الفصل السابع الرسالة إلى أهل غلاطية

الفصل السابع
الرسالة إلى أهل غلاطية

الرسالة إلى أهل غلاطية هي ابنة معركة بين بولس وخصومه نستشفّ من خلالها طبعَ بولس الفائر، وغضبه وحنانَه واندفاعَه من أجل الإنجيل، وحبَّه للمسيح.
الرسالة إلى غلاطية رسالة قصيرة ولكنّها تحتلّ مكانة مرموقة بين رسائل القدّيس بولس. فهي تتيح لنا أن نحدّد مراحلَ حياة الرسول في خطوطها الكبرى. وهي تقدّم لنا "إنجيلاً" مركَّزًا على صليب الربّ يسوع، وتبيّن لنا الصعوباتِ التي جابهته في تثبيت رسالته وَسْطَ الوثنيّين. في هذه الرسالة يدافع بولس عن حرّيّة المسيحيّ تجاه الشريعة اليهوديّة ويقدّم للكنيسة الفتيّة الحرّيّة بالنسبة إلى كنيسة أورشليم.
الرسالة إلى غلاطية رسالة الحرّيّة والانفتاح. بما أنّ الله يخلّصنا بالإيمان بالمسيح، فلا يحقّ لإنسان أن يكون عبد شريعة ونظام ومؤسّسة مهما كانت عجيبة ومهـا بدت وكأنّ لا غنى عنها. إنّ بولس يدعونا إلى مغامرة الإيمان التي لا تحسب حسابًا للصعوبات وتهزأ بما يخيف الناس ولا تتعلّق بما يعطيه أمانًا هو أقرب إلى السراب منه إلى الحقيقة.
رسالة كتبت في جوّ المعركة، فاختلف الشرّاح منذ القديم في قراءتها. فلقد هاجم أغوسطينسُ إيرونيموسَ الذي حسب هذه الرسالةَ إخراجًا مسرحيًّا. وفي القرن السادس عشر رأى لوتر مؤسّس البروتستانتيّة في غل "عروس نفسه" فاستند إليها ليعلنَ التبرير في الإيمان ضدّ ديانة الأعمال. ولكنّ الشرَّاح فهموا ارتباط الإيمان بالأعمال من أجل حياة مسيحيّة متوازنة.
الرسالة إلى غلاطية رسالة دوّارة لا تتوجّه إلى كنيسة واحدة (مثلاً إلى تسالونيكي أو كورنتوس) بل إلى كنائسَ متعدّدة هي كنائس غلاطية. لم يكن في منطقة غلاطية مدينة هامّة بشّرها بولس، بل جماعات صغيرة مشتّتة ترتبط بعضها ببعض برباط الإيمان الجديد.

أ- غلاطية والغلاطيّون
تدلّ غلاطية على هذه الهضبات العالية في آسية الصغرى (تركيا الحاليّة) التي اجتاحها الغاليّون (أتَوا من غالية أي فرنسا الحاليّة) في بداية القرن الثالث ق م. فنهبوا دلفس (بمعبدها الشهير) واجتازوا البوسفور. وتابع هؤلاء المحاربون المقتدرون أعمال السلب والنهب قبل أن يقيموا في منطقة أنقرة التي صارت عاصمتَهم. وفي سنة 25 ق م أوصى أمينتاس، آخر ملوكهم، بمملكته إلى الرومان.
أقام الغاليّون مع سكّان البلاد الأصليّين وجمعوا آلهتهم مع آلهة الأم الخاضعة لهم واحتفلوا بأسرار اتيس وقيبليس. وسيكرّم الغاليون هذا الإله الراعي ولا يتورّعون أن يَخْصوا أنفسهم في احتفالات حماسيّة. وهكذا يبدو الختان عمليّة بسيطة تجاه هذه الطقوس الهمجيّة.
في زمن بولس، كانت غلاطية مقاطعة رومانيّة تضم غلاطية بحصر المعنى ومناطق أخرى ومنها بسيدية التي بشّرها الرسول خلال رحلته التبشيريّة الأولى (أع 13: 14 ي). ويشير لوقا إلى أنّ بولس حين رجع إلى أنطاكية مرَّ في الأماكنِ عينها التي بشَّرها يشدّد عزائم التلاميذ ويحثّهم على الثبات في الإيمان (أع 14: 21 ي). هذه الإشارة تقابل ما نقرأه في 13:4 (بشّرتكم أوّل مرّة).
ونتساءل: متى بشّرت غلاطية؟
لا يهتمّ لوقا اهتمامًا خاصًّا بتبشير غلاطية. ففي سفر الأعمال يكتفي بأن يقول مرّتين إنّ بولس اجتاز منطقة غلاطية. مرّة أولى خلال رحلته التبشريّة الأولى (أع 16: 6) ومرّة ثانية خلال رحلته التبشيرّية الثالثة (أع 18: 23).
أمّا بولس فيقدّم لنا إشاراتٍ ثمنية تجعلنا نستخلص المعلوماتِ الآتيةَ:
- كان الغلاطيّون الذين بشّرهم بولس من الوثنيّين.
- ما أراد بولس أوّلاً أن يتوقّف عندهم، لأنّ خطّته الرسوليّة كانت تدفعه نحو المدن الكبرى.
- ولكنَّ مرضاً خطيرًا أوجب عليه التوقّفَ هناك. ويمكن أن يكون المرض "تلك الشوكة في الجسد التي طلب بولس ثلاث مرّات أن يتخلّص منها" (2 كور 12: 7 ي). كان بإمكان هذا المرض أن يثير الاحتقار والقرف عند الناس الذين يحسبونه من فعل شياطين خطرين.
- أمّا الغلاطيّون فاهتمّوا ببولس اهتمامًا نادرًا. وبدل أن يشيحوا بوجوههم عن مرضه "ويبصقوا" لكي يحتموا من مصير سَيِّئٍ، استقبلوا بولس "كملاك من الله" أي كمرسل يتكلّم باسم الله (8:1).
- قال بولس إنّه بشّر الغلاطيّين مرّة أولى (4: 3)، ولمّح إلى أنّه زارهم مرّة أخرى على الأقل.
- تميّز ارتداد الغلاطيّين بفيض من مواهب الروح (3: 1- 5). ونحن نكتشف أيضاً نواة تنظيم جماعيّ، ولا سيّما وإنّ الغلاطيّين كانوا يقومون بحاجات من أوكل إليهم أمر التعليم (6: 6). فقد تكلّف هؤلاء المعلّمون (1 كور 12: 28) أن يفسّروا نصوص الكتاب المقدس، وإلاّ فكيف كان باستطاعة الغلاطيّين أن يفهموا براهين بولس. وكانت "كنائسهم" تجتمع في اليوم الأوّل من كلّ أسبوع وتدعى لأن تشارك في اللمّة من أجل القدّيسين في أورشليم (1 كور 16: 1- 2).
ونتساءل أيضاً: هل كتبت غل إلى غلاطية الشماليّة أو غلاطية الجنوبيّة؟ قال بعض النقّاد إنّها كتبت إلى غلاطية الجنوبيّة وأرادوا بذلك أن يؤالفوا بين ما قاله بولس في ف 1- 2 وما قاله القدّيس لوقا في أعمال الرسل. فالصعود الثاني إلى أورشليم الذي يشير إليه 2: 1- 10 يقابل حينذاك الرحلة التي يشير إليها سفر الأعمال. (11: 30؛ 12: 25) ليحمل اللمّة التي قرّرها أغابوس. وحدث أنطاكية (2: 11- 14) حصل قبل تنظيم الحياة المشتركة بين المؤمنين من أصل يهوديّ والمؤمنين من أصل وثنيّ (أع 15: 1 ي). في هذه الحال تتوجّه غل إلى المؤمنين في مدن أنطاكية بسيدية وإيقونية ولسترة، وتكون أولى الرسائل التي كتبها القديس بولس. ولكنّ هذا الرأي لا يفرض نفسه.
ولنتوقّفْ عند البراهين. الأوّل: تعوّد بولس أن يسمّيَ المناطق بالاسم المعروف في السياسة الرومانيّة. هذا صحيح. ولكنّ التسمية لم تكن محدّدةً ونحن نجد كتاباتٍ في عهد بولس تورد الأسماء القديمة التي حملتها المقاطعات. الثاني: لا يتكلّم أع 16: 6؛ 18: 3 عن كنائس أسّسها بولس في غلاطية الشماليّة. هذا صحيح، ولكنّ لوقا يهمّ خاصّة بالمدن الكبرى. الثالث: كان تيموتاوس (2: 3، 5) من لسترة (أع 16: 1) ومعروفًا في كنائس الجنوب. الرابع: شارك الغلاطيّون في اللمّة (1 كور 16: 1) ولكنّنا نقرأ في أع 20: 4 أنّ الموفدين هما غايوس من دربة وتيموتاوس من لسترة. الخامس: من السهل أن نتخيّل تدخّل المرسلين الآتين من أورشليم في المنطقة الجنوبيّة لا في المنطقة الشماليّة المعروفة ببرّ الأناضول.
وهناك من يقول إنّها وُجِّهَتْ إلى غلاطية الشماليّة ويقدّمون من أجل هذا برهانين أساسيّين. الأوّل: قال بولس في 1: 21: "ثمّ سافرت إلى بلاد سورية وكيليكية". ما كان قال هذا، بل كان قد زاد "وعندكم". ولكنّه لم يفعل. ولكن يردّ المعارضون: نشكّ في أن يُلْمِّحَ هذا النصّ إلى الرحلة الرسوليّة الأولى. الثاني: قال بولس في 3: 1: "أيّها الغلاطيّون الأغبياء". فلو توجّه إلى أهل إيقونية ولسترة لما كان قال لهم هذا الكلام. وعلى كلّ حال لا يُعطى اسمُ الغلاطيّين لأهل بسيدية. ويزيدون أنّ المسافة قريبة بين غل والرسالتين إلى كورنترس وهذا ما يجعل غل مكتوبة في مكدونية في نهاية خريف سنة 57 وموجهة إلى غلاطية الشماليّة.
ونتوسّع في هذا البرهان الأخير. هناك هجوم يهوديّ يحاربه بولس في غل وفي فل فيقول: "احترسوا من الكلاب، احترسوا من عمّال السوء، احترسوا من المختونين الكذبة" (فل 3: 2). ونحن شبه متأكّدين أنّ فل كتبت حين كان بولس أسيرًا في أفسس حوالي السنة 56. ثمّ إنّ بولس يهاجم هؤلاء "الرسل العظام" الذين يعتبرون نفوسهم عبرانيّين من بني إسرائيل ومن نسل إبراهيم (2 كور 11: 5، 22). والأمر ذاته نقرأه في فل 3: 5 حيث ينسب بولس إلى نفسه هذه الألقاب المجيدة "حسب الجسد" (فل 3: 4). ثمّ يرذلها باسم معرفة المسيح (فل 3: 8).
إذًا تجعلنا غل وفل 3 و 2 كور 10- 13 نشهد رسالة مضادّة يقوم بها اليهود ليردّوا إلى طاعة شريعة موسى مؤمنين ردّهم بولس إلى الإيمان المسيحيّ. ثمّ إنّ هناك تقاربًا بين غل وروم بحيث لا نقدر على القول إنّ فترة طويلة فصلت بين تدوين الرسالتين. فمسألة الشريعة تؤسس براهين بولس في غل وروم. وهكذا نستخلص أنّ غل كتبت في قلب الأزمنة اليهوديّة في نهاية إقامة بولس في أفسس أو في الخريف الذي قضاه في مكدونية بانتظار أخبار سارّة عن جماعة كورنتوس أي سنة 57.

ب- تعليم هؤلاء اليهود
يقدّم لنا بولس إشاراتٍ ضئيلةً عن جماعة اليهود "الذين يثيرون البلبلة بينكم" (1: 7). يتحدّث عنهم بولس باحتقار ويُلْمِّحَ إلى قائدهم في 5: 10: يزعم هؤلاء الناس أنّهم يستندون إلى يعقوب، أخي الربّ (2: 12). ولهذا اهتمّ بولس بأن يبيّن أنّه على اتّفاق مع يعقوب في ما يخصّ جوهر الأمور (1: 19؛ 2: 9).
أمّا هَدَفُ هذه المجموعة فهو أن يفرضوا الختان على الغلاطيّين (6: 13). فلا رسالة تتحدّث عن الختان مثل غل (يرد الفعل خمس مرّات والاسم 7 مرّات). أمّا برهانهم فبسيط: حصل إبراهيم على شريعة الختان كعلامة لعهد دائم بين الله ونسله (تك 17: 9- 14). إذًا لا يحقّ لأحد أن يطالب بميراث إبراهيم إلاّ المختونون.
والكرازة على الختان تفترض الاعتقاد بأنّ لعهد سيناء قيمة نهائيّة. هذا ما تفكّر به اليهوديّة عامّة. وفي هذا يقول فيلون المنتحل: "في سيناء سلّم الله شريعة العهد النهائيّة لأبناء إسرائيل وأعطاهم وصايا أبديّة لا تزول". وهل طلب هؤلاء اليهود أن يمارس المسيحيّون الجددُ الشريعة ممارسةً كاملة؟ يبدو أنّ الجواب هو كلاّ بدليل ما نقرأ في 5: 3: "وأشهد مرّة أخرى لكلّ من يختن بأنّه ملزم أن يعمل بأحكام الشريعة كلّها". هل هؤلاء الأعداء أشخاص تحرّروا من كلّ قيد وعاشوا على هواهم فحذّرهم بولس من "أعمال الجسد" (5: 19)؟ بل نحن هنا أمام تعليم تقليديّ يحرّض فيه بولس على حرب الروح ضدّ الجسد (رج روم 6: 1 ي).
ويشير بولس إلى هؤلاء اليهود إشارة مبتكرة في 4: 9- 10 فيقول: "كيف تعودون إلى العناصر الأوّليّة الضعيفة الحقيرة وتريدون أن تكونوا عبيدًا لها كما كنتم من قبل"؟ تراعون الأيّام والشهور والفصول والسنين مراعاة دينيّة".
نجد كلمة "عناصر" في كو 2: 8، 20. هي عناصر الكون المنسوبة إلى فلسفة البشر الخاطئة والمعارضة لمعرفة المسيح الحقيقيّة. ويورد بولس مثلاً: شرائع الأطعمة (كو 2: 20). وتتطرّق القرينة إلى تفوّق المسيح المطلق. فالقوى الوسيطة (الرئاسات، السلاطين...) التي جعلتها نظريّات ذلك الزمانِ بين الله الذي لا يدرَك وبين العالم المخلوق، قد زالت وخسرت كلّ دور لها بصليب المسيح (كو 2: 14).
لا نستطيع أن نقيس تعليم اليهود على تصوّرات الكولسيّين: فمسألة الشريعة اليهوديّة والختان تطرح في كو 2: 11- 15 وتُعتبر في الدرجة الثانية بالنسبة إلى مكانة المسيح في نظام الخلق والفداء. أمّا ما يسيطر في غل فهو المشاركة في بركة إبراهيم، دون أيّ تلميح إلى نظريّات خاصّة بالخلق. فإبراهيم يحتلّ مكانًا هامًّا في غل ولكنّه لا يُذكر في كو.
إذًا يفهم بولس كلمة "عناصر" في غل بمعناها البسيط: أنها تعليم بدائيّ (رج عب 5: 12) وناقص وقريب من الممارسات الوثنيّة (رج 4: 3، 9). ففي الحالتين يلفت النصّ انتباهنا إلى روزنامة: يُستعبَد الإنسان لقوى الطبيعة ولكائنات علويّة (الملائكة بالنسبة إلى اليهود، الآلهة بالنسبة إلى الوثنيّين) تسيطر على مساره وتبعده عن الإيمان بالمسيح الذي هو الوسيط الوحيد بيين الله والبشر.
كانت جماعة قمران تعتبر الروزنامة موحاة وانعكاسًا لروزنامة سماويّة. فإن لم نتبعها صارت عبادتنا باطلة لأنّها لا تتمّ في الوقت الذي تتمّ فيه خدمة الملائكة في السماء. وهكذا فكرَّ يهود غلاطية أيضاً.
ويرتبط هجوم اليهود في غلاطية بدعاوة جماعة الغيورين الذين حاولوا أن يجمعوا كلّ اليهود من أجل المقاومة ضد رومة. وهكذا خلط المسيحيّون الذين من أصل يهوديّ قضيّةَ الله بقضيّة أورشليم.
فإن أعلن هؤلاء الختان على مرتدّي بولس فهم ينتزعون سلاحًا يستعمله اليهود ضدّ مسيحييّ أورشليم الذين يعتبرونهم إخوة كذبة (6: 12). بما أنّ الشريعة الرومانيّة تحامي عن الدين اليهوديّ، فإدخال المسيحيّين بالختان في العالم اليهوديّ موقف يدلّ على فطنة سياسيّة. ومهما يكن من هذه الافتراضات فالخصوم الذين يحاربهم بولس هم مسيحيّون لا دعاة يهود. ولكنّهم مسيحيّون لم يفهموا ما حمله إليهم المسيح من جدّة وجذريّة، ولم يتأمّلوا في سرّ الصليب. هم مسيحيّون تعلّقوا بشخص يسوع كمسيح وكملك لإسرائيل. إذًا لا يُفهم برهان بولس إلاّ من الوجهة المسيحيّة وقد أراد أن يبيّن أنّ الشموليّة تنبع من الصليب الذي يكفي وحده للخلاص.
هل اقتنع الغلاطيّون بكلام القدّيس بولس؟ إن بولس لم يكتب لهم مرّة ثانية. أمّا بطرس فبعث برسالة دوّارة وجّهها إلى مسيحيّي آسية الصغرى وبالأخصّ مسيحيّي غلاطية (1 بط 1: 1). ولكنّه لا يشير إلى مسألة الشريعة، بل يعتبر المسيحيّين إسرائيلَ الحقيقيّ "نسلاً" مختارًا وجماعة الملك الكهنوتيّة وأمَّة مقدّسة وشعبًا اختاره الله (1 بط 2: 9). لقد انتقلت امتيازات إسرائيل القديم إلى الذين آمنوا بالمسيح الحجر الحيّ وأساس هيكل الله بقيامته (1 بط 2: 4 ي).

ج- المسائل التي تتطرّق إليها غل
1- الختان
انتشر الختان في العالم القديم وكان في الأصل طقسًا استعداديًّا للزواج وللحياة داخل العشيرة. وستُبرز الأسفار التاريخيّة احتقار بني إسرائيل للفلسطيّين غير المختونين دون أن تعطيَ الأساس الدينيّ لهذه الممارسة. أمّا إرميا فيستعمل الكلمة بشكل استعارةَ ويدعو معاصريه لأن يختنوا قلوبهم (إر 4: 4) وآذانهم (إر 6: 10) ليسمعوا كلمة الله. وستنتقل العبارة إلى سفر التثنية لتعنيَ أنّ الله يقدر وحده أن يختن القلوب من أجل حبّ حقيقيّ وأمين (تث 6:30).
بعد المنفى اتّخذ الختان أهمّيّة أولى. فبعد انهيار البنى السياسيّة وتبدُّد بني إسرائيل، أحسّ المؤمنون بالحاجة إلى أن يرفعوا قيمة علامات الانتماء إلى الشعب المختار. من أجل هذا جعل التقليدُ الكهنوتيُّ الختانَ علامة العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم ونسله إلى الأبد. "هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم أي بين نسلك من بعدك: يُختن كلّ ذكر منكم: تختنون القلفة من أبدانكم، ويكون ذلك علامة عهد بيني وبينكم... فيكون عهدي في أبدانكم عهدًا مؤبّدًا" (تك 17: 10-13).
ويعلن الفصل ذاته أنّ العبد العائش في البيت يُختن، وهذا شرط أساسيّ ليشارك في عشاء الفصح (خر 12: 44). وستُطبّق هذه الفرائض على المهتدين حديثًا من أجل دخولهم في جماعة إسرائيل (يه 14: 10: أحيور). وتعلّقُ اليهود بالختان سيدفع بعضَهم إلى الموت في أوان اضطهاد أنطيوخس إبيفانيوس (167- 164 ق م. رج 1 مك 1: 6؛ 2 مك 6: 10). وهكذا صار الختان علامة الانتماء إلى الشعب المختار. وفي هذا قال كتاب اليوبيلات (سفر منحول دوِّن حوالي سنة 125 ق م): "من لم يُختن في اليوم الثامن لا يخصّ أبناء العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم، بل أبناء الدمار لأنّ لا علامة فيه تدلّ على أنه يخصّ الربّ... مصيره الدمار... لأنّه نقض عهد الربّ إلهنا. فكلّ ملائكة الحضور (رؤساء الملائكة السبعة)، وكلّ ملائكة التقديس خُلقوا هكذا منذ يوم خلقهم".
وهكذا تقدّس الختان، وبه وبالروزنامة المقدّسة شارك مؤمنو الأرض في الليتورجيّا السماويّة. ولقد عاصر كتابُ اليوبيلات الأحبارَ الحشمونيين الذين فرضوا الختان على الأدوميّين. ونحن نجد صدًى لهذه الممارساتِ التسلطيّةِ في زيادة يونانيّة على كتاب أستير: بعد أن انتصر مردخاي خضع كثير من الوثنيّين للختان وصاروا يهودًا خوفًا من اليهود.
ولكنّ الشعب لم يخسر المعنى النبويّ للختان. فقاعدة الجماعة القمرانيّة تفرض على المؤمنين أن يختنوا "قلفة ميلهم الشرير ورقبتهم القاسية ليضعوا أساس الحقّ من أجل إسرائيل". وربطت وثيقة دمشق بين الالتزام في الجماعة واهتمام إبراهيم بممارسة الختان حالما أمره الرب به.
وكان لدم الختان قيمة عظيمة، وقد ارتبط بدم الذبيحة. فهكذا عفا الله عن بيوت بني إسرائيل في ليلة الفصح، لا لأنّهم حافظوا على الشعائر، بل من أجل الختان.
اهتمّ يهود فلسطين بالختان ولم يكن اهتمام يهود الشتات أقلّ من أهتمامهم. من أجل هذا طُرحت المسألة منذ بداية الرسالة المسيحيّة: هل نختن الوثنيّين أم لا؟ وكان جواب الرسل: لا نضع على رقاب التلاميذ نيرًا عجز آباؤنا وعجزنا نحن عن حمله، خصوصاً ونحن نؤمن أنّنا نخلص بنعمة الربّ يسوع كما هم (أي الوثنيّون) يخلصون (أع 15: 10 – 11).

2- الانفصال بين اليهود والوثنيّين
تعطي التوراة أهمّيّة كبيرة لشرائع الطهارة التي تُبرز في الحياة اليوميّة دعوة بني إسرائيل "كأمّة مقدّسة وشعب مختار" (خر 19: 5- 6). من الصعب أن نتحقّق من الوضع الحقيقيّ فيما يخصّ العلائق اليوميّة بين اليهود والوثنيّين، لأنّ النصوص تقدّم مثالاً لا تتيح الحياة اليوميّة بممارسته، ولا سيّما في المناطق التي يمتزج فيها السكّان. ولهذا نكتفي ببعض اللمحات القصيرة.
بعد انتشار الثقافة الهلّينيّة واضطهاد أنطيوخس إبيفانيوس، برز تصلّب في موقف اليهود تجاه الأمم. فتعمّمت شرائع الطهارة حسب نظرة الفرّيسيّين: فما فرضته الشريعة على الكهنة حين يخدمون الهيكل، صار واجبًا على كلّ أعضاء الشعب أن يحفظوه. ومن لا يفرض على نفسه هذا النظامُ يعامَل باحتقار ويُعتبَر ملعونًا لأنّه لا يحفظ الشريعة.
ولقد اتّخذ عزرا موقفًا متشدّدًا في ما يتعلّق بالزواجات، فأجبر اليهودَ على أن يُبْعِدوا نساءهم الغريبات مع أولادهنّ. واعتبر تقليدُ الرابّانيّين المرأة الغريبة نجسة. إنّها تدنّس زوجها لأنّها لا تحفظ القواعد التي وضعها موسى. ولكنّ التشريع يسهّل الأمور للنساء اليهوديّات اللواتي يتزوّجن رجالاً وثنيّين. فأولادهنّ يهود، وهذا ما يفهمنا موقف بولس حين ختن تيموتاوس ليدخله في المجامع (أع 16: 3). لقد كانت أمّه يهوديّة.
لا تتضمّن التوراة أيّ ترتيب يتعلّق بالطعام الذي يأخذه اليهوديّ مع الغرباء. أمّا سفر اليوبيلات فيبدو متشددًّا. "قال إبراهيم ليعقوب: انفصِلْ عن الأمم ولا تؤاكلْهم. لا تعمل مثل أعمالهم ولا تكن شريكًا لهم. فأعمالهم نجسة وكلّ طرقهم قذارة ورجس ودنس".
ولقد كان يهود الشتات متشدّدين، شأنهم شأن اليهود المقيمين في فلسطين. لقد كان يهود الإسكندرية خاضعين لملك مصر خضوعًا تامًّا، ولكنّهم أقاموا في حيّ خاصّ بهم (3 مك 3: 4). وفي قصّة يوسف واسنات، كان يوسف لا يؤاكل المصريّين معتبرًا مائدتهم رجسًا. ولقد برّرت رسالة أرستيس موقف المؤمنين على الشكل التالي: "أراد المشترع أن يمنع عنّا الاتّصال الدنس ومعاشرة أناس شائنين لئلا نفسدَ، فأحاطنا بسلسلة من الفرائض المتعلّقة بالطهارة: الطعام، الشراب، الاتّصال، السمع، النظر... كلّ هذا كان موضع تشريع".
هنا نفهم موقف "حزب الختان" (2: 13) في أنطاكية. أرادوا أن يحافظوا على قداسة الشعب المختار. ولكنَّ بولس لم ير رأيهم. رأى أنهم لا يسيرون سيرة مستقيمة مع حقيقة الإنجيل، فثار ثائره وقال لبطرس: "إذا كنت أنت اليهوديّ تعيش كغير اليهود لا كاليهود، فكيف تُلزم غير اليهود أن يعيشوا كاليهود" (2: 14)؟

3- إبراهيم في الديانة اليوديّة
تحيط الديانة اليهوديّة إبراهيم بهالة من الإكرام. حين يتكلّمون عن موسى يسمّونه "معلّمَنا"، ولكنْ حين يتكلّمون عن إبراهيم يسمّونه "أبانا" (أش 51: 2، رج يع 2: 2). ولقد رسم كلّ عصر لوحة روحيّة عن أبي المؤمنين. وسنكتفي هنا ببعض إشارات تلقي الضوء على موقف اليهود الذين هاجمهم بولس في غل.
إبراهيم هو من حفظ الشريعة. ندهش لهذا المديح، والشريعة أعلنها موسى بعد إبراهيم بأجيال. إلاّ أنّ تقليد الرابّانيّين يستند إلى إشارة في تك 26: 5 فيبيّن أنّ إبراهيم خضع مسبقًا للشريعة. "بارك الله إبراهيم في كلّ شيء، لأنّ إبراهيم أبانا أتمّ كلّ الشريعة يوم لم تكن أعطيت بعد".
التوراة هي أوّل كلّ شيء. والآباء ليسوا أوّلاً أناسًا آمنوا بالوعد بل أناسًا أطاعوا الشريعة. في هذا الإطار تبرز قيمة الختان. ويورد التقليد المحن التي تجاوزها إبراهيم منتصرًا عليها. يشير ابن سيراخ (44: 20) إلى ذبيحة إسحق التي تحتلّ مكانة رفيعة في الديانة اليهوديّة، ويربط مواعيد الله بهذه الأمانةِ البطوليّةِ (تك 22: 15- 18). ويذكر سريعًا بركات الأمم ليشدّد على نسل إبراهيم الذي وعده الله بأرض لها حدود مثاليّة (رج مز 72: 8؛ زك 9: 10).
ويتضمّن كتاب اليوبيلات سيرة حياة إبراهيم. وُلد من أب وثنيّ واكتشف بتأمّل السماء أن ليس إلاّ إله واحد، فرمى في النار أصنام أبيه. ولم ينج هو من النار إلاّ بعجيبة على مثال الأولاد الثلاثة الذين طرحوا في النار (دا 3: 1 ي). ما عرف في أيّ اتّجاه ينطلق. أيبقى في حاران أم يعود إلى أور الكلدانيّين؟ حينئذ توجّه إلى الله في صلاة حارّة. فأُرسلت إليه كلمة الربّ: "اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أدلّك عليها" (تك 12: 1- 3). شدّد سفر التكوين على أنّ نداء الله برز فجأة. أمّا في كتاب اليوبيلات فقد استعدّ إبراهيم ليكون ينبوع بركات بصلاته وجهاده من أجل الإله الحقيقيّ. وهكذا تكلّم النصّ عن استحقاق إيمان إبراهيم. وعلى هذا الاستحقاق يشهد الترجوم الفلسطينيّ: "باستحقاقاتك تتبارك كلّ عشائر الأرض (تك 12: 3). آمن إبراهيم باسم كلمة الربّ فحسب له ذلك برًّا" (تك 15: 6). وارتبطت بإيمان إبراهيم هذا، معجزاتُ الخروج كما نقرأ في شرح خر 14: 15: "الإيمان الذي به آمن إبراهيم بي استحقّ أن أشقّ لكم البحر كما قيل: آمن بالربّ فحسب له الربّ هذا برًّا". أوشك هذا الاعتقاد باستحقاقات إبراهيم أن يولِّد عند نسله طمأنينة خاطئة. لهذا هاجم يوحنّا المعمدان هؤلاء اليهود المفتخرين بأبيهم (مت 3: 9). ولقد أشار يوستينوس في حواره مع تريفون (القرن الثاني ب م) إلى هذا الرجاء فقال في الحوار الأربعين: "ينخدع معلّموكم معكم حين يفكّرون أنّ الملكوت الأبديّ يعطى من دون شرط للذين هم من زرع إبراهيم حسب الجسد ولو كانوا خطأة وكافرين وعاصين لله".
ويقدّم فيلون الإسكندرانيّ حياة إبراهيم بطريقة مبتكرة. ففي تفاسيره الرمزيّة يتوسعّ بمناسبة حديثه عن حياة الآباء في انطلاقة الإنسان نحو الله. ترك إبراهيم الكلدانيّ أرض العالم المحسوس وهاجر إلى إلى أرض الحكمة ولكنّه لم يدرك الكمال. فهذا أعطي لإسحق الذي يعني اسمه الضحك، والذي يمثّل الكمال وذلك الذي له الحكمة الفطريّة. وإليكم كيف يشرح فيلون تك 6:15:
أعلن الكاتب الملهم: "آمن إبراهيم بالله" فامتدح الذي أعطاه إيمانه. ولكن ربّما تقولون: "أتفكّرون أنّه كان لهذا أهلاً للمديح؟ فمن لا يعطي انتباهه حين يتكلّم الله ويَعِدُ"؟ ويزيد فيلون: "هذا ليس من السهل بسبب قرابتنا إلى الجزء المائت الذي نرتبط به. وهذا الرباط يقنعنا أن نعتقد بالخيرات المادّيّة، بالمجد، بالسلطة. لنتنقّ من كلّ هذه الخيرات ولنسحب ثقتنا من عالم الصيرورة لأنّه في حدّ ذاته ليس أهلاً للثقة. هذا هو عمل عقل عظيم لا تغويه كلّ خيرات هذه الأرض. أنه على حقّ حين يقول: حُسب له إيمانه برًّا. فلا أبَرَّ من أن يكون للإنسان تجاه الله وحده إيمان نقيّ لا مزج فيه".
يُبرز هذا النصّ وجهاتِ الإيمان لدى فيلون. موضوعه الاعتراف بالله الواحد، علّة الكون وعنايته. وهو ملء الرجاء والثقة. سيقول فيلون إنّ الإيمان أثبتُ كلّ الفضائل لأنّه يستند إلى ثبات الله عينه. مثل هذا التعليم ستردّده الرسالة إلى العبرانيّين (ف 11)، ولكنّه يختلف عن تعليم بولس الذي يربط الإيمان مباشرة بذبيحة المسيح الفدائيّة وبالتبرير.
وينهي فيلون مقالته عن حياة إبراهيم فيبرز محافظته المسبقة على الشريعة. وإليك كيف يفسر تك 26: 5: "لم يحصل على تعلّم النصوص المكتوبة. ولكن دفعته الفطرة (غير المكتوبة) فاهتمّ بأن يتبع وثبات سليمة لا عيب فيها. هذه هي سيرة الأوّل (مؤسّس النسل) وهي سيرة تطابق الشريعة التي هي دستور غير مكتوب".

4- إكرام الشريعة في الديانة اليهوديّة
الشريعة أو التوراة تدلّ على توصيّة وتعليم وشريعة. في البداية التوراة هي جواب الكاهن لمن يسأله سؤالاً في المعبد (تث 33: 10). ثمّ عنت التوراة مجموعة الفرائض (شريعة الذبائح). ولكنّ الأنبياء احتفظوا بمعنى التعليم (إر 31: 33، الشريعة المكتوبة في القلوب). وحين أعلن عزرا توراة موسى (نح 8: 1 ي) حدّد معاني الكلمة: خمس كتب البنتاتوكس. واتّسع معنى الكلمة فدلّ على كلّ العهد القديم أي الشريعة والأنبياء والكتب. فالشريعة في نظر اليهوديّة هي الجزء الجوهريّ، والجزء يعطي اسمه للكلّ.
وبسبب أهمّيّة الشريعة سُمّيت الديانة اليهوديّة ديانة الشريعة. هنا نفهم مهاجمة يسوع للفرّيسيّين وكلام بولس عن التبرير بالأعمال. ولكن إذا أردنا أن نتعرّف إلى اليهوديّة، يجب أن لا نكتفيَ بقراءة المشناة (مجموعة القوانين)، بل نتعرّفَ إلى سائر الكتب التي لا تحتوي الفتاوى الدقيقة وحسب، بل تتضمّن روحانيّة حيّة. إليك هذه الجملة المأخوذة من مز 119: 1: "طوبى للذين سلوكهم بلا عيب، للذين يسيرون في شريعة الربّ".
وتأمّل ابن سيراخ في أصل الحكمة على خطى الحكماء فعرض الشريعة التي كتبها موسى كتجسيد للحكمة التي جاءت إلى إسرائيل مثل نهر الفردوس (سي 24: 23- 24). وقدّمها على أنها "شريعة الحياة" (سي 17: 11)، شريعة الحياة والعقل (سي 45: 5). ولعب معلّمو الشريعة دورًا رئيسيًّا حين علّموا الشعب أنّهم بها يحصلون على الخلاص.
الشريعة هي في قلب الحياة اليهوديّة. ويعبّر الرابّانيّون عن عظمتها فيعدّدون رموزها. ولنعط مثلاً هذا التفسير لنص تث 33: 2: "من يمينه تتفجّر لهم دفقات نور. ينبّهنا الكتاب أنّ كلمات الشريعة تشبهُ النور. فكما أنّ النور أعطي من السماء، كذلك أعطيت كلمات الشريعة من السماء. وكما أنّ النور حياة للعالم، كذلك كلمات الشريعة حياة للعالم".
أُعلنت الشريعة على سيناء وهي لا تتبدّل، وكلماتها لا تزول. وفي الحرب بين ذرّيّة المرأة والحيّة، تكون الشريعة الملاذَ الوحيد كما يقول الترجوم الفلسطينيّ في تك 3: 15: "أجعل عداوة بينك وبين المرأة، بين أبنائك وأبنائها. وحين يحفظ أبناؤها الشريعة (وهذا ما وجب على آدم أن يفعله حسب ترجوم تك 2: 15) ويتمّمون الوصايا يصيبونك ويحطّمون رأسك ويقتلونك. ولكن حين يهملون وصايا الشريعة تصيبينهم، تغضبيهم وتحرجينهم. ولكن سيكون دواء لأولادها لأنهم مهيّأون لأن يصنعوا السلام في النهاية، في يوم الملك المسيح".
أمّا تفسير بولس لنصّ تك 3 فهو يتعارض جذريًّا وهذا التفسير. فالوصيّة هي سبب الخطيئة والموت (روم 5: 12- 21) "لأنّ الوصيّة التي هي للحياة قادتني أنا إلى الموت، لأن الخطيئة اتّخذت من الوصيّة سبيلاً فخدعتني بها وقتلتني" (روم 7: 9- 10).

د- تصميم الرسالة إلى غلاطية
1- العنوان وتوجيه الكلام إلى الغلاطيّين (1: 1- 10).
بولس رسول ورسالته تتعلّق بالمسيح القائم من الموت. أمّا التحيّة فتلخّص إنجيل الربّ يسوع المسيح المصلوب الذي ينتزعنا من العالم القديم. ليس إلاّ إنجيل واحد، وهو الذي بشّر به بولس الغلاطيّين (1: 5- 10). وهنا يهتف بولس: يريدون أن يغيّروا إنجيل المسيح.

2- القسم الأوّل: الأصل الإلهيّ لإنجيل بولس (1: 11- 2: 21)
- إنجيل بولس من الله (1: 11- 12)، دُعي بولس "رسول الأمم" (13:1- 24). وهو لم يتلقَّ إنجيله من البشر، بل بوحي من المسيح الذي دعاه. فمنذ ارتداده ذهب إلى جزيرة العرب، وبعد ثلاث سنوات صعد إلى أورشليم فالتقى بطرس ويعقوب. ولكنّ كنائس اليهوديّة لم تتعرّف إليه. يعود بولس إلى ماضيه كمضطهد وإلى رؤيته ليسوع المسيح وتبشيره وزيارته لأورشليم، ويعلن أنّ حربه هي من أجل حقيقة الإنجيل والحرّيّة المسيحيّة. ومرّت 14 سنة فصعد بولس ثانية إلى أورشليم وتمّ الاتّفاق مع يعقوب وبطرس ويوحنّا (2: 1- 10). ويعود بولس إلى حادثة أنطاكية وإلى طريقة مواجهة بطرس (2: 11- 14). وينتهي هذا القسم بعرض القضيّة: الله يبرِّر اليهود والوثنيّين بالإيمان بالمسيح (2: 15- 21). وهكذا يشدّد بولس على ارتداده واجتماعه بالمسؤولين في أورشليم وعلى حادثة أنطاكية فيُدْخِلُ الغلاطيّين في إطار حياته الشخصيّة.

3- القسم الثاني: الشريعة والإيمان، البرهان الكتابيّ (ف 3- 4)
التبرير بالإيمان يُتمّ العهد لإبراهيم. ويعود بولس إلى خبرة الغلاطيّين: كيف قبلوا الروح (3: 1- 5)؟
بَركة إبراهيم: نحصل عليها بالإيمان لا بأعمال الشريعة (3: 6- 14). يقدّم بولس برهانًا كتابيًّا ليبيّن حقيقة الإنجيل. وصلت بركة إبراهيم إلى الوثنيّين في يسوع المسيح فحصلنا على الإيمان بالروح.
ويقدّم بولس برهانًا قانونيًّا: جاءت الشريعة بعد العهد، وهي لا تستطيع أن تبدّل العهد الذي يمنح البركة لإبراهيم (3: 15- 18).
دور الشريعة دور عابر، ونحن وارثو إبراهيم بعد أن صرنا واحدًا في المسيح. تدخّلت الشريعة من موسى إلى يسوع المسيح (3: 19- 20) فكشفت للإنسان عصيانه أو أثارت الخطيئة فبدت قاتلة أو وضعت سدًّا للخطيئة إلى مجيء المسح. أجل، لعبت الشريعة دور المربّي (كالعبد الذي يرافق الولد إلى المدرسة) فهيّأت لمجيء المسيح (3: 21-29). وهكذا صار المؤمنون أبناءً بروح الابن (4: 1- 11). انتقلوا من عبوديّة الشريعة إلى حرّيّة أبناء الله. ويُبرز بولس المعارضة بين الماضي والحاضر، ويطبّقها على الغلاطيّين. تعلّق الغلاطيّون ببولس الذي أصابه مرض خطير، فكيف يعاملونه الآن وكأنّه عدوّ؟ هل نَسُوا رسولهم (12:4-20)؟
ويقدّم بولس تفسيرًا رمزيًّا عن زوجتَيْ إبراهيم: سارة وهاجر، الحرّة والخادمة. فيرسم دور العهدين. نحن أبناء سارة بالروح وننتمي إلى أورشليم السماويّة (21:4-31).

4- القسم الثالث: الحرًّية المسيحية: الحياة حسب الروح (5: 1- 6: 10)
يجب أن نختار بين المسيح من جهة والختان وممارسة الشريعة من جهة ثانية (5: 1- 6). ويتوجّه بولس ضدّ الذين يقطعون الطريق على الغلاطيّين ويدعونهم إلى الختان (5: 7- 10). فهل أُبطل عثار الصليب (5: 11- 12). وهل نَسُوا أنّ المسيح افتدانا من أجل الحرّيّة؟
ويتحدّث بولس عن الحرّيّة المسيحيّة وشريعة المسيح. فحرّيّة المؤمن هي في أن يحبّ القريب. فيجب أن نترك الروح يسيّرنا لكي نتجنّب أعمال الجسد. ويقدِّم لنا بولس في لائحتين متوازيتين: أعمال الجسد وثمر الروح (5: 13- 25). ويحدّثنا أخيرًا عن شريعة المسيح والحياة في الجماعة (5: 26- 6: 10). لسنا أمام شرائعَ جديدةٍ تحلّ محلّ الشرائع القديمة. فلا فريضة إلاّ فريضة المحبّة التي تشكّل العنصر الذي يكوّن طريقة عيش المسيحيّ الجديدة.

5- الخاتمة وتوقيع بولس (6: 11-18)
لا يكتفي بولس بأن يمليَ رسالته، بل يكتب بيده بحروف كبيرة الخاتمة التي هيّ ملخّص كلّ رسالته. هم يفرضون الختان لتفتخروا به. أمّا أنا اليهوديّ فلا أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح. فعلى الغلاطيّين أن يختاروا. وتنتهي الرسالة بالتمّني الأخير: لتكن مع روحكم نعمة ربّنا يسوع المسيح.

هـ- التعليم في الرسالة إلى غلاطية
تحدّث بولس في هذه الرسالة عن فاعليّة عمل المسيح الذي سلَّم نفسه إلى الموت من أجل خطايانا، فأقامه الله (1: 1 ي).
قبل مجيء المسيح كان الناس كلّهم تحت سلطة الخطيئة، الوثنيّون منهم، واليهود الذين لم يستطيعوا أن يستندوا إلى الشريعة لتخلّصهم منها. ما أعطيت الشريعة لتقيم البرّ وتعطيَ الحياة (3: 24). ولكنّها عبّرت عن متطلّبات الله فأفهمت الإنسان عجزه بعد أن اختبر أنّه لا يقدر أن يتجاوب معها بقواه الخاصّة.
كان الوثنيّون واليهودُ في الوضع نفسه، والوارث لا يتميّز في شيء عن العبد ما دام قاصرًا (4: 1). كلّهم خضعوا لعناصر العالم الأوّليّة (4: 3) وهي عناصر ضعيفة وحقيرة (4: 9) تميِّز هذا العالمَ الفاسد الذي جاء المسيح يخلّصنا منه (1: 3).
ارتبطت هذه العناصر بالأصنام عند الوثنيّين (4: 8)، وبالملائكة الذين آمْلَوُا الشريعة (3: 19) عند اليهود، وهكذا حُبس اليهود والوثنيّون تحت سلطان الخطيئة (3: 22).
ولكنّ اليهود اخِتيروا ليحملوا عهدًا شاملاً أعطي لأبيهم (3: 8) إلى أن يأتيَ المسيح الذي فيه صارت البركة والميراث واقعًا ملموسًا (3: 19). فالمسيح هو من نسل إبراهيم وهو ابن الله أيضاً (2: 20) وقد أرسله الآب ليفتديَ الذين كانوا خاضعين للشريعة (4: 4). لهذا أخذ على عاتقه، بموته على الصليب، اللعنة التي استحقّها اليهود لأنهم لم يمارسوا كلّ الوصايا. وضع حدًّا للشريعة فصار الوعد بالبركة واقعًا لجميع الشعوب.
لم يتعرّف اليهود إلى المسيح في شخص يسوع فخسروا كلّ امتياز. لم يعد وضعهم وضع نسل المرأة الحرّة، بل نسل الأمة (4: 22- 29). أمّا الذين يؤمنون بالمسيح، أكانوا يهودًا أم وثنيّين، فهم أبناء الله. والمعموديّة التي يقتبلونها باسمه هي شهادة إيمانهم وعلامةُ تحوّلٍ علويٍّ يصنعه الله فيهم. هذا ما تعنيه العبارة: "عرفتم الله، بل عرفكم الله" (4: 9). فالمعموديّة تُلْبِسُهُمُ المسيح (3: 26 ي) بحيث يتحقّق فيهم ما تحقّق فيه أي موته عن الخطيئة وقيامته. صارت حياته حمياتهم (2: 19 ي)، وصاروا فيه أبناء إبراهيم ووارثين حسب الموعد (3: 29).
كلّ هذا بأتيهم بالروح الذي هو موضوع الوعد الحقيقيّ (3: 14). فهو يحمل إليهم الحياة (3: 21) وهو ذاته حياتهم (5: 25). مثل هذه الحياة هي، في الإيمان، علامة البارّ، وثمرة التبرير، وحياة لله (2: 19).
غير أنّ المشاركة في حياة المسيح مهدَّدة ما دام المسيح لم يتكوّن فيهم (4: 19). بعد أن عاشوا بالروح وصاروا خليقة جديدة (6: 15) فلا يجب عليهم أن يتصرّفوا حسب رغبات الجسد (5: 19- 21) بل بدافع من الروح (5: 25). الإيمان الحقيقيّ يعبَّر عنه بالمحبّة (5: 6) وممارسة الخير تجاه كلّ إنسان (6: 10). هكذا يُتمّ المؤمن شريعة المسيح (2:6).
وهكذا لا تتعارض الأعمال والإيمان بل تتكامل. فكلاهما تعبير عن حياة المسيح والروح في المؤمنين. هذه الحياة التي وُلدت في الإيمان تظهر في نشاط المحبّة. والمحبّة كالإيمان تعبير عن حياة المسيح الذي أسلم نفسه لأجلنا حبًّا بنا (2: 20).

و- الجسد والروح في غل
يعارض بولس في غل كما في روم الجسد والروح. فلنبعد الفكرة التي تجعلنا نعارض الجسد والنفس، أو التي تحصرنا في المستوى الأخلاقيّ. فالأنطروبولوجيا السامّية التي ورثها بولس تعتبر الإنسان كلاًّ واحدًا فتنظر إليه تارة من وجهة الجسد وتارة من وجهة الروح. فالجسد يشير إلى الإنسان في ضعفه الفطريّ، والروح إلى القدرة الآتية من الله والتي تُعطى للإنسان.
حين تحدّث بولس عن حياته الإيمانيّة في الجسد (2: 20) لم يذكر الصراع الداخليّ الذي يحسّ به، بل المحن (محن الصحّة والاضطهاد) التي يفرضها عليه تماثله مع المسيح المصلوب (2: 19؛ 4: 13- 14؛ 6: 17). وحين أعلن أنّه لم يستشر اللحم والدم (أي البشر) فهو لا يقدّم حكمًا أخلاقيًّا على سلطات أورشليم (1: 17)، بل يشدّد على أن دعوته تتعلّق برؤيته ليسوع المسيح. وحين يلوم الغلاطيّين الذين يتابعون بالجسد ما بدأوه بالروح، فهو لا يتّهمهم بالفلتان، بل يوبّخهم لأنّهم وضعوا ثقتهم في ممارسات مضحكة بعد أن نالوا روح الله. والمعارضة بين الجسد والروح في 4: 23 تقوم في النطاق الأخلاقيّ: وُلد إسماعيل من الجسد، أي حسب نواميس الولادة البشرّية، وُولد إسحق حسب الروح لتتم مواعيدُ الله.
وسوف ننتظر ف 5 لتتّخذ المعارضة بين الجسد والروح قيمة أخلاقيّة خاصّة. هذه المعارضة تجد ما يقابلها في نصوص قمران. نحن لسنا أمام ثنائيّة ماورائيّة يتعارض فيها العالم المادّيّ الذي هو عمل إله شرّير وعالم النور الذي هو عمل إله صالح، بل أمام ثنائيّة أخلاقية تربط الإيمان التقليديّ بالله الخالق.
ولنورد بعض النصوص القمرانيّة التي تشدّد على ميل الإنسان إلى الشرّ بسبب ضعف جسده. "أنا أخصّ الطبيعة الخاطئة وجماعة جسد الإثم. فذنوبي ومعاصيَّ وخطايايَ وضلالُ قلبي تدلّ على جماعة آخرتها الدود". ويتابع صاحب هذا المزمور كلامه فلا يستسلم إلى اليأس بل يضع ثقته في برِّ الله أي في أمانته للعهد ويقول: "إن تزعزعتُ فنعم الله تكون خلاصي إلى الأبد. وإن زلقت بسبب إثم الجسد فدينونتي في عدالة الله الثابتة إلى الأبد".
هذا الحسّ بالخطيئة وهذا الميل إلى التطهير بالروح هيّأ تعليم بولس عن التبرير. أمّا انغلاق جماعة قمران فمنعها من تقبّل كرازة يسوع المسيح وبولس الرسول. ثمّ إنّ روح الله لا يظهر كشخص حيّ في قمران، أمّا نصوص غل 4: 5-7 مثلاً فهي ترى في الروح العلاقة الحيّة والشخصيّة بين الابن والآب.

ز- الحرّيّة المسيحيّة حسب القدّيس بولس
تطرّق بولس إلى الحرّيّة في 1 كور من الوجهة اليونانيّة وما خاف أن يقدّم نفسه مثالاً ونموذجًا قال: "ألست حرًّا... بلى، أنا رجل حرّ عند الناس، ولكنّي جعلت من نفسي عبدًا لجميع الناس حتّى أربح أكثرهم" (1 كور 9: 1، 19). أمّا في غل فينظر إلى الحرّيّة من وجهة اليهود ويضع نصب عينيه مسألة الشريعة.
فالحرّيّة التي يكرز بها بولس تقابل الدعوة المسيحيّة. هو لا ينظر إلى الحرّيّة كالفلاسفة الذين يبحثون عن ميزات الطبيعة البشرّية، بل يضع نفسه على المستوى الدينيّ. وهذا النداء إلى الحرّيّة يرتبط بالمخطّط الخلاصيّ الذي يكشفه لنا الوعد المُعطى لإبراهيم.
وهذه الحرّيّة لا تستطيع أن تنبسط إلاّ بفضل الفداء الذي تمّ في المسيح (5: 1): فداء بالنسبة إلى وضع الخطيئة التي انغمست فيها البشرّية (وستوضّح روم هذه النقطة)، وفداء بالنسبة إلى وصاية الشريعة التي لم تَشفِ الإنسان بل أثارت معصيته (3: 19).
وتتميّز الحرّيّة المسيحيّة أوّلاً بأنّها حياة بنويّة (4: 4- 7). فتفرض علينا أن نرذلَ كلّ فكرة خاطئة عن الله (الشرك، السحر) ونتعرّفَ إلى الله أبي يسوع المسيح الذي نقول له: أبّا، أيّها الآب. فالوجهة اللاهوتيّة تسيطر على الوجهة الأخلاقيّة. فبعد الارتداد إلى الله الآب تبدأ الحرب على شهوات الجسد. والتأمّل في حبّ الله العجيب الذي أوحى به صليب المسيح يتيح لنا أن نجاهد لنتحرّر من استبداد الخطيئة بنا.
وتتفتّح الحرّيّة المسيحيّة في الخدمة المتبادلة، في مناخ المحبّة الذي تُصَوِّره 5: 22 ي. هذه الحرّيّة لا تغلق الإنسان على اكتفاء ذاتيّ، بل تدفعه نحو الآخرين كما دخل يسوع ذاته حبًّا بنا (2: 20).
الروح القدس هو الفاعل الحاسم. فلنسلك في طريق الروح (5: 25)، لأنّه حيث روح الربّ فهناك الحرّيّة (2 كور 3: 17). يشير بولس في غل بصورة خاصّة إلى كلّ الفرائض التي تجعلها الشريعةُ شبكةً تحيط بحياة اليهود اليوميّة. فهذه الحياة على الطريقة اليهوديّة (2: 12) غير مقبولة لدى الوثنيّين المدعّوين إلى الإيمان بيسوع المسيح، وليست مرذولة لديهم: فلا يعارض بولس أن يداوم مسيحيّون حول يعقوب على اتّباع الشريعة شرط أن لا يجعلوها شرط خلاص لهم ولغيرهم. ففي كلّ عصر يبرز خطرُ أن نجعلَ الأعمالَ تمرّ قبل حرّيّة الروح. وتأتي غل فتذكّرنا بأنْ نركّز على تعليم الصليب المحرّر، إنْ في الحياة الروحيّة أو في الحياة الكنسيّة. لسنا أمام حرّيّة من الدرجة الثانية بل أمام حرّيّة متطلّبة لأنّ لا حدود على طريق المحبّة. "ولا أدّي أنّي فزت أو بلغت الكمال، بل أسعى لعلّي أفوز بما لأجله فاز بي المسيح يسوع" (فل 3: 12).
أجل، حدود الحرّيّة المسيحيّة هي حدود المحبّة، وهل للمحبّة من حدود؟

خاتمة: ماذا تَعَلَّمْنَا من الرسالة إلى غلاطية؟
تعلّمنا أولويّة الإيمان. فبولس لا يملّ من أن يذكِّرَنا بأنّ الإنسان يتبرّر بالإيمان، وبأنّ الله هو العامل الأوّل فينا بيسوع المسيح.
وتَعَلَّمْنا صليب المسيح. فغل تجعلنا أمام الصليب في عريه. نحن لا نفتّش عن الألم والفشل، ولكنّنا نكتشف أهمّيّة الانقطاع، ونتعرّف إلى الإيمان الذي يحوِّل الشرّ إلى خير بالمحبّة التي تعطي ذاتها.
وتَعَلَّمْنا الحرّيّة المسيحيّة. فغل هي بيان الحرّيّة وهي تشجب التمسّك بالشكليّات الدينيّة وتدعونا إلى أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الله.
وتَعَلَّمْنا الشموليّة المسيحيّة. كان بولس قاسيًا بالنسبة إلى الشريعة اليهوديّة فرذلها لأنه يريد أن يزيل كلّ حاجز أمام ارتداد الوثنيّين. يبقى علينا أن نكتشف روح الشموليّة هذه فنتجاوز الخصوصيّات لنحيا حقيقة الإنجيل الواحدة فاتحين قلبَنا على الجميع في يسوع المسيح.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM