الفصل الرابع عشر :تجارب يسوع

الفصل الرابع عشر
تجارب يسوع
4: 1- 11

يرتبط خبر العماد بخبر التجارب ارتباطاً وثيقاً. من جهة، هو الروح الذي نزل من السماء، بشكل حمامة، يقتاد يسوع إلى البريّة، إلى المحنة التي تدخل في مخطّط الله. ومن جهة ثانية، بدأت التجربتان الأوليان بهذه الكلمات: "إن كنت ابن الله"، فتجاوبت مع صوت الآب من السماء: "أنت ابني الحبيب" (3: 17). وهكذا تظهر قدرة الابن الإلهي واضحة هنا كما في العماد.
رُفع يسوع، أصعد. نحن قريبون من عالم الخيال. أما الصراع بين يسوع وإبليس فيبدو بالأحرى جدالاً بين اختصاصيّين في الكتب المقدّسة. وهكذا يصبح كلام الله العنصر الأساسيّ في هذا الحدث. ثم إن القرّاء الأولين للانجيل عرفوا أسفار الرؤى اليهوديّة المليئة بالانخطافات والأسفار عبر محطات السماء، لهذا لم يُدهشوا حين قرأوا في مت كيف أصعد الشيطان يسوع إلى جبل عالٍ، فأراه ممالك الكون...
المشهد رمزيّ. هذا ما لا شكّ فيه، ولكنه ليس وليد المخيّلة. فأمر يسوع: "إليك عني، يا شيطان" يقابل ما قاله يسوع لبطرس:، إذهب خلفي، يا شيطان" (16: 23). فالرسول الذي دعا يسوع لكي ينجو من "الاستشهاد، صار بدوره مجرّباً و"سبب عثار". فأصدقاء يسوع وخصومه سيحاولون مراراً أن يدفعوا يسوع ليستفيد لنفسه من القوّة الإلهيّة التي تقيم فيه. ولكن حدث البرّية يبدو في بداية رسالة يسوع انتصاراً حاسماً على كل ما يمكن أن نسمّيه "تجربة أو "دفعاً إلى الشّر".
أي معنى نعطيه لهذه التجارب؟ رفضُ مسيحانيّة أرضية. تجارب نموذجيّة في حياة المسيحيّ. انتصار يسوع على تجارب سقط فيها اسرائيل. على تجربة سقط فيها آدم. كل هذا يجتمع في عبارة مكثّفة: "هذه تجربة ابن الله". يسوع هو الخاضع للآب. وهو الذي يقتدي بالآب. وهو المسيح الملكيّ. ووراء جبل التجربة الأخيرة، نرى جبل اللقاء بعد الفصح وسلطان يسوع على الكون كله بواسطة تلاميذه. ففي محنة ابن الله نرى الطريق الذي فيه تسير كنيسة الابن التي خرجت من المعموديّة في خروج جديد، فتذكّرت التجارب التي مرّ فيها يسوع وانتصر عليها، وعرفت أن لا تستند إلى أي سلطان إلا سلطان الله. وإلا وقعت في تجربة عبادة الأوثان.
بعد نظرة عامة إلى نصّ التجارب، نتوقّف عند ثلاث نقاط: إطار التجربة (4: 1- 2). الهجمتان الأوليان (4: 3- 7). الهجمة الأخيرة (4: 8- 11) التي تدلّ على الهدف الأخير للتجربة وهو فصل يسوع عن الآب وربطه بإبليس. وهكذا ينتقل من طاعة إلى طاعة، ومن عبادة الله إلى "عبادة للشيطان". لا سمح الله بذلك!

1- نظرة عامّة
الشيطان "يجرّب" يسوع (رج مر 1: 12- 13؛ لو 4: 1- 13). في مر وفي مت، جاء هذا الخبر حالاً بعد عماد يسوع. "حينئذ اقتاد الروح يسوع إلى البرّية" (آ 1). أما لو فقد أدرج بين عماد يسوع وخبر التجارب سلسلة نسب يسوع (3: 23- 28: ولما باشر يسوع رسالته... يظن أنه ابن يوسف...). إن بنية لوقا هذه تعني أن ذلك الذي سوف يجرّب هو ابن آدم (3: 38). ولكنه اختلف عن آدم الأول، فلم يسقط في التجربة.
حين نقابل نصّ مت مع اللمحة القصيرة في مر 1: 12- 13، نلاحظ حالاً أمراً هاماً. وهو أن آ 1- 2 من مت تقدّمان لنا كل مضمون نص مر (ما عدا ذكر الملائكة الذي جعله مت في نهاية الخبر) بحيث نستطيع القول إن نصّ مرقس كان ملخصاً لخبر مت. أما آ 3- 11 فجاءت توسيعاً لما في هاتين الآيتين. إذن، نحن في مت 4: 3- 11 أمام تفسير للآيتين 1- 2 اللتين أخذتا من مر. ويُطرح السؤال: هل نستطيع القول إن 31- 11 هي توسّع لاهوتي أمين لما في مر 1: 1- 2؟ ربّما.
أما نصّ لو، فيتضمّن إجمالاً ما في مت مع اختلافات ملحوظة على مستوى البنية والتفاصيل. فالتجربة الثانية في مت هي الثالثة في لو. وفي جواب يسوع على التجربة الأولى، يبدو الاستشهاد بسفر التثنية كاملاً في مت لا في لو (تث 8: 3). وفي الجواب على التجربة الثانية، جاء الاستشهاد المأخوذ من مز 91: 11- 12 أكثر موافقة للنصّ الأصلي عند لوقا. وتوسّع مت أكثر من لو في خبر التجربة الأخيرة.
ويمكن أن نرتّب التفاسير الرئيسية لهذا الخبر في خمس مجموعات. الأولى: تفسير مقاوم للسحر. توخّى الخبر محاربة اتهامات بالسحر رفعها اليهود ضد يسوع في نهاية القرن الأول. الثانية: تفسير هجوميّ على اليهود. أراد الخبر أن يبيِّن أن للمسيحيين رباً تغلّب على تجربة البرّية التي سقط فيها الشعب اليهوديّ. الثالثة: التفسير الآدمي والمعارض للمسيحانيّة. أراد الخبر أن يبيِّن قبل كل شيء كيف رفض يسوع الكرامة المسيحانيّة، وفضّل عليها صورة آدم الثاني أو ابن الإنسان في خط فل 2: 5- 11 (رج مت 16: 23). الرابعة: التفسير "البنويّ" المركّز على فكرة تقول إن الابن انتصر على الشيطان وخضع لأبيه، بل هو انتصر في طاعته وبواسطة طاعته. الخامسة: التفسير المسيحاني المجرّد. يشدّد على سمات "أيام المسيح" كما نجدها في هذا الخبر.
هذه الاتجاهات المختلفة لا تتنافى بعضها مع بعض. وتبدو المجموعات الثلاث الأخيرة أقرب إلى المعقول. ولكن العنصر الرئيسيّ في الخبر (خصوصاً في مت) هو النصوص التوراتيّة الثلاثة التي بها يجيب يسوع إبليس. لم تعتبر نصوصاً مسيحانيّة في العالم اليهوديّ المعاصر للمسيح. بل هي تُصوّر وضعَ الإنسان العائش في طاعة الله. إذن، أراد الخبر أن يبيّن لنا قبل جمل شيء إنساناً من الناس، ويهودياً أميناً لإله الآباء. أن يكون هذا اليهوديّ ابن الله، أو المسيح أو ابن الإنسان، أو آدم الثاني، فهذا لا ينفي أنه قبل كل شيء إنسان استقى قوّته فقط في خدمة إله الكتب المقدّسة.
أمام هذا الخبر الغريب، قد يطرح القارىء اليوم عدداً من الأسئلة. أولاً، متّى وكيف وُلد هذا الخبر؟ ثانياً، هل يتوافق مع واقع واحد من حياة يسوع أو هل يصوّر أمراً ثابتاً حدث له أكثر من مرة؟ إن مجمل الكرستولوجيا المتاويّة تدفعنا في هذا الاتجاه الثاني. ثالثاً كيف استطاع الانجيليّ أن يصوّر وبشكل جدّي "تجربة" ذلك الذي قدّمه إلينا في كمال البنوّة الإلهيّة، في كل صفحة من صفحات انجيله؟ رابعاً، أما تنفي هذه "الطبيعة" الإلهيّة فكرة تجربة لا تكون "تمثيلاً" و"تظاهراً"؟ في هذا المجال نستطيع أن نوجز فكرة الانجيليّ في عبارة محيرّة تقول: إن كمال الطبيعة الإلهيّة في يسوع، لا يُطرح بشكل مجرّد، لا يُطرح خارج وجودها التاريخيّ. إن بنوّته الإلهيّة بدت حقاً في طاعته البشريّة المطلقة للكتب المقدّسة. لقد جاء يسوع يعمل مشيئة الآب. وهذه المشيئة قد وجدها في الكتب المقدّسة. وهكذا بدا مشهد التجارب صورة مصغّرة عمّا سيعيشه يسوع كل حياته على الأرض وهو يقول: "طعامي أن أعمل مشيئة الآب الذي أرسلني".

2- اقتاد الروح يسوع ليجرّب (4: 1- 2)
لاحظ الشرّاح وبحقّ ارتباط هذا الخبر مع خبر اعتماد يسوع في الأردن. سوف نرى معنى هذه البنوّة الإلهيّة ليسوع التي أعلنت في عماده (3: 17: هذا ابني الحبيب). إذن نعطي للأداة "توتي" القيمة التي أعطيت لها في 3: 13: هي تربويّة وفقاهيّة أكثر منها كرونولوجيّة. وهذه اللفظة تميّز أسلوب متّى فترد عنده 90 مرة. حين ترتبط (كما هو الأمر هنا)، بواقع سوف يُروى، تخسر قيمتها الكلاسيكيّة (2: 16؛ 3: 13؛ 4: 5؛ 8: 26...). لا يستعمل مت إلا هنا فعل "أناغاين" (قاد، اقتاد، ق لو 4: 5 في المعنى عينه) الذي يرد مراراً في العهد الجديد: يصوّر سلوكاً يخضع له يسوع بحريّة.
والإشارة إلى الروح تربط هذا المقطع مع خبر المعموديّة. لقد "أتى" الروح (حلّ) على يسوع (3: 16)، لا كقوّة لا شخصيّة تكرهه على عمل ما، ولا ليمتزج به فيذوب فيه. أتى الروح يقوده طوال حياته على الأرض. فالذين ينظرون إلى الروح كأنه "شيء خارجيّ" يرون في 3: 16 و4: 1 تعارضاً مع 1: 18، 20 (رج 12: 18، 28؛ أش 42: 1- 4). إن لفظة "روح" في المعنى المطلق تبدو هنا معارضة للاستعمال اليهوديّ الجاريّ. نحن هنا على مستوى الاستعمال المسيحي في القرن الأول. نحن أمام روح الله. والنصّ الموازي في لو 4: 1 يعبرّ عن فكرة تختلف بعض الشيء عن العلاقة بين الروح وشخص يسوع.
إذن، لا يعتزل يسوع في البرية مع أشخاص آخرين، كما فعل الأسيانيّون، لكي يتأمّل في الشريعة ويجمع هناك شعب الله الحقيقيّ. فعبوره إلى البريّة يكون محدوداً جداً، ولا يكون له أيُّ مدلول إلا بالنظر إلى نشاطه العلنيّ. ثم إن ما "يقوده" إلى التجربة ليس الوجهة البشريّة لشخصه لكي ينال في ما بعد الروح كختم لانتصاره الشخصيّ. ما يقوده إلى البريّة هو الروح القدس.
إن العلاقة بين الروح والمسيح وشخص يسوع قد أوضحت لدى بعض الشرّاح فقالوا: لا يبدو أن خبر التجربة ارتبط ارتباطاً مباشراً بالتقليد المسيحانيّ الذي نجده في أش 11 أو مز 2. وقد يكون مدلول المسيح، آدم الثاني، قد ارتبط بصورة الفردوس في الأزمنة المسيحانيّة كما نقرأها في أش 11: 6- 9. وتكون آثاره في التفصيل عن الوحوش في مر 1: 13.
في الأصل فُسرّت عطيّة الروح للمسيح في خبر العماد على أنها تتمّة لما في أش 11: 2. لقد أقام في المسيح ملء روح الله. ولكن برز تطوّران في وقت مبكر. من جهة، إن المسيح لا يدين فقط بنفخة فمه وبالنار. إنه يعمّد بالروح القدس. من جهة ثانية، ترك الشرّاح الروح المسيحانيّ حسب أش 11 لكي يقرّوا خدمة يسوع حسب الروح حسب 42: 1. وهذا الضمّ بين الروح وعبدالله أو الابن الطائع، يُشرف بشكل ضمنيّ على خبر التجارب الذي نقرأ، وسوف يتوضّح في 17: 5؛ 12: 18- 21؛ 11: 2- 6.
إن البرية التي فيها يحدّد مت موقع كرازة المعمدان (3: 1؛ رج 11: 7)، ليست موضعاً منعزلاً وبعيداً عن الأماكن الآهلة كما في 14: 13. وليست البريةَ التي يُنتظر أن يظهر فيها المسيح (24: 26)، بل هي برية يهوذا (3: 1) حيث أقام الاسيانيون وزرعوا أشجار النخيل. إذن، هناك يمكن العيش في عزلة نسبيّة بعيداً عن أعين الفضوليّين.
ومزج مت مع هذه المعطيات المعروفة في عصره، موضوعاً توراتياً هو موضوع شعب الله الذي جُرّب وسقط، ولكن الله أعانه لكي يعبر هذه البرية. وقد تفرّد مت (لم يفعل مثله مر، لو)، فقال بوضوح إن الروح اقتاد يسوع إلى البرية ليجرّب (بايرستاناي، المجهول مع هدف. المجهول الالهيّ. كأن الله أراد أن يجرّبه. أو هو سمح). وهناك من أوضح: "ليجرّبه إبليس". فيسوع سيلتقي شخص المجرّب. ولم يكن هدف ابليس أن يمتحن يسوع لكي يقوّيه في الجهاد، بل لكي يوقعه، يجعله يسقط، فينكر دعوته كابن طائع.
استُعمل موضوع التجربة عند مت في أطر رئيسية: الأول، صوّر الفخاخ التي يجعلها خصوم يسوع تحت قدميه. "وتقدّم إليه الفريسيون والصادوقيون وسألوه ليجرّبوه" (16: 1). "ودنا إليه فريسيون ليجرّبوه" (19: 1). "أدرك يسوع خبثهم، فقال: لم تجرّبوني، أيها المراؤون" (22: 18)؟ "وسأله واحد من علماء الناموس ليجرّبه". الثاني، صوّر المحن والتجارب التي تصيب التلاميذ: "ولا تدخلنا في تجربة" (6: 13). "إسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة" (26: 41). الثالث نجده هنا، وهو يصوّر تجربة يسوع بيد إبليس (4: 1، 3).
في السلسلة الأولى، واجه يسوع دوماً خصومه وانتصر عليهم. وشدّدت السلسلة الثانية على سرعة العطب والضعف عند التلاميذ أمام التجربة. وفي تجارب يسوع (4: 1- 11)، نجد مقابلة مع التجربة الأولى (تك 3: 1 ي). يهاجم الشيطان الإنسان الذي يستطيع أن يردّه في حرّية خيار مطلق، لأن الانسان ليس "جزءاً" من هذا العالم الذي يملك عليه الشيطان (آ 9).
"وبعد أن صام" (آ 2). لا العالم البيبلي، يرتدي الصوم قيمة الاستعداد قبل النسك. هذا ما نقرأه في 6: 16- 18 (لا تكونوا معبّثين كالمرائين)؛ 9: 14- 17 (لا يستطيع بنو العرس أن "يصوموا" والعريس معهم)؛ 17: 21 (هذا الجنس من الشياطين لا يخرج إلا بالصوم والصلاة). فيسوع لا يصوم لكي يستطيع مواجهة إبليس. والجوع الذي أحسّ به لا يدلّ على أنه كان وشيكاً أن يسقط في تجربة خيرات هذا العالم. بل، هو ينتظرها السهر ما سوف يكشف الله له. هذا هو معنى الرقم 40. زمن المحنة قبل اللقاء بالربّ.
قال التقليد الراباني إن موسى صام في البريّة أربعين يوماً وكان الله يقدّم له غذاء عجائبياً. ونصّ مت يشير إلى خر 34: 28 (رج 1 مل 19: 8). إن الإشارة إلى صوم يسوع وجوعه تشدّد على ناسوته. ولا ننسى أننا نتكلّم عن ناسوت الابن الوحيد. هو بشر مثلنا، وبالتالي هو يجوع ويعطش. وهكذا جمع مت بين البنوّة الإلهيّة والجوع. فألوهيّة يسوع تبقى مقيمة في حدود تواضع طائع يتسلّم كل شيء من الله (6: 11).

3- فدنا إليه المجرّب (4: 3- 7)
في هجمات المجرّب الثلاث، سيكون الدور الأول للكلمة. لا نعرف بأي شكل اقترب إبليس (رج 1 تس 3: 5: خشية أن يكون المجرّب قد جرّبكم) الذي يسمّيه النصّ "المجرّب" (بايرازون). هل كانت تجربة خارجيّة أم داخليّة؟ هذا ما لا نعرفه. كيف اقترب؟ هذا ما لا نعرفه. ولكن، ما نعرفه بدقّة كبيرة هو ما قاله الثلاّب وما أجابه يسوع.
الكلمة هي في العالم البيبليّ الموضع الذي فيه يستطيع الإنسان (ويُطلب منه) أن يخاطر بحرّيته. حين نقابل هذا الخبر مع أخبار امتحان أخرى، نجده متميّزاً بوضوحه: تواجهَ ابليس والابن مواجهة مكشوفة (كشف كل منهما أوراقه بدون مواربة). أو بالأحرى جاءت كلماتهم كاملة الوضوح. لا التباس بينهما ولا سوء تفاهم.
"إن (إي) كنت". قد تعني كلمة المجرّب الأولى أن الشيطان ينكر بنوّة يسوع الإلهيّة (ليس ابن الله)، أو أنه يشكّ فيها، أو أنه يريد أن يدفع يسوع لكي يشكّك فيها (أين الله لا يساعده في جوعه؟). وقد يكون الشيطان يؤكّد هذه البنوّة في الخارج وينكرها في الداخل لكي يخدع يسوع حول نواياه الخفيّة. وقد يكون مؤمناً بهذه البنوّة فيعلنها ليواجه يسوع مواجهة مكشوفة. يبدو أن الافتراض الأخير هو اعثر معقوليّة. لهذا نستطيع أن نترجم "إي": بما أنك ابن الله. مثل هذا المعنى نجده مراراً في العهد الجديد.
إذن، أخذ إبليس بالإعلان الذي ورد في 3: 17 (هذا ابني الحبيب). ورأى في يسوع مرسل الله في نهاية الأزمنة، من أجل خلاص العالم، وعرف أن روح القدرة الذي يحلّ على البشر بل على جميع الخلائق، قد حل عليه. لم يتوخَّ من كلماته أن يبعد يسوع عن الصوم، وهذا ليس شراً في ذاته. ولا أن يلهم يسوع اجتراح معجزة لا يمنحه الله إياها لكي يجعله يشكّ في مسيحانيّته. وكلمات الثلاّب لا تعني أن الشيطان جعل نفسه في خدمة يسوع ليجترح له معجزة، وهكذا يصبح يسوع "تحت أمره"، في خدمته.
لقد حاول الشيطان أن يميل بيسوع عن دعوته كابن طائع لأبيه، فدعاه إلى استعمال سلطته كابن من أجل حسابه الخاص. وبصورة أدقّ، دعا يسوعَ لكي يؤمّن حاجاته بنفسه دون العودة إلى الله. وهكذا ينسى الصلاة التي علمنا إياها: "أعطنا خبزنا كفاف يومنا" (6: 11).
نلاحظ (كما سبق وقلنا) واقعين رئيسيّين في جواب يسوع. من جهة، لا يقدّم جواباً يدلّ على استقلاليّة عن كل سلطة، بل هو يورد الكتب المقدّسة التي تدلّه على إرادة الآب. ومن جهة ثانية، لا يعود هذا الإيراد الكتابي إلى نصّ مسيحاني يصوّر سلطة الماسيا المنتظر، بل إلى نص انتروبولوجيّ فيه يدلّ يسوع على أنه إنسان وإنسان خاضع لكل ما في الإنسان من ضعف ما عدا الخطيئة.
إن نصّ تث 8: 3 (يعلّمك أن الانسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكل ما يخرج من فم الربّ) يرد في مت ولو بحسب السبعينية التي تقول: "أتعبك وجوّعك وفتّت في فمك المنّ الذي لم يعرفه آباؤك، ليعلن لك أن الإنسان لا يحيا فقط بالخبز، بل إن الإنسان يحيا من كل كلمة تخرج من فم الله". لسنا هنا أمام ترجمة للنص الماسوريّ، بل ترجوم، أي ترجمة حرّة تحاول أن تعطي معنى جديداً. فالمسيح في مت سمع هذه الكلمات في إطار تثنية الاشتراع الذي يتحدّث عن محنة شعب الله في البرية. جاع يسوع كما جاع هذا الشعب، ولكنه أراد أن يحفظ وصايا أبيه. فالإيراد الكتابيّ لا يلمّح إلى وجهتين من الحياة: الخبز للجسد وكلمة الله للنفس أو للقلب. بل إلى حياة الإنسان الملموسة التي لا يمكنها ككل أن تكتفي بالخبز فقط.
"حينئذ أخذه إبليس إلى المدينة المقدّسة" (آ 5). إن الهجمة الشيطانيّة الثانية (والهجمة الثالثة) تجعلنا نظنّ أن يسوع "انتقل" (بارالمبانو) من مكان إلى آخر. نحن لسنا أمام انتقال بالجسد، بل بالمخيّلة. هكذا أفهمنا الانجيليّ جدّية المحنة "الداخليّة". ومهما يكن من أمر، فالخبر لا يشدّد على سلطان ابليس بأن يختطف محاوريه من مكان إلى آخر. يكفي أن يستفيد من حضور يسوع في أحد أعياد السنة وسط الجموع الغفيرة، ليجعله يحلم باقتياد هؤلاء الناس إلى الله بأسهل الطرق وأسرعها. هل يا ترى يقبل يسوع بما يقدّمه إليه إبليس من وسائل؟
"المدينة المقدّسة". هي المدينة التي تخصّ الله حصراً. هي مكرّسة له بشكل كامل بسبب الهيكل الموجود فيها. المدينة المقدّسة هي أورشليم كما قال أش 27: 13: "يسجدون للربّ في جبل القدس، في أورشليم" (رج 48: 2؛ 52: 1). ففي نظر يسوع، كما في نظر التلاميذ الأولين، ظلّت أورشليم المدينة المقدّسة، سواء دوّن هذا المقطع قبل دمار أورشليم سنة 70 ب م أو بعد هذا الدمار. جعل الشيطان يسوع أمام هذا البناء العظيم الذي يُحيط بالمعبد. و"القمة" قد تكون إحدى البوابات الكبيرة التي تنفتح على ساحة الهيكل.
بدا الشيطان هنا أقوى مما كان عليه في الهجمة الأولى، لأنه وقف مع محاوره على مستوى الإيمان. إستند إلى الكتب المقدّسة (مكتوب: يوصي ملائكته) وأورد نصّ المزمور (91: 11- 12) حسب السبعينيّة في مدلوله العام. هنا نقدّم ذات الملاحظة التي سبق لنا وقدّمناها خلال الحديث عن الهجمة الأولى: أنشد هذا المزمور عناية الربّ الخاصّة جداً بشعبه وأتقيائه. إنه ملجأ وحصن لجميع الذين يثقون به. أنشد يهوه كالمدافع عن المسيح الموعود به.
اختار إبليس استشهاده أفضل اختيار، لأن يسوع أرسل إلى هذا الشعب الصغير من المؤمنين الذين عبرّت هذه المزامير عن ثقتهم بالله في الضيق. وذكرُ الملائكة في روح المزمور وإنجيل متّى، يجعل حضور الله وعونه أمراً محسوساً. فموضوع الملائكة الحرّاس كان قد توسّع كثيراً في العالم اليهوديّ في زمن يسوع.
ما قيمة الأداة "بالين" (أيضاً، من جديد) التي أغفلها لوقا؟ بعضهم أعطاها المعنى الاعتراضيّ (عارض يسوع تث 6: 6 مز 91). وآخرون المعنى التعارضيّ (زاد يسوع تث 6 على مز 91). وآخرون أيضاً اعتبروها تفسيراً لما قبْل (قبل يسوع بإيراد مز 91، ولكنه فسّره على ضوء موضوع بيبليّ أساسيّ). يبدو أن المعنى الأخير هو الأفضل، ونحن نجده مراراً في عظة الجبل.
قرأ إبليس مز 91 قراءة حرفيّة. فأجابه يسوع بأسلوب نستطيع أن نسقيه اليوم تفسيراً لاهوتياً: الثقة بالله أمر صالح، ولكن يجب أن لا تخفي هذه الثقةُ نيّة خفيّة (أو لاواعية) بأن يستخدم الإنسانُ قدرةَ الله من أجل طموحاته الدينيّة. هل عرض الشيطان على يسوع أن يجترح معجزة أمام جموع الهيكل لكي يدلّ على نفسه أنه المسيح المنتصر؟ ربما. ومن خلال ذلك، هو يحاول أن يبعد يسوع عن الطاعة البنويّة للآب، ويدفعه إلى أن يستقلّ في سلطته كابن عن سلطة الآب. في تث 6، جاء موضوع تجربة الربّ من قبل الشعب في مدلول يختلف بعض الشيء: نعصى الله لنرى إلى أين يصل صبره وطول أناته. وما يعاكس هذا الامتحان لله نقرأه في 6: 17: "بل احفظوا وصايا الرب إلهكم". في نصّ مت، لا يطلب الشيطان من يسوع عملاً سيئاً في حدّ ذاته. بل عملاً يسخّره من أجل مسيحانيّة تستقل عن الله وتتعدَّى على حقّه.

4- فأخذه إبليس إلى جبل عال (4: 8- 11)
وتركت الهجمة الشيطانيّة الثالثة المجال الكتابي لتكشف الهدف الأخير الذي توخّاه الشيطان من امتحان يسوع: يجعله يبتعد عن خدمة الله الواحد، خدمة الآب وحده، من أجل عبادة الشيطان. وترد أيضاً الأداة "بالين" (كما في آ 7. ولكن معناها غير معنى آ 7). نحن هنا فقط أمام تكرار: قام الشيطان بمحاولة جديدة تبدأ بفعل قرأناه في آ 5 (أخذه).
لا نعطِ لفظة "جبل عالٍ" معنى خاصاً (رج 5: 1). هو عالٍ لكي يستطيع يسوع أن يتأمّل منه كل مجد ممالك الأرض. إن لفظة مجد (ك ب و د) قد أخذت في المعنى التوراتي: قدرة بها يؤثّر شخص على الناس بالغنى والجيش والسياسة. ويفترض النصّ أن "كل ذلك، كله" هو تحت سلطة الشيطان "رئيس هذا العالم" (يو 12: 31). هذا لا يعني أن كل هذا شيطانيّ في جوهره. ولكن الشيطان أقام فيه مملكته بشكل موقَّت. غير أنّ هذا الملك هو موضوع تساؤل الآن بمجيء ملكوت الله الذي تدشّن بالمسيح.
يرى بعض الشرّاح أن هذه النظرة إلى ملك الشيطان على العالم، لا تعود إلى العالم الهلنستي ولا إلى العالم الغنوصيّ. فالعالم صالح لأن الله خلقه. وقدرة الإنسان ومجده ليسا موضوع غضب وكره. غير أن الشيطان يمسك بهما الآن في يده ويتصرّف بهما. يعطيهما لمن يشاء (دوسو: أعطى في المضارع).
توسّع لوقا توسّعاً كبيراً في هذا الموضوع. ولكن عمق الفكرة هو هو. وأداة "إيان" (إلا إذا، شرط) في هذا الإطار تتّخذ معنى قوياً. فالشيطان لا يتوقّف فقط عند فرضيّة نظريّة وخياليّة. فدعوته تتّسم بالجدّية. وقد وُضع يسوع أمام خيار جذريّ: السلطة والاستقلالية، أم خدمة الابن لأبيه. على هذا الأساس المشترك تفترق التفاسير. فالسلطة المقدمة ليسوع تُعتبر سلطة يستعملها يسوع لكي يتمّ رسالته. أو هي تجعل المسيح عميلاً للشيطان، فيخسر فيها يسوع حتى هوّيته كابن.
هذان المعنيان لا يتنافيان بشكل مطلق. ففي الأول وفي الثاني يعصي يسوع الآب. فرسالته تقوم في خدمة الله والبشر في التواضع والألم (هذا هو معنى عماده). أما نحن فنختار الفرضيّة الأولى. فالسؤال المطروح على يسوع هو التالي: هل يُتمّ رسالته في الخضوع البنويّ أم في المجد المسيحانيّ في معنى سياسيّ قال به الغيورون كما في مز 17 من مزامير سليمان؟
لو سقط يسوع على قدمَي الشيطان (لا سمح الله)، وخضع له في فعل عبادة، يبقى الابن ولكنه ابن أضاع طرقه. أيستطيع مت أن يفكّر في هذه الفرضيّة؟ حاشا وكلا. فالسجود هنا لا يدلّ فقط على الاحترام، بل على العبادة. يعني يصبح الشيطان هو الله، ويصبح الله أقلّ من الشيطان وفي أفضل الظروف مساوياً له. لقد دلّت آ 10 أن على يسوع أن يختار بين عبادة الله وعبادة ابليس.
وللمرة الثالثة، رفض يسوع الشيطان مستنداً إلى نصّ من الكتاب المقدّس، ليرَسم لا صورة المسيح، ولو كان المسيح الخادم، بل وضْع كل إنسان أمام الله. هذا ما يثبت التفسير الآدميّ الذي أعطيناه لهذا النصّ. يسوع هو حقاً ابن آدم. وإذ سمّى يسوع الشيطان باسمه، فهذا لا يعني أنّه يقرّ به الآن. فالخبر كله، كما رأينا، يصوّر مواجهة مكشوفة. إن يسوع يلتقي بالشيطان في "وضوح" لا نراه داخل عالم الخطيئة حيث يسيطر الضباب وسوء التفاهم والالتباس. وإذ قال يسوع "يا شيطان"، دلّ على أنه يبعده عنه باندفاع قويّ. بل يمارس عليه عمل قدرته. أمره أن يذهب فذهب. هكذا سيفعل خلال حياته الرسوليّة حين يطرد الشياطين.
في تث 6: 13 وفي أماكن أخرى في العهد القديم، يوضح فعل سجد فعل خدم (صار عبداً، عبد) والعكس بالعكس. فخدمة الله لا تقوم إلا في التواضع والسجود. ولا سجود حقيقياً إن لم نعبرّ عنه في خدمة ملموسة، في تعبّد (وعبادة) يصل بنا إلى أن نرى في القريب صورة الله، وفي خدمة القريب خدمة الله. وكما عبد شعب اسرائيل الله وحده وما أشركوا معه أحداً، كذلك لا يستطيع يسوع أن يعبد الله والشيطان معاً.
"حينئذ تركه إبليس" (آ 10). قال مت بشكل ضمنيّ ما قاله لو 4: 13 بصريح العبارة: ترك الشيطان يسوعَ موقتاً. وقد نستطيع أن نفسِّر مت كما يلي: رذل يسوع على عتبة خدمته التجربة التي رافقته كل حياته فرفض لنفسه القوّة البشريّة والسلطة السياسيّة. أجل، تخلّى يسوع عن إرادته الخاصة لكي يكون الخادم وعبد الله الذي سيموت طاعة لأبيه (لو 22: 28)؛ عب 4: 15؛ 5: 7، 8؛ مر 10: 45؛ 14: 38). حين أطاع يسوع، جاءت الملائكة وأخذت تخدمه (خدمة المائدة). يدلّ الملائكة على حضور الله. وهكذا نال يسوع من الله ما رفض أن يأخذه بقواه الخاصة أو بمسايرته وخضوعه للشيطان.

الخاتمة
تجارب يسوع هي تجارب كل إنسان. فالإنسان يريد أن يسود على المادة، يريد أن يمتلك خيرات هذه الدنيا ويوجّهها من أجل راحته وسعادته. أما يحقّ للمسيح أن يتمتّع بهذا السلطان؟ أيجب عليه أن يخضع لقساوة نواميس الحياة البشريّة مع حاجاتها ومحدوديّتها؟ فالصوت الذي دعا يسوع ليحوّل حجارة البرية إلى خبز، هو صوت الغريزة، صوت اللحم والدم في الإنسان، الصوت الذي يحاول أن يخنق صوت الله. ولكن يسوع أعاد القيم إلى النظام الذي وضعه الله لها: "لا يحيا الانسان فقط بالخبز، بل بكل كلمة تخرج من فم الله". الله وحده يستطيع أن يشبع الإنسان، وجوع بطنه هو صورة عن جوع آخر. لقد خُلق الإنسان على صورة الله، ولكن يسوع رفض التجربة التي تدعوه لكي يجعل الله على صورة الإنسان!
وجمع المجرّب الصور، وجعل يسوع في إطار مهيب: على قمّة الهيكل من حيث يرى الجموع المحتشدة في عيد من الأعياد. "إن كنت ابن الله، ارمِ بنفسك". وهكذا يلعب يسوع دور المسيح المنتصر وسط أخصّائه بقدرة نالها من الله. ولكنه يتصرّف بها على هواه لا بحسب مشيئة الله. عليه أن يلعب دوراً، أن "يمثّل" كما يفعل أبطال السينما. ولكن رسالة يسوع هي واقع وحقيقة وليست خيالاً وسراباً. هو لا "يمثّل" (كأبطال السينما. لا يتظاهر) فيدلّ على أنه ابن الله. إنه حقاً ابن الله. وهو لا يأخذ مجده من البشر. مجده هو أن يكون الله وابن الله، وهذا يغنيه عن كل المفاخر البشريّة التي تدغدغ الإنسان ولا تملأ فراغ قلبه.
وما اكتفى الشيطان بالمدينة المقدّسة، بالمدينة المسيحانيّة. بل وسّع ساحته وسع العالم. عاد إلى رؤية موسى الذي أراه الربّ أرض كنعان من أعلى جبل نبو (تث 34: 1- 4). وعرض على يسوع "صفقة". أعطيك كل هذا إن سجدت أمامي. ولكن هل يخدع بمثل هذا المشهد من فيه اقترب ملكوت السماء من الأرض؟ كلا. وعاد يسوع إلى الوصيّة الأولى من وصايا العهد: "لله وحده تسجد، وإياه وحده تعبد". لقد ظلّ يسوع أميناً لرسالته. لم يتخلّ عن ملكوت السماء من أجل ملكوت الأرض. لم يترك إرادة الآب ليخضع لإرادة إبليس. هو لا يسجد إلا لله، ومنه يقبل حياته، كما يقبل موته وقيامته. لهذا، فهو يرضى منذ البداية أن يكون إنساناً بكل ما في الإنسان من ضعف ومحدودية. يرضى أن يمرّ في الجوع والعطش. في الحرّ والتعب، في الألم والموت. هكذا يكون إنساناً حقيقياً فيرفع الإنسان، كل إنسان، إلى مستوى الألوهة. تلك كانت تجارب يسوع التي لم تمتدّ بضع دقائق. وتلك تكون تجاربنا. حين يكون الله هو الأول في حياتنا، حين نستنير بكلمة الله، نعرف النصر الذي عرفه يسوع وهو الذي دعانا ألاّ نخاف لأنه غلب العالم.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM