الفصل التاسع :رسائل الأسر

الفصل التاسع
رسائل الأسر
الرسالة إلى أهل أفسس

مقدّمة
تشكّل الرسالة إلى أهل أفسس إحدى رسائل السجن مع فل وكو وفلم. فكلّ هذه الرسائل كتبها بولس في السجن. فهو يقول في 3: 1: "لذلك أنا بولس سجين المسيح من أجلكم أيّها الوثنيّون" (رج 4: 1؛ 6: 20). وفي فل 1: 7: "كلّكم شركائي في النعمة، سواء في قيودي أو في الدفاع عن الانجيل" (رج فل 1: 17). ويعلن بولس في كو 4: 4 أنه "في القيود" من أجل المسيح وأنّ معه أسترخس "في الأسر" (كو 4: 10؛ رج 4: 18؛ فلم 1، 9، 23).
ولكن عن أيّ سجن نتكلّم؟ تُعلمنا 2 كور 11: 23 أنّ بولس سُجن مرارًا. ونعرف من أعمال الرسل (16: 23- 40) أنّه سُجن بضعة ساعات في فيلبّي، وأنّه سجن سنتين (58- 60) في قيصرّية فلسطين (أع 24: 27) وسنتين (61-63) في رومة (أع 28: 16، 30- 31). وافترض بعض الشرّاح منطلقين من إشارات هنا وهناك فتحدّثوا عن سجن بولس في أفسس حين أقام في هذه المدينة (53- 56)، وأعلنوا أنّ رسائل السجن كتبت كلّها في أفسس. ولكنّ كو وأف وفلم دُوِّنَتَا في رومة في نهاية السنة الأولى من أسر بولس أي سنة 62- 63
دوِّنت كو وأف في الوقت ذاته تقريبًا، والقرّاء جيران، وأخطار الإيمان هي هي. لهذا برزت المواضيعُ نفسُها. لهذا يجب أن نقرأ كو أوّلاً ثمّ أف. ونضمّ إلى هاتين الرسالتين فلم. أمّا فل فقد كانت آخر ما كتب بولس من رسائل السجن. فهو يمنيّ نفسه بخلاص قريب. يقول: "أرجو أن أبعث إليكم تيموتاوس عندما يتّضح مصيري. ولي ثقة بالربّ أن آتيَكم أنا أيضاً بعد قليل" (فل 2: 23- 24؛ رج 1: 25- 27). وهذا ما دفع الشرّاح إلى الافتراض أنّ الرسول عاد إلى كنائس آسية بعد خروجه من السجن، وزار تلك التي أسّسها وغيرها، فشدَّد المؤمنين ونظّم جماعاتِهم.

أ- أفسس وكنيستها
كانت أفسس مدينة هلّينيّة كبيرة، ثمّ صارت عاصمة مقاطعة آسية الرومانيّة بعد أن أزاحت برغامس من مكان الصدارة. لهذا اهتمّ بها بولس اهتمامًا خاصًّا فغرس فيها الإنجيل الذي سيشعّ على المناطق المجاورة. مرَّ بولس في أفسس مرّة أولى في نهاية سنة 52 وخلال رجوعه من الرحلة الرسوليّة الثانية (أع 18: 19- 21). ثمّ عاد إليها في بداية الرحلة الرسوليّة الثالثة (أع 19: 1) فأقام فيها ما يقارب الثلاث سنوات من سنة 54 إلى سنة 57 (أع 19: 8، 10، 22، 20، 31). ومن أفسس أرسل بولس المرتدّين الجدد ليحملوا البشارة إلى المدن المجاورة (أع 19: 26)، كما فعل أبفراس في كولسّي. وهكذا انتشرت المسيحيّة سريعًا في مقاطعة آسية فشكّلت ربع المسيحيّين في ذلك الوقت. كانوا 80000 من أصل 400000، حسب تقدير بعض العلماء، في مقاطعة تعدّ أربعة ملايين.
ولكنْ نتساءل: هل كتبت أف إلى كنيسة أفسس؟ تعَّودنا أن نقرأ العنوان "إلى أهل أفسس"، ونقرأ 1: 1 في بعض الترجمات: "إلى القدّيسين الذين في أفسس والمؤمنين في المسيح يسوع". ولكنّ العنوان ليس في الأصل وليس قانونيًّا، وإنّما هو قديم لأنّ ترتليانس يفترض وجوده حين يناقش مع مرقيون الذي يصحّحه "إلى أهل لاودكية". ثمّ إنّ "في أفسس" غير موجودة في بعض المخطوطات الهامّة جدّاً. والذي دفع الشرّاح إلى هذا البحث هو أنّ أف لا يمكن أن تكون موجّهة إلى جماعة عاش معها بولس طويلاً. فهو يحدّثهم وكأنّه لا يعرفهم، وكأنّهم لا يعرفونه. فيقول في 1: 15: "قد سمعت بإيمانكم في الربّ يسوع وبالمحبّة التي تُولونها جميعَ القدّيسين". وفي 4: 20- 21: "أمّا أنتم فما هكذا تعلّمتم ما هو المسيح، إذا كنتم أخبرتم به وتلقّيتم تعليمًا للحقيقة التي في يسوع". وفي 3: 2: "سمعتم كيف أوليتُ نعمة الله من أجلكم".
والآن نتساءل: إن كانت هذه الرسالة لم تتوجّه إلى أفسس فإلى من توجّهت؟ هناك من يقول إلى لاودكية مستندًا إلى ما نقرأ في كو 4: 16- 17: "فإذا قرئت هذه الرسالة عليكم فدعوها تقرأ أيضاً في كنيسة لاودكية. والتمسوا رسالة لاودكية لتقرأوها أنتم أيضاً". وقال آخرون: إنّها رسالة دوّارة، قد وُزِّعَتْ على كنائسَ متعدّدةٍ ومنها أفسس ولكنّها لم تنحصر في كنيسة أفسس. ويسندون قولهم إلى اللهجة الباردة التي بها يكلّم أهل أفسس الذين قضى معهم ما ينيف على سنتين وودّع شيوخهم بكلام كلّه حرارة (أع 20: 17 ي). ولكن أتكون الرسالة كتبت إلى أهل أفسس أو إلى أهل لاودكية أو إلى كنائس عدّة، فلا برهان يجعلنا نميل إلى هذا الرأي أو ذاك. غير أنّنا نُبْقِي على التسمية بعد أن صارت تقليديّة. فإلى القائلين "إلى كنيسة لاودكية"، نقول: لا نجد اسم لاودكية في أيّ مخطوط للرسالة إلى أفسس. وإلى القائلين "رسالة دوّارة" نجيب لماذا لم يقل بولس إلى كلّ آسية كما قال في 2 كور 1: 1: "جميع القدّيسين في أخائية"، أو كما قال في غل 1: 2، "إلى كنائس غلاطية"؟

ب- تصميم الرسالة إلى أفسس
بعد العنوان (1: 1- 2)، من بولس... إلى القدّيسين المؤمنين... عليكم النعمة والسلام، نجد في أف قسمينِ رئيسيّينِ: قسم عقائديّ وتعليميّ، وقسم إرشاديّ وأخلاقيّ.
1- القسم الأوّل (1: 3- 3: 21): الخلاص الشامل والوحدة بالمسيح والكنيسة
- نقرأ أوّلاً مديحًا لله (3:1- 14) مع عبارة تتردّد ثلاث مرّات (آ 6، 12، 14): لتسبيح مجده. ويشكّل هذا المديح ملخّصاً للرسالة كلّها ويُقْسَمُ مقاطعَ: المقدّمة (آ 3) الاختيار (آ 4- 6 أ)، الخلاص (آ 6 ب- 7)، موهبة المعرفة (آ 8- 9)، جمع العالم تحت رأس واحد هو المسيح (آ 9 ب- 10)، الميراث الموعود به (آ 11- 12) ختم الروح (آ 13- 14).
- بعدها نجد صلاة شكر وتنوير وتشفّع (1: 15- 23). تبدأ هذه الصلاة بفعل شكر (آ 15- 16) يسأل فيها بولس الله أن يمدّ كنيسته بالروح (آ 17- 19). إنّ قيامة المسيح أعطته السيادة على كلّ قوّة (آ 20- 21) وجعلته رأس الكنيسة (آ 22- 23).
- نحن مخلّصون بقيامة المسيح (2: 1- 10). بعد أن تكلّم الكاتب عن ماضي الوثنيّين (الخاطب الجمع، أنتم، رج آ 1- 2) وماضي اليهود (المتكلّم الجمع، نحن، رج آ 3)، عرض كيف يتحقّق الخلاص بواسطة القائم من بين الأموات (آ 4- 10)، مشدّدًا على النعمة (آ 8- 9).
- نحن واحد في المسيح، يهودًا كنّا أم يونانيّين، بالسلام الذي تحقّق على الصليب (2: 11- 22). كان الوثنيّون في الماضي من دون مسيح (آ 11- 12) فصالحهم المسيح الذي هو سلامنا (آ 13-18). فنتج عن ذلك نموّ عظيم للكنيسة (آ 19- 22).
- صلاة بولس سجين يسوع المسيح (3: 1- 21). يبدأ بولس صلاته فيقدّم نفسه على أنّه سجين المسيح (آ 1). اختاره الله بنعمته ليحقّق مخطّطه (آ 2- 4)، وهو السرّ، أي وحدة اليهود والوثنيّين. هذا السرّ الذي كُشف للرسل والأنبياء صار معروفًا لدى الجميع (آ 5- 6). ويصوّر بولس مكانته في مخطّط الله (آ 7- 9): نجد في المسيح الحرّيّة لنقتربَ من الله بثقة (آ 10- 12). وآلام الرسول هي مجد قرّائه (آ 13). ويسأل بولس في صلاة خاشعة ليعرِفَ المؤمنون الحبّ الذي يفوق كلّ معرفة (آ 14- 19). وينتهي الفصل بمجدلة: "لله المجد في الكنيسة وفي المسيح يسوع على مدى جميع الأجيال والدهور. آمين" (آ 20- 21).

2- القسم الثاني (4: 1- 6: 20) الحياة الجديدة
- بناء جسد المسيح في الوحدة (4: 1- 16). يتركّز التحريض على الوحدة (آ 1- 6) ثمّ يتفتّح على تنوّع المواهب وتناسقها (آ 7- 16) من أجل غنى وكمال الكنيسة التي هي جسد المسيح.
- تَعارضٌ بين الحياة القديمة والحياة الجديدة (4: 17- 31). فحياة الوثنيّين في الماضي (آ 17- 19) تتعارض والحياة في المسيح (آ 20- 21 ب). ونتيجة كلّ ذلك: اخلعوا الإنسان القديم والبسوا الإنسان الجديد (4: 21 ج- 24). ويعطي الكاتب بعض الأمثلة (آ 25- 31): كفوا عن الكذب، إذا غضبتم لا تخطئوا، لا تجعلوا لإبليس سبيلاً، لا تخرج من أفواهكم أيّة كلمة سوء، أزيلوا كلّ شراسة وسخط وغضب وصخب وشتيمة.
- نعيش كأبناء النور (4: 32- 5: 20). اقتدوا بالله وتخلَّوا عن سلوككم السابق لِتَحْيَوا كأبناء النور مستفيدين من الزمن الحاضر حامدين الله حمدًا دائمًا على كلّ شيء باسم ربّنا يسوع المسيح.
- علاقات جديدة متبادلة (5: 21- 6: 9). هناك قاعدة عامّة: اخضعوا بعضكم لبعض (5: 21). وتطبَّق هذه القاعدة على العلاقات بين الرجل والمرأة. وهذه العلاقات ترمز إلى العلاقات بين المسيح والكنيسة (5: 22- 33). وتطبَّق هذه القاعدة أيضاً على البنين والأبناء (6: 1- 4)، على العبيد والأسياد (6: 5- 9).
- جهاد الإيمان (6: 10- 20). تسلّحوا بقوة الربّ (آ 10)، البسوا سلاح الله (آ 11- 13) المؤلّف من ستّ آلات (منطقة، درع، نعل، ترس، خوذة، سيف) (آ 14- 17). وأقيموا كلَّ وقت الصلاةَ والابتهالَ في الروح (آ 18- 20).

الخاتمة
سيحمل تيخيكسُ الرسالةَ إلى المؤمنين ومعها أخبار الرسول (6: 21-22). وتنتهي الرسالة بالسلام (6: 23- 24): السلام والمحبّة والإيمان للإخوة من لدن الله الآب، ومن لدن الربّ يسوع المسيح. لتكن النعمة على جميع الذين يحبّون يسوع المسيح حبًا لا يزول.

ج- التعليم في الرسالة إلى أفسس
1- المسيح جالس على عرشه في السماء
إنّ بولس قد أحسّ بواقعيّة هذا القول المبنيّ على مز 110: 1. فلقد أعلن في كو تفوّق المسيح على القوى السماويّة بالخلق وبالفداء (كو 1: 15- 20؛ 2: 10- 15). وذكر مع إيمان الكنيسة الأولى أنّ المسيح الممجّد جالس عن يمين الله (كو 3: 1). أمّا في أف فهو يجمع هذين المُعْطَيَيْنِ. في 1: 20 يحدّد أنّ جلوس المسيح عن يمين الله يجعله فوق كلّ سلطة سماويّة، بل تصبح كلّ سلطة تحت قدميه شأنها شأن كلّ شيء (رج مز 8: 7). وفي 4: 8- 10 يبدو هذا التفوّق الكونيّ بعد صعود (سبقه نزول من السماء إلى الأرض) يرفع المسيح إلى قمّة كلّ السماوات بعد أن يكون وضع يده على الكون.
وما حصل للمسيح يحصل للمسيحيّين. فهم أيضاً جالسون منذ الآن معه في السماوات (2: 6). كانت كو 2: 12 قد أبرزت القيامة في خطّ الإسكاتولوجيا المتحقّقة، كما في روم 6: 4- 11، وخطت أف خطوة في هذه الطريق.
ويتوقّف بولس عند الأفق السماوي فيورد عبارة "في السماوات" خمس مرّات (1: 3، 20؛ 2: 6؛ 3: 10؛ 6: 12). فالعبارة لا تعني ما هو فوق السماوات، بل السماويّات وتقابل الأرضيّات (1 كور 15: 40؛ فل 2: 10). ولكنّ الأقدمين قالوا بدرجات في السماوات. أمّا يسوع فهو في أعلاها، عن يمين الله في السماوات فوق كلّ رئاسة (1: 20 ي)، والمسيحيّون جالسون معه في السماوات في المسيح يسوع (2: 6). هذه العبارة تدلّ على مستوى فكر بولس: ففي السماوات تنبع منذ الأزل كلّ بركة إلهيّة وكلّ مخطّط الخلاص.
ونقرأ في 3: 10 و 6: 12 عن أصحاب الرئاسة والسلطة في السماوات. هنا نفكر بمملكة الجوّ (2: 2) حيث يملك سيّد هذا العالم وحيث يقيم الشياطين. فالقوى التي تحكم الكون قريبة من الشياطين لأنها قوى ظلمة (رج كو 1: 13، 16). وهذه القوى الكونيّة، وإن أخضعها المسيح وجعلها تحت قدميه، إلاّ أنّها ما زالت فاعلة وهي أكبر خصم لخلاص البشر لأنّها جيش إبليس وأرواح الشرّ (6: 11 ي).
هنا تختلف أف عن كو لأنّها تجعل الرئاسات والسلطات الكونيّة مع القوى الشيطانيّة. فكو لا تجمع السلطات السماويّة المخلوقة والمتصالحة في المسيح (كو 1: 16، 20) مع مملكة الظلمة التي نجّانا منها (كو 1: 13). كانت هذه القوى محايدةً، بل صالحةً في أصلها وضحيّة لتعبّد الناس المفرط لها تعبّدًا يجعلها في إطار الخطيئة. إنّ أف 1: 21 و 3: 10 يُفهمَان بهذا المعنى الخفيف، أمّا 6: 12 فتعتبر هذه القوى شرًّا. فكيف نفهم هذا؟ في كو جعل بولس هذه القوى ملائكة مدبّرين للشريعة فدلّ على أنّ سلطانهم زال بعد أن أُبْطِلَ النظامُ الموسويّ. كان لها دور في الماضي وصار هذا الدور ملتبسًا، فَعُرِّيَتْ منه وعاد كلّ شيء إلى أصله. أمّا أف فهي تجعل هذه القوى في إطار القوى المعادية على مثال ما نقرأ في روم 8: 38 ي حيث تبدو هذه القوى معادية لأنّها سببت موت المسيح (1 كور 2: 8) أقلّه عن جهل (3: 10). وهي ستصبح ضعيفة كأعداء خاضعين لسيّدهم (1 كور 15: 24 ي). والعنصر الجديد في أف هو أنّه ماثل بين هذه القوى الكونيّة وقوى الظلمة وأرواح الشرّ العاملين بإمرة إبليس (6: 11 ي) أو الروح الذي يقود المتمرّدين (2: 2).
هل ستخلص هذه القوى الشرّيرة؟ قالت كو 1: 20 إنّ الله سيصالح كلّ موجود بما فيها هذه القوى بعد أن عادت إلى حجمها الطبيعيّ. وتقول أف 1: 10 إنّ القوى السماويّة ستعود كالقوى الأرضيّة إلى سلطة المسيح كرئيس بخضوع يمكنه أن يكون خضوع الحبّ أو خضوع القوّة.

2- البشر المخلّصون باتّحادهم بالمسيح
ولكنّ هذه القوى وهذا الكون لا تهمّ بولس في ذاتها. إنّها إطار للبشريّة. عاد بولس إلى هذه القوى ليرسم المسرح الذي عليه تتمّ دراما الخلاص، ولكنّها تختفي لتترك المجال للمجموعة التي تهمّ بولس وهي شعب البشر المختارين المخلّصين باتّحادهم بالمسيح. هذا الموضوع هو في قلب بولس منذ لقائه بالربّ على طريق دمشق وهو يعود إليه دومًا في رسائله. ويقدّم مواضيع معروفة يتوسّع فيها حسب نظرة جديدة: الدعوة إلى حياة مقدّسة في حضرة الله (4:1؛ رج 1 تس 13:2؛ 1 كور 1: 8؛ فل 1: 10؛ 15:2؛ كو 1: 22)، القرب بثقة إلى الله بالإيمان (3: 12؛ رج روم 5: 2)، الفداء بدم المسيح (1: 7؛ رج روم 3: 25)، الإيمان بالإنجيل (1: 13؛ رج 1 تس 1: 5- 7؛ روم 1: 16؛ كو 1: 4- 6)، الروح القدس كختم وعربون (1: 14؛ رج 2 كور 1: 22؛ 5: 5)، قدرة الله التي أقامت المسيح (1: 19 ي؛ رج 2 كور 13: 4؛ روم 6: 4؛ فل 3: 10؛ كو 2: 12)، الخلاص بالنعمة لا بأعمال، وهو خلاص يدفعنا إلى الأعمال الصالحة (2: 8- 10)، ماضي الخاطئ في عمى بالنسبة إلى الروح (4: 17- 19؛ رج روم 1: 21، 24)، لبس (ارتداء) الخليقة الجديدة في المسيح (4: 24؛ رد غل 3: 27؛ 6: 15؛ 2 كور 5: 17؛ روم 13: 12، 14؛ كو 3: 10). كلّ هذه الوجهات المألوفة في فكر بولس تبرز هنا وهناك (2: 8- 10؛ 4: 17- 19)، ولكنّها في خدمة فكرة مركزيّة وجديدة هي: فكرة خلاص البشريّة الشامل في المسيح. هذه الوجهة ليست جديدة في حدّ ذاتها، بل تعبِّر عن اتّجاه جوهريّ لمخطّط الله وترتبط بتدبير الشعب المختار في العهد القديم. ولقد تطرّق إليها بولس في رسائله السابقة. ولكنّ المشاكل المطروحة كانت تعود به إلى وجهات خاصّة مثل انتظار المجيء الثاني، جنون حكمة الصليب، النظام في الجماعات الليتورجيّة، تدبير الشريعة والنعمة. أمّا الآن فقد توسّع الأفق أمام مسيح أقام في ارتفاعه السماويّ. وجماعة المخلّصين التي تنمو وتملأ الأرض تصبح موضوع تفكيره اللاهوتيّ، جماعة المحبين هي الكنيسة التي تجمع اليهود والوثنيّين، التي تنتظم في جسدٍ رأسُه المسيح.

3- اجتماع اليهود والوثنيّين
كان بولس من الشعب اليهوديّ، ولكنّ المسيح اختاره ليبشر الوثنيّين. ما فتئ يدعو إخوته بني قومه ولكنّه لم يلق منهم إلاّ العداوة والاضطهاد. فكان هذا الرفض من قبل الشعب المختار مشكلة تقلق قلبه ولقد سمّاها في 2 كور 12: 7 "شوكة في جسده". وتطرّق إلى هذه المشكلة في روم 9- 11 وتوقّف أمام سرّ مخطّط الله (روم 11: 25): كان رفض اليهود مطلوبًا ليتقرّب الوثنيّون من الخلاص. وبعد ذلك يدخل بنو إسرائيل إلى الحظيرة. كان هذا أملاً ممزوجًا بالقلق. واستعادت أف المشكلة في اتّساع كونيّ وتفاؤل يرتبط بنهاية الزمن. كلّ شيء ينتظم حسب تدبير مخطّط الله الذي تأمَّلَه في السماوات. فاليهود والوثنيّون يقابلون مرحلتين من مراحل مخطّط الخلاص، مرحلة الرجاء ومرحلة الإيمان بالإنجيل، وكلتاهما تتمّان بالروح عينه. فالوثنيّون مدعوّون لأنّ يشاركوا في ميراث القدّيسين (1: 18)، أي شعب إسرائيل (2: 19). وفي 2: 2- 3 يقابل بولس بين ماضي الوثنيّين الخاطئ وماضي اليهود الخاطئ كما في روم 1: 18-23؛ 2: 1- 29؛ 3: 9- 20، ولكنّ المقطع الأهمّ نقرأه في 2: 11- 22: تَغَرُّبُ الشعبين ثمّ تقارُبُهـا: انفصلا في الماضي في زمن التدبير القديم الذي حصر خيرات الخلاص في شعب إسرائيل (آ 11- 13)، وتقاربا واقتربا معًا من الله بصليب المسيح الذي أزال التدبير القديم (آ 14- 18). بعد هذا اجتمع الشعبان في بناء هيكل روحيٍّ يقيم فيه الله وسط البشر (آ 19- 22). ويعود بولس مرّة أخيرة إلى هذا اليقين في تحديده لسرّ المسيح: ميراث واحد، جسد واحد، وعد واحد للوثنيّين ولليهود (3: 6). إنّ زوال أحكام الشريعة بالصليب (2: 14- 15) أزال المسافات ووضعَ السلام بين فئتين من البشر.

4- جسد المسيح
ويتمّ التجمعّ في إنسان واحد جديد (2: 15) هو المسيح مثال البشريّة الجديدة، في جسد واحد (2: 16) هو جسده المصلوب والمائت عن الخطيئة، وفي روح واحد (2: 18) هو روح المسيح القائم من بين الأموات. هنا نكتشف موضوع جسد المسيح في عمقه البولسيّ. لسنا أمام استعارة لصورة الجسم الاجتماعيّ، بل أمام امتداد إسكاتولوجيّ لجسد المسيح الذي مات وقام وجمع بالمعموديّة أجساد المسيحيّين وتوسّع وسوع جسد الكنيسة العظيم. كان بولس قد تطرّق إلى هذا الموضوع في الرسائل إلى كورنتوس ورومة وحدّده في كو، وها هو يتعامل مع الكنيسة وكأنها شخص حيّ. جمع موضوع الرأس وموضوع الجسد. وحافظ على التمييز بين الجسد الذي يُبنى عك الأرض وبين الرأس الذي ينظّم النموّ من أعلى السماء (4: 15 ي؛ كو 2: 19). وشدّد على أنّ الكنيسة شخصٌ فردٌ انطلاقًا من صورة الهيكل الذي يشكّل المسيح فيه حجر الزاوية (أو حجر الغلق، رج 2: 20- 22). والكنيسة تكشف بوجودها للرئاسات والسلاطين حكمة مخطّط الله (3: 10). وبنيتها الواحدة مع تنوّع خِدمها تبدو في 4: 3- 16 على أنّها مؤسسّة في الوحدة وموجّهة إلى الوحدة. نقطة الانطلاق هي الجسد الواحد والروح الواحد لربّ واحد نرتبط به بالإيمان الواحد والمعموديّة الواحدة لنصل إلى الرجاء الواحد الذي إليه يدعونا الله الواحد وأبو الجميع (4: 4- 6). وفي النهاية هو المسيح، الإنسان الكامل حيث يلتقي الجميع في وحدة الإيمان والمعرفة.

- 2 -
الرسالة إلى أهل فيلبّي
ما يلفت انتباهنا حين نقرأ فل هو طابعها الشخصيّ الشديد. فلقد أعطي لنا في هذه الرسالة، أكثر من غيرها، أن نحسّ بدقّات قلب بولس. لا شكّ، لم تكن كنيسة فيلي خاليةً من كلّ عيب، ولكن الرسول ما كان ليشكَّ بأمانتها الأساسيّة للإنجيل وصدقها تجاه شخصه. هذه الصراحة جعلت بولس يحبُّ أهل فيلبيّ ويسكب لهم قلبه في عواطف عميقة.

أ- مدينة فيلبّي
كانت فيلبّي في أيّام بولس تقع على هضبة تقابل مكدونية الشرقيّة. أحاطت بها الجبال فما وجدت لها مَنْفَذًا إلاَّ من جهة الغرب حيث يمرّ نهر انجيتيس الذي يشقّ مجراه بين جبلين. واتّصلت فيلبّي ببحر إيجِه بواسطة طريق تعبر جبل سمبولون وتصل إلى نيابوليس المدينة الجديدة (أع 16: 12) بعد ثلاث ساعات أو أربع من السير على الأقدام.
يشتقّ اسم فيلبّي من فليبس الثاني ملك مكدونية ووالد الإسكندر الكبير الذي حوّل أماكن مغمورة إلى مدينة محصّنة سنة 358-357. كانت المنطقة غنيّة بمعادن الذهب وهذا ما جعل المدينة تزدهر وجلب إليها السكّان. في سنة 169 انتصر إميليوس الرومانيّ على برسيس ملك مكدونية وحوَّل بلاده إلى مقاطعة رومانيّة وقسّمها إلى مناطق. وشكلت فيلبّي جزءًا من المنقطة الأولى بعاصمتها أمفيبوليس (أع 17: 1). وبعد سنة 148 صارت مكدونية إقليمًا رومانيًّا وكانت فيلبّي مدينةً محطّة على الطريق الأغناطيّة المهمّة التي تربط الشرق والغرب عبر ألبانيا الحاليّة. وخلال القلاقل الداخليّة التي حصلت في القرن الأوّل ق م، انتصر أنطونيوس وأوكتافيوس في سهل فيلبّى سنة 42 على المدافعين عن الجمهوريّة اللذين قتلا يوليوس قيصر وهما بروتوس وكاسيوس. وما إنِ انتهت المعركة حتّى بدأ أنطونيوس يجعل من فيلبّي عظمى المدائن (رج أع 16: 12)، وتابع العمل أوكتافيوس الذي صار أغوسطس بعد انتصاره على أنطونيوس في أكسيوم سنة 31 ق م. فأسكن في المدينة جماعة من قدماء الحرب الذين رافقوه في انتصاراته، وجعل فيلبّي مدينة رومانيّة يسود فيها الحقّ الإيطالي، فكانت تُعامَل كما تُعامَل مدن إيطاليا.
وعى السكّان وضعهم: أنهم رومانيّون (أع 16: 21)، ولكنّهم تألّفوا من جنسيّات مختلفة: فهناك أهل البلاد الأصليّون، والجنود القدامى الذين جاء بهم أوكتافيوس، والمهاجرون الإيطاليّون الذين تحزّبوا لأنطونيوس فخسروا أملاكهم لصالح محازبي خصمه. تنوّع السكّان وتنوّعت العبادات: فهناك عبادة الإمبراطور بوظيفتها الموحّدة، وهناك عبادة التراقيّين، السكّان الأصليّين، وعبادات أهل اليونان والأناضول وسورية ومصر. كلّ هذا شكّل مزيجًا تلفيقيًّا بدا العالم اليهوديّ تجاهه حقيرًا مع عبادته التوحيديّة.
هكذا بدت فيلبّي حين أمَّها بولس وجعل منها أوّل مدينة أوروبيّة تتقبّل بشارة الإنجيل. أمّا اليوم ففيلبّي تلّة من الدمار بعد أنّ مرّ الأتراك فيها.

ب- جماعة فيلبّي
المرحلة التي يشكّلها تأسيس جماعة فيلبّي المسيحيّة هامّة جدًّا. فهي الحقل الذي زُرعت فيه أوّل بذور الإنجيل. ولقد أبرز كاتب سفر الأعمال تبشير فيلبّي فروى كيف أنّ بولس حظي برؤية ليليّة حين كان في ترواس من آسية الصغرى. بدا بولس كالآباء الأوّلين المتنقلين من مكان إلى آخر، فوجّهه الله بطريقة علويّة. "رجل مكدونيّ قائم لديه يتوسّل إليه فيقول: اعبر إلى مكدونية وأغثنا" (أع 16: 9).
فعبر بولس شماليّ بحر إيجيه برفقة سيلا وتيموتاوس، وبعد أن توقّف في ساموتراكية وصل إلى نيابوليس. حينئذ سلك الطريق الأغناطيّة ووصل إلى فيلبّي. وما مضت أيّام حتى ذهب بولس ورفيقاه إلى خارج المدينة وانضمّا إلى الجماعة اليهوديّة الصغيرة التي كانت تصلّي على شاطئ النهر يوم السبت. اجتمعت النساء هناك فتوجّه إليهنّ بولس بالكلام. وكان بينهنّ امرأة أصلها من تياتيرة في ليدية، ولهذا سمّيت ليدية، وكانت تبيع الأرجوان. كانت وثنيّة تتعبّد لله أي أنّها كانت تتعاطف مع الديانة اليهوديّة وتمارس بعض فرائضه. فقبلت الإنجيل الذي بشَّر به بولس ونالت سرّ المعموديّة مع أفراد اسرتها، واستضافت في بيتها المرسلين الثلاثة (أع 16: 11- 15).
كنّا نتمنّى أن يتابع سفر الأعمال خبره كما بدأه فيورد لنا كيف قام المبشّرون بعملهم. ولكنّه يروي لنا فقط بعض الأحداث. تبعتهم عرّافة فأخرج بولس منها الروح الشرّير فكلّفه عمله السجن هو وسيلا. ويحدّثنا النصّ عن نجاتهما وعماد السجّان وأفراد أسرته. بعد هذا أطلق الحكّام سراح الرسولين وأمروهما أن يغادرا المدينة. مهما يكن من هذه الاخبار التي نمّقها الكاتب، لا شكّ في أنّ إقامة بولس الأولى في فيلبّي رافقها الألم والاضطهاد. وهذا ما يشير إليه مرّتين (1: 30؛ 1 تس 2: 2) كافلاً صحّة أقوال أعمال الرسل. أجل، لم تَسِرِ الأمور بالنسبة إلى المرسلَين كما يجب، فأجبرا على مغادرة المدينة متّجهَين إلى تسالونيكي (أع 17: 1).
متى تأسّست كنيسة فيلبّي؟ إذا عدنا إلى تاريخ سيرة القدّيس بولس يمكننا أن نحدّد هذا التأسيس بسنة 50. وهكذا تكون البشارة الإنجيليّة وصلت إلى أوروبا عشرين سنة بعد موت يسوع وقيامته.
وسيمرّ بولس بعد ذلك مرّتين في فيلبّي. المرّة الأولى نستنتجها من الخطّ الذي اتّبعه في رحلته الرسوليّة الثالثة. أَتُراهُ عبر مكدونيةَ ولم يسلّم على الكنائس المحلّيّة؟ يبدو الأمر صعبًا (1 كور 16: 5؛ 2 كور 2: 13؛ 7: 15). أمّا المضايقات التي قاساها هناك (2 كور 7: 5) فلا يمكنها أن تأتيَ من كنائس امتدح بولس شجاعتها وسخاءها (2 كور 8: 2). أمّا المرّة الثانية فيوردها سفر الأعمال (20: 6): ما أبحر بولس من جنوبي اليونان كما كان قد تقرّر (رج أع 18: 18)، فأجبر على أن يرجع على طريق مكدونية بسبب مؤامرة دبّرها له اليهود. قال بولس: "أبحرنا من فيلبّي"... وسيصل إلى أورشليم.

ج- من أين كتب بولس رسالته إلى أهل فيلبّي؟
عَرَّفَنا سفر الأعمال أنّ بولس سُجن مرّتين. مرّة أولى في قيصريّة فلسطين (أع 23: 33- 26: 32) ومرّة ثانية في رومة (أع 28: 16- 31). غير أنّ الرسائل التي كتبها في السجن لا تشير إلى المكان الذي سجن فيه.
تذكر لنا 2 تم أنّ ساعة رحيل الرسول اقتربت (2 تم 4: 6). فمهما يكن من أصل هذه الرسالة والرسالتين الرعاويّين الأخريين، فإنّ 2 تم دُوِّنَتْ في رومة حيث يقول التقليد إنّ بولس استشهد. أمّا الرسائل إلى الأفسسيّين والكولسّيّين وفيلمون فقد كتبت في وقت واحد أقام فيه بولس في السجن، والدليل على ذلك العلاقات بين فلم وكو من جهة، وبين أف وكو من جهة ثانية. ولكن عن أيّ أسر نتكلّم؟ يظنّ معظم الشرّاح أنّه أَسْرُ رومة. وما يدفعهم إلى هذا القول هو أن يبعدوا كو وأف عن الرسائل الكبرى ليتيحوا لبولس أن يتطوّر فكرًا وأسلوبًا.
وتبقى فل التي دوّنت في خطّ الرسائل الكبرى. كان الشرّاح يقولون حتّى القرن التاسع عشر إنّ فيلبّي كتبت خلال الأسر في رومة. ولكن تبدّلت الحال الآن فتساءل الشرّاح: هل كتب بولس إلى فيلبّي رسالة واحدة؟ وبحثوا عن مكان آخر سُجن فيه بولس وكتب رسالة إلى أهل فيلبّي. هنا تبرز أفسس كمكان ثالث سُجن فيه بولس ومنه كتب فل.
نعرف أنّ بولس أقام ثلاث سنوات في أفسس، وهي مدينة في آسية، خلال رحلته الرسوليّة الثالث (أع 19: 1- 20: 1). يحدّثنا أع عمّا حصل لبولس في هذه الأماكن. ولكنّه لا يشير إلى أنّه سجن. أمّا 1 كور التي دوّنت في نهاية إقامة بولس في أفسس (فصح 57) فهي تذكر الأخطار التي تعرّض لها بولس من أجل الإنجيل والتي تشكّل في نظر بولس برهانًا أنّه يؤمن بقيامة الموتى. قال: "ولماذا نتعرّض نحن للخطر كلّ حين؟ فإذا كنت صارعت الوحوش لغرض بشريّ، فما الفائدة لي؟ وإذا كان الأموات لا يقومون، فلنقل مع القائلين: تعالوا نأكل ونشرب، فغدًا نموت" (1 كور 15: 30، 32).
لقد فهم بعضهم هذه المصارعة مع الوحوش بطريقة حرفيّة، واعتبروا أنّ لوقا كاتب أع جهل أنّ بولس بارز الوحوش في الحلبة. ولكن ليس من المعقول أن نفهم 1 كور 15: 33 على هذا الشكل، لأنّ مصارعة الوحوش كانت مهنة صعبة لا قِبَلَ لبولسَ بها. وإن فهمنا العبارة أنّ بولس قُدِّمَ للوحوش مثل أغناطيوس الأنطاكيّ، لكانت الوحوش افترسته. ثمّ إنّه لا يمكن أن يُلْقَى بولسُ أمام الوحوش لأنّه مواطن رومانيّ. ولهذا فهم بعضهم هذه العبارة على أنّها تدلّ على معاملة سيّئة تعرّض لها بولس، ولكنّ هذه المعاملة لا تدلّ بالضرورة على السجن.
إذًا هل كتب بولس إلى أهل فيلبّي من رومة؟ ففي 1: 13 يعلن: "إن وجودي في السجن من أجل المسيح ذاع خبره في دار الحاكم وسائر الأماكن كلّها". "دار الحاكم" تدلّ على خيمة القائد في الجيوش الرومانيّة. أمّا في الإنجيل فتدلّ على قصر الوالي بيلاطس (مر 15: 16؛ مت 27: 27؛ يو 18: 28، 33). ونذكر أنّ هناك واليًا آخرَ اسمه فيلكس سجن بولس في قيصريّة في دار هيرودس (أع 23: 25) أي في القصر الذي بناه هيرودس الكبير كدار ضيافة لممثّل رومة. ولكنّ الكلمة تعني مكانًا يقيم فيه الجنود وتعني الجنود ذاتهم أي الحرس الإمبراطوريّ الذي توزّع في رومة وسائر مدن الإمبراطوريّة ومنها أفسس. إذًا لا تدلّ "دار الحاكم" على أنّنا في رومة. ولا نستطيع أن نستنتج أيّ شيء من العبارة "يسلّم عليكم حاشية قيصر" (4: 22). فهذه العبارة تدلّ على الحشم الذين يهتمّون بممتلكات الأمبراطور في رومة أو في سائر مدن الإمبراطوريّة. وهكذا لا نجد البرهانَ الوافيَ على أنّ فل كتبت في رومة.
ثمّ إنّ رومة تبعد عن فيلبّي مسافة 1300 كلم، وهذا ما يستغرق أربعة أو خمسة أسابيع من السفر. أمّا الرسالة فتفترض أنّ الرواح والمجيء بين المدينتين يستغرقان مدّة قصيرة. علم مسيحيّو فيلبّي بأنّ بولس ألقي في السجن فأرسلوا إليه إبفروديتس. وحين وصل إلى بولس سقط طريح الفراش فعرفت جماعة فيلبّي بمرضه. كلّ هذا تذكره 2: 25- 26 وهو يفترض أربعة أو خمسة أشهر من التبادل. ولكنّ الوقت يقصر إذا عرفنا أنّ السفر من أفسس إلى فيلبّي عبر بحر إيجيه يستغرق عشرة أيّام.
وهناك مشاريع بولس. فهو يرجو بعد خروجه من السجن أن يقوم بزيارة إلى أهل فيلبّي (2: 24). ولكن إذا رجعنا إلى روم 15: 23-24، عرفنا أنّ بولس نوى الذهاب إلى إسبانية بعد مروره في رومة. فلو كتبت فل في رومة، لكان بولس عدل عن مشروعه وذهب إلى الشرق لا إلى الغرب، إلى فيلبّي لا إلى إسبانية. الأمر ممكن، ولاسيّما وإنّ بولس عزم على الذهاب إلى رومة كمرسل حرّ لا كسجين. تبدّلت الظروف فتبدّلت مخطّطات بولس. إذًا لم تكتب الرسالة من أفسس. ولم تكتب من قيصرّية لأنّ المواصلات بين رومة وفيلبّي كانت أسهل من الموصلات بين قيصرّبة وفيلبّي. من أجل كلّ هذا يبدو أنّ فل كتبت من سجن رومة في فترة من الزمن تمتدّ بين سنة 61، وسنة 67 التي فيها مات الرسول شهيدًا. هذا رأي وهناك رأي آخر يعتبر أنّ فل كتبت من أفسس في سنة 56-57.

د- رسالة واحدة أم رسائل متعدّدة
حين يكتب بولس إلى أهل فيلبّي فهو يكتب بصورة شخصيّة. فيشير في رسالته إلى "قيوده" (1: 13، 14، 17)، ويتطلعّ إلى استشهاده كأمر ممكن (1: 20- 21؛ 2: 17). ولكنّنا لا نقرأ هذه التلميحات إلاّ في الفصلين الأوّلين وفي 4: 14 حيث يهنِّئ الرسول أهل فيلبّي لأنّهم شاركوه في "محنته". من أجل هذا اعتبر الشرّاح أنّ فل هي من نتاج بولس ولكنّهم انطلقوا من إشارات عديدة تدلّ على أنّنا لَسْنَا أمام رسالة واحدة بل أمام ثلاث رسائل أرسلت إلى فيلبّي ثمّ جمعت في نصّ واحد.
ففي 3: 1 يبدأ بولس تحريضاً يدعوهم فيه لأن يفرحوا في الربّ. ولكنّ هذا التحريض ينقطع ويصبّ في خطبة قاسية ذات لهجة شديدة: "احترسوا من الكلاب، احترسوا من عمّال السوء". لا شيء في الفصلين الأوّلين يهيّئنا لمثل هذا التحذير. ثمّ إنّ بولس لا يحدّثنا في ف 3 عن سجنه، ولا يعبّر عن اهتمامه بمصيره الخاصّ. وأخيرًا سينتظر نهاية الرسالة ليشكر أهل فيلبّي عمّا فعلوه لأجله (4: 10- 20)، وهذا ما يدهشنا.
من أجل هذه الأسباب وغيرها فضَّل بعض الشرّاح أن يتحدّثوا لا عن رسالة واحدة، بل عن ثلاث رسائل كتبت الواحدة بعد الأخرى. الرسالة الأولى (4: 10- 25) وقد ضمّنها شكره لأهل فيلبّي عمّا أرسلوا إليه من مساعدة. الرسالة الثانية (1: 1-3: 1 أ؛ 2:4-7، 21-23) التي تتضمّن مقدّمة (1: 3- 11) وصورة عن وضع بولس كسجين (1: 12- 26) ونصائح عن الحياة الجماعيّة (1: 27- 2: 18) ومشاريع في المستقبل (2: 19- 30) وبعض تحريضات. الرسالة الثالثة (3: 1 ب- 4: 1، 8- 9) التي تتضمّن هجومًا على خصوم بولس ودفاعًا عن موقفه. إنّها لا تشير إلى سجن بولس وقد تكون كتبت قبل الرسالة الثانية أو بعد أن أُخْلِيَ سراح بولس.
فإنْ قبلنا بهذه النظريّة أو بنظريّة قريبة منها، لا بدّ أن نسلّم بأنّ الجامع دمج الرسائل الثلاث في رسالة واحدة. فوضع في النهاية السلامات والتمنّيات (4: 21- 23) التي كانت في ختام الرسالة الثانية. ويجب أن نفترض أنّه اقتطع خاتمة ومقدّمة رسالتين من الرسائل الثلاث لتبدو الرسائل وكأنّها رسالة واحدة.
ولكنّ هذه النظريّة تبدو مجرّد افتراض قدّمه بعض العلماء. ولهذا نحن نتساءل: لماذا دمج أحدهم الرسائل الثلاث؟ فإن أجاب مجيبٌ بأنّها كانت قصيرة وبالتالي معرّضة للضياع، نجيب أنّ الآداب القديمة احتفظت برسائل قصيرة جدًّا. وفي ما يخصّ العهد الجديد، فهناك الرسالة إلى فيلمون والرسالتان الثانية والثالثة ليوحنّا. ثمّ من يتجرّأ على اقتطاع أجزاء من رسائل اعتبرها المؤمنون كتابًا مقدّسًا (رج 2 بط 3: 16)؟
نحن لا نجهل الوقت المطلوب ليمليَ بولس رسالته. ثمّ إنّه كان في السجن فيجبر على التوقّف عن الإملاء. وهكذا يكون قد مرّ بين قسم وآخر بعض الوقت حصلت فيه أحداث جديدة ففرضت على الرسول تغييرًا في الأسلوب واللهجة.
هذه الملاحظات التي تطبّق على 2 كور ترافقها براهينُ إيجابيّةٌ . فالبرهان الأوّل يشدّد على أنّ الرسالة تبدو واحدة بمقدّمتها (1: 1- 11) وخاتمتها. ولهذا لا بدّ من الأخذ بالنصّ الحاليّ وهذا منتهى الفطنة. والبرهان الثاني يشير إلى وجود تكرارات تتيح لنا أن نوحّد بين أقسام اعتبرها بعض الشرّاح متنافرة. والمثال على ذلك المقابلة بين 3: 20- 21 و 6:2- 11 حيث نجد الكلمات عينها. "وطننا في السماء ومنها ننتظر الربّ يسوع المسيح" (3: 20) تقابل: "هو في صورة الله" (2: 6). يسوع المسيح هو الربّ (2: 11). "يبدّل جسدنا الوضيع ويجعله على صورة جسده المجيد" (3: 21) يقابل "ظهر بمظهر الإنسان وتواضع" (2: 7، 8)، "صورة الله، صورة الإنسان تمجيدًا لله الآب" (6:2، 7، 11). وإذا قلنا إنّ مقطع الشكر تأخّر إلى النهاية (4: 10- 20)، فهذا لا يدفعنا إلى أن نقتطعه من فل، ونحن نعزو هذا التأخير إلى أنّ بولس أراد أن يكون كتومًا في شكره (4: 17- 118). ثمّ إنّ موضوع الشكر الذي نقرأه في النهاية هو صدى لما كتبه بولس في البداية. "أشكر هذا الشعور نحوكم جميعًا" (1: 7) تقابل "فرحت بالربّ كثيرًا عندما رأيت أنّكم عدتم أخيرًا إلى إظهار شعوركم نحوي" (4: 10). "وكلّكم شركائي في نعمة الله، سواء في السجن أو في الدفاع عن الإنجيل وتأييده" (1: 7) تقابل "كان حسنًا أن تشاركوني في محنتي" (4: 14). "أحمد إلهي لمشاركتكم في خدمة الإنجيل من أوّل يوم إلى الآن" (1: 5) تقابل "منذ بداية الإنجيل، عندما تركت مكدونية، ما من كنيسة شاركتني في حساب الأخذ والعطاء إلاّ أنتم وحدكم" (4: 15).
هذه الملاحظات وهذه المقابلات تدفعنا إلى القول إنّ فل رسالة واحدة، وإنّ ما يقوله الشرّاح عن وجود رسائل ثلاث يبقى مجرّد افتراض لا يساعدنا على فهم كتابات القدّيس بولس.

هـ- مضمون الرسالة إلى أهل فيلبّي
نصّ فل ثابت وهو يكاد يكون كاملاً في برديّة تعود إلى بداية القرن الثالث. أمّا المخطوطات الثلاث ذات الحروف الكبيرة التي تعود إلى القرنين الرابع والخامس فهي تتضمّن النصّ كلّه.
كتب بولس إلى كنيسة يعرفها وتعرفه، فبدا صديقًا يكتب إلى أصدقائه في المسيح. ولهذا لن نبحث عن تصميم منسّق بل مواضيع ترافق فكره المهتمّ بأمر كنيسة أحبّها وأحبّته.

1- العنوان (1: 1- 2)
كتب بولس وتيموتاوس إلى القدّيسين الذين في فيلبّي، وإلى الأساقفة والشمامسة. نحن أمام جماعة منظّمة فيها المؤمنون وفيها المسؤولون.

2- صلاة الشكر (1: 3- 11)
هي أطول صلاة شكر نقرأها في رسائل القدّيس بولس. يصلّي الرسول من أجل قرّائه (آ 4) ويهنّئهم لمشاركتهم في الإنجيل (آ 5). وعبارة "دومًا" وفي "كلّ وقت" تدعونا إلى نظرة إسكاتولوجيّة (1: 6، 9- 11). وهكذا بعد شكر أوّل (1: 3- 6) يبدي بولس حبّه (1: 7- 8) وينهي كلامه بصلاة من أجل أحبّائه (1: 9- 11).

3- بولس يعطي أخبارًا عن وضعه (1: 12-26)
رغم وجوده في السجن فالإنجيل يتقدّم (1: 12- 20). وها هو أمام اختيار: أن يموتَ ليكونَ مع المسيح، أو أن يبقى على قيد الحياة فيتابع عمله الرسوليّ (1: 21- 24). فاختار بولس الحياة وأعلن يقينه أنّه سيرى أهل فيلبّي من جديد (1: 25- 26).

4- ويتذكّر بولس وضع أهل فيلبّي (1: 27- 2: 18)
إذا أرادت الجماعة أن تبقى واحدة، فعليها أن تجاهد من أجل الإيمان بالإنجيل (1: 27- 2: 4). كلّ حياتها مؤسّسة على اتّضاع يسوع وارتفاعه (نشيد إلى المسيح). بعد هذا تسير الأمور نحو الأحسن للمسيحيّين في فيلبّي ولو أريق دم الرسول قربانًا لذبيحة إيمانهم وخدمته (2: 12- 18).

5- مشاريع (2: 19- 30)
اهتمّ تيموتاوس بدعوى بولس فسيبعثه الرسول إلى فيلبّي حالما تسنح الظروف (2: 19- 24). ولكنّه بانتظار ذلك أعاد إليهم إبفروديتس الذي حمل إلى الرسول المساعدة الماليّة. مرض إبفروديتس ووصل إلى الموت إلى أنّه شُفي فكان شفاؤه منبع فرح (25:2-30).

6- دفاع وتحذير (3: 1- 4: 9)
هنا تتبدّل اللهجة فيصبح الكلام هجومًا على المعارضين المرتبطين بالعالم اليهوديّ. فإن كان أحد يهوديًّا حقيقيًّا فهو بولس نفسه المختون في اليوم الثامن الذي هو من بني إسرائيل ومن عشيرة بنيامين (3: 3-6). ولكنّه عرف المسيح (3: 7- 11) فدفعه المسيح في مسيرة لم تنتهِ بعد (12:3-17). وقبل أن يعلن الرسول رجاءه وثقته (3: 20- 21) يرسل تحذيرًا آخر: "هناك جماعة كثيرة تسلك في حياتها سلوك أعداء صليب المسيح. هؤلاء عاقبتهم الهلاك، وإلههم بطنهم، ومجدهم عارهم، وهمّهم أمور الدنيا" (3: 18- 19). وهنا تأتي الخاتمة فتدعو المؤمنين إلى أن يثبتوا في الربّ.

7- شكر الله على عطاياه والسلامات الأخيرة (4: 10- 23)
يترك الرسول العنان لفرحه فيشكر الربّ ويشكر جماعة فيلبّي وينهي رسالته بالسلامات: "سلّموا على جميع الإخوة القدّيسين في المسيح يسوع. يسلّم عليكم جميع الإخوة القدّيسين هنا".

و- التعليم اللاهوتيّ في فل
لقد لاحظنا أنّ فل ليست رسالة تعليميّة مثل روم وكور. إنّها فيض حبّ مسيحيّ وشكر خرج من قلب الرسول وتوجّه إلى أحبّائه في فيلبّي. وبما أنّها من القلب فهي تتضمّن هنا وهناك نظرات عميقة تصل بنا إلى السرّ المسيحيّ.
إذا كانت فل كتبت في أفسس فسنجد فيها صدى لمشاكل كنيسة كورنتوس التي اهتمّ بها بولس في ذلك الوقت. وأخطر هذه المشاكل كان الوضعَ المتأتيَ عن وجود تحزّبات في الجماعة (1 كور 1: 11 ي). نجد انعكاسًا عن هذه الحالة عندما يدعو بولس أهل فيلبّي إلى الوحدة وإن كانت الانقساماتُ أقلَّ خطرًا عندهم ممّا عند الكورنثيّين. يردّد بولس كلمة "جميع" (1: 4، 7، 8، 25؛ 2: 17، 26؛ 4: 21) ليشيرَ إلى موضوع الوحدة ويقدّم تحريضين واضحين. الأوّل (1: 27- 28) يتعلّق بوحدة في مجابهة العدوّ الخارجيّ: "ثابتون بروح واحد وتجاهدون بقلب واحد في سبيل الإيمان بالإنجيل. لا تخافوا خصومكم في شيء". والتحريض الثاني الذي هو أكثر توسيعًا يطلب وحدة الأفكار والقلوب داخل الجماعة (2: 1- 5): "فتمّموا فرحي بأن تكونوا على رأي واحد وقلب واحد وفكر واحد منزّهين عن التحزّب والتباهي، متواضعين في تفضيل الآخرين على أنفسكم، ناظرين لا إلى منفعتكم، بل إلى منفعة غيركم".
ويتحدّث بولس عن المرحلة الواقعة بين الموت ومجيء المسيح. قال في 1: 23: "أرغب أن أترك هذه الحياةَ لأكون مع المسيح". وفي 2 كور 5: 8: "نفضّل أن نغترب عن هذا الجسد لنقيم مع الربّ". هذا يعني أنّنا لا ننتظر مجيء الربّ (1 تس 4: 13) لنختبر سعادة الاتّحاد بالمسيح.
وهناك تعليم مميّز عن القيمة الرسوليّة للحياة المسيحيّة. "واعملوا كلّ فيء بلا تذمّر ولا خصام حتّى تكونوا أنقياء، لا لوم عليكم وأبناء الله بلا عيب في جيل ضالّ فاسد، تضيئون فيه كالكواكب في الكون، متمسّكين بكلمة الحياة" (2: 14- 16). عرض حياة المؤمن اليوميّة بشكل كرازة فأوضح أفكارًا كانت مخفيّة في مقاطع أخرى. "لا تكونوا حجر عثرة لليهود أو غير اليهود ولا لكنيسة الله" (1 كور 10: 32). "تكون سيرتكم حسنة عند الذين في الخارج" (1 تس 4: 12). "اجتهدوا أن تعملوا الخير أمام جميع الناس" (روم 12: 17). مثل هذه التنبيهات تجد ما يقابلها في كو 4: 5: "كونوا حكماء في معاملة الذين في خارج الكنيسة" وفي أف 4: 15: "نعيش الحقّ في المحبّة" (رج تي 9:2- 10).
وتلفت انتباهنا الاستعارة العباديّة المستعملة في 2: 17. فضيق الرسول يبدو بشكل تقدمة تكمّل الذبيحة اليوميّة والدائمة للإيمان المسيحيّ. نجد هذه الفكرة في 2 تم 4: 6 وفي الرسائل الكبرى. ففي 1 كور 3: 16- 17 تبدو الجماعة التي أسّسها بولس بكرازته كهيكل الروح القدس والموضوع الجديد والنهائيّ للعبادة. وكلمة الله التي يتلفّظ بها الرسول هي تقدمة بخور تليها في الطقس اليهوديّ بركة الكاهن للشعب. ولكنّ أكملَ عبارةٍ عن هذا الموضوع نقرأها في روم 15: 16- 17 حيث يتكلّم بولس عن "النعمة التي وهبها الله لي حتّى أكون خادم المسيح يسوع عند غير اليهود وأن أخدم إنجيلَ الله ككاهن فتصير تقدمة غير اليهود مقبولة عند الله ومقدّسة بالروح القدس".
ويدخلنا بولس أيضاً في موضوع مدينة الله، فيعبّر عن واقع المسيحي الذي هو في العالم وليس من العالم. نقرأ في 1: 27: "أن تكون سيرتكم في الحياة لائقة بإنجيل المسيح". وفي 3: 20: "أمّا نحن فمدينتنا في السماء". ففي قرينة هذين النصّين نجد معارضة. ففي 1: 27 يشجّع بولس المرتدّين على أن يقاوموا الضغط الاجتماعيّ الذي يريد لهم أن يشاركوا في عبادة المدينة الرسميّة، فيذكّرهم بأنّهم منذ الآن مواطنون في مدينة جديدة ربّها المسيح وشريعتها الإنجيل. فواجباتهم كمواطنين في ملكوت المسيح أهمُّ من واجباتهم كمواطنين في رومة. ولكن تتبدّل النظرة في 3: 20. فمدينة المسيحيّين السماويّة لا تعارض مدينة رومة بل أرض إسرائيل. نحن في 2 مك 6: 1؛ 11: 25 أمام سلطة تيوقراطيّة تخضع لشريعة الله وعوائد الآباء. فالعلاقة الخاصّة مع الله تنتج عن اختيار ميّز هذه البلاد عن سائر بلدان الأرض، ولكنه بدا فوق سائر البلدان لأنّه يطال الذين يعيشون خارج حدوده. وهذا ما قاله بولس عن الحقوق السامية التي تتمتّع بها مدينة الربّ يسوع المسيح السماويّة. وتتحدّث الرسالة إلى أفسس عن رعيّة إسرائيل، ولكنّنا لا نجد معارضة بين اليهود والأمم. فالأمم ليسوا مرذولين من رعيّة إسرائيل (أف 2: 12)، لم يعودوا "غرباء أو ضيوفًا" بل مواطني القدّيسين" (أف 2: 19)، لأنّ المسيح الذي هو سلامنا جعل من الاثنين شعبًا واحدًا" (أف 2: 14) يملك مع المسيح في السماوات (أف 2: 6). وما يقابل موضوع مدينة الله نقرأه في غل (4: 25- 26): "أورشليم الحاضرة التي هي وبنوها في العبوديّة. أمّا أورشليم العليا فحرّة وهي أمّنا".

ز- النشيد للمسيح (2: 6- 11)
1- أصل النصّ
حين يتوسعّ بولس في حديثه إلى أهل فيلبّي يقحم نشيدًا ليتورجيًّا من أصل آراميّ وُجِدَ قبل بولس وارتبط بليتورجيّا العشاء الأخير. في هذا النشيد تمتزج صورة ابن الإنسان (دا 7: 1ي) بصورة عبد الله (أش 52: 13- 53: 12). ويركّز الشرّاح على تجرّد المسيح وامّحائه كأساس لشرح لاهوتيّ للتجسّد. تخلّى المسيح عن صورة الله وأخذ صورة العبد أي صورة البشر، فوصل إلى المجد عن طريق الاتّضاع. في هذا النشيد نرى الله والمسيح ونرى كيف أنّ المسيح صار ربّ الخليقة.

2- بنية النشيد وأهمّيته اللاهوتيّة
ميَّز الشرّاح في هذا النشيد ستّة مقاطع: ثلاثة منها تنشد اتّضاع ابن الإنسان (آ 6-8) وثلاثة تنشد ارتفاعه (آ 9- 11)
هذا النشيد هو أقوى تعبير عن التعليم البولسيّ على المسيح وهو أساس النظريّة الكرستولوجيّة الحديثة، عَنَيْتُ بها لاهوت الامّحاء (كينوسيس).
يعرض النشيد وجهين ليسوع على هذه الأرض، لا زمنين متعاقبين يفصلهما التجسّد، ليصل في النهاية إلى التمجيد.
ونتساءل: ماذا تعني "مورفي" أو الصورة؟ هل تعني الجوهر أو الطبيعة، الصورة أو الحالة؟ الصورة هي الجلاء الخارجيّ والمنظور للكائن. والمساواة مع الله، هل تعني طبيعة المسيح أو حالته الوجوديّة؟ ثمّ إنّ العبد "دولوس" لا يدلّ على العبوديّة، بل على وضع الخادم (العابد) تجاه الله.
لم يعد مساواته لله غنيمة. هل يملك هذه الغنيمة، هل سيملكها؟ وكيف نماثل بين المسيح وعبد الله، ونقابله مع آدم؟
ويأتي الفعل الأساسيّ "كينو" الذي يعني أفرغ، امّحى، تجرّد. من هنا نظريّة "كينوسيس": إنّ المسيح تجرّد بالتجسّد عن صفات خاصّة بالله (المعرفة الكلّيّة، الحضور الكلّيّ، القدرة الكلّيّة) محتفظاً بصفاته الإلهيّة كالقداسة والمحبّة والبرارة.
صار شبيهًا بالبشر... هذا يدلّ على أنّ المسيح ماثل البشر بشكل واقعيّ وتاريخيّ وكان الصليب قِمَّة تلك المماثلة. وستُبرز الآيات اللاحقة تمجيد يسوع دون أن تذكر بوضوح موضوع القيامة. قال النصّ: أعطاه الله الاسم الذي هو فوق كلِّ اسم. أي أعطاه اسمه بالذات، صار "كيريوس" أي الربّ وهو مرادف الكلمة العبريّة يهوه. ولهذا فسجود كلّ الخلائق يُتمّ نبوءة أشعيا (45: 23)، واعتراف إيمانهم (يسوع هو الربّ) يستعيد عبارة ليتورجيّة أساسيّة في الكنيسة الأولى. إنّ كلّ معاني كلمة الربّ في العالم الكتابيّ والهلّينيّ تجتمع لتعلن سموّ المسيح الممجّد.
أدخل بولس هذا النشيد ساعة نبّه جماعة فيلبّي إلى الأخطار التي تتعرّض لها: إنّ اعتراف الإيمان الحقيقيّ بسلطان المسيح الذي اقتناه بتجرّد تامّ حتّى موت الصليب، يتيح للمؤمنين أن يعرفوا كيف يتصرّفون كما يليق. كونوا على فكر المسيح، تخلّقوا بِخُلُقِ المسيح الذي تجرّد من ذاته وأخذ صورة العبد وتواضع، وأطاع حتّى الموت، الموت على الصليب.


- 3 -
الرسالة إلى أهل كولسّي

أ- كولسّي وكنيستها
كولسّي هي مدينة في فريجية من أعمال تركيا تقع في وادي ليكوس أحد جداول مياندريس وتبعد 15 كلم إلى الشرق والجنوب الشرقيّ من لاودكية و 200 كلم إلى الشرق من أفسس. وتؤلّف كولسّي مع لاودكية وهيرابوليس ثلاث مدن متّصلة بعضها ببعضها (2: 1؛ 4: 13، 15- 16). أقيمت هذه المدن في منطقة خصبة وعلى طريق هامّة تربط البحر المتوسّط بكليكية وسورية، فازدهرت واشتهرت. وهكذا يرد اسمُ كولسّي على طريق أحشويروش في تاريخ هيرودوتيس وعلى طريق كورش في تاريخ إكسينوفون. ولكنّ كولسّي ستصبح مدينة ثانويّة في عهد بولس، وستزول قيمتها في العهد البيزنطيّ، ولا يتذكّرها الناس اليوم إلاّ بسبب رسالة القدّيس بولس.
حين كتب بولس إلى أهل كولسّي، لم يكن بعد قد التقى بهم شخصيًّا. هم لم يروه بعيونهم (2: 1)، وهو لا يعرف إيمانهم إلاّ بما سمعه من الآتين من هناك (1: 4، 9). فطريق القدّيس بولس خلال سفرته الثانية إلى أفسس مجتازًا أواسط البلاد (أع 18: 23؛ 19: 1)، مرَّ في وادي هرموس إلى الشمال من ليكوس ومدنه. ولكن حين وصل إلى أفسس أقام فيها ما يقارب الثلاث سنين (أع 19: 8، 10؛ 0: 31). وكان يعظ دومًا فيجعل الإنجيل ينتشر في كلّ المنطقة القريبة من أفسس (أع 19: 10، 26). في هذا الوقت اجتذب إلى الإيمان فيلمون الذي من كولسّي (فل 1: 19؛ رج كو 4: 9) ونمفاس الذي من لاودكية (4: 15) وأبفراس مولود كولسّي (4: 12) الذي أَوْكَلَ إليه بولس أمر نشر الإنجيل في مدينته (1: 7) وفي المدن المجاورة (4: 13).
وتمرّ الأيّام ويُوضَع بولس في السجن. فيذهب إليه أبفراس ويحمل إليه محبّة الكولسّيّين (1: 8) ويخبره بالصعوبات الدقيقة التي تشغل باله (4: 12). حينئذ أخذ بولس القلم وكتب، فكشف عن الخطر، ووضع الأمور في نصابها. ولكنّ أبفراس لم يحمل الرسالة. أبقاه بولس بقربه (4: 12؛ فلم 23) وسلّم الرسالة إلى تيخيكس (4: 7) مولود تلك المنطقة ومعاون القدّيس بولس ورفيقه في الرحلة الرسوليّة الثالثة (أع 4:20).

ب- أين كتبت كو ومتى كتبت؟
حين كتب بولس كو كان في "القيود" (4: 3، 10، 18؛ رج 2: 1) والسجن. ولكن أيَّ سجن نعني؟ هل سجن قيصريّة فلسطين الذي قضى فيه بولس سنتين (58- 60، أع 33:23 ي؛ 27:24)؟ هل سجن رومة الذي جاء بعد سجن قيصريّة ودام سنتين أيضاً (61: 63، أع 28: 16، 30)؟ وهناك رأي ثالث يقدّمه الشرّاح الحديثون فيتكلّمون عن سجن أفسس الذي قيّد فيه بولس خلال الرحلة الرسوليّة الثالثة. لا يتكلّم سفر الأعمال عن هذا السجن، ولكنّ هناك إشاراتٍ عديدةً تجعل الشرّاح يؤكّدونه. ثمّ إنّنا نقرأ في مقدّمة كو اللاتينيّة: "كتبها حين كان مقيّدًا في أفسس". ولكن لا يبدو أنّ كو وأف كتبتا من أفسس قبل 1 كور و 2 كور وغل وروم. فأسلوب بولس في كو وأف يختلف عن أسلوبه في الرسائل الكبرى. وهو في كو وأف يقدّم نظرة تعليميّة تفترض أمورًا جديدة ونضوجًا فكربًّا. وإذا كانت أف تستعيد بعض أفكار روم فهذا يعني أنّه يستحيل أن تكون أف (وبالتالي كو المرتبطة بها) قد كتبت قبل روم.
هل يعقل أن تكون كو قد كتبت من قيصريّة؟ الأمر ممكن، لولا أنّ الفترة قصيرة لتفسّر توسّع فكر بولس بعد الرسائل الكبرى. ثمّ إنّ كو (المرتبطة مع أف) تدلّ على تقارب مع فلم: كلتاهما تتحدثان عن بولس الذي بعث أونسيمس (4: 9؛ فلم 12) وتذكران رفاقَ بولسَ أنفسهم (4: 10- 14؛ فلم 23- 24). هذا يعني أنّ كو وفلم تعودان إلى زمن واحد وترتبطان بقضيّة العبد أونسيمس الذي هرب من عند سيّده. فإلى أين هرب هذا العبد؟ إلى قيصريّة أم إلى رومة؟ بل إلى رومة. ثمّ إنّ بولس يقول لفيلمون إنّه يرجو أن يَرُدَّه الله إليه (فلم 22)، فهل يعقل هذا القول في رومة أم في قيصريّة حيث ينتظر بولس أن يتركها طالبًا مثوله أمام محكمة الإمبراطور (أع 25: 11- 12، 21، 25؛ 26: 32)؟ في رومة. بالإضافة إلى ذلك، ما كانت تسمح الحالة لبولس أن يقوم بنشاط رسوليّ في "قصر هيرودس"، في قيصريّة (أع 4: 3 ي). ولكنّ وضعه في رومة سمح له ببعض الأعمال الرسوليّة، فكان يرحّب هناك بكلّ من يزوره. وفي هذا قال بولس: "وَادْعُوا لنا أيضاً كي يفتح الله لنا باب الكلام فنبشّر بسرّ المسيح" (4: 3).
وهكذا نقول: إنّ كو كتبت في رومة خلال إقامة بولس في السجن سنة 61- 63، فإلى رومة ذهب أونسيمس ليفلت من ملاحقات سيّده. وفي رومة تمتّع بولس ببعض الحرّيّة (أع 28: 16) ليناقش في الأمور الدينيّة (أع 28: 17، 23، 30- 31) وليأمل في خلاص قريب لغياب متّهميه. وأخيرًا مرّت أربع أو ستّ سنوات على كتابة آخر الرسالات الكبرى، وهذا ما سمح لبولس أن يعمّق تفكيره اللاهوتيّ ويوسّعه. وماذا نقول عن رفاق بولس؟ إنّ أرسترخس (4: 10) وتيموتاوس (1: 1) اللذين كانا بقربه في أفسس (أع 19: 29؛ 20: 4؛ 1 كور 4: 17؛ 2 كور 1: 1) قد انضمّا إليه في رومة (أع 27: 2). أمّا لوقا (4: 14) فكان في فيلبّي حين كان بولس مقيمًا في أفسس (أع 16: 12- 17؛ 20: 5). ومرقس كان قد تركه قبل الرحلة الرسوليّة الثانية (أع 15: 37- 39) وما عاد يرافقه في أسفاره، غير أنّه التقاه في رومة (4: 10).
ما نقوله هنا قاله التقليد المسيحيّ القديم الذي اعتبر أنّ بولس كتب كو وأف وهو في رومة. ويعلن معظم الشرّاح أنّ هاتين الرسالتين كتبتا مع فلم في نهاية أسر بولس الأوّل سنة 62- 63. أمّا لماذا نقول في نهاية الأسر؟ ليكون لأبفراس الوقت الكافي ليعرف أنّ بولس في رومة، وليستطيع بولس أن يتحدّث عن الإفراج القريب عنه (فلم 22).
هل أفرج عن بولس وعاد إلى آسية الصغرى؟ هذا ما تقوله الرسائل الرعاويّة. ويمكن حينئذ أن يكون بولس قد عاد إلى الكنائس التي أسّسها وزار تلك التي لم ترَ وجهه مثل كنيسة كولسّي. ولكنّ هذا يبقى في عالم الافتراض.

ج- تصميم الرسالة إلى أهل كولسّي
1- العنوان (1: 1- 2)
نقرأ اسم المرسِل: بولس، رسول المسيح يسوع، وتيموتاوس. واسم المرسَل إليه: القدّيسين الذين في كولسّي.

2- فعل الشكر (3:1-8)
كلّ رسائل بولس (ما عدا غل، 1 تم، تي) تبدأ بفعل شكر. أمّا في كو (رج 1 تس 1: 2؛ 2 تس 1: 2) فنقرأ فعل الشكر في صيغة المتكلّم الجمع، لأنّ تيموتاوس يشاركه فيه. أمّا مضمون فعل الشكر هذا، فالإنجيل الذي كرز به أبفراس المشارك لبولس في عمله الرسوليّ. وهذه الكرازة قدّمت للكولسّيّين إيمانًا في المسيح يسوع ومحبّة لجميع القدّيسين ورجاء أُعدَّ لهم في السماوات.

3- صلاة (9:1-14)
ويحرّض بولس الكولسّيّين تحريضاً بشكل صلاة، فيدعوهم إلى ممارسة هذا الإيمان الذي قبلوه: ندعو لكم ونسأله تعالى... لتسيروا سيرة جديرة بالربّ.

4- النشيد للمسيح (1: 15- 20)
يبدو المسيح الإله الضابط الكلّ، صورة الله غير المنظور، الأوّل في الزمن، الأوّل في المكان، الأوّل في المرتبة والكرامة، رأس الخلق كلّه.

5- المسيحيّون في كولسّي ومساعي بولس (1: 21- 2: 3)
على الكولسّيّين بعد أن تصالحوا مع المسيح أن يثبتوا في الإيمان وأن لا يتحوّلوا عن رجاء الإنجيل الذي صار بولس خادمًا له (1: 21- 23). ويقول بولس إنّه يتألّم من أجل الكولسّيّين. وهو يتمّ من أجل الكنيسة في جسده ما ينقص من آلام المسيح. وهذا يعني أنّ حضور المسيح في خدمته يجعله مشاركًا في آلامه. ما ينقص لهذه الآلام يَتِمُّهُ في جسده من أجل الكنيسة. وما يريد أن يعلنه بولس هو "السرّ" الذي كُشف للقدّيسين وَسْطَ الوثنيّين (2: 24-29). أمّا الجهاد الذي يقوم به بولس فسيشجّع المؤمنين ليبلغوا الإدراك التامّ ومعرفة سرّ الله (2: 1- 3).

6- التحذير من التعاليم الغريبة (2: 4- 23)
يتمّيز النظام الدينيّ الذي يهدّد إيمان الكولسّيّين بأنّه: نظريّة دينيّة، وتشديد على أهمّيّة عناصر العالم (رج غل 4: 3، 9)، وقوّات ملائكيّة. وهذا النظام يتجاوز النظرات المعروفة في العالم اليهوديّ والعالم الهلّينيّ. فيردّ بولس: كلّ ملء اللاهوت يسكن في المسيح. وينهي بولس هذا القسم بنشيد (2: 6- 15): "محا ما كان علينا من صكّ للوصايا وألغاه مسمّرًا إيّاه على الصليب، وخلع أصحاب الرئاسة والسلطة وعاد بهم في ركبه ظافرًا". ويتابع القدّيس بولس: لا تقوم الحرّيّة المسيحيّة الحقيقة على ممارسات بشأن الطعام والشراب وبعض الأعياد (2: 16- 19)، ثمّ يطبّق هذا المبدأ على الكولسّيّين (2: 20-23): "فأمّا وقد متمّ مع المسيح متخلّين عن أركان العالم، فما بالكم... تخضعون لهذه الفرائض"؟
7- نداء إلى حياة مسيحيّة نشارك فيها المسيح القائم من الموت (3: 1- 4: 6)
ويبدأ بولس بنداء إلى حياة مسيحيّة: "فأمّا وقد قمتم مع المسيح، فاسعوا إلى الأمور التي في العلى حيث المسيح قد جلس عن يمين الله" (3: 1- 4). والتجرّد عن الإنسان القديم يعني التخلّي عن سلسلتين من خمس رذائل (3: 5-8). وسنقرأ فيما بعد (3: 12) لائحةً مؤلّفة أيضاً من خمس فضائل. ولكنّ بولس يتعدّى هذا المستوى ويعلن: "لا يونانيّ، ولا يهوديّ، لا أعجميّ ولا إسكوتيّ، لا عبد ولا حرّ، بل المسيح الذي هو كلّ شيء وفي كلّ شيء" (3: 10- 11). ويُوْصِيْ بولس بالمحبّة الأخويّة وبسلام المسيح ويعلن أنّ هذا ما يعنيه: البسوا الإنسان الجديد (3: 10). وهذه العلاقات الجديدة تصيب كلّ الحالات. فيحرّض بولس الزوجة والزوج والأولاد والأهل، والعبيد والأسياد (3: 18- 4: 1) ويدعوهم إلى الصلاة (4: 2- 4) ويعلّمهم كيف يتعاملون مع غير المسيحيّين (4: 5- 6).

8- سلامات جديدة (4: 7- 17)
سيحمل تيخيكس وأونسيمس (فلم 10- 15) أخبار الرسول إلى أهل كولسّي. ولكنّ بولس ليس وحده. فعه أرسترخس ومرقس ويسوع الملقّب بيوستوس ولوقا الطبيب وأبفراس، وكلّهم يبعثون بالسلام. لقد تعب أبفراس كثيرًا من أجل المسيحيّين في كولسّي ولاودكية وهيرابوليس فليسلّموا في لاودكية على نمفاس والكنيسة التي تجتمع في بيته (أو بيتها) (4: 15). ونقرأ تفصيلاً ثمينًا: بعد أن يقرأ الكولسّيّون رسالة الرسول فليبعثوا بها إلى المسيحيّين في لاودكية. وهؤلاء يرسلون رسالتهم الى الكولسيّين. وأخيرًا يأتي تنبيه إلى أرخبس: تَنَبَّهْ للخدمة التي قبلتها في المسيح (17:4؛ فلم 2).

9- سلام بولس بخطّ يده (4: 18)
هذا ما فعله بولس مرارًا ليبيّن صدق رسالة يوقّعها بيده (2 تس 3: 11؛ 1 كور 16: 21؛ غل 6: 11) فبولس لم يكتب بيده كو كما كتب الرسالة إلى فيلمون.

د- التعليم اللاهوتيّ في كو
هذه الرسالة هي ظرفيّة كغيرها من رسائل القدّيس بولس وهي تواجه خطرًا محدّدًا. هي لا تقدّم مقالةً لاهوتيّةً بل تعليمًا حيًّا يقف فيه بولس في ميدان الخصوم. ينطلق من موقفهم فيفكر ويغني طريقة تقديمه لإنجيل الخلاص. هو لا يردّد ما قاله في السابق ولا يقدّم تعليمًا كلّيّ الجدّة في كو. هو يستعيد عناصرَ من الرسائل السابقة أو من الكرازة المسيحيّة الأولى فينظّمها ويكيّفها على المشكلة الجديدة.
الموضوع الأساسيّ الذي يلفت انتباهنا هو سموّ المسيح في الكون. بما أنّ أهل كولسّي يهتمّون بقوًى سماويّةٍ تدير الكون، شاء بولس أن يبيّن أنّ المسيح يسمو عليها إطلاقًا. وهذا السموّ يعبّر عنه بالأوّليّة، ويؤكّد المرحلتين الكبيرتين من مراحل تاريخ الخلاص: الخلق والخلق الثاني.
منذ البدء، المسيح هو قبلها وهو يسمو عليها لأنّه به وله ولأجله (وهو صورة الله غير المنظور) خُلق كلّ شيء مع هذه القوى (1: 15-17). ونقرأ موضوع المسيح صورة الله في 2 كور 4: 4، وموضوع المسيح وسيط الخليقة في 1 كور 8: 6. ولكنّ نصّ كو يعطي لتأكيد وجود المسيح السابق قوّة ووضوحًا يجعلانه قِمَّةً في تعليم القدّيس بولس عن المسيح.
إنّ القوى السماويّة ترتبط بالمسيح في نظام الخلق وهي ترتبط به في نظام الخلاص فيدخلها في التكفير الشامل بدم صليبه (1: 18- 20). فالمصالحة بموت المسيح موضوع بولسيّ معروف (2 كور 5: 18- 20؛ روم 5: 1) ومرتبط بموضوع الفداء وغفران الخطايا (1: 14، 2: 13). أجل، لقد ارتبطت القوى السماويّة بعمل الخلاص البشريّ. ولسنا في حاجة إلى أن نفكّر في صراع بين فئات هذه القوى، أو في صراع بين الإنسان وهذه القوى. المهمّ أن نعرف أنّ هذه القوى يهمّها رجوع السلام بين الناس والله. وهذا الوجه يوضحه 2: 14- 15. حملت هذه القوى السماويّة الشريعة كما يقول التقليد اليهوديّ (غل 3: 19) فأخضعت الإنسان (غل 4: 2- 3) بالأحكام التي فرضتها عليه وبتأثيرها على خطيئته. ولكنّ المسيح دخ دين الخاطئ فألغى سلطان هذه القوى ووضع حدًّا لنظام الشريعة وأخذ من هذه القوى أداة تسلّطها. ولكنّ الشريعةَ رمزت إلى قوّة دينيّة شخصيّة. أمّا الآن فالذين يستثمرونها هم القوى وقد انكشفت (مذكورة في 1 كور 15: 24؛ روم 8: 38؛ أو تحت أساء أخرى، 1 كور 2: 8؛ فل 2: 9- 10). ولكنّها لعبت هنا لا دورًا عدائيًّا بل دورًا أراده الله فنظّمت الديانات السابقة للمسيح. أمّا الخطأ فهو أن نحافظ على نظام أُلغي. وهذا الخطأ هو واقع الكولسّيّين المتهوّدين الذين يُبرزون من جديد قيمة أحكام الشريعة.
المسيح هو رأسُ ورئيس هذه القوى (2: 10). هذا اللقب يعبّر عن أوّليّته ويجملها. وما يسنده هو انتصار الصليب على نظام الشريعة القديم وإقامة الملء الكونيّ في المسيح. الملء والكمال ليس فقط الجوهر الإلهيّ بل الكون كلّه أي اللاهوت والكون الذي أخذه بواسطة جسده. فالمسيح الإله والإنسان بالتجسّد الذي توّجته القيامة يضمّ في ملئه لا الله الذي يخلّص وحسب ولا البشر الخلّصين وحسب، بل كلّ إطار البشريّة الذي هو الكون بما فيه من قوى سماويّة.
انطلاقًا من هذه النظرة تتحلَّى كو بأفق كونيّ تتميّز به. وموضوع الاتّحاد بالمسيح يبدو في ضوء جديد. لا شكّ في أنّنا نجد في الرسائل السابقة المعطيات الأساسيّة: القرب إلى المسيح بالإيمان بالإنجيل (1: 4- 6، 23؛ 2: 5- 7)، اتّحاد بموته وحياته بواسطة المعموديّة (2: 12- 13؛ 3: 1- 3)، خلع الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد (9:3- 10). حياة مقدّسة لا عيب فيها بحضرته (1: 22) وكلّ التعليم الأخلاقيّ الناتج عنها (3: 5- 4: 6). هذا هو أساس اعتبارات القدّيس بولس. فهو لا يهتمّ بإطار الخلاص الكونيّ. لمّح إليه قليلاً في الماضي (روم 8: 19- 22) وتطرّق إليه هنا مدفوعًا بآراء الكولسّيّين، والهدف من كلامه أن يعيد الأنظارَ إلى المسيح الذي هو يَنبوعُ خلاصِنا الوحيد. إلاّ أنّنا نجد انطلاقًا من هذا الأفق الواسع نظرة جديدة: تشديد على وجهة الخلاص الجماعيّة. فالمسيحيّون مدعوّون في جسد واحد (3: 15)، وهذا الجسد هو الكنيسة (18:1، 24؛ رج 1 كور 6: 15؛ 11: 16-17؛ 12: 22-27؛ روم 12: 4- 5). يؤلّف المسيحيّون مع المسيح وبعضهم مع بعض جسدًا واحدًا. لأنّهم يرتبطون كلّهم بجسد يسوع الذي صلب وقام كبذار عالم جديد.
تشدّد كو على تسامي المسيح على القوى السماويّة فتميّزه عن الجسد (أي الكنيسة) الذي يُبنى على الأرض والذي يصير المسيح رأسه. هو يدير الجسد ويغذّي الجسد الذي هو كائن حيّ يتقبّل كلّ شيء من المسيح ولكنّه يتميّز عنه، وإنْ لم ينفصل، بفرديّته البنويّة.
وتتوقّف كو عند اختبار بولس الرسوليّ وارتباط الوثنيّين بالإيمان واقترابهم من المواعيد شأنهم شأن بني إسرائيل. هذا هو سرّ المسيح الذي ستتكلّم عنه مطوّلاً أف. فعبارة "السرّ" التي ابتكرها الفكر اليهوديّ الجليانيّ والتي تعني سرّ تخطيط الله الذي كان مخفيًّا وانكشف الآن، نجدها في 1 كور 2: 7-9 وروم 16: 25 ي. وهي تتفتح في رسائل السجن. فالسرّ منذ الآن هو دعوة الأمم إلى الخلاص: فالمسيح بينكم، وهو يحمل إليكم رجاء المجد الذي كان محفوظاً في الماضي لبني إسرائيل (1: 26 ي). يعرف بولس أنّه مرسل من أجل مخطّط الخلاص هذا (1: 23-26). لهذا فهو يعمل ويكدّ في خدمة السرّ (28:1-2: 1، 3:4) فيكمّل في جسده ما لم يستطع المسيح خلال حياته على الأرض أن يقاسِيَه من سعي رسوليّ. وإنّ بولس يقاسيه على خطى المسيح ومكان المسيح من أجل خدمة الجسد الذي هو الكنيسة (1: 26). فسرّ الخلاص الشامل الذي يُتمّ نحطّطَ الله، يخفي في نظر الرسول "كلّ كنوز الحكمة والمعرفة" (2: 3). لهذا يدعو قرّاءه إلى التأمّل في قصّة الله تأمّلاً عاقلاً وعلوًيا (1: 9؛ 2: 2؛ 3: 16). وهذه المعرفة الروحيّة التي ترتبط بالتقليد الكتابيّ وتعيد ما قاله بولس سابقًا (1 كور 1: 5؛ 13: 2؛ 2 كور 4: 6؛ روم 11: 33)، تتفتّح في نهاية حياته أمام أفق أوسع يدخل فيه المسيح فيجعله يتضمّن الكون.

هـ- الأزمة الكولسّيّة والآراء الفاسدة
نحن لا نعرف عن هذه الآراء إلاّ ما نجده في الرسالة، ولهذا لا نستطيع أن نقدّم عرضاً وافيًا ومنسّقًا عن هذا التعليم الضالّ. نلاحظ أوّلاً بعض الإشارات التي أثّرت على الجماعة وشكّلت لها خطرًا ملموسًا. فعلى الجماعة أن لا تنخدع (2: 4) وأن لا تقع في الفخّ (2: 8) بسبب الغرور الباطل القائم على سنَّة الناس وأركان العالم، وأن لا تخضع لنواحيَ وأحكامٍ تقول لها: "لا تأخذ، لا تذق، لا تمسّ" (2: 20- 21). أمّا ما يميّز هذه التعاليم المضلّة فهو: عبادة الملائكة (2: 18) والتعلّق بأركان العالم (2: 8؛ رج غل 4: 3)، المحافظة على الأصوام وعيد الهلال والسبت (2: 16)، والارتباط بأحكام عن المأكول والمشروب (2: 16، 21)، وعن حياة نسكيّة (2: 21)، وعن قساوة ضدّ الجسد (23:2).
فالنسك والعبادة تهيّئان لرؤية الملائكة (2: 18، 23) كما يقولون، ولكنّها ممارسة لا قيمة لها وهي ظلّ الأمور المستقبلة (2: 17). وهذه التعاليم المؤسّسة على نظريّات دينيّة متفلسفة (2: 8) وعلى تعاليمَ بشريّةٍ تودّ أن تتجاوز الإنجيل التقليديّ لتمنح الإنسان معرفةً أفضلَ للأسرار. فهل تقدر؟
ولكن من أين جاءت هذه الهرطقة؟ هناك آراء عديدة من نظرة يهوديّة تأثّرت بجماعة قمران، من عبادة وثنيّة شرقيّة يرافقها وجود كائنات سماويّة، من غنوصيّة حقيقيّة، أو من غنوصيّة مطعّمة بالنظريّات اليهوديّة.

الخاتمة
نشير في الخاتمة إلى أنّ كو قد استُعْمِلَتْ منذ بداية الكنيسة. فَذَكَرَتْهَا رسالة برنابا ورسائل أغناطيوس الأنطاكيّ. وأورد يوستينوس عبارة "بكركلّ الخلائق" التي سترد أيضاً عند آباء كثيرين انطلاقًا من إيريناوس. هذه الرسالة موجودة في لائحة مرقيون وقانون موراتوري. ومنذ القديم لم يشكَّ أحد في نسبتها إلى بولس. ولكنّنا سننتظر القرن التاسع عشر لينطلق بعض العلماء من الهرطقة التي يحاربها بولس، ومن التعليم عن المسيح، ومن اللغة والأسلوب، ومن علاقتها بأف، ليرفضوا الرسالة كلّيًّا أو جزئيًّا.
ولكنّ هذا المدّ الرفضيّ انحسر انحسارًا كبيرًا، وأخذ معظم العلماء يعودون إلى كو التي تقدّم لنا تعليمًا يعود إلى بولس نفسه.
- 4 -
الرسالة إلى فيلمون

يسمّي بولس المعمّدين "خليقة جديدة" (2 كور 5: 17). وإذا كان من خلافات في المجتمع فهي تزول أمام المساواة في المسيح الواحد. "لا يهوديّ ولا يونانيّ، لا عبد ولا حرّ، لا رجل ولا امرأة. فأنتم كلّكم واحد في المسيح يسوع" (غل 3: 28). وقال بولس أيضاً: "فنحن كلّنا، يهودًا كنّا أم غير يهود، عبيدًا أم أحرارًا تعمّدنا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا، وارتوينا من روح واحد". وقال في كو 3: 11: "فلا يبقى هناك يهوديّ أو يونانيّ، لا مختون أو غير مختون، ولا أعجميّ أو بربريّ، ولا عبد أو حرّ، بل المسيح الذي هو كلّ شيء وفي كلّ شيء". أمّا فلم فتتطرّق إلى واقع ملموس: أفلت عبد من يد سيّده والتجأ إلى بولس، فعمّده وأعاده إلى سيّده وتشفّع من أجله. آتُرَى بولس طبّق على هذا الوضع الحاضر الاعتباراتِ النظريّة التي قرأناها في رسائله؟ نحن لا نقرأ كلمة تطلب من فيلمون أن يحرّر عبده. لا بل سيكتب بولس للعبيد أن يطيعوا سادتهم في كلّ شيء في هذه الدنيا (كو 3: 22). وقال في 1 كور 7: 21- 22: "فإن كنت عبدًا عندما دعاك الله فلا تهتمّ. ولكن إن كان بإمكانك أن تَصِيرَ حُرًّا، فالأَوْلى بك أن تغتنم الفرصة. فن دعاه الربّ وهو عبد كان للربّ حرًّا، وكذلك من دعاه المسيح وهو حرّ كان للمسيح عبدًا".

أ- أين كتبت ومتى كتبت وإلى من كتبت؟
هناك تقارب بين فلم وكو، وهذا التقارب يدلّ على أنّ ظروف تأليف فلم هي ظروف تأليف كو. فبولس هو سجين في فلم (آ 9، 10، 13، 23) وفي كور (4: 3، 10، 18). ويشاركه في الكتابة تيموتاوس (فلم 1؛ كو 1: 1) ويحيط به خمسة رفاق (أبفراس، أرسترخس، مرقس، ديماس، لوقا). هم ذاتهم في فلم (23- 24) وفي كو (4: 10- 14). يذكر بولس في فلم 2 أرخبّس ويوجّه إليه كلمة في كو 17:4. وأونسيمس الذي يرافق تيخيكس إلى كولسّي (كو 4: 7- 9) هو موضوع الرسالة إلى فيلمون (آ 12).
هذه القرابة الدقيقة تدفعنا إلى القول إنّ فلم وكو كُتبتا في مكان واحد. دوِّنت كو في رومة خلال أسر بولس الأوّل، ودوّنت فلم في الوقت عينه وفيها يعبّر بولس عن أمله أن يُخلى سبيلَه (آ 22). كلّ هذا يعني أنّنا حوالي السنة 63 (رج أع 28: 30). قال بعضهم إنّ أونسيمس هرب من كولسّي ولجأ إلى أفسس ولكنّ هذا الرأي مردود بدليل ما قاله تقليد الآباء وآراء الشرّاح.
إلى من كتبت الرسالة؟ إلى فيلمون الذي من فريجيه بآسية الصغرى. وبما أنّ العلاقات وثيقة بين كو وفلم وبما أنّ موطن أونسيمس هو كولسّي على ما يبدو، فيكون فيلمون من كولسيّ أيضاً.
الكنيسة تجتمع إذًا في كولسّي، في بيت فيلمون (آ 2). هذا لا يعني أنه رئيس كنيسة كولسّي أو أسقفها بل أحد الأشراف الذي يُشْرِكُ إخوتَه في خيراته ونفوذه (آ 5- 7). بشّره بولس وردّه إلى الإيمان المسيحيّ (كما يقول في آ 19) في أفسس (أع 19: 10) واعتبره اعتبارًا كبيرًا فسمّاه "عزيزنا ورفيقنا في العمل". وكلّ هذه الرسالة تعكس ثقة وَوُدُّا بين بولس وفيلمون.
أمّا أبفيّة فتبدو أنها امرأة فيلمون، وأرخبّس فيبدو أنّه ابنه. وسيظهر اسم أرخبّس في كو 17:4 حيث يطلب منه بولس أن يتمّم الخدمة التي قبلها من الربّ.

ب- الظرف الذي كتبت فيه الرسالة
كان أونسيمس عبدًا لدى فيلمون. أساء إلى معلّمه (آ 18) فسرقه وتركه هاربًا إلى رومة حيث كان بولس سجينًا. هل بحث عن بولس أم التقى به صدفة؟ مهما يكن من أمر، فقد ارتدّ أونسيمس واقتبل سرّ العماد من يد بولس (آ 10). أحبّ الرسولُ محبّة خاصّة هذا الذي سمّاه "ابنه" والذي "ولده في القيود" فصار "كقلبه" (آ 12). أونسيمس ومعنى اسمه "المفيد" صار مفيدًا لبولس بحيث ما عاد يقدر أن يستغنيَ عنه بعد الخبرة (آ 11). ولكنّه ردّه إلى معلّمه تائبًا ومسيحيًّا مولودًا من جديد وهو يرجو من فيلمون أن يقبله لا كعبد بل كأخ حبيب (آ 16). كان بولس قد أراد أن يحتفظ بأونسيمس ليخدمه (آ 13)، ولكنّه رفض أن يفرض نفسه على فيلمون، فطلب العبد من سخاء سيده (آ 14) وهو مستعدّ أن يَفِيَهُ الأضرارَ التي سبّبها له أونسيمس. ولكنّ بولس يُفهمه بالإشارة أنّه مدين له بالكثير، بل مدين له بنفسه (آ 18- 19).
بولس هو سجين بسبب نشاطه الرسوليّ "سجين المسيح يسوع... في هذه القيود من أجل الإنجيل" (آ 1، 9، 13). أمّا شروط سجنه فهي خفيفة لأنّه يستطيع أن يستقبل تلاميذه وشركاءه في العمل الرسوليّ (آ 23- 24). في هذا السجن استقبل أونسيمس وبعث معه رسالة هذا هو تصميمها:
(آ 1- 3): العنوان والسلامات: من بولس إلى فيلمون وإلى الكنيسة التي تجتمع في بيتك.
(آ 4-7): شكر لله وتقدير لما يفعله فيلمون من أجل الإخوة.
(آ 8- 20): قلب الرسالة. بولس يتشفّع من أجل أونسيمس: أناشدك في أمر ابني أونسيمس الذي ولدته في الإيمان وأنا في القيود... فاقبلْه كما تقبلني.
(آ 21- 25): الختام. "يسلّم عليك أبفراس ومرقس"... والتمنّي الأخير: "لتكن نعمة الربّ يسوع المسيح مع روحكم".
هذه الرسالة تتوجّه في ظاهرها إلى شخص فرد وتحاول أن تحلّ مشكلة شخصيّة، ولكنّ العنوان يتوجّه أيضاً إلى "الكنيسة التي تجتمع" في بيت فيلمون، وهذا ما يجعلنا وكأنّنا أمام رسالة إلى جماعة من الجماعات. نجد فيها فعل الشكر في البداية والسلامات في النهاية. وهكذا يكتب بولس عبر فيلمون إلى كنيسة محلّيّة عارفة بالقضيّة التي تعالجها الرسالة ومهتمّة بالحلّ الذي يقترحه الرسول.
لا يشكّ بولس في سلطته الشرعيّة. فله الحقّ في المسيح أن يأمر (آ 8؛ 1 كور 7: 6، 17؛ 11: 34، 16: 1) فيلمون الذي جاء به إلى الإيمان، والجماعة التي أسّسها. له الحقّ أن يفرض الواجبات التي يمليها عليه ضميره الرسوليّ، هذا الحقّ يأتيه من الله مع الإنجيل الذي تسلّمه (غل 1: 11- 12؛ روم 1: 15؛ 15: 15- 16). ولكنّ بولس يعرف أن يتخلّى عن بعض الحقوق عندما يجد نفسه أمام خير الإنجيل وخير المؤمنين (1 كور 9: 15-18؛ 2 كور 11: 7). وهذا ما فعله هنا بسبب المحبّة التي تنعش قلب فيلمون. وثق بولس فما أمر بل طلب واستند إلى اعتبارات شخصيّة: عمره وهو أكبر من فيلمون، وضعه كسجين بينما فيلمون حرّ، الدَين الذي له على فيلمون. فهل يستطيع من نال مثل هذه العطية الثمينة (آ 19) التي قادته إلى المسيح أن يرفض طلبًا لبولس؟ وزاد الرسول: "أنِعش قلبي في المسيح" (آ 20).

ج- تعليم الرسالة إلى فيلمون
هذه الرسالة التي كتبها بولس بخطّ يده (آ 19) ليست مقالة عقائديّة أو أخلاقيّة. فلها طابع شخصيّ وظرفيّ وهي تكشف لنا ما في قلب الرسول من حنان.
ولكن من خلال هذه البساطة والمحبّة نحسّ بسلطة الرسول. فهو يضمّ إلى فيلمون الجماعة وله أن يأمرهم لأنّه سفير المسيح. إنّ فيلمون مدين له لأنّه رسول ويستطيع أن يطلب منه الطاعة ولكنّه لم يفعل. هو ما تخلّى عن سلطته الرسوليّة بل عرف أن يكون للكلّ (1 كور 9: 19-27) ليقنع سيّدًا أن يعامل عبده كأخ. أجل، لجأ إلى لغة الأخوّة في المسيح.
هذه الرسالة لا تتضمّن فقط عواطفَ بشريّةً، بل تعليمًا برسم لفيلمون واجبه أمام مسألة مهمّة هي مسألة العبوديّة.
كانت العبوديّة نظامًا أساسيًّا وداءً يتألّم منه العالم اليونانيّ والرومانيّ. كان العبد "شيئًا" ولم تكن له حقوق. فالسيّد الذي اشتراه يتصرّف به كما يحلو له: يرسله إلى العمل، يضربه، يعدمه الحياة. فإن هرب العبد أُمْسِكَ وأُعِيْدَ إلى سيّده فيعاقبه أقسى عقاب.
أشار بولس إلى مشكلة العبوديّة وانطلق من مبدأ الحياة الجديدة في المسيح. هو لا يطالب بإلغاء وضع اجتماعيّ منتشر في الإمبراطوريّة كلّها، بل يسعى إلى تحويل هذا الوضع. العبد يصير حرًّا في المسيح. لم يعد خاضعًا إلاّ للسيّد الحقيقيّ الذي هو المسيح.
لاشكّ في أنّ العلاقاتِ البشرّيةَ تبقى هي هي بين السيّد والعبد، ولكن على المستوى المسيحيّ صار الواحد أخًا للآخر يحبّه ويتعاون معه.
طلب بولس من فيلمون أن يعطيَه أونسيمس فكأنّه يطلب أن يحرّره من العبوديّة ليكون في خدمة المسيح ورسوله.
أجل وضع بولس المبدأ الذي يجدّد البُنَى القديمةَ من الأساس، أَلاَ وَهُوَ المساواة بين كلّ البشر في مصيرهم الأبديّ في خدمة الربّ الواحد. ونتيجة هذا المبدأ هي إزالة العبوديّة. وهذا ما حصل في الكنيسة وبها في المجتمع البشريّ بفضل خميرة المسيح.

خاتمة
هذه الرسالة من نتاج بولس: هذه هي لغته، هذا هو أسلوبه، هذا هو قلبه. هذا ما قاله الشرّاح ما عدا قلّة أرادت أن تلغيَ كو فبدأت وألغت فلم ولكنّ أقوالهم ذهبت هباء.
وبدت هذه الرسالة قانونيّة وقد أخذت بها الكنيسة منذ العصور الأولى. دافع عنها إيرونيموس ويوحنّا فم الذهب وتيودورس المصّيصي وغيرهم وحلَّت في قانون مرقيون بعد كو حالاً. ويعزو بعض الشرّاح الاحتفاظ بهذه الرسالة إلى أونسيمس نفسه الذي صار أسقفَ أفسس فيما بعد. هذا الرأي تسنده رسالة أغناطيوس الأنطاكيّ إلى أهل أفسس (وإلى أسقفهم أونسيمس) التي تعود في بعض مقاطعها إلى رسالة القدّيس بولس إلى فيلمون.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM