الفصل الثالث: أريحا، الباب إلى الأرض المقدّسة

الفصل الثالث

أريحا، الباب إلى الأرض المقدّسة

أريحا مدينة الإله القمر (ي ر ح) التي جعل الربّ بداية لفظتها أل التعريف، فربطوها بالرائحة العطريّة. هي مدينة هامّة في منخفض الأردنّ، وهي تبعد 23 كلم إلى الشمال الشرقيّ من أورشليم. أُخذ اسمها من عشيرة من عشائر بنيامين (ب ن و. ي م ي ن: أو أبناء اليمين بالنسبة للمنطلقين نحن الشمس، أو أبناء الجنوب). ذُكر اسم "بنيامين" في أرشيف ماري (مدينة على الفرات) حوالى سنة 1800 ق.م. فقد يكون هناك مجموعة من الرعاة، من أنصاف البدو، أقاموا في سهل الأردنّ والجبال المجاورة قبل أن يجتمعوا مع سائر القبائل التي ستتبع شاول ثمّ داود وسليمان، بانتظار أن يصير الجميع "بني يعقوب" والد يوسف وبنيامين، أو بني إسرائيل، متيمّنين بتلك القبيلة أو مجموعة القبائل، التي دخلت في التاريخ مع النصب الذي روى انتصار الفرعون مرنفتاح (1212-1202) عليها في السهل. فأين موقع أريحا في الكتاب المقدّس؟ وما موقعها في عالم الآثار؟ وكيف نقرأ النصّ الذي يرويه سفر يشوع في الفصل السادس؟

1- أريحا في الكتاب المقدّس

مع سفر التثنية نعرف أنّ أريحا تقابل جبل نبو حيث مات موسى ودفن (تث 32: 49). في السفر عينه، دُعيت "مدينة النخل" (ع ي ر . ه ت م ا ر ي ر: التمر) (تث 34: 3). كانت محاطة بسور (يش 2: 15). دُهش العبرانيّون الآتون مع يشوع، وهم الذين عاشوا في البرّيّة أو على حدودها، فما عرفوا مدينة بأسوار. أُخذوا بقوّتها. وربّما مالوا إلى عبادة الإله الذي يحافظ عليها. هذه المدينة تشبه منزلاً يُغلق بابه في الليل (يش 2: 5).

هي مدينة غنيّة، بالنسبة إلى القرى المجاورة. وخصوصًا بالنسبة إلى البدو الرحّل، الذين غزوها فوجدوا فيها أواني النحاس والحديد، والكميّات الكبيرة من الفضّة والذهب، هذا عدا الألبسة الثمينة. ولكنّ الوصول إليها ليس بدون عقبات. تقع غربيّ الأردنّ، والأردنّ يخيف في أيّام الربيع، أيّام الانطلاق إلى الحرب أو الانتجاع أو الغزو. صورة سفر يشوع (3: 15)، ممتلئًا إلى جميع شطوطه". وحده الله يقدر أن يُوقف مدّه. ولولا وجود تابوت الربّ لما استطاع العائشون في الصحراء أن يعبروه. هو بالنسبة إليهم صعبٌ صعوبة البحر الذي عبروه مع موسى.

من شكيم أرسل يشوع الجاسوسين (يش 2: 1). قال لهما: "إذهبا، أنظرا الأرض في أريحا". وإذا ارتبطت أريحا بقبيلة بنيامين، فلأنّها كانت أوّل مدينة لهم، كما يقول يش 18: 21: "أريحا، بيت حجلة، وادي قصيص...

مدينة قويّة "رآها" الآتون من موآب، أو بالأحرى تخيّلوها، لأنّه كما يقول الباحثون الذي قاموا بالحفريّات، دُمّرت حوالى سنة 1550 بيد تحوتمس الثالث. أيكون "بنيامين" رافق الجيش المصريّ، فاعتُبر أحد محتلّيها؟ وما تقوم به قبيلة، تعتبر سائرُ القبائل أنّها قامت به. من هذا القبيل نستطيع أن نتحدّث عن "احتلال أريحا" بيد يشوع.

في أيّ حال، وصل العبرانيّون حوالى سنة 1200 فرأوا مدينة لا أسوار لها، مع بعض البيوت. فاعتبروها ملعونة. لهذا "حلف يشوع في ذلك الوقت قائلاً: ملعون قدّام الربّ، من يقوم ويبني هذه المدينة، أريحا" (6: 2). ولماذا لُعنت؟ هنا نعود إلى التاريخ الاشتراعيّ الذي يبدأ مع سفر يشوع وينتهي مع سفر الملوك الثاني. ففي 1 مل 16: 34 نعرف أن حيئيل الذي أصله من بيت إيل بنى أريحا. أراد لها اليمن والبركة، فذبح بكره أبيرام، وجعله في الأساس. وإذ أراد الأبواب منيعة، جعل صغيره سجوب تحتها بعد أن جعل منه ذبيحة. قال يشوع: "ببكره يؤسّسها، وبصغيره ينصب أبوابها" (يش 6: 26). لسنا هنا أمام "نبوءة" كما يقول القارئ الحرفيّ، الأصوليّ. وكأنّ يشوع يرى المستقبل. فسفر يشوع، في صيغته النهائيّة جاء بعد المنفى البابليّ (587-538)، فنقرأ الحدث على ضوء كلام الله، وربطه بيشوع، كما رُبطت عدد من الشرائع بموسى، وإن دُوِّنت بعد موته بمئات السنين. والنبوءة هي كلام الله في الحاضر يحكم على عادات عرفتها الشعوب الكنعانيّة وحاربها الكتاب من خلال "خبر" إبراهيم الذي مضى ليذبح اسحق فمنعه الله: "لا تمدَّ يدك إلى الفتى" (تك 22: 12).

عرفت أريحا بعض الأحداث من تاريخ الشعب العبرانيّ. مثلاً، حين صار حانوت بن ناحاش ملك عمّون (يقابل عمّان الحاليّة)، أرسل داود رسلاً يهنّئونه. فظنّ العمّونيّون أنّهم جواسيس. "فحلقوا أنصاف لحاهم". ماذا يفعلون؟ قال لهم داود: "أقيموا في أريحا حتّى تنبت لحاكم" (2 صم 10: 5). وارتبطت أريحا بالنبيّ أليشاع الذي أقام فيها أو في جوارها، بل كان لهذا النبيّ تلاميذ "أنبياء" رافقوه مع إيليّا "قبل صعوده في العاصفة" (2 مل 2: 11).

في العهد المكابيّين،، ساعة وضع السلوقيّون مع أنطيوخس الرابع يدهم على أورشليم وبنوا القلعة المتاخمة للهيكل، صارت أريحا المدينة التي يعود إليها متتيا وأولاده، أو ينطلقون منها، فذُكرت أكثر من مرّة (1 مك 9: 50؛ 16: 11، 14؛ 2 مك 12: 15). وقد نكون في ذاك الارتباط بأريحا، أمام تكرار لما فعله يشوع الذي انطلق من هذه المدينة العريقة، فوضع يده على أرض فلسطين من الشمال إلى الجنوب.

في زمن المسيح، كانت أريحا محطّة هامة يجتمع فيها الحجّاج الآتين في طريق غور الأردنّ، ويصعدون معًا الجبال الوعرة والمحفوفة بالأخطار، ليعيّدوا للربّ في أورشليم: "فرحتُ بما قيل لي: إلى بيت الربّ نصعد. هناك صعدت أسباط الربّ" (مز 122: 1 ي). فيما يسوع خارج من أريحا، شفى طيما الأعمى. ويتابع النصّ: "تبع يسوع في الطريق" (مر 10: 52). لا شكّ في أنّ هناك المعنى الروحيّ حيث التلميذ يسير وراء معلّمه. ولكنّ المعنى الحرفيّ يبقى: الطريق إلى أورشليم مع الحجّاج لعيد من الأعياد. وارتبطت أريحا برئيس العشّارين زكّا. استقبل يسوع في بيته، فقدّم له الخلاص. "فهو أيضًا ابن إبراهيم" (لو 19: 9). وتبقى أريحا في خلفيّة الفكر اليهوديّ، تلك المدينة الحصينة التي ترمز إلى مسيرة شعب الله. هي تقطع الطريق عليهم. ولكنّها لا تسقط بالسلاح، وإن ذُكر الغزوُ والسلب والنهب. هي تسقط فقط بالإيمان. لهذا قالت الرسالة إلى العبرانيّين: "بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعد أن طافوا حولها سبعة أيّام" (11: 30). في هذا المجال، نقرأ مثلاً ما قاله أوريجانس في القرن الثالث: "سقطت أريحا على صوت أبواق الكهنة. أجل، ما إن هتفت الأبواق حتّى انقلبت جدران الأسوار... إنّ مدينة أريحا هذه التي نرى أسوارها المتينة، بعد أن أسقطتها أبواق الكهنة، هي صورة العالم الحاضر. فما في التحصينات التي تكوِّن سورًا لهذا العالم؟ عبادة الأصنام، إنباءات غاشّة نحصل عليها بأعمال شيطانيّة، استنباطات كاذبة لدى المنجّمين والعرّافين والسحرة التي هي كلّها أسرار قوّية يحيط بها العالم نفسه".

 

2- أريحا في عالم الآثار

نقول أوّلاً إن المدن التي احتلّها يشوع لم تكن كثيرة العدد. هناك أريحا وسوف نتكلّم عن العيّ (ف 8). فاحتلال العيّ يبدو صراعًا بين القبائل. وفي النهاية ستكون لبنيامين. وبنية النصّ تشبه ما نقرأ في قض 20: 14-48. فشل في البداية، ثمّ بكاء، وحيلة حربيّة قبل إحراق المدينة. وبعد ذلك، ترد لوائح احتلال. ولكن لا توقّف عند مدينة من المدن. فاسم يشوع يرتبط بالخلاص قبل كلّ شيء، وهو يجمع القبائل كما سبق لموسى فجعلها على جبل سيناء. أمّا يشوع ففي شكيم التي هي هضبة تُشرف على السهل.

كانت تنقيبات في العيّ، أي التلّ، فدلّت على مدينة تعود إلى العصر الحجريّ الجديد (النيوليتيّ، بين الألف التاسع والألف السادس ق.م.). ولكنّها صارت قلعة حصينة في بداية الألف الثالث وحقبة البرونز القديم. حوالى سنة 2000، أصابتها الكارثة، لم تتوضّح لنا بعد فأفنت سكّانها ودمّرت أسوارها. وبعد ثمانية قرون من الزمن، أقام بعض السكّان في ما سمِّي "وكر النسر". ولكن حين جاء يشوع مع جماعته، كانت العيّ أرضًا متروكة. وهكذا نكون أمام خبر عن مدينة خربة، وكأنّ الربّ هيّأ الطريق أمام شعبه الآتي ليُقيم في أرضه. هي فكرة روحيّة قبل أن تكون سياسيّة وحربيّة. وهذا ما نقوله عن أريحا، تلك المدينة الشهيرة، التي بدأت الحفريّات فيها منذ سنة 1907-1909. ثمّ سنة 1913، وبعدها سنة 1922. وكانت النتيجة: "في زمن يشوع، كانت أريحا دمارًا، مع بقايا بيوت هنا وهناك".

أريحا التي ذكرها المؤرّخ فلافيوس يوسيفُس أكثر من مرّة، ثمّ دارسو الأسماء في الحقبة البيزنطيّة، ثمّ الرحّالة والحجّاج، هي واحة كبيرة ترويها ثلاثُ عيون: عين أليشاع (2 مل 2: 19-22: مياه رديئة وأرض مجدبة. طرح فيها النبيّ الملح، فبرئت) التي هي اليوم عين السلطان. ثمّ عين دوق إلى الشمال الغربيّ. والثالثة تقع في وادي قلط. هي مركز تجاريّ وزراعيّ وستراتيجيّ. من هنا أهمّيّتها على مرّ التاريخ. فكيف بدا تاريخها؟

في سنة 9000 تقريبًا، جاء إليها السكّان. هناك بقايا معبد. آنية مصنوعة بعظام أو بحجارة. في الحقبة النيوليتيّة الأولى، نكتشف أربع طبقات. نجد بعض الأكواخ وأرض رمليّة. نحن هنا قبل الحقبة القبل فحّاريّة. بعد سنة 8500، بدأت وسائل دفاع من الحيوانات المفترسة: جدران من حجارة. أمّا البيوت، فبدت في شكل مستطيل، مع بئر بجانبها. ووُجدت تماثيل عباديّة صُنعت بالجفصين. في نهاية الألف السادس وحتّى نهاية الألف الخامس، ظهرت الفخّاريّات. بدائيّة أوّلاًَ. ثمّ لوِّنت: وزُخرفت. وتواصل التاريخ في البرونز القديم والمتوسّط (1950- 1550) والحديث، ليأتي بعده عصرُ الحديد (1200-587 ق.م.). تُركت أريحا وما عاد إليها السكّان حتّى القرن السابع، وإن جعلت إحدى النظريّات حيئيل يبني المدينة في القرن التاسع ق.م.

ماذا كانت النتيجة؟ كشفت التنقيبات المتعاقبة للتلّ، آثار أولى الحضارات المدينيّة: سكن "في العصر الحجريّ المتوسّط (نيوليتيّ)، مع الصيد البرّيّ والتقاط الحبوب البرّيّة، وذلك قبل اكتشاف الزراعة. أمّا النيوليتيّ فما عرف الفخّار ولا الحجر المصقول. ولكنّه عوّض بالبناء المتين مع جدار للسور ودرج داخليّ... كلّ هذا يمتدّ في الألفين السابع والسادس مع حقبتين من الحضارة مختلفتين: كانت بيوت بشكل دائريّ فصارت بشكل مستطيل. وحلّت محلّ القرميدات البيضاويّة قرميدات مستطيلة صُنعت في قالب. والفخّاريّات قدّمت صورًا حيوانات وبشريّة، ثمّ آنية للاستعمال اليوميّ من قدور وصحون وكاسات.

توقّفت حياة المدينة بعض الوقت، ثمّ عادت في حقبة البرونز القديم وتواصلت مع شغل المعادن بتأثير من الحوريّين الآتين من الشمال مع جيادهم، فتحوّلت حياة المدينة وبُنيت المنازل الجميلة والكبيرة مع اسرار تشبه ما فعله الهكسوس في الدلتا المصريّ.

أكثر من مرّة اعتبر العاملون في الحفريّات أنّهم لمسوا الأسوار التي سقطت مع يشوع. ولكن أين لهؤلاء البدو أو أنصاف البدو أن يُسقطوا مثل هذه المدينة؟ وما هي المعدّات التي في يدهم. وفي أيّ حال، عارضت الفخّاريّات هذه النظريّات، بعد أن كانت المدينة مدمّرة. ففي زمن الحديد الأوّل (1200 وما بعد) كانت منازل متفرّقة في البساتين، والمعبد الدينيّ كان في الجلجال. وفي زمن الحديد الثاني (أي الربع الأوّل من الألف الأوّل) كُشفت بيوت كبيرة عند سفح التلّ.

تلك كانت أريحا حين وصل إليها يشوع في حقبة الحديد الأوّل. كانت بيوت موزّعة في تلك الواحة الواسعة. ومع ذلك، يقول الكتاب المقدّس إنّ أسوارها سقطت بعد الدوران حولها سبع مرّات والنفخ في الأبواق. فماذا يعني هذا النصّ الكتابيّ الذي نقرأه في الفصل السادس من سفر يشوع؟

3- احتلال أريحا

"وكانت أبواب أريحا مغلقة بوجه بني إسرائيل ومقفلة، ولم يكن أحد يخرج منها أو يدخلها" (6: 1). كلمتان عبريّتان من جذر واحد: س ج ر ة: مسكورة. من فعل سكّر. الباب: سدّه. ثمّ "م س ج ر ت"، أي مسكّرة. قال الترجوم أو النصّ الآراميّ: "كانت مغلقة بأبواب من حديد ومقفلة بمزاليج من نحاس" (أو: برونز).

من هو قائد الجيش؟ يشوع أم الله؟ على مستوى المؤرّخين، يشوع هو الذي فعل كلّ شيء. ودور الذين كانوا معه بدا ضئيلاً. ولكنّنا نقرأ منذ آ 2: "قال الربّ ليشوع: دفعت أريحا وملكها إلى يدك، وكلّ القادرين على حمل السلاح". أو: جبابرة البأس. ويبدو أنّ الحرب انتهت قبل ان تبدأ. والتعليمات ليست تعليمات حربيّة، بل ليتورجيّة هو طواف حول المدينة، مرّة على مدى ستّة أيّام. وفي اليوم السابع، يدور يشوع ورجالُه سبعَ مرّات. حينئذٍ "نفخ الكهنةُ في الأبواق، فهتف الشعب عند سماع صوتها هتافًا شديدًا، فسقط السور في مكانه" (آ 20).

نلاحظ أنّنا هنا أمام ليتورجيّا قديمة، وُجدت على ما يبدو عند الشعوب القديمة مثل الحثّيّين والمصريّين، وأهل راس شمرا حيث، بعل يدور حول المدن، في ذروة عظمته. ومارسها العبرانيّون سنة بعد سنة، فجاءت التقاليد تتقدّس وتجعل الاحتفال متشعّبًا. وهكذا أمام أكثر من نسخة جُعلت في إطار واحد على يد الكاتب الاشتراعيّ، بعد العودة من السبي البابليّ، سنة 538 ق.م. في نسخة أولى، دار الشعبُ في اليوم السابع، ولبث صامتًا حتّى الدورة السابعة. ولمّا أعطي الأمر، هتف الشعب هتافه الكبير:

(5) "ينفخون طويلاً في قرن الهتاف، وحالما يسمعه جميعُ الشعب، يهتفون هتافًا شديدًا، فيسقط سور المدينة ويدخلها كلّ واحد منهم" (كما قال الربّ ليشوع). (10) وقال يشوع للشعب: لا تهتفوا ولا تُسمعوا أصواتكم، ولا يخرج من أفواهكم كلمة إلى أن أقول لكم اهتفوا فتهتفون". (16) فلمّا كانت المرّة السابعة، نفخ الكهنة في الأبواق، فقال يشوع للشعب: "اهتفوا لأنّ الربّ أسلم إليكم المدينة". وفي النهاية نقرأ آ 20 التي سبق وأوردناها: سقط السورُ في مكانه.

في نسخة ثانية، رافق الدورانَ حول المدينة، الكهنة مع الأبواق، فنفخوا كلّ يوم، ثمّ في دورات اليوم السابع، "ويحمل سبعةُ كهنة سبعةَ أبواق أمام تابوت (= عرش) العهد، وفي اليوم السابع، تطوفون حول المدينة سبع مرّات، وينفخ الكهنةُ في الأبواق" (آ 4). وقد تدلّ آ 11 على تقليد ثالث، حيث يُحمل عرش العهد حول الأسوار: "فطاف عرش العهد حول المدينة مرّة واحدة، ثمّ عادوا إلى المحلّة وباتوا هناك" في آ 5، نفخ الكهنة في الأبواق، في اليوم السابع فقط. أمّا في آ 8، 9، 13، فنفخ خلال الدوران كلّه.

(8) فكان كما قال يشوع للشعب: سار سبعةُ كهنة حاملين سبعة أبواق أمام الربّ، ونفخوا في الأبواق وعرش العهد وراءهم (9) وقدّام الكهنة النافخين في الأبواق سار المسلّحون، وخلف العرش سار التابعون، والكهنة ينفخون في الأبواق. (13) وقدّام العرش، سار الكهنةُ السبعة حاملو الأبواق السبعة وهم ينفخون فيها، والمسلّحون أمامهم سائرون، وحلف العرش سار التابعون، والكهنة ينفخون في الأبواق".

في الدوران حول المدينة، يُذكر المسلّحون في آ 3 وفي آ 7، والكهنة مع العرش... وهكذا نكون أمام تقليد دينيّ وأمام تقليد دنيويّ. هنا يسير المسلّحون صامتين إلى أن يُطلق الهتاف فتسقط الأسوار وتؤخذ المدينة. هذا ما يرتبط بمجموعة راحيل التي صارت فيما بعد قبيلتي أفرائيم وبنيامين. هذا يعكس دهشة الآتين حين وجدوا موقعًا مثل أريحا، مفتوحًا أمامهم، إن لم يكن متروكًا. وهكذا نكون أمام خبر إيتيولوجيّ، خبر يدرس السبب الذي من أجله وُجدت المدينة مدمّرة حين وصلت إليها جماعة يشوع، رأى بعضهم في هذا الدمار زلزالاً. ولكن ما رُسم على حائط الأقصر يفهمنا سبب دمار أريحا على يد الفرعون المصريّ.

والتقليد حول تحريم المدينة قد لا يكون جزءًا من الخبر (آ 16، 17، 21-24): (17) ولتكن المدينة بكلّ ما فيها محرّمة لكم إكرامًا للربّ... (21) وقتلوا بحدّ السيف إكرامًا للربّ جميع من في المدينة من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، وحتّى البقر والغنم والحمير (24) وأحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار، إلاّ الذهب والفضّة وآنية النحاس والحديد، إذ وضعوها في خزانة بيت الربّ" قد نكون هنا مام تقليد تاريخيّ يدلّ على عداء قديم، ارتبط برأوبين وجاد. وهذا ما يدلّ عليه تقليد يجعل من رأوبين البكر، وارتباطه بحجر بوهن بن رأوبين، الواقع جنوبّ أريحا (يش 15: 6؛ 18: 17). وربّما يربط هذه العناصر بعبور الأردنّ (1: 12-18). حُقظ هذا التقليد في الجلجال، المعبد الجامع لأفرائيم وبنيامين ومنسّى في وادي الأردنّ، قبل أن يصبح المعبد الأوّل لارتباط القبائل الشماليّة في أيّام شاول.

إنّ دور الكهنة مع العرش (= تابوب العهد) والأبواق، والتطواف اليوميّ حول المدينة، مع ذروته في سبع دورات في اليوم السابع، يبدو بشكل خبر إيتيولوجيّ طقسيّ، مثل عبور الأردنّ، حيث يلعب الكهنة مع العرش دورًا مماثلاً. لا شكّ في أنّ هذه الطقوس كان جزءًا من الاحتفال بوضع اليد على الأرض الموعود بها قرب معبد الجلجال. هذا ما تدلّ عليه ملاحظة تقول إنّ الشعب رجع إلى المخيّم (آ 11ب) بعد الدورة اليوميّة، وكأنّه الموضع القريب من البعيد فيقيم فيه الحجّاج. ثمّ نحن نرى في التطواف المسبّع مع ذروة في اليوم السابع، واستعمال بوق الكبش، تطلّعًا إلى طقس اليوبيل السنويّ مع عودة الأرض إلى أصحابها. كلّ هذا يفهمنا أنّ تدوين هذا النصّ جاء بعد المنفى، في قلب التاريخ الاشتراعيّ.

إنّ هذه الليتورجيّا التي تحتفل "بالنصر" تبيّن للجماعة التي تشارك فيها، كيف حقّق الربّ النصر الأخير في مواعيده الأخيرة، وذلك بدون أيّ استحقاق من قبل البشر. أخذت الطقوس بعض العناصر من الحرب المقدّسة (رج 2 أخ 13: 13-16؛ 20: 1ي). ولكن لا مناخ حربيًّا هنا إلاّ الاسم: يكفي الشعب أن ينهي التطواف ويضرب بالبوق لكي تنتهي المعركة. ثمّ إنّ الفنّ الأدبيّ تكيَّف كلّ التكيّف مع احتفال ليتورجيّ حيث الله هو الذي يعمل. أمّا الشعب فينفّذ الأعمال الليتورجيّة التي تُطلَب منه. وهكذا يتمّ مخطّط الله بواسطة شعبه.

ونقرأ النصّ قراءة سريعة. في آ 1-3، بدا احتلال هذه المدينة المحصّنة في نظر هؤلاء البدو، مهمّة مستحيلة. ومع ذلك نجحت المحاولة بفضل تدخّل الله. نحن في إطار الحرب المقدّسة، حيث الله يعلن النصر مسبقًا. الحرب هنا هي ألفاظ وألفاظ لا شيء بعدها. أمّا الأمر بإحاطة المدينة، فقد يرتبط ارتباطًا بعيدًا بحصار مدينة من المدن.

في آ 3 ب-5، يأتي الوجه الليتورجيّ مع الوجه الحربيّ. الكهنة هم في المقدّمة مع الأبواق. أمّا المسلّحون فجزء من الاحتفال. والارتباط بين الفعل الليتورجيّ وسقوط الأسوار، هو الارتباط بين العلّة والنتيجة. والتعبير عنه صريح. وهذه المعجزة التي تحتفلون بها من خلال الطقوس، توجز كلَّ الخبرة الدينيّة لدى القبائل، التي ترى مآثر الله في التاريخ، فتفهم أمانته لمواعيده. وهكذا كانت أريحا نموذج احتلال ينتهي بتطواف إلى المعبد.

كيف تسير الليتورجيّا (آ 6-10)؟ بشكل بسيط جدًّا: يبدأ الطواف مع رجال مسلّحين، يتبعهم الكهنة مع الأبواق. ثمّ يأتي العرش (= تابوت العهد). هنا يجعلنا النصّ نضمّ التاريخ اللاحق إلى تاريخ يشوع. فلا وجود للعرش قبل سنة 1050، وانتقاله من شيلو إلى أورشليم. ولكن لا وجود لهذا العرش في الجلجال، وكما كان الحرس في بداية التطواف، يكونون في المؤخّرة. والشعب يعبّر عن مشاركته في الاحتفال، بهتاف الحرب، الذي يطلقه حين يسمع صوت البوق، أو حين يأمره منظّم الاحتفال، أمرًا صريحًا. هذا الوقت هو الذورة في الاحتفال. ويدوم العيد سبعة أيّام كذا كان الأمر بالنسبة إلى الفصح (ف 3-5) الذي كان الذروة في أوّل عيد احتفل به يشوع بعد عبوره الأردنّ. في أوّل سبت، وصل الشعب إلى عيد الفصح. وفي السبت الثاني أوّنوا الاحتلال في طقوس دمار أوّل مدينة استولوا عليها.

ونجد في آ 11-19، عنصرًا آخر من الطقوس: دورة حول المدينة، مرّة كلّ يوم، على ستّة أيّام. ثمّ يعودون إلى المخيّم. ويتكرّر العمل سبع مرّات في اليوم السابع بحيث يضمّ ما سبق ويضيف النهاية: هتاف الشعب وسقوط الأسوار. وأضيفت إلى خطبة يشوع (آ 16) تعليمات تعني راحاب وبنيها. في آ 20-24، يُذكر كنزُ الهيكل. في معنى أوّل: الجلجال. لكن المعنى الأخير: هيكل أورشليم.

وهكذا تعرّفنا إلى نصّ أساسيّ في سفر يشوع. سقوط أريحا. تلك المدينة التي عمرها عشرة آلاف سنة. وهبها الله لشعبه، بانتظار أن يهبه سائر المدن، وكأنّنا أمام نزهة. وهكذا "احتلّ" يشوع الأرض كلّها. عمليًّا، سيكون العمل شاقًّا بالنسبة إلى العبرانيّين، كما يروي سفر القضاة. ولكنّ البداية تتضمّن في قلبها النهاية، لأنّ الله هو الذي يفعل.

وراح آباء الكنيسة يبحثون عن المعنى الروحيّ في نصّ حربيّ للوهلة الأولى. دار يشوع ورجاله سبعة أيّام. ولم يدخلوا المدينة للمرّة الأولى. هذا ما يدلّ على طول أنات الله الذي لا يريد موت الخاطئ، بل أن يعود عن ضلاله.

وشدّد يوحنّا الذهبيّ الفم على ما جعل راحاب تخلص، وذلك في خطّ الرسالة إلى العبرانيّين: "إيمانها ووقفتها أمام الله". تلك التي هي رمز الكنيسة، تستحقّ كلَّ مديح. هي تمثّل الكنيسة الآتية من العالم الوثنيّ. فمن الوثنيّين تكوّنت الكنيسة أي جماعة الشعب. وكما المرأة غير المؤمنة يقدّسها زوجها المؤمن، كذلك تتقدّس الكنيسة الآتية من كفر الوثنيّة و"زنى" (خيانة) عبادة الأصنام. هي جسد المسيح ونحن أعضاؤها.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM