الفصل السابع: تيودوريه القورشي

 

الفصل السابع

تيودوريه القورشي

في شرح23: 13 :27-1

ترافقت حياة تيودوريه (393 - 466) مع تاريخ الكنيسة في القرن الخامس، وبشكل خاص بين مجمع أفسس (431) ومجمع خلقيدونية (451). عاش في قلب الصراع الدائر بين الاسكندريّة وانطاكية بمناسبة »الهرطقة« النسطوريّة. هاجم اثناز في حروماته نسطور، وفي الوقت عينه انطاكية، فردّ عليه تيودوريه بناء على طلب يوحنا أسقف انطاكية. لهذا حُطّ عن كرسيه في مجمع أفسس سنة 449 الذي دعاه المؤرّخون »لصوصيّة أفسس«. ولكن عاد تيودوريه في ما بعد واعترف الجميع باستقامة إيمانه في مجمع خلقيدونية.

ومع دوره العقائدي، هناك دوره التفسيري مع ديودور أسقف طرسوس، وتيودور أسقف المصيصة، ويوحنا الذهبي الفم. فحُسب أفضلَ ممثِّل لما سُمّي »مدرسة انطاكية«، بل حُسب من أكبر المفسّرين في القرون الأولى للمسيحيّة. امتدّ عمل تيودوريه، فقدَّم تقريبًا كلّ العهد القديم بشكل شروح متواصلة أو مجموعة أسئلة تتوخّى أن توضح المقاطع الصعبة والغامضة. كما قدّم تفسيرًا متواصلاً لرسائل القديس بولس. وما يُفرحنا هو أن هذا العمل الواسع وصل كلّه إلينا. ولكن بقي اشعيا ضائعًا، إلاّ في السلسلات التفسيريّة(1).

ولكن سنة 1899، نُشرت لائحة المخطوطات التي كانت في القسطنطينيّة وحُفظت في دير القيامة، في أورشليم القدس(2). وقُرئت الوريقة 96 أ من المخطوط 17: »شرح تيودوريه أسقف قورش حول النبيّ اشعيا«(3). ويتواصل المخطوط في الوريقة 186 أ: »ومنه أيضًا (شرح) النبيّ إرميا«. هذا يعني أن شرح اشعيا يمتدّ في الوريقات 96 - 185.

ولكن ما اهتمّ الباحثون بهذه الحاشية التي جاءت في جملة حواشٍ وصولاً إلى حزقيال الذي قابل نصُّه ما نجدُ في مجموعة الآباء اليونان(4)، لأن الجميع كانوا مقتنعين بأن شرح اشعيا قد ضاع(5). ولكن حين بدأ فريق جامعة غوتنغن في المانيا يجمع المواد من أجل نصّ السبعينيّة، عادوا إلى ما قاله بابادوبولس، فقرأوا شرح اشعيا وقابلوه مع السلسلات التفسيريّة. وها هو قد نُشر ونُقل إلى الفرنسيّة في مجموعة الينابيع المسيحيّة(6).

لا مجال لدراسة هذا الشرح وموقعه في حياة تيودوريه. يبدو أنه أُلّف بعد حزقيال والاثني عشر وقبل ارميا، على ما يقول الشارح نفسه في كلامه عن المزامير. عمّن أخذ تيودوريه طريقة الشرح؟ من هجوم على العالم الوثني الذي لبث زاهرًا. من تقديم تعليم حول شخص يسوع المسيح ينطلق من نيقية فيصل إلى خلقيدونية.

أما نحن فنتوقّف عند القسم السابع الذي يشرح اشعيا 23:1 - 27:13(7) ونختار بعض المقاطع التي تعطينا نموذجًا عن طريقة تيودوريه في تقديم نصوص الكتاب المقدس. والعنوان الأوّل، دمار صور. ثم رثاء صور.

23:1، قول على صور. حاصر الأشوريّون صور أيضًا ودمّروها. إذًا، هذا حدث آخر أنبأ به النبي، لأن عيني الروح أرتاه إياه مسبقًا.

ولولي(8) يا سفن قرطاجة، لأنها دُمّرت ولن تعود إلى أرض كتيم. هناك نسخات تقول: »لأنها (صور) دُمّرت«. فقرطاجة هي عاصمة ليبيا التي تُدعى اليوم افريقيا. أما العبري فيدعوها ترشيش، وكتيم. هكذا تُدعى في العبري وفي سائر الترجمات. هي قبرص. بل تمتلك مدينة تُدعى إلى اليوم كيتيون. إذًا، يدعوهم، أهل الجزر وأهل السواحل، للبكاء، لأن صور دُمّرت كليًا. بعد أن ارتبطت تجارتُهم بها، أُخذوا أسرى، أي سكان صور.

بماذا يُشبَّه سكانُ هذه الجزيرة؟ صور بموقعها، تشبه جزيرة، فهناك برزخ يمتدّ في وسط البحر بحيث لا يكون سوى مدخل واحد. يا مبادلي فينيقية. هكذا يدعو التجّار لأنهم يحملون بضاعة وينطلقون ببضاعة أخرى. هم الذين يعبرون وسع المياه، زرع المبادلين. هذا يعني أن أسلافهم عاشوا في الماضي طريقة الحياة هذه. كما حين العودة من الحصاد، مبادلو الأمم. فسفن التجّار التي تنزل في الموانئ تشبه رجالاً يحملون في وقت الحصاد، حزم القمح من الحقول إلى البيادر.

إخجلي يا صيدون، (يقول) البحر. في الماضي خضعت صيدون لصور. لهذا قدّمها النصّ وجعلها تقول لصور، لأنه يدعوها »البحر«. اخجلي، أي لا تكوني بعدُ متعجرفة. إعرفي نفسك. فليس... البحر الذي قال لصيدون: »إخجلي«، بل صيدون قالت للبحر أي للمحيط الذي يقابله بصور بسبب عدد سكّانها الكثيرين. وهذا ما نراه أيضًا في ما يلي من المقطع. قالت قلعة البحر: ما حبلتُ وما ولدت ولا ربّيتُ شبانًا ولا نشأتُ عذارى. جعل النصّ النبوي هذه الكلمة في فم المدن: قالت صيدون: اخجلي. وأقرّت صور أن جمهورها الشبيه بأمواج البحر، ما ولدته بقدرتها وربّته. فنعمة الروح تستعمل هذه التشخيصات لكي تعلّمهم أن لا يروا فيها الكبرياء، بل أن يُقروا بموزّع الخيرات.

حين تسمع مصر الخبر، يمسك الوجعُ السكّان من أجل صور. فالشقاوات التي حصلت لصور تجعل المصريين يقلقون حول مصيرهم. ابتعدوا إلى قرطاجة. ولولوا يا سكّان هذه الجزيرة. صداقة قديمة وُجدت بين أهل قرطاجة وأهل صور، وأقامت المدينتان علاقات تجاريّة، لهذا دعا أيضًا أهل قرطاجة لكي يولولوا من الوجع. أما كانت فخرَكِ منذ البدايات وقبل أن تُسلَّم؟ يعلّمنا النصّ عدالة العقاب: هو التكبّر، أي الشرّ والعجرفة، ما حرّك حصارَ المدينة. قادتها خطاها إلى البعيد لتؤسّس مستوطنة. »خطاها« هي الطريق التي سلكتها. أي عوائد حياتها. هؤلاء هم المسؤولون عن وضعها كأسيرة. هذا ما سبق النبي وقال في مقطع آخر: »الويل للشرير. تنصبُّ عليه الشرور بحسب أعمال يديه«(9).

24:1 وبعد أن أكمل النصّ النبويّ النبوءة على صور، أنبأ بأحداث تحصل في مجمل البشريّة(10).

ها هو الربّ يخرّب الأرض، يُخليها، يقلب وجهها ويبدّد سكّانها. تضمّن النصّ نبوءتين، فعرّفنا في الوقت عينه إلى ما يحصل في حقبات مختلفة خلال الحروب، وما سيحصل عند انقضاء الدهر الحاضر.

24:2 الشعب يكون كالكاهن، والعبد كالسيّد، والأمة كالسيّدة. والبائع يكون كالشاري، والمقرض كالمفترض، والدائن كالمديون. هذا ما يحصل حقًا وحقيقة بعد القيامة: في ذلك الوقت، تتحوّل بنيةُ الحياة الحاضرة، ويزول الاختلاف في الأوضاع، ويحل محلّها الاختلاف بين الفضيلة والرذيلة. ومرات عديدة، كهنةٌ عاشوا في الإثم يسلّمون إلى العقاب، ساعة أناسٌ من الشعب يتركون صفّهم سيحتلّون صفّ الكهنة. ويكون العبيد في عداد المخلَّصين. وأسياد في عداد المعاقَبين: هكذا لعازر. عاش في حضن ابراهيم، وأما الغني فكان في اللهيب. إلاّ أنه يمكن أن نرى أيضًا بروز هذه الظاهرة عينها خلال الحروب: فالأعداء لا يعرفون الفرق بين العبد والسيّد، ولا بين الرفيع والوضيع، بل يجعلون على الجميع وبدون تمييز، نير العبوديّة.

ثم أعلن أيضًا الدمار الآتي للعالم على أثر قرار إلهيّ وبكاء الذين تعظّموا بغناهم وقدرتهم، ثم أضاف:

24:5 عاشت الأرض في الإثم بسبب سكّانها، لأنهم تجاوزوا الشريعة وبدّلوا الفرائض، لأنهم نقضوا العهد الأبدي. بما أن الأرض خسرت عقلها ونفسها، علَّم بحقّ أن سكّانها هم الذين ملأوها إثمًا. قال: »الشريعة«، »الفرائض«. ما تحدّث فقط عن شريعة موسى، بل أيضًا عن الشريعة المكتوبة في الطبيعة. فالطبيعة البشريّة تعرف منذ ولادتها الفرق بين الخير والشرّ. ونحن نشهد على ذلك حين نبغي أن نتنعّم بالسعادة، ونرفض أن نخضع للشقاء. ذاك هو أيضًا التعليم الذي أعطانا الرسول الملهم. قال: »حين تُتمّ الأمم المحرومة من الشريعة، بالطبيعة، ما تفرضه الشريعة، هؤلاء الناس الذين لا يمتلكون شريعة يكونون لنفوسهم شريعة«.

24:6 لذلك تأكل اللعنة الأرض، لأن سكانها خطئوا. هذا ما نراه حاصلاً اليوم أيضًا: هجمة الجراد، بقع الصدأ، سقوط البرَد، أمطار غزيرة أو غير كافية تصيب الأشجار والحصاد بسبب شرّنا.

24:10 المدينة كلها انهارت، وأقفلت البيوت، فلا يدخل فيها أحد. بما أن الطبيعة البشرية استسلمت إلى الرخاوة، تعالَج بأدوية تعارضها: العوز يلتقي بالوفر، وعقم الأرض بتسامح يلد غلّة وافرة، وإقفار المدن بفلتان سكانها.

ثم يدعو أيضًا أولئك الذين يقيسون السعادة ببطنهم، فيبكون لغياب الخمر وتوقُّف البهجة وفراغ المدن وغياب البيوت من أجل السكّان.

24:16 ثم(11) بيّن الفائدة من هذه الأقوال. فأضاف: رجاء من أجل الانسان التقيّ، السالك في البرّ والتقوى، فيأخذ علمًا بالأجر في الدهر الآتي، وهذا ما يتيح له أن يحتمل بشجاعة، المتاعَب التي تفترضها الفضيلة، لأن الرجاء يكون السند. ولكن أي رجاء، أيها النبيّ الملهم؟ قال: نلتُ رجاء الخيرات، ولكني ما عرفتُ معرفة واضحة أشكالَ هذا الرجاء. لهذا، إليك ما أضاف: »سرّ شخصي هو في يدي وفي يد أخصائي«. لهذا أعلن الرسول الإلهيّ خلال جدال حول الموضوع عينه: »ما لم تره عين، ما لم تسمعه أذن، ما لم يخطر على قلب البشر، هذا ما أعدّ الله للذين يحبّونه: وهذا ما كشفه الله لنا بواسطة روحه«. وفي هذا المقطع أيضًا، أعلن الله بواسطة نبيِّه: »سرّ شخصي هو في يدي وفي يد أخصّائي«.

وبعد أن درّج الناس الأتقياء، توجّه إلى الفاسدين: ويل للمتجاوزين، للمتجاوزين الذين هم في عداد الذين يتجاوزون الشريعة! فالذين يسلكون حياةً تعارضُ روحه، يتجاوزون الشريعة. وهنا أيضًا »الشريعة« ليست فقط شريعة موسى، بل الشريعة الطبيعيّة أيضًا، لأن النصّ يشير إلى البشريّة كلها.

25:1 حين يظهرُ ملك الله في تلك المدينة، يخزون خجلاً أولئك الذين أدّوا عبادة إلى الخليقة لا إلى الخالق.

وإذ تعلّم النبيّ من هذه الأحداث، ألّف مديحًا يكرم به الله الذي قام بهذه الأعمال، فقال: »أيها الربّ إلهي أمجدك، أشيد باسمك لأنك عملتَ أعمالاً عجيبة، وذاك مخطّطك القديم والصادق. ما حدّدت مسبقًا منذ البدء أريتنا إياه الآن فعلاً«. بهذه الألفاظ تحدّث الرسول الالهي أيضًا: »السرّ الذي لبث مخفيًا منذ الدهور والأجيال، في الله خالق كل شيء«. وأيضًا: »نتكلّم عن حكمة الله السريّة التي لبثت خفيّة، والتي سبق الله وأعدّها لمجدنا قبل الدهور«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM