الفصل الرابع: مدينة العاي

الفصل الرابع

مدينة العاي

العاي مدينة كنعانيّة واقعة بين شيلو وجبعون، بالقرب القريب من بيت إيل. وبعد ذلك، كانت نقطة حدوديّة بين أرض بنيامين وأرض أفرائيم. تسجّلت على أنّه جرى أقسى المعارك وأعنفها في حرب كنعان حين دخول قبائل يشوع (يش 7-8). توسّع الكاتب وأطال حول أحداث هذا القتال الفريد حيث تمتزج امتزاجًا غريبًا، الحرم واللعنة الإلهيّة ثمّ البركة، أي الانتصار في مناخ عجائب الربّ الذي "أوقف" الشمس والقمر على جبعون وأيالون، ليشهدا لأعماله.

أمّا تنقيبات العاي فكشفت مدينة هامّة من الحقبة البرونزيّة تحت أنقاض قرية الحديد I. وبين هاتين الطبقتين، أي في زمن "الاحتلال" لا نجد شيئًا. كيف نوفّق بين المعطى البيبليّ الذي تحدّث عن إشعال النار في المدينة (يش 8-9) ومعطيات الأركيولوجيا أو علم الآثار?

في هذه المغامرة الحربيّة، تصرّف شعبُ الوعد بشكل غريب فتناسى شريعة الربّ: سرق، سلب، قتل، اغتصاب... لا شيء يوقفه. هو شعب "قاسي الرقاب" كما دُعيَ. هؤلاء هم "الرعاع" الذين جعل الله منهم شعبه، شعبًا مدعوًّا إلى القداسة عبر مسيرة في الصعود والنزول. فالشعب الذي مع يشوع يشبه الشعب الذي كان مع موسى. وصل موسى إلى سيناء ليفهم جميع الذين يحيطون بالجبل أنّ ما يجعلهم شعب الله هو الارتباط بوصايا الله، من أيّ مكان أتوا. وأنهى يشوع مسيرته في شكيم، فطلب من الجميع أن يتركوا الآلهة الغريبة، أن يخافوا الربّ ويعبدوه بكمال وإخلاص (يش 24: 14) بحيث يتبعون خطاه: "أمّا أنا وأهل بيتي فنعبد الربّ" (آ 15).

لن نتحدّث عن النصّ الكتابيّ، وفيه ما فيه من معركة قصيرة بدت في كمين ثمّ سلبت المدينة. ولن نتوقّف عند التحريم الذي يبدو بشكل نذر فيه نقدّم نتيجة السلب لله. إمّا نقدّمه للمعبد القريب، للهيكل، أكان الذهب والفضّة أم الإنسان والحيوان. والتحريم عقاب يُطبّق كأنّه آتٍ من عند الله. فهو يضرب الشرك وعبادة الأوثان فيصيب الأفراد والمدن. فالأشخاص والأشياء الذين تنجّسوا بالأصنام، يحملون خطرًا على الجماعة الجديدة. لهذا يأتي العقاب فيضع حدًّا لهذه القوّة الخطرة.

هذا ما حاول العمل به سفر يشوع في ما يُسمّى "الحرب المقدّسة" (عد 21: 1-3؛ قض 6: 1ي). يتخلّى المحاربون عن السلب فيحرقونه، وعن الأسرى والسبايا ويقتلونهم. وهذا يعني أنّ الجنود يعودون إلى بيوتهم بأيدٍ فارغة. ولكن نسارع إلى القول: لو تمّ التحريم، لما بقي ساكن في الأرض. وهذا ما جعل الكاتب يتراجع فيقول إنّ الربّ ما أراد أن يُفرغ الأرض من سكّانها لئلاّ تقيم فيها الوحوش. وهكذا نفهم في النهاية المعنى الروحي للتحريم: لا ننجّس أيدينا بكلّ هذا. لا للسلب، لا للنهب، لا للقتل. أما هكذا تقول الوصايا؟ ويُمنَع التعامل مع سكّان عابدي أصنام لئلاّ يجرّونا إلى عبادتهم، وهكذا نصبح نجسين كما كانوا هم.

*  *  *

وبعد كلّ هذا، نعود إلى التنقيبات في العاي المذكورة في يش 8: 1ي. يبدو أنّها في "التلّ".

يبعد "التلّ" كلم اثنين إلى الجنوب الشرقيّ من بيتين التي هي مدينة إيل القديمة وقد امتلكها سبط أفرائيم حسب بعض المعطيات البيبليّة (يش 16؛ قض 1: 22-26). عُرف موقع "التلّ" سريعًا على يد أوّل الباحثين في فلسطين. وأوّل من جمع عددًا من الشقفات كان ألبرايت[1]. سنة 1922، أكّد أنّ العاي هو التلّ. وسنة 1928، تعرّف غارستانغ[2] على بعض أقسام السور. عُرفت أهمّيّة "التلّ" ولكن التنقيبات وحدها تتيح لنا تحديد مستويات إقامة السكّان فيها.

سنة 1933، كانت ثلاث حملات متتالية قامت بها يهوديت[3] هناك. ولكن تلك المنقّبة الفرنسيّة ماتت سنة 1935. فتوقّف العمل. وما نُشر تقرير حقيقيّ، نهائيّ. ولا كان بالإمكان التحقّق من الأمور. ولكن بعد موتها، سنة 1940، نشر مؤلّف يجمع اكتشافات هذه الباحثة. نجد فيه تقريرًا أوّليًّا عن كلّ حملة. ثمّ تعدادًا لما وُجد.

تجاه هذا الوضع الذي قد يولِّد الشكوك حول قيمة النتائج التي وصلنا إليها، وجب العودة إلى هذه الورشة. فعاد إلى الموقع الذي تُرك من سنة 1935 كالاواي[4] من العهد اللاهوتيّ المعمدانيّ في جنوب الولايات المتّحدة. خمس حملات، سنة 1964، 1966، 1968، 1969، 1971. وها نحن نقدّم ما وصلت إليه يهوديت، ثمّ ما وصل إليه كالاواي.

*  *  *

التنقيبات سنة 1933-1935: النتيجة الواضحة من التنقيبات التي قامت بها يهوديت، اكتشاف مدينة البرونز القديم على "التلّ". وصلت مساحة البلدة إلى 10 هكتار. هذا يعني أنّها بين المدن المهمّة في عصرها. واكتشاف ثلاثة أسوار حول "التلّ" أتاح لنا بأن نعرف محيط المدينة.

في الجزء الغربيّ من المدينة، كُشفت عمارتان هامّتان محصورتان في منحني المستوى 850. أمّا القلعة فاستندت إلى السور الداخليّ للمدينة. هي مستطيلة (40×20 مترًا). قرب هذه القلعة، وُجدَ على ما يبدو، معبدٌ من الطراز الساميّ في ثلاث حقبات. وقد يكون نشط بين سنة 2700 وسنة 2000 ق.م.

على قمّة "التلّ" المرتفع 856 م عن سطح البحر، وُجد بناء شُيّد بالحجارة المسطّحة بالقرميد، اعتبر القسمُ الرئيسيّ "القصر" الملكيّ: قاعة واسعة، مركزيّة، مستطيلة (20× 6،5 م)، منفتحة على الشرق. بُنيت بناء منتظمًا بزوايا مستقيمة، وأحاط بها المماشي (العرض 1،5 م) بزوايا مقدّسة.

إلى الجنوب من هذه الأبنية المختلفة، عُرفت ثلاثة مستويات من الإقامة تغطّي كلّ حقبة البرونز القديم. واكتشاف مدينة الموتى[5] إلى الشمال الشرقيّ من التلّ، والتي تبعد 200 متر عن السور، دلّت على مجموعة فخّاريّات استُعملت في البرونز القديم. وأعلنت يهوديت أنّ نهاية هذه المدينة كانت في سنة 2000 ق.م.

بعد انقطاع طويل جدًّا، عادت الإقامة في الموقع في حقبة الحديد I وهذا ما يدلّ عليه الفخّار الذي جُمع. غير أنّ هذه الإقامة لم تدم طويلاً. منذ سنة 1200 إلى سنة 1050. هذه الملاحظة تعني أنّ حقبتي البرونز المتوسّط والبرونز الحديث لا وجود لها في "التلّ". إذن، حين وصل يشوع وجماعته سنة 1200، كان الموقع فارغًا من السكّان.

تلك كانت نتائج الحملات الثلاث سنة 1933-1935. وكان جدال حول صحّة النصّ البيبليّ. من الوجهة الأركيولوجيّة بقيت بعض النقاط ناقصة: تفسير الأبنية، علاقة الأسوار بعضها ببعض، اتّساع مدينة حقبة الحديد I.

*  *  *

التنقيبات سنة 1964-1971: سنة 1950، قال العالم الدومنيكيّ رولان دو فو[6] (1903-1971): إنّ توسّع التنقيب فهو لن يضيف الكثير على النتائج الحاضرة. هذا ما يجب أن نأخذه بعين الاعتبار من أجل تفسير الفصلين السابع والثامن من سفر يشوع[7]. وما قاله كان الحقيقة. فما تمّ منذ سنة 1964، ساعد على تحديد بعض النقاط وتصحيح كرونولوجيا البرونز القديم تصحيحًا طفيفًا. ولكن الاكتشاف هو هو: مدينة من البرونز القديم، قرية من الحديد I.

أسوار البرونز القديم، دلّت سريعًا على أنّنا تجاه مدينة محصّنة: جدار داخليّ هو سور سماكته ستّة أمتار. هو السور الأقدم. يعود إلى البرونز القديم II. وخارج هذا السور، على بعد مترين اثنين، برز سور ثانٍٍ سماكته ثلاثة أمتار. وأخيرًا، إلى الخارج من هذين السورين، برز جدار ثالث هو الأقرب عهدًا. يعود إلى البرونز القديم III A بسماكته ثمانية أمتار وارتفاعه سبعة أمتار. في البرونز القديم II، وُجد مخرج من السور، خزّان واسع غير مغطّى لجمع الماء. هذه العمارة كانت مهمّة في عصرها فتجمع ألف متر مكعّب من الماء.

في أحد المواقع، وُجد سور البرونز القديم مع باب عرف ثلاث حالات متعاقبة. وضُمّ إلى الباب حصن بيضاويّ الشكل يعود إلى البرونز III A. بهذا المخرج كانوا يذهبون إلى ينبوع صغير واقع في وادي أصاص.

ويبقى سؤال واحد: ما العلاقة الأزمانيّة بين السورين الأقدمين؟ اعتبر الأب دي فو أنّهما معاصران. لا يمكن أن يكون الجواب بهذه الدقّة. ولكنّنا لا نخطئ إن قلنا إنّهما يعودان إلى البرونز القديم II.

وما اعتبرته يهوديت القلعة، كان في الواقع بعض السور. والمعبد الذي كشف سنة 1933-1935، دلّ على أنّ المعبد B هو الأقدم. ولكن مرّ بعض الوقت بين بناء السور الأوّل وتشييد المعبد الذي سيدمَّر في حريق مفتعل (حرب أو غزو). والمعبد A الأقرب عهدًا، فقد بُنيَ مستندًا إلى السور الداخليّ المستند بدوره إلى المعبد القديم. وما رأته يهوديت "قصرًا" كان "الأكروبول" أو قلعة المدينة مع تحصيناتها. إنّ نهاية هذه المرحلة الأولى انتهت بزلزال فانحنت الجدران. فتمّت تقويتهم في المرحلة اللاحقة والمدينة بُنيت مرّة واحدة. وهذا ما يجلعنا أمام مثل عن تأسيس المدن الفلسطينيّ في بداية الألف الثالث. عانت هذه المدينة من زلزال ومن نقص في الماء.

في حقبة الحديد I "التلّ" قرية. والباحث ما رأى أثرًا لتدمير بشريّ. فالناس تركوا المكان بسبب جفاف طالت مدّته، لأنّ همّ الماء رافق المدينة على مدّ تاريخها. لهذا بنت ذاك الخزّان العظيم. سنة 1969، بانت على الموقع B بنايتان تعودان إلى الحديد I. وفصل بينهما جدار. هنا اكتشف الباحثون أنّ الناس كانوا يعيشون معًا: يأكلون، يشربون في قاعة واسعة. وينامون هناك أو على السطح. أمّا البهائم فكانت في حظيرة قريبة. فمنذ تأسيس القرية، عمل السكّان في رعاية القطعان من غنم ومعز. تبيّن أوّلاً أنّ القرية كانت صغيرة. وثانيًا، أنّها بنيت فوق المدينة البرونزيّة القديمة، دون أي أثر للبرونز المتوسّط والحديث (2200-1200ق.م.)

ماذا نستخلص من هذه الحفريّات؟ ننطلق من الفخّار ومن بعض الأغراض المصريّة التي وُجدت في القبور. هو يعود إلى البرونز القديم I، حوالي سنة 3000 ق.م. والمدينة المحصّنة في الانتقال من البرونز القديم I إلى II، حوالي سنة 2900، وتواصلت الإقامة في البرونز القديم II حتّى سنة 2600 ق.م. وكانت مرحلة ثانية بُني فيها المعبد A في البرونز القديم III A. دمِّر كلّ هذا حوالي سنة 2500 ق.م.

أمّا مدينة الحديد I أو بالأحرى القرية، فبدأت حوالي سنة 1200، مع حياة القبائل العائشة في كنعان بين سنة 1200 وسنة 970.

 

الخاتمة

ماذا تقول لنا هذه الحفريّات في التلّ أو العاي، وفي تلّ السلطان أو أريحا؟ حين وصل إليها يشوع كانت كلّها مدمّرة. فما تعب الآتون من موآب والعابرون نهرَ الأردنّ، بالإقامة فيها. اعتبروا أنّ الله نفسه "حرقها"، دمّرها، لئلاّ يتنجّس الآتون من سيناء بما فيها. نستطيع أن نشبه الوضع هنا بما في سدوم وعمورة. مرّ زلزال، بركان، فأحرق المدن حول البحر الميت. لماذا كان الموت في هذه المنطقة مع النار والكبريت؟ عاد الكاتب الملهم إلى التقليد وربطه بالوحي: إذا كانت سدوم أحرقت بالنار، فبسبب خطاياها الفظيعة. وهكذا كان درس للمؤمنين ينبّههم أنّ النار تنتظرهم إن لم يتوبوا، إن لم يهربوا كما فعل لوط وإن مكرهًا. وكذا نقول بالنسبة إلى أريحا والعاي. ما أراد الله لشعبه الصعوبات، فدخلوا إلى غربيّ الأردنّ واحتفلوا بما أعطاهم الله بدون أيّ تعب. هكذا قرأ المؤمنون سفر يشوع بعد العودة من المنفى سنة 538 ق.م. تنقّوا في السبي البابليّ، وعادوا، بل أعادهم الله. فهل يسمحون لنفوسهم بأن يذوبوا في عالم الأصنام أم يحافظوا على عبادة الإله الواحد، الذي تعاقد مع القبائل في شكيم، وشهد على هذا العهد "حجرٌ كبير أقامه يشوع هناك تحت البلّوطة (السنديانة) التي عند مقدس الربّ" (يش 24: 26).

 

 



[1] W.F. Albright

[2] J. Garstang

[3] الاسم الكامل Judith Marquet- Krause

[4] J.A. Callaway

[5] Nénopole

[6] Roland de Vaux

[7] Revue Biblique, 1950, p. 622

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM