذي سيكون في الأزمنة المسيحانيّة. فكّر في المسيح. وهكذا لا يشير العابدُ فقط إلى تذكّر أو نموذج معروض من أجل التوبة والاهتداء. نحن هنا أمام رجاء.

وينتقل الفكر من الشعب، من «البقيّة»، إلى الفرد. ونظنّ أنّ هذا الانتقال موجود في الأناشيد الأربعة حول العابد. فهناك دعوة واحدة للجماعة وللأفراد داخل الجماعة. والعبد الخاضع يبيّن بوضوح ما هي دعوة شعب الله.

هذه الطريقة في النظر إلى الأمور، نجدها بوضوح في العهد الجديد. الجماعة تضمّ المسيح الذي هو المركز والمختار المختار. واختياره يتضمّن الجماعة.

خاتمة

قبِلَ العابد بسرعة وبحريّة تامّة مهمّة الكرازة والآلام التي أوكلّه الله بها. فكان في خطّ الأنبياء. تسلّم رسالة صعبة جلبت عليه الاضطهاد كما عرف القراءة الأمينة للكلمة الموحاة. وتبقى الأصالة الكبرى في هذا النشيد، الطريقة التي بها تأمّل العابد الكتب المقدّسة ففسّرها وربط مصير النبي المضطهَد بتاريخ الخلاص. هذا ما فعله المسيح حين عاد إلى هذه النصوص، ساعة عاش مصيره الخاص كنبيّ رذله شعبه وأهانه. ولكنّ العهد الجديد لا يبقينا في العهد القديم، بل يفهمنا أنّ الذلّ انتهى في المجد، والموت في

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM