الفصل الثامن:يوحنّا الذهبيّ الفم وتفسير أشعيا

 

الفصل الثامن

يوحنّا الذهبيّ الفم

وتفسير أشعيا


أعجب القدّيس يوحنّا بأشعيا النبيّ، فامتدح حريّته في الكلام، واستقلاليّته في الفكر، وشجاعته لكي ينبّه الضالين ويوبّخ الخطأة. كما أشار إلى شفقته كي يساعد الذين حادوا عن طريق الله.

ويبقى الفضل الكبير لأشعيا بأنه أعلن المسيح وتحدّث بدون التباس عن الكنيسة. فهذا النبيّ الكبير كان أكبر معاون للمدافعين المسيحيين في جدالاتهم مع اليهود. رفضوا سلطة العهد الجديد، فما بقي من نقطة لقاء سوى سفر اشعيا. وهكذا بيّن الذهبيّ الفم، أن يسوع هو المسيح كما أنبأ به الأنبياء ولا سيّما اشعيا.

أما تفسير اشعيا فما هو مجموعة عظات كما كان الأمر بالنسبة إلى انجيل متّى، ولا هو البحث العلميّ، بل نقاط من أجل الكرازة الرعائيّة. احتفظ لنا التقليد اليونانيّ ببعض هذا التفسير(1)، ويبدو أنه كُتب بطريقة الاختزال، فما استطاع النسّاخ أن يفكّوا حروفه. ولكن جاء إلى عوننا نصّ أرمنيّ تُرجم في القرن الخامس. أما المخطوط فيعود إلى القرن الثالث عشر. طُبع في البندقيّة سنة 1880، ونُقل إلى اللاتينيّة سنة 1887(2).

متى دُوّن هذا الكتاب؟ قبل سنة 377، ساعة كان السلام يعمّ بعدُ الامبراطوريّة الرومانيّة. كان يوحنا شماسًا، وربّما كاهنًا جديدًا. وهجومه على اليهود يجعل يوحنا في أنطاكية. ففي القسطنطينيّة، خفّت حدّة يوحنا على اليهود، بسبب بعده عن مراكز الثقل عندهم في بلاد الرافدين ولا سيّما في بابل(3).

استند الذهبيّ الفم إلى الترجمة السبعينيّة، وقد يكون استفاد من الترجمة اللوقيانيّة. شرح الألفاظ وأوضح الصرف والنحو، وتوقّف عند الاستعارات حين تبرز الحاجة، دون أن يقع في تطرّفات مدرسة الاسكندريّة. مثلاً، أجنحة الملائكة، عرش الله... هي استعارات تحاول أن تفهمنا طبيعة الملائكة السامية الرفيعة، وثبات ملك الله الذي يملأ الكون بحضوره.

أما نحن فنقدّم المطلع الذي يدلّ بشكل خاص على نظرة الذهبيّ الفم إلى أشعيا(4).

تتراءى لنا القيمة الرفيعة لهذا النبي بصورة جلية، لأول وهلة. ولكن ما من أحد كشفها في كمالها كما فعل بولس الرسول، أفضل عارف لأفضال اشعيا، لأن روحًا عظيمًا جعله يتكلّم. شدّد على حريّة لغته، واستقلاليّة روحه، ورفعة روحه، وملء وضوح نبوءته حول المسيح. وقدّم كلّ ذلك في جملة واحدة: »تجرأ اشعيا فقال: وُجدْتُ لدى الذين لم يطلبوني، وتجلّيتُ للذين لم يسألوني«(5).

وكانت شفقته (= اشعيا) أيضًا عةةظيمة. فما اكتفى بأن يثور على جنون الشعب، فأعلن في كلامه الحرّ ورفعة فكره وكل صراحته، الشرور التي سوف تضربهم. بل حين جاءت الكارثة نفسها، تألّم وأحسّ بالجراح، شأنه شأن الذين سقطوا فيها، وأخذ يئنّ بحرارة على مثال الضحايا. ونستطيع القول إن ذاك كان طبع جميع الأنبياء وجميع القديسين: موقفهم تجاه من يوجهون، كسفَ حنانَ الآباء، وتجاوز تجاوزًا استبداد الطبيعة. كلا أبدًا. فمن من أب محبّ اشتعل لأجل أولاده بحبّ شبيه بذاك الذي جعلهم يموتون لأجل من يوجهون. بكوا، تنهدوا، صلّوا إلى الله حين كانوا يتحمّلون الإساءات والنفي معهم، وقاسموهم مصيرهم التعيس، وعرفوا أن يفعلوا كلّ شيء ويحتملوا كلّ شيء ليمنعوا عنهم غضب العليّ والشقاوات التي تنصبّ عليهم. فلا يستحقّ أن يتسلّم السلطة سوى نفس حكيمة وقادرة على الشفقة.

لهذا، رفع الله موسى العظيم إلى كرامة رئيس الأمم، بعد أن بيّن، بأعماله، حنانه تجاه شعبه. فقال في ما بعد: »فإما تغفر خطيئتهم وإما تمحوني من الكتاب الذي كتبتَ«(6). واشعيا الذي رأى هلاك من هلك قال: »دعوني وشأني فأبكي بكاء مرًا. لا تحاولوا تعزيتي عن دمار بنت شعبي«(7). وألَّف إرميا أيضًا مراثي طويلة حين سقطت المدينة. وحزقيال مضى مع المنفيّين، فاعتبر أن الأرض الغريبة أحلى عليه من أرضه الخاصة. وكانت تعزيته الكبرى في الشقاء أن يساعد المكتئبين ويقوّم وضع الآخرين. ولبث دانيال صائمًا عشرين يومًا سائلاً (إلى الله) عودتهم، وجعل كل غيرته في التوسّل إلى الله لكي يحرّرهم من عبوديّتهم القاسية.

وبدا لنا أن كلاً من القدّيسين اشتعل بهذه الفضيلة عينها. فداود مثلاً رأى عقابًا أرسله الله على الشعب. حينئذ طلب أن تكون الضربة عليه، فقال: »أنا الراعي الذي خطئ. أنا الراعي الذي أساء. فما الذي فعل هذا القطيع؟ لتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي«(8). وابراهيم أبو الآباء كان بمأمن من الشقاء، فما كان يعرف شقاءً من الشقاوات التي ستضرب سكّان سدوم. ومع ذلك، صلّى إلى الله وتوسّل، وكأنه في قلب المخاطر. وحاول أن يعمل كل شيء ويقول كل شيء ليُبعد هذا الحريق الهائل. وفي النهاية تركه الله وابتعد (تك 18:20 - 23).

أما قدّيسو العهد الجديد فدلّوا على فضيلة أكبر، لأنهم نالوا نعمة أوفر ودعوا إلى جهاد أطول. فبطرس سمع المسيح يقول: ما أصعب على الأغنياء الدخول إلى السماء. تضايق وارتجف. وطرح هذا السؤال: »فمن يستطيع أن يخلص؟« (لو 18:26). ومع ذلك، فقد كان واثقًا في ما يخصّه. ما كان هؤلاء الرجال يهتمّون بحالتهم الخاصة، بل بمصير الكون. وبيّن لنا بولس أيضًا في مجمل رسائله، كيف أنه لا يرض أن يرى المسيح قبل أن ينال البشر الخلاص. فقال: »أفضّل أن أمضي لأكون مع المسيح. ولكن البقاء في الجسد أكثر ضرورة من أجلكم« (فل 1:23 - 24).

والنبي أشعيا تعلّق بهذا الخطّ في سلوكه، حين أعلن بكل جرأة أقوال الله، فوجَّة التوبيخ إلى الخطأة، وما لبث يصلّي في أقوال طويلة إلى الذي غضب عليهم. وهذا ما نلاحظه بشكل خاص في نهاية نبوءته(9). ولكن حان الوقت الآن لنعالج البداية.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM