الفصل التاسع عشر ;الشريعة الجديدة

الفصل التاسع عشر
الشريعة الجديدة
5: 17- 37

1- مقدّمة (5: 17- 20)
إن الأقوال الأربعة في آ 17، 18، 19، 20 تفتتح الخطبة حوله البرّ الفائض الذي يعلنه يسوع في 5: 21- 48 (إن لم يزد برّكم). مارس مت عمل الفقاهة فأعطانا قواعد عامة تتيح للقرّاء أن يفهموا فهماً أعمق ما يلي من الخطبة.
مهما كان تجميع هذه الآيات ناجحاً، فهو لا يبدو أولانياً (يعني سبقه تجميع آخر). نجد آ 18 في لو 16: 17 وقد أدخلها مت لا خطبته هذه. والقول حول الياء (يوتا في اليونانية أصغر حروف الأبجديّة) أو نقطة واحدة من الناموس، يوازي الآية المتحدّثة عن أصغر الوصايا في آ 19. مقابل هذا، فهو لا يتناسق مع آ 20: من الواضح أن الفكر لا يتدرّج في الخط عينه، بل يتّخذ وجهة جديدة. أما "زيادة" البرّ (آ 20) فتذكّرنا بإكمال الشريعة (آ 17). إذن نظن أن المقدّمة الأولانية للآيات 21- 48 تضمّنت فقط آ 17 و20. وأن آ 18- 19 أضيفت فيما بعد على مستوى آخر من التدوين.
أ- لا أنقض، بل أكمّل (آ 17)
من أكمل الشريعة جعلها تُدرك الملء الذي أراده الله لها. وهذا الملء هو المحبّة. فالمحبة التي هي "كمال الشريعة" (روم 13: 10) هي قمّة جميع الشرائع. وهي تجملها كلها وترتّبها بالنسبة إلى ديناميّتها، وتجعلها ترتقي من صغير إلى كبير، وتجعلها على كثرتها، تدرك هذا الهدف الأسمى. حين نعطي المحبة هذه الأولويّة المطلقة، نكون قد وصلنا إلى جوهر تعليم المسيح حول الشريعة. وإلى ما يجب أن تصل إليه الكنيسة في تشريعها.
تشير هذه الجذرية (أي: تعليم خلقيّ يصل إلى الجذور ولا يتوقّف عند القشور) من جهة إلى المؤمن نفسه. فلا يحكم عليه بما في يديه، بل لما في قلبه: ففي قلب الإنسان يتحدّد مركز النشاط الخلقيّ. وهو الذي يجب أن نوجّهه إلى الانجيل. وتشير من جهة ثانية إلى الشريعة نفسها. فالشريعة الأولى التي تختتم هذا القسم، هي الاقتداء بالآب: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل هو" (5: 48). ونقلها لو 6: 36: "كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي رحيم هو".
هكذا يحقّق الانجيل "كمال الشريعة" التي هي المحبة (روم 13: 10).
قدّمت آ 17 أول هذه الأقوال مع تأكيد يسوع الاحتفالي: "جئت". فنحن نجد في أقوال الربّ سلسلة من التأكيدات التي تبدأ مع "جئت (أي: من قبل الله). لهذا سمّيت "أقوال مجيء المسيح". فهي تؤكّد أن المسيح جاء (1) ليكمّل الشريعة لا لينقضها (آ 17). (2) ليدعو الخطأة لا الأبرار (9: 13؛ مر 2: 17؛ لو 5: 32). (3) ليحمل على الأرض السيف والانقسام لا السلام (10: 34- 35؛ رج لو 12: 49). (4) ليخدم ويبذل حياته فدية، لا ليُخدم (20: 28؛ مر 10: 45). (5) ليطلب ويخلّص ما قد هلك (لو 19:10). إن هذه التأكيدات تذكّرنا أن الجماعة الأولى رأت في يسوع "ذاك الذي يأتي باسم الربّ" (حسب مز 118: 26 كما يرد في مت 21: 9؛ مر 11: 9؛ لو 19: 38؛ رج مت 23: 39؛ لو 13: 35).
إذن، حين أكّد يسوع بشكل احتفالي جداً أن مجيئه يكمّل الناموس والأنبياء، جعل علاقة مباشرة بين رسالته الفدائيّة وكلام الله. فما هي هذه العلاقة؟
تُعتبر الشريعة والأنبياء دستور الحياة الدينيّة، وهذا ما يمثّل إرادة الله. ومجيء يسوع المسيحاني لا يشكّل انقلاباً لهذا النظام. بل نحن بالأحرى أمام تكيد أقوى على المتطلّبات الأساسيّة لإرادة الله (آ 21- 48)، على "زيادة" في البرّ فيتجاوز برّ الكتبة والفريسيين. وبمختصر الكلام، كانت الشريعة ناقصة، لا لأنها لا تعبرّ عن إرادة الله، بل لأنها تعبّر عنها بطريقة ناقصة. كانت "المربيّ الذي يقود إلى المسيح" (غل 3: 24). وفي المسيح التقت بربهّا وأنهت عملها كمربّية.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، الشريعة وكتب الأنبياء هي مجموعة النبوءات المسيحانية التي جاء يسوع يكمّلها. نحن هنا أمام موضوع عزيز على قلب متّى.
ب- لا ياء ولا نقطة (آ 18)
إن الياء (يوتا) اليونانية تقابل ما في العربية والعبرية. هي أصغر حرف في اللغة (في العربية إذا وجدت داخل الكلمة). "كارايا" (حرفياً: القرن) تدلّ على خطّ صغير في حرف، على نقطة. والعبارة "لا ياء ولا نقطة من الناموس"، عُرفت في التعليم الراباني.
إن قول يسوع في مت يؤكّد بقوة على استمراريّة الشريعة. فبحسب با 4: 1 الشريعة "موجودة إلى الدهور". وتحدث حك 8: 4 عن "نورها الذي لا يفسد". وزاد العالم الراباني على هذا القول فتحدّث عن الشريعة الأبدية، بل عن وجودها قبل العالم (إذن، هي أزلية). وتصوّروا الفردوس أكاديمية سماوية فيها يفسّر الله لعلماء الشريعة العطاش، آخر لطائف الشريعة.
وتأكيد مت 5: 18 هو تأكيد يهودي جداً في الانجيل. هذا لا يعني أن الانجيلي ضخّم نبرته. فإن لو 16: 17 أعطى تعبيراً أكثر قساوة مما في مت: "زوال السماء والأرض (أي الكون كله) أسهل من أن يسقط خطّ واحد من الناموس". نستطيع أن نفترض أن يسوع تلفّظ بهذا القول في مناخ هجومي، فلتلقّفته المحيطات المسيحية المتهوّدة في صراعها مع المؤمنين الآتين من العالم الوثني. مثل هذا القول يدخل بصعوبة في هذا السياق الانجيلي، حيث سيبدّل يسوع لا "ياء" فقط، بل أموراً مهمّة من التشريع القديم (آ 31- 32). فمهما كان هذا القول قوياً، فهو لا يتجاوز آ 17. وقد أكمله مت بشكل عجيب بقول آخر ليسوع: "السماء والأرض تزولان، أما كلامي فلا يزول" (24: 35). كلام المسيح هو كلام الله الحقيقي وله طعم الأبدية. تُهدم السماء والأرض، وكلام الرب يبقى إلى الأبد.
ج- الكبير والصغير في الملكوت (آ 19)
أن يدخل تلاميذ يسوع إلى الملكوت، كان أمراً مفروغاً منه. لهذا اعتبروا أنهم يمارسون الوصايا الكبرى. إذن، تبقى مسألة الأولوية: من يكون الأكبر في الملكوت، ومن يكون الأصغر؟ مثل هذا السؤال شغل الأفكار. وما يثبت ذلك محاولة ام ابني زبدى واستياء المجموعة الرسولية مما طلبته لولديها (20: 20- 23).
أخذ يسوع كعادته أسلوب المفارقة والطريقة الخفية، فأعطى جوابه: يكون كبيراً ذاك الذي يمارس ويعلّم أصغر هذه الوصايا. ومقابل هذا، يكون صغيراً ذاك الذي يهملها ويعلّم البشر أن يتعدّاها. إن الطموح إلى العظمة المسيحية يفرض علينا أن نمارس حتى أصغر الوصايا. حتى الياء والنقطة في الشريعة (آ 18).
نلاحظ عبر هذا القول هجوماً جديداً على الفريسيين: فالتلاميذ يمارسون أصغر الوصايا. أما الفريسيون "فيهملون النقاط الخطيرة في الشريعة" (23: 23). التلاميذ يمارسون ويعلّمون، أما الفريسيون "فيقولون ولكنهم لا يفعلون" (23: 3).
د- فيض البرّ (آ 20)
ويتحدّد الدخول إلى الملكوت (الحجّ إلى أرض يسوع المسيح) بممارسة برّ فائض، برّ يتجاوز برّ الكتبة والفريسيين.
يشكّل تأكيد يسوع انتقاداً آخر عنيفاً على ماذا الممارسة الفريسية من شكليّات. كان الفريسيون يكدّسون الممارسات النافلة فيربكون الشريعة بتقاليد البشر ويثقّلون عليها. وهكذا توصّلوا إلى تجاهل الشريعة كتعبير عن إرادة الله. ساعة دوّن متّى انجيله، كانت الجماعة المسيحية عرضة لاضطهاد المتهوّدين. وكان الصراع مفتوحاً بين ممارسة بحسب روح يسوع، وممارسة بحسب الروح الفريسيّة. كان لا بدّ من معرفة شيء هام: هل الشريعة القديمة تصل بنا إلى حريّة الانجيل أو التلمود المتحجّر؟ أجاب متّى: "إنّ الفريسيّين يهملون أخطر ما في الشريعة" (23: 23). أما المسيحيون فيمارسون البرّ ويزيدون (5: 20).
لاحظنا تواتر الجدالات المعادية للفريسيين. ولكن لا نستنتج بسرعة: "نحن لسنا فريسيين. إذن، هذا الكلام لا يعنينا". ولكننا ننسى أن الروح الفريسية موجودة ضمناً في كل واحد منا. حين دوّن متّى انجيله، توجّه قبل كل شيء إلى المسيحيّين. إلينا نحن، لينبّهنا من الخطر الذي يتهدّدنا جميعاً.

2- قيل لكم وأنا أقول لكم (5: 21- 37)
إن آ 21- 48 تبدو احتفالية جداً في مت. ففي ست نقائض، "أكمل" يسوع الشريعة القديمة. وقد بدأت كل من هذه النقائض بعبارة: "سمعتم أنه قيل... أما أنا فأقول لكم" (أو ما يقابل هذه العبارة).
نقرأ هنا تأكيداً قوياً لم يسمع به أحد. قيل لكم (صيغة يستعملونها ليتجنّبوا التلفّظ باسم الله). حرفياً: قال الله لكم (رج روم 9: 12= روم 25: 23؛ 9: 25= هو 2: 25). "سمعتم" يعني: سمعتم قراءة الشريعة قراءة احتفاليّة في المجامع. ولا ننسى الصلاة التي يتلوها اليهودي كل يوم فيدلّ على أنه سامع لكلام الله. "اسمع يا اسرائيل، الربّ إلهنا هو واحد" (تتألف صلاة "شماع" من تث 6: 4- 9؛ 11: 13- 21؛ عد 15: 37- 41).
تجاه هذه الشريعة المقدسة والتي لا تمسّ، وقد أحاطتها هالة مجد سيناء ومعجزات الخروج. تجاه هذه الشريعة، وضعَ يسوع إعلانه الخاص: "أما أنا فأقول لكم". فكأنه يقول: كلامي أهمّ مما تقوله الشريعة.
كان الرابانيون يستعملون هذه العبارة (أما أنا فأقوله) ليحدّدوا موقفهم بالنسبة إلى تعليم رابانيين آخرين، لا بالنسبة إلى تعليم الشريعة. فلو عارضوا الشريعة، لجدّفوا وانتهكوا القدسيات. ولم يتجاسر نبيّ واحد أن يتحدّث هكذا باسمه. فمهمّته تقوم فقط في أنه ينقل تعليم الله (هذا ما يقول الربّ). فلو زاد شيئاً من عنده لكان "تاجر بكلمة الله" كما تقول 2 كور 2: 17. ولكن ما كان تجديفاً عند الآخرين صار بالنسبة إلى يسوع إعلاناً نبوياً لرسالته.
وهناك أكثر من ذلك. إن كانت بعض التأكيدات قد "أكملت" الشريعة وصارت امتداداً لها، فهناك (عكس ذلك) تأكيدات أخرى مثل الشريعة على الطلاق (آ 31- 32) قد أعلنت أن الشريعة قد بطلت (سقطت، عفّى عليها الزمن)، فأحلّت نظاماً جديداً هو معيار النعمة أو الخطيئة. ولكن الله وحده يستطيع أن يشّرع مثل هذا التشريع. إذن في فكر متّى، تعلن العبارة (أما أنا فأقول) في شكل من الأشكال، ألوهيّة المسيح الذي يدين البشر حسب الشريعة: هو يدعوهم إلى الحياة أو يحكم عليهم بالموت باسم هذه الشريعة.
أ- القتل والغضب (آ 21- 26)
أولاً: لا تقتل (آ 21)
عبارة "لا تقتل" هي إيراد حرفيّ لما في خر 20: 15 وتث 5: 18. والعقاب هو: "من يقتل يستوجب المحاكمة". يستند هذا العقاب إلى خر 21: 12؛ لا 24: 17؛ عد 35: 16- 021 أما القول كله فيستعيد قاعدة عرفها علم الفتاوي أو جاءت تلبّي الحاجات القضائية. كان القاتل يعاقب بالقتل. هذا هو معنى: يستوجب المحاكمة. أي: يستوجب القتل.
ثانياً: أما أنا فأقول لكم (آ 22)
"الأخ" يدلّ على المؤمن الذي يقاسمنا المعتقد الواحد، وبالتالي أبوه السماوي هو أبونا. لا يستعمل مر أبداً لفظة "أخ" في معنى استعاري. أما لوقا فنادراً ما يستعملها (6: 41- 42؛ 17: 3؛ 22: 32). ولكن التسمية متواترة عند مت (5: 22، 24، 47؛ 7: 3، 5؛ 18: 15، 21، 35؛ 23: 8؛ 25: 40؛ 28: 10). إن كنيسة متّى شكّلت جماعة إخوة يلتئمون حول أب واحد هو الآب السماوي، ويعلّمهم معلّم واحد هو المسيح يسوع (23: 8- 10). ويعلّمنا أع أن أعضاء الجماعة الأولى اعتادوا أن ينادوا بعضهم بهذا الاسم (1: 15- 16؛ 9: 30؛ 10: 23؛ 11: 1، 12، 29؛ 12: 17؛ 14: 2؛ 15: 1، 3، 22، 32، 33، 36، 40؛ 16: 2، 40؛ 17: 6، 10، 14؛ 18: 27؛ 21: 7، 17؛ 28: 14- 15).
"راقا": رأس فارغ، غبيّ، أبله. هذا هو المعنى إذا عدنا إلى الجذر العبري. وإذا عدنا إلى اليونانية: مدّع، متبجّح. هكذا نجرح أخانا بالكلام.
وكلمة "موروس" (بلا عقل، أبله) لا تدلّ في اللغة البيبلية فقط على الأبله الذي لا عقل له، بل على الكافر أيضاً. على الذي يقاوم شريعة الله (تث 32: 6؛ أش 32: 6؛ سي 50: 26) فيقول في قلبه: ليس إله. الله غير موجود (مز 14: 1). من هذا القبيل، تقابل اللفظة "راقا" (رأس فارغ)، وهذا ما يذكّرنا بما في يع 2: 2: الانسان الباطل الرأي (الفارغ). إن مت يستعمل دوماً "موروس" في المعنى الأخلاقي: فالجاهل (المجنون) هو الذي يبني بيته على الرمل، أي يسمع كلام يسوع ولا يعمل به (7: 26). وتصف اللفظة أيضاً العذارى الجاهلات اللواتي نسين أن يأخذن زيتاً مع مصابيحهن (25: 2). وتصف بشكل خاص الفريسيين "الجهّال والعميان" (23: 17).
"جهنم" (جاإنا). تدلّ في الأصل على وادي بن- هنوم الواقع جنوبي أورشليم. هناك كانت تُحرق الذبائح البشرية إكراماً لمولك (الإله) في زمن أحاز ومنسّى (2 مل 16: 3؛ 21: 6؛ إر 7: 31؛ 19: 5 ي؛ 32: 35). وإذ أراد يوشيا أن يجعل استعمال هذا الطقس الكنعاني مستحيلاً، جعل الموضع مكروهاً (2 مل 23: 10) فصار مكبّ قمامة المدينة وجيَف الحيوان. وبسبب اللعنات التي صبّها إرميا عليه (7: 32؛ 19: 6) صار الموضع رمزاً إلى جهنم (رج مت 5: 29- 30؛ 10: 28؛ 18: 9؛ 23: 15، 33).
حين تحدّث يسوع عن شريعة القتل، "أكملها" كما يلي فقال: كان العهد القديم يعاقب القاتل بالقتل. كان القاتل يستوجب المحاكمة أو يُحكم عليه بالموت. أما الشريعة الجديدة فتجعل الغضب البسيط مثل القتل. فالذي يغضب على أخيه يستوجب المحاكمة. يعني: الله يحاكمه ويعاقبه. هذا لا يعني أن الله لا يميّز بين القتل والغضب. ولكنه يدين الإنسان بحسب نوايا قلبه. لا شكّ في أن العهد القديم (جا 7: 9؛ أم 15: 1؛ سي 10: 6؛ 28: 7) والتعليم الراباني كانا يندّدان بالغضب. وقد جعلته وصية دانيال (3: 12؛ كتاب منحول) بين "أرواح بليعال". غير أن الشريعة لم تهاجم يوماً القتل حيث تقيم جذوره. أي في الغضب الذي يخرج من قلب الإنسان ويدلّ على فراغه من المحبّة.
نلاحظ أن هذه الأقوال الثلاثة في آ 22، لا تمثّل تدرّجاً في الفكر. بل قد وُضع القول تجاه الآخر. وإذا كان من تدرّج بين حكم السنهدرين البشري ودينونة الله في جهنّم، فالتدرّج لا يظهر من "راقا" إلى "معتوه" (أبله). ثم إن الحكم الأول يعبرّ عن أقسى عقاب: ما يعاقب به الله الغضب. فمن استوجب حكم المجلس أو جهنم النار، استحق الدينونة أمام منبر الله.
من الممكن أن يمثل القول الثاني (حكم المجلس) والثالث (حكم جهنّم) توسّعين أقحمهما متّى في اللحمة الأولى للخطبة ليكون له ثلاثة أقوال متوازية. فالمعروف عن الانجيلي الأول محبّته للأعداد.
ثالثاً: إن قدّمت قربانك (آ 23)
إن مت 5: 23 يجد ما يوازيه في مر 11: 25. ولكن القول في كلا الانجيلين، ليس في سياقه الأوّلاني. ففكّر الشرّاح في كلمة ليسوع أعيدت صياغتها فيما بعد من أجل الجماعة الأولى. أما القاعدة فهي التالية: المصالحة شرط لاستجابة الله لنا (مر 11: 25). وهكذا يكون التسلسل متراخياً مع القول على القتل والغضب.
وتأتي عبارة غامضة (تضع فيها ما تحسّ به في قلبك): "إذا كان لأخيك عليك شيء". اختار مت كلامه عمداً. لا يهتم لطبيعة الإساءة ولا حتى لخطورتها. يكفي أن لا يكون مقدّم الذبيحة في سلام تام (غير متفق) مع أخيه، لكي لا يستطيع. أن يعتبر نفسه في سلام مع الله. فمحبّة القريب والعطف عليه شرط لمحبة الله لنا وعطفه علينا. ما هو ملحّ هو أن يتصالح الإنسان مع أخيه قبل أن يقدّم قربانه على المذبح.
رابعاً: إتفق مع خصمك (آ 25- 26)
كان هذا القول في الأصل مثلاً (رج لو 12: 58- 59). ذهب متخاصمان إلى القاضي ليفضّا خلافهما. يقول لهما يسوع: اتفقا بسرعة في الطريق، ما دام الوقت لم يحن بعد. أي قبل أن يصلا إلى المحكمة. فبعد المحكمة يكون قد فات الأوان. تُجبران على دفع آخر فلس يتوجّب عليكما.
تعود هذه النصيحة، للوهلة الأولى، إلى الحكمة البشرية. فالاتفاق بالتراضي لا يكلّف مثل المرافعة في المحكمة. ولكن من الواضح في مجمل الخطبة على الجبل أن يسوع مهتمّ بأن يعطي قواعد حياة لأبناء الملكوت، لا نصائح لاثنين يتخاصمان.
والعبارة الاحتفالية "الحق أقول لكم" تبدأ عادة تعاليم اسكاتولوجيّة. ففي هذا السياق الاسكاتولوجي عينه نجد قول لو 12: 58- 59. لا نريد أن نرى تطبيقاً على المؤمن في كل تفصيل. غير أننا نستطيع القول إن الخصمين يقابلان المؤمنين الذين لم يتصالحوا. أما القاضي فهو الله نفسه (5: 22). فأسرعوا إذن وتصالحوا. تدبّروا أموركم حبّياً. ففي نهاية الطريق تجدون محكمة الله.
ب- الزنى والشهوات الرديئة (آ 27- 30)
أولاً: لا تزنِ (آ 27- 28)
كانت الشريعة الموسوية، شأنها شأن شرائع عالم الشرق القديم، تمنع الزنى (حز 20: 14) الذي يُعتبر بشكل رئيسّي تعديّاً على حقّ الملك. إن خر 20: 17 يعتبر المرأة ملكاً من أملاك الرجل مع بيته وعبده وأمته وثوره وحماره. فلا نشتهيها. هذا ما يفهمنا لماذا تعتبر المرأة زانية مهما كانت صفة الرجل الذي تتعامل معه. أما الرجل فلم يكن زانياً إلا مع امرأة متزوّجة. ثم إن الرابانيين حصروا الزنى في حال تجامع الرجل مع امرأة قريبه (أي: من شعب اسرائيل. أما مع المرأة الغريبة، فلا بأس!!).
رفضت الشريعة الجديدة كل هذه التمييزات، وشجبت الزنى حتى في قلب الإنسان. فهناك يولد (رج 15: 19). كان العهد القديم قد طلب من المؤمن أن يحرس عينيه (أي 31: 1؛ سي 9: 5). أما يسوع فأعلن أن زنى القلب خطير خطر الزنى الفعلي. ففي الأزمنة المسيحانيّة، سيدين الله الإنسان في قلبه.
ثانياً: إن عثّرتك عينك (آ 29- 30)
وأدرج مت هنا قولاً على العثار، على الشكوك، وكل ما يدفع الانسان إلى الخطيئة (18: 8- 9؛ رج مر 9: 43- 47). قول ذو بعد عام، وهو يعود إلى آ 28 التي تتحدّث عن النظر الزاني. وهكذا انتقل الحديث إلى العين التي تسبّب السقوط للإنسان.
يبدو القول بشكل مفارقة على طريقة يسوع ليحضر كلامه في ذاكرة سامعيه. يكفي أن نسمع هذه الكلمات مرة واحدة لكي لا ننساها أبداً. ولكن يجب أن نميّز بين التعليم نفسه والتعبير عنه. إن طبّق التلاميذ التوصية تطبيقاً حرفياً، امتلأ ملكوت الله بالعور (أصحاب عين واحدة، أعور) والقطعان (أصحاب يد واحدة، أقطع). ثم إن التضحية بالعين اليمنى لا تمنع العين اليسرى من أن تكون هي أيضاً سبب عثار. وكذلك نقول إن قطعنا اليد اليمنى. معنى التعليم واضح: يفرض يسوع أن نقطع من الجذور كل الظروف التي تقودنا إلى الخطيئة.
ج- الطلاق وعدم انحلال الزواج (آ 31- 32)
أولاً: السياق
يعود هذا الفول إلى مت 19: 9. أدخل هنا على مستوى تدويني لاحق. والمقدمة نفسها لم تأتِ متناسقة مع نصوص 5: 21، 27، 33، 38، 43. ولكن ما هو معنى هذا القول في السياق الحالي؟ إن أساس تفسير هذا القول يرتبط بالقاطعة الصغيرة: إلا في حالة الزنى. أو: في حالة سلوك سيّىء. يبدو أن النصّ المتاوي مفتوح على اتجاهين: تفسير قاسٍ. لا يقبل بالطلاق أبداً. لا شواذ. فالزواج لا ينحلّ أبداً. وتفسير رحيم يسمح بالطلاق في حالة الزنى.
ثانياً: التفسير القاسي
إن تحرّك الأنبياء (ملا 2: 16: أنا كره الطلاق، يقول الربّ)، وممارسة بعض الجماعات اليهوديّة (وثيقة دمشق 4: 20- 21، لدى الأسيانيين)، والعادة في الجماعة المسيحية الأولى كما تحدّثنا عنها 1 كور 7: 10- 11، والنصين الموازيين في مر 10: 11- 12 ولو 16: 18 (يقولان الوصيّة بشكل مطلق)، كل هذا يطالب بالتفسير القاسي: لا يسمح أبداً بأن يطلّق الرجل امرأته ليتزوّج غيرها.
في إطار التفسير تتحمّل العبارة "إلا في حالة الزنى" مدلولين اثنين:
المدلول الأول: إن لفظة "بورنايا" (الفسق، سوء السيرة) تدلّ على رباط غير شرعيّ، على زواج باطل (كاذب، أثيم)، على حياة مشتركة من دون زواج. يشهد على هذا المعنى عدة مقاطع من العهد الجديد (أع 15: 20، 21: 25؛ 1 كور 5: 1؛ عب 12: 16)، ومن الآداب الرابانية. إذن، يكون المعنى كما يلي: لا يحقّ للرجل أن يطلّق امرأته، إلا في حالة وضع شاذّ: ساعة يعيش مع امرأة ليست زوجته الشرعيّة (في هذه الحالة، لا بدّ من الانفصال عنها!).
المدلول الثاني: يشير إلى سوء سلوك الزوجة الشرعيّة. إن أخطأت يسمح "بطلاقها" (بهجرها). ولكن لا يسمح للرجل بأن يعقد زواجاً آخر. وبعبارة أخرى، يعرف العهد الجديد زوجين "منفصلين" لا زوجين "مطلّقين" يستطيعان أن يعقدا زواجاً جديداً. هذا هو التفسير "التقليدي". ولكن لا ننسَ أن فعل "أبوليوو" يعني طلّق.
هذا التفسير يجد نفسه في سياق مت 5: 17- 48: جاء يسوع يكفل الشريعة. وقد أراد أن يزيد برّ التلاميذ على برّ الفريسيين. فالشريعة الانجيلية لا يمكن أن تكون مجرّد تثبيت لإمكانيّة الطلاق التي منحها العهد القديم في الماضي بسبب "قساوة القلوب" (19: 8).
ثالثاً: التفسير الرحيم
"إلا في حالة الزنى". تدلّ هذه العبارة على شواذ حقيقي. وفي هذه الحالة يُسمح بالطلاق. هذا التفسير يوافق أيضاً كل الموافقة سياق مت 5: 17 حيث يؤكّد يسوع أنه جاء ليكمّل الشريعة لا لينقضها. وبعبارة أخرى، ما أراد مت أن يلغي لكنيسة فلسطين التي يكتب لها هذا التدبير الرحيم الذي وُهب للضعف البشري والذي يسمح بالطلاق في حال الزنى. فالشريعة الانجيلية التي لم تلغَ، قد أكملت مع ذلك، لأن المثال المعروض ظلّ الزواج الأحادي (امرأة واحدة، رجل واحد) كما جعله الله "في البدء" (مت 19: 4). إذن، هناك مثال إنجيلي قدّمه يسوع للجميع، وممارسة بشريّة تسري في كنيسة فلسطين، وهي تستند إلى رحمة الله.
هذا التفسير يستند إلى اعتبار يقول بأن 5: 17- 48 يقدّم مثالاً انجيلياً، لا فرائض شريعانية. وهذا واضح حين نتطلّع إلى سائر التكملات في هذا المقطع. طلب يسوع أن لا يُقسم الإنسان في أي حال من الأحوال (5: 34): المنع واضح، قاطع، ولا يتحمل الشواذ. ولكن الكنيسة لم تمنع يوماً القسم (الحلف). بل تفرضه في بعض الظروف، وهذا ما يتعارض مع روح خطبة الجبل وحرفيّتها.
د- الحلف (آ 33- 37)
أولاً: لا تحنث (آ 33)
لا يورد مت النصّ حرفياً. ولكنه يقدّم بشكل شرائع منع الحلف (خر 20: 7؛ لا 19: 12) وضرورة إيفاء ما حلفنا أن نقوم به (عد 30: 3؛ تث 23: 32؛ مز 50: 14).
اهتمّ العهد القديم اهتماماً كبيراً بالحلف. فالحلف باسم الرب كان عملاً من أعمال التقوى على مثال مخافة الله والتعبّد له (تث 6: 13؛ 10: 20). فلا يتمّ القسم إلا قدّام الله. إذن، هو يقابل بشكل عمليّ الإعلان الاحتفالي بالمونوتاوية (الله الواحد) والاعتراف بسلطة يهوه على الكون (أش 19: 18؛ إر 12: 16). أما من حلف بآلهة أخرى، فقد دلّ على أنه عابد أوثان (أش 5: 7؛ عا 8: 14). وقد أوصت الشريعة أيضاً بممارسة النذور (تث 12: 11)، فبدا هذا العمل أهلاّ للمديح في التقوى اليهوديّة (مز 22: 26؛ 56: 13؛ 65: 2؛ 76: 12؛ 116: 14).
ثانياً: لا تحلفوا البتة (آ 34- 35)
إن الاعتبارات التي أحاطت بأقوال الحلف والنذور، صارت سبباً لتكاثرها، بل فتحت الطريق أمام ديانة شكلانية حيث دلّ العدد الكبير من الطقوس والعبارات على فراغ داخليّ (مت 6: 7- 8). كانوا يحلفون بكل شيء ويحلفون بلا شيء. وإذ لم يريدوا أن يتلفّظوا باسم الله الذي لا يدرك، صاروا يحلفون بالمجيد، بالسماء، بالهيكل، بخدمة الهيكل، بالمذبح، بالتوراة، بموسى، بحياة فلان، بتعزية أورشليم...
وكانت هذه العبارات من الحلف والنذور مناسبة لتمييزات أحبّها علم الفتاوي لدى الفريسيين: من يحلف بالهيكل لا يُجبر على شيء. أما من يحلف بذهب الهيكل فعليه أن يفي (مت 23: 16). وكذلك، من حلف بالمذبح، لا بأس. أما من حلف بالتقدمة التي على المذبح، فعليه أن يفي (23: 18). لهذا جاءت ردّة فعل يسوع عنيفة تجاه هذا الوضع. "أما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتّة. لا بالسماء، لأنها عرش الله (أش 66: 1). ولا بالأرض، لأنها مواطىء قدميه (أش 66: 1). ولا بأورشليم، لأنها مدينة الملك العظيم" (مز 48: 2؛ طو 13: 15).
دلّ هذا التنسيق المثلّث على قلم متّى الذي اختار أمثلة تدلّ على سلطة الله وسيادته. فالعهد القديم (سي 23: 9) والعالم اليهودي (وثيقة دمشق) طلب إجراءات ضد تكاثر الحلف. وانطبعت ردّة فعل يسوع بجذريّة خاصة بالشريعة الجديدة. لم نعد فقط أمام امتناع عن الحلف باسم الله بالباطل، بل عن الحلف بشكل مطلق. فكل كلمة تلفظ في الواقع أمام الله. أما الحلف فيخالف روح الشريعة الانجيلية.
ثالثاً: لا تحلف برأسك (آ 36)
كرّر مت كلمة "حلف". وانتقل من المخاطب الجمع إلى المخاطب المفرد. هذا ما يدلّ على أن هذه الآية وُجدت في الأصل في سياق آخر. ولقد شدّد مت على ضعف ما في هذا الحلف: حين نحلف بالسماء، بالأرض، بأورشليم، كنا نعود إلى الله بشكل ضمنيّ. ولكن حين نحلف برأسنا نعود إلى نفوسنا، مع أننا لا نستطيع أن نجعل شعرة واحدة من شعرنا سوداء أو بيضاء.
رابعاً: نعم، نعم: لا، لا (آ 37)
الصدق والصراحة مطلوبان في مملكة المسيح. والشفافيّة أيضاً. نعم يعني نعم. ولا يعني لا. وكل ما تبقّى يأتي من الشرير، من الشيطان (رج يو 17: 15؛ 1 يو 3: 12؛ 5: 18) سلطان الكاذبين (يو 8: 44). ويقدّم لنا يع 5: 12 نصاً موازياً لما نقرأ هنا: "لا تحلفوا لا بالسماء ولا بالأرض ولا بقسم آخر. بل فليكن النعم عندكم نعم، واللا، لا، لكي لا تقعوا تحت الدينونة". قد يكون هذا النص أقدم من نصّ مت، وإن كانت صياغته الأدبية أفضل.

خاتمة
نحن هنا أمام الشريعة الجديدة التي لا نجدها فقط في نصّ مت، بل في شخص يسوع نفسه، في سرّه العميق. فإن الرب قد جعل بين الشريعة القديمة والمؤمنين هذا الجديد الكلي الذي ينير تصرّف البشر: صليب يسوع وقيامته، عطيّة روحه القدوس. فهناك طريقة جديدة كل الجدة، طريقة انجيلية في ممارسة الوصايا. هي أن نعيشها كأبناء في الابن الوحيد، ونترك حبّ الله يحرقنا وهو المفاض في قلوبنا بالروح القدس (روم 8: 5). هذه هي الشريعة الجديدة.
سألت يوماً ايريناوس: ماذا حمل لنا الرب في مجيئه؟ وأجاب: إعلموا أنه حمل إلينا كل جديد. حمل إلينا ذاته.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM