الفصل السادس :الرسالتان إلى أهل كورنتوس

الفصل السادس
الرسالتان إلى أهل كورنتوس

الرسالتان إلى أهل كورنتوس هما أطول مراسلة بين بولس وبين جماعة مسيحيّة محدّدة. يشكّلان معًا 29 فصلاً. وهما يعطياننا صورة عن الكنيسة الأولى فيساعداننا على التفكير في كنيستنا اليوم واستنباط الحلول التي تحتاج إليها.
سنتعرّف إلى جماعة تعيش هي أيضًا صعوباتِها وتساؤلاتِها وآمالَها. وسنقرأ حوارًا حيًّا بين كنيسة تحاول أن تعيش الإنجيل وبين رسول يفعل ما يقدر ويدلّ على عجزه مرارًا أمام واقع يتحدّاه. يلمّح بولس إلى ما وصله من أخبار حملها مسافر جاء من كورنتوس (1 كور 1: 11؛ 5: 1)، أو إلى مسائلَ وجّهها إليه الكورنثيّون في بريد سابق (1 كور 7: 1). ويخطّط لزيارة إلى كورنتوس ليذلّل الصعوباتِ (1 كور 16: 5-7)، ولكنّه يعدل عن مشروعه في الدقيقة الأخيرة لئلاّ ينفجرَ غضبٌ لم يُكبَح فيُحْدِثَ أضرارًا (2 كور 1: 23). وباختصار الكلام نحن أمام حياة تمتدّ أمام عيوننا فتتيح لنا أن نكتشف جماعة مسيحيّة، ونتعرّفَ إلى شخص بولس ذلك الذي ترك أكبر أثرٍ في المسيحيّة على مدّ عصورها.
ويَبرز في الرسالتين إلى كورنتوس وجه يسوع المسيح الذي أُغرم به بولس. إن غَضِب أو أظهر عواطف الحنان، فيسوع يحتلّ المقام الأوّل في قلبه. وفي هذا يشبهنا بولس: فهو مثلنا لم يعرف يسوع خلال حياته على الأرض، ولكنّه يريد دومًا أن يحيا حياة حميمة مع ذلك الذي قام من بين الأموات. وهكذا يصبح المسيح حاضرًا في كلّ سطر من هاتين الرسالتين فنشارك بولس في اللقاء الذي تمّ له على طريق دمشق وما زال يعيش منه كلّ حياته.
إذًا نتعرّف إلى كنيسة، إلى رسول، وإلى شخص يسوع المسيح. هذا ما نغتني به لدى قراءتنا 1 كور و 2 كور اللذين وقّعهما بولس بيده وأرسلهما إلى كنيسة معينة ومن خلالها إلى كنائس الله في كلّ زمان ومكان.

أ- مدينة كورنتوس
تقع كورنتوس جنوبيّ المضيق الذي يربط يونان البرّيّة بالبلوبونيز. نجد إلى الغرب خليج كورنتوس الذي يتّصل ببحر الأدرياتيك، وإلى الشرق بحر إيجيه. أمّا المدينة فتقوم على ملتقى طريقٍ برّيّة وطريقٍ بحريّة وهي مهيّأة لأن تلعب دورًا هامًّا في مجال الاتّصالات. أمّا اليوم فقد تغيّرت الحال بعد أن فُتح قنال يبعد بضعة كيلومترات إلى شمال مدينة صغيرة تعدّ عشرين ألف ساكن فلا تعطينا فكرة واضحة عمّا كان هذا المرفأ الكبير كما عرفه القدّيس بولس.
في القديم كانت الدورة حول البلوبونيز مغامرة خطرة بسبب شاطئها الصخريّ ورياحها التي لا تهدأ. لهذا كان الملاّحون يفضلون أن يعبروا المضيق (وعرضه يقارب 6 كيلومتر ونصف كيلومتر) على طريق معدّ لنقل السفن من بر إلى آخر. فكان الناس والبضائع ينزلون في كنخرية على بحر إيجيه ويبحرون من ليخيون على خليج كورنتوس. وهكذا يؤمّ مدينةَ كورنتوس جمع من الملاّحين والمسافرين طوال المدّة المطلوبة لتنتقل السفينة من البحر إلى الخليج. فيمتزجون بالتجّار والصنّاع المحلّيّين الذين يعيشون من نقل البضائع أو تحويل الموادّ الأوّليّة فيجعلون من هذه المدينة عالمًا واسعًا ومتحرّكًا. لقد عرفت كورنتوس نشاطَ أيّ مرفأ مزدهر وعرفت تسلياتِ كلّ مدينة كبيرة منذ السياحة إلى المجون، وهذا ما أعطى المدينة شهرة سيّئة عبر حوض البحر الأبيض المتوسّط.
لعبت كورنتوس دورًا اقتصاديًّا وتجاريًّا وزادت على هذا نشاطًا إداريًّا هامُّا. فحين أراد الرومان أن يحتلّوا اليونان، سارت كورنتوس على رأس المدن اليونانيّة وقاومت الجيوش الغريبة. ولكن حين انتصر الرومان هدموا المدينة من أساسها سنة 146 على يد لوسيوس موميوس. ولكنّ يوليوس قيصر سيعيد بناءها سنة 44 ق. م. ويجعلها قاعدة مقاطعة أخائية الرومانيّة (جنوبيّ اليونان الحاليّة) بينما كانت تسالونيك عاصمة مكدونية (في الشمال). وكان الموظّفون كثرًا تسندهم فرق عسكريّة هامّة أُوْكِلَ إليها المحافظةُ على النظام قدر المستطاع.
ما كان عدد سكّان كورنتوس؟ كيف نعدّ مدينة تعجّ بالعبيد العاملين في بيوت الأغنياء فيُحسبون كالحيوانات؟ ولكنّ المؤرخين يقولون إنّ سكّانَ كورنتوس كانوا حوالي 500000 نسمة وهذا ما يساوي نصف سكان رومة في ذلك الوقت: فكورنتوس من أهمّ مدن الإمبراطوريّة، وهي أعظم من أثينة التي خسرت دورها الرفيع وانعزلت في جامعاتها ومدارسها. نقول هذا الكلام لنُشيرَ إلى ضخامة العمل الذي سيقوم به ذلك اليهوديّ الصغير في مدينة عالميّة لا تملك من اليونانيّة إلاّ احمها وبعض لغتها.

ب- بولس في كورنتوس بحسب شهادة أعمال الرسل
سفر أعمال الرسل هو المصدر الرئيسيّ لمعلوماتنا عن تاريخ الكنيسة الرسوليّة، والقسم الثاني منه (ف 16 وما بعد) مخصّص لرحلات القدّيس بولس. كتبه القدّيسُ لوقا أحدُ تلامذة بولس فجعله بشكل دفاع عن معلّمه.
يقول سفر الأعمال إنّ بولس أقام مرّتين في كورنتوس. يشير لوقا إلى المرّة الثانية بالتلميح، فيقدّم إلينا الطريق الذي سار فيه الرسول: "وسار في تلك الأنحاء (أي مكدونية) يشجعّ بكلامه الكثير جماعةَ المؤمنين، ثمّ جاء إلى اليونان، فأقام فيها ثلاثة أشهر. وبينما هو يستعدّ للسفر في البحر إلى سورية، تآمر اليهود لقتله، فرأى أن يرجع بطريق مكدونية" (أع 20: 2-3). من الممكن أن يكون قضى هذه الثلاثة أشهر في كورنتوس. ولكنَّ الخبرَ المقتضب لا يورد لنا الظروف التي دفعت بولس لأن يقوم بهذه الزيارة الثانية إلى عاصمة أخائية، ولا يقول لنا ما الذي حصل له خلال إقامته فيها. بل يشدّد فقط على عداوة اليهود التي حدت ببولس على أن يعود بطريق البرّ عبر مكدونية ولا يعود إلى سورية بطريق البحر.
ولكنّ سفرَ الأعمال يطيل الحديث ويكثر من التفاصيل عن إقامة بولس في كورنتوس في المرّة الأولى (18: 1-18). جاء بولس من أثينة بعد أن مُنِيَ هناك بالفشل لأنّ المتعلّمين الأثينيّين هزئوا بخطبته وبما احتوت من براهينَ عقليّةٍ . ولم يقتنع بالتعليم الجديد إلاّ قلّةٌ قليلة (أع 17: 16-34). أمّا في كورنتوس فاستعمل أسلوبًا اعتاد عليه: توجّه أوّلاً إلى إخوته وبَنِي جنسه وارتبط بيهود يعملون في مهنة كمهنته (صناعة الخيام) هما أكيلا وبرسكلّة. أقام عندهما وعمل معهما فانخرط في الحياة الاجتماعيّة. وبدأ كرازته في إطار صلاة المجمع الذي جاء إليه سبتًا بعد سبت. وما انقضى بعض الوقت حتّى تعلّقت بعض العائلات بيسوع المسيح وقبلت المعموديّة.
ولكن أُثيرت العداوةُ داخل الجالية اليهوديّة ضدّ بولس: فأجبر الرسول على قطع العلاقات مع إخوته وبني جنسه وعزم على التوجّه إلى الوثنيّين. ودام عمل بولس في كورنتوس أكثر من 18 شهرًا بقليل. ولكن لم تهدأ القلاقل الآتية من الوسط اليهوديّ الرافض. فاتّهمه إخوته أمام القنصل المساعد غاليون أخ سينيكا الفيلسوف اللاتينيّ الذي كان مدير كورنتوس حوالي السنة 52 (وجدت كتابة في دلفس).
وإذا أردنا أن نجمع المعلوماتِ التي زوَّدنا بها سفر الأعمال عن علاقة بولس بكورنتوس نصل إلى اللائحة التالية. أوّلاً: هناك زيارتان قام بهما بولس إلى كورنتوس. الأولى امتدّت ثمانية عشر شهرًا فكانت أوّل كرازة للإنجيل في عاصمة أخائية. والثانية دامت ثلاثة أشهر فقط. ثانيًا نتعرّف إلى اسم رفيقَيْ بولسَ في رسالته: سيلا وتيموتاوس (أع 18: 5). ثالثًا: نتعرّف أيضًا إلى أسماء المسيحيّين الأوّلين: أكيلا وبرسكلّة امرأته، تيسيوس، يوستس الذي كان رومانيًّا متعبّدًا لإله إسرائيل، كرسبس رئيس المجمع (أع 18: 7- 8). رابعًا: نكتشف هُوِيَّةَ خصوم بولس: يهود دفعته عداوتهم لأن يتوجّه في حديثه إلى الوثنيّين.

ج- علاقات بولس وكورنتوس انطلاقًا من 1 كور و 2 كور
تتوزّع المعلومات التي تزوّدنا بها 1 كور و 2 كور على مدى النصّ كلّه وها نحن نذكرها حسب ورودها. ففي 1 كور 1: 11 نقرأ: جاء رسل من كورنتوس وأعلموا بولس بالخلافات التي في الكنيسة. وسيأتي بولس إلى كورنتوس قبل أن يرسل الرسالة الأولى (1 كور 2: 1). وبعث بولس تيموتاوس قبل أن يرسل 1 كور ولكنّه تأخّر فوصل بعد وصول الرسالة لأنّه مرّ في مكدونية (أع 19: 22) فطال طريقه (1 كور 17:4). وفي 1 كور 4: 19- 21 أعلن بولس أنّه سيزور كورنتوس قريبًا. ويقول في 1 كور 5: 9: "كتبت إليكم في رسالتي". هذا يعني أنّ 1 كور ليست أوّل رسالة يبعث بها بولس إلى الكورنثيّين. ونقرأ في 1 كور 7: 1: "ما كتبتم به إليّ". وهكذا تكون 1 كور جوابًا على رسالة بعث بها الكورنثيّون إلى بولس. ونعرف من 1 كور 16: 5-8 أنّ 1 كور كتبت في أفسس حيث سيقيم بولس حتّى العنصرة. بعد هذا يستعدّ للذهاب إلى مكدونية ومنها إلى كورنتوس حيث سيقضي فصل الشتاء القادم. ونعرف من 1 كور 16: 10- 11 أنّ تيموتاوس سيصل عمّا قريب إلى كورنتوس. وينتظر بولس أن لا يتأخّر كثيرًا ويعود سريعًا إلى أفسس. وتمنّى بولس أن يرسل أبلّوس أيضًا إلى كورنتوس، ولكنّ أبلّوسَ "رفض بإصرار أن يجيئكم في الوقت الحاضر" (1 كور 12:16).
وعاد تيموتاوس إلى بولس (2 كور 1: 1) ويبدو أنّهما تركا أفسس (2 كور 1: 8). وخطّط بولس طريقه: ينطلق من أفسس إلى كورنتوس ومكدونية، ويعود إلى كورنتوس ليذهب منها إلى اليهوديّة (2 كور 1: 15-16). ولكنّ هذا المخطّط يختلف عن ذاك الوارد في 1 كور 16: 5-8. وعدل بولس عن الذهاب إلى كورنتوس (2 كور 2: 1-9) فاكتفى بأن يرسل رسالة "وعيناه تسيل منهما الدموع". وترك بولس أفسس (2 كور 2: 12-13) ومرّ في ترواس ولكنّه قلق جدًّا لأنّه لم يجد تيطس، ثمّ سافر إلى مكدونية. ولمّا وصل بولس إلى مكدونية وجد تيطس، وسرّ بالأخبار التي حملها إليه. يبدو أنّ تيطس كُلِّفَ بحمل الرسالة المكتوبة بالدموع، ولمّا عاد أخبر بولس بالنتيجة التي وصل إليها (2 كور 7: 5-16). فعقد بولس العزم على الذهاب مرّة ثالثة إلى كورنتوس (2 كور 12: 14)، وأكّد هذه الزيارة الثالثة وسمّاها الزيارة الثانية (2 كور 13: 1-2).
ماذا نستنتج من هذه المعلومات؟ أنّ بولس كتب أكثر من رسالتين إلى أهل كورنتوس وأنّ أهل كورنتوس كتبوا إليه. 1 كور هي في الواقع الرسالة الثانية، أمّا 2 كور فتشير إلى رسالة سابقة كتبت في الدموع وليست 1 كور تلك الرسالة الهادئة. إذًا، كتب بولس أقلّه أربع رسائل. الرسالة الأولى كتبها بولس وحذّر المؤمنين من مخالطة الزناة (1 كور 9:5). الرسالة الثانية هي 1 كور وكان بولس قد تسلّم في أثناء ذلك رسالة من الكورنثيّين. الرسالة الثالثة هي التي كتبت في الدموع. والرسالة الرابعة هي 2 كور.
ولكن تبرز صعوبات أخرى. الأولى: هل يمكن أن نعتبر أنّ 2 كور أرسلت مرّة واحدة، أم كوَّنت رسائل متعدّدة جعلت الواحدة قرب الأخرى، وهذا ما يفسّر الأسلوب المتقطّع. ونعطي بعض الأمثلة. في 13:6-14 يحذّر بولس من عدوى غير المؤمنين فيبدو أسلوبه مختلفًا عن أسلوب الآيات السابقة المميّز بالصراحة والانفتاح. ويعود بولس في 7: 1-2 إلى الأسلوب الهادىء. ويتطرّق في 9: 1-2 إلى موضوع اللمّة (التبرّع) وكأنّه لم يتحدّث عنها في ف 8. وبعد 10: 1 نقرأ أربعة فصول يدافع فيها بولس عن نفسه بأسلوب انفعاليّ لا يطابق نظرته إلى الرسالة كما تتوسعّ فيها الفصول السبعة السابقة. فقال الشرّاح: قد تكون 6: 14-7: 1 جزءاً من الرسالة الأولى. وتكون الفصول 10-13 الرسالة التي كُتبت في الدموع. ولكنّنا نبقى هنا على مستوى الافتراضات.
الصعوبة الثانية: حين كتب بولس 2 كور 10: 13 تحدّث عن زيارة إلى كورنتوس ستكون الثالثة ولكنّ سفر الأعمال يتحدّث عن زيارتين. فإذا قلنا إنّ الزيارة الثالثة هي التي قام بها إلى اليونان خلال رحلته الرسوليّة الثالثة (أع 20: 2-3) فأين نضع الزيارة الثانية؟ وهنا افترض الشرّاح سفرة خاطفة من أفسس إلى كورنتوس ومن كورنتوس إلى أفسس لم يذكرها سفر الأعمال، ولا سيّمَا وإنّ الاتّصالات كانت سهلة بين المدينتين. والعبارة "لن أعود إليكم في الحزن" (2 كور 2: 1) تُقرأ: ذهبت إليكم في الحزن ولن أعيد ذلك.
وباختصار القول إليك جدْوَلاً بالعلاقات بين بولس وكورنتوس.
شتاء50- صيف 52: أقام بولس مرّة أولى في كورنتوس وطالت إقامته 18 شهرًا أسسّ فيها الكنيسة.
صيف 52- ترك بولس كورنتوس ليذهب إلى أورشليم ثمّ إلى أنطاكية. وهكذا انتهت الرحلة الرسوليّة الثانية.
سنة 53- بدأت الرحلة الرسوليّة الثالثة، فعبر بولس بلاد غلاطية وفريجية. ووصل سنة 54 إلى أفسس حيث أقام سنتين وثلاثة أشهر (أع 8:19، 10).
حين كان بولس في أفسس جاء من نبّهه إلى الصعوبات التي تعيشها جماعة كورنتوس فكتب إليها الرسالة الأولى: "لا تخالطوا الزناة".
وعرف بولس من أهل خلوة (1 كور 1: 11) أنّ الصعوباتِ ظلت هي هي. وتسلّم في الوقت ذاته رسالة يسأله فيها كاتبها نصائحَ أخلاقيّةً (1 كور 7: 1). فكتب بولس الرسالة الثانية (وهي 1 كور) خلال السنة 55.
وتفاقمت الصعوبات فقام بولس بزيارة خاطفة إلى كورنتوس عاد بعدها إلى أفسس (زيارته الثانية: 2 كور 2:13). فعمل ولم يشفق. نجح في إعادة المياه إلى مجاريها. ولكنّه سيقرّ فيما بعد أنّه لا يريد أن يقوم بمثل هذه الرحلة السريعة (2 كور 1:2).
حين عاد بولس إلى أفسس كتب الرسالة الثالثة ي الدموع وحمّلها إلى تيطس أحد مشاركيه في الرسالة (2 كور 2: 1-9، 7: 8-12). وقرّر أن يترك أفسس فأوْكلَ إلى تيطسَ أن يلاقيَه في محطّة قريبة ويقدّمَ له تقريرًا عن رسالته.
سنة 57 ترك بولس أفسس ومرّ في ترواس وحزن لأنه لم يجد أخاه تيطس (2 كور 12:2-13).
مضت بضعة أسابيع قبل أن يلتقيَ تيطسُ ببولسَ في مكدونية حاملاً إليه الأخبار السارّة (2 كور 7: 6- 16).
وهدأت الحالة في كورنتوس. فكتب بولس من مكدونية في نهاية سنة 57 الرسالة الرابعة (وهي 2 كور من دون الفصول الأخيرة).
سنة 57- 58 أقام بولس ثلاثة أشهر في كورنتوس (زيارته الثالثة) ومنها كتب الرسالة إلى أهل روما.

د- تصميم 1 كور ونظرة عامّة إلى مضمونها
نستطيع أن نجد في 1 كور ثلاثة أقسام. في القسم الأوّل (1: 10-6: 20) رتّب الأمور حسب ما سمعه من أهل خلوة. في القسم الثاني (7: 1-11: 34) أجاب على أسئلة الكورنثيّين. في القسم الثالث (12: 1-58:15) تدّم تعليمًا عن اجتماعات الجماعة وعن قيامة الموتى مجيبًا على تقرير شفهيّ قدّمه إليه حاملُ الرسالة من أهل كورنتوس إلى رسولهم.
لن ندرس النصّ آية آية، بل نقدمُّ نِظرةً إجماليّة تتطرّق إلى مشاكل الرسالة الكبرى وتجمع الغنى الذي تحمله إلينا. نحن أمام تعليم ثمين ينطلق فيه بولس من أوضاع ملموسة ومشاكلَ عمليّةٍ ليلقيَ به الضوء على الفكر المسيحيّ والحياة المسيحيّة.
توقّف بولس في 1 تس و 2 تس على فكرة مجيء المسيح وقيامة الموتى كنتيجة مباشرة لقيامة المسيح. وتطرّق في الرسائل الكبرى (غل، 1 كور، 2 كور، روم) إلى وضع المسيحيّ الحاليّ ولكنّه لم ينس البعد الإسكاتولوجيّ. يبرز بولس ديانة التبرير المجّانيّ في غل وروم ويبيّن لليونانيّين أنّ المسيحيّةَ حكمةٌ آتية منِ الله (تعليم 1 كور، 2 كور). وستتوسّع رسائل الأسر (فل، كو، أف) في سرّ شخص المسيح.
اتّصل بولس بالفلسفة اليونانيّة (رج أع 17: 22- 31) وأمل منها أن تحالفه ليحتلّ العالم الوثنيّ ويقدّمَه إلى المسيح. ولكنّ الرسول سيعرف أنّ هذه الحكمةَ فشلت وحلّت محلّها حكمة الصليب.
إلاّ أنّ الرسولَ سيحاول أن يكون يونانيًّا مع اليونانيّين فيأخذ الكثير من المحيط الذي يبشّرُه ويحوّل الكلماتِ والعبارات المأخوذة من العالم الهلّينيّ فيعطيها مضامين عميقة. أمّا أساس تعليمه فهو اختبار طريق دمشق، وتعليم المسيح والجماعة المسيحيّة الأولى كما عرف من خلال التقليد والكرازة الشفهيّة، والعهد القديم وشروح المعلّمين اليهود له.

1- القسم الأوّل: ترتيب الأمور (1: 10-6: 20)
هناك تحزّبات في الجماعة وشكوك تبدو عارًا على كنيسة كورنتوس.

أوّلاً: التحزّبات والحكمة المسيحيّة
إنّ التحزّباتِ الموجودةَ بين الكورنثيّين تعارضا وحدة المسيح الذي مات من أجلهم والاسم الذي به تعمّدوا (1: 11-16). وسببها أنّ الكورنثيّين اغتنوا بالمواهب فتكبّروا وجعلوا المسيحيّة حكمة بشريّة تشبه التفكّرات الفلسفيّة التي يختار فيها الإنسان نظرته الخاصّة. ولكنّ الحكمة الإلهيّة التي أرادت أن تخلّص العالم بوسيلة جنونيّة في الظاهر، هي وسيلة صليب المسيح، تخزي حكمة هذا العالم (1: 17-25). وهذه الحكمة تحقّقت في كورنتوس حيث دعا الله الجهلاء والضعفاء (26:1- 31) وحيث رفض بولس أن يلجأ إلى سحر الكلام والحكمة البشريّة فما أراد أن يعرف إلاّ المسيح المصلوب (2: 1-4).
هذا لا يعني أنّ لا وجود لحكمة مسيحيّة أي لتعليم متماسك يقدّم تفسيرًا دينيًّا لتاريخ البشريّة ومخطّط الله. ولكنّها حكمة سرّيّة لا يدركها العقل البشريّ إن لم يستنر بنور الله. وهو الروح القدس يكشف هذه الحكمة "للكاملين" ويسهّل لهم الطريق لأن يتكلّموا عنها بالكلمات التي تليق (62-16). ويبدو هذا السرّ الذي سيعرضه في أف في ثلاث مراحل: حكمة الله السرّيّة التي تتضمّن كلّ الخيرات الخلاصيّة والعلويّة موجودة منذ الأزل ومخفيّة في الله، (2: 7-9)، وقد كشف هذا السرّ الروح القدس (2: 10-12) وكرز به وكلاء على غنى الله.
ما استطاع بولس أن ينقل هذه الحكمة إلى الكورنثيّين. ما استطاع أن يُعْطِيَهم إلاّ الحليب أي تعليمًا أوّليًّا لأنّهم ما زالوا جسديّين كما تشهد بذلك انقساماتُهم بالنسبة إلى الواعظين. وعارض بولس هذه الخلافاتِ بنظرةٍ صحيحة إلى الوظيفة الرسوليّة: وعّاظ الانجيل هم مشاركون للّه وسيدانون على وظيفتهم. ليسوا أسياد المسيحيّين الذين يفتخرون بهم بل خادمين لهم. فالمسيحيّون يخصّون المسيح ويشاركونه في ملكه الشامل. وقد أراد الربّ أن يكون الوعّاظ متّضعين ومجرّدين عن كلّ شيء. لئلاّ يفتخرَ بهم أحد بل يفتخر بالإنجيل الذي يحملونه (3: 1-4: 21).
هل نستطيع أن نتعرّف إلى هذه الأحزاب التي تؤلّف جماعة كورنتوس (1: 12)؟ هناك أربعة أحزاب. محازبو أبلّوس ذلك الخطيب اللامع، وكانوا يهتمّون بالفلسفة اليونانيّة. محازبو كيفا (أو بطرس) هم مسيحيّون جاؤوا من فلسطين ورفضوا أن يعتبروا بولس رسولاً. محازبو المسيح الذين يرفضون كلّ سلطة خارجيّة ويعتبرون أنْ لا رئيس لهم إلاّ المسيح ولا معلّم لهم إلاّ المسيح (7:10). والحزب الرابع هو حزب بولس نفسه.
من أين جاء بولس بأفكاره عن الحكمة؟ من اختبار دمشق. التقى الربّ المجيد بعد أن عرت أنّه صُلب فعرف أنّ عذاب الجلجلة كان خلاص العالم. وهناك تعليم المسيح والجماعة المسيحيّة الأولى. قال يسوع: "أحْمَدُك يا أبي، يا ربّ السماء والأرض، لأنّك أظهرت للبسطاء ما أخفيته عن الحكماء" (مت 25:11؛ لو 10: 21-22): إعلان حكمة خفيّة (1: 19- 20؛ 7:2)، تعليمُ يعطَى للصغار (22:1-28؛ 8:2- 10؛ 3: 1)، مشيئة الآب (1: 21؛ مت 11 : 26)، لا يعرف أحد الآب إلاّ الابن (6:2؛ 11: 16؛ مت 11: 27). ولقد حكم العهد القديم أيضًا على حكمة البشرَ وإن بطريقة سلبيّة، تاركًا الطريقة الإيجابيّة للمسيحيّة. وإليك النصوص التي رجع إليها الرسول: 1: 19 (أش 29: 14؛ مز 33: 10)؛ 1: 20 (أش 19: 11-12؛ 18:33؛ 44: 25)؛ 1: 31 (إر9: 22-23)؛ 2: 16 (أش11: 13)؛ 3: 19 ( أي 5: 12-13)؛ (مز 94: 11).

ثانيًا: الشكوك والمثال المسيحيّ (ف 5-6)
الشكوك التي تشوِّه جماعة كورنتوس هي مناسبةٌ ليشدّدَ بولس على المتطلّبات الأخلاقيّة للمثال المسيحيّ، وهي تدفع الرسول لأن يقدّمَ ثلاثة توسّعات. يُخَصَّصُ التوسّعان الأوّل والثالث للنجاسة والثاني للدعاوى: ويتلفّظ بولس متّحدًا بالجماعة بالحرم ضدّ الرجل الذي يعيش مع امرأة أبيه (ف 5) من أجل إصلاح الخاطىء وخلاصه. والجماعة مدعوّة أيضًا لأنّ تتخلّص من الخمير العتيق، خمير الخطيئة، لأنّ المعمّدين فطير وعجين بلا خمير. ويذكّر بولس المسيحيّين أنّهم سيدينون العالمَ والملائكةَ وأنّهم بالتالي يستطيعون أن يحكوا في دعاوى تقام بينهم، فكيف يلجأ بعض الإخوة إلى محاكمَ وثنيّةٍ لفضّ خلافاتِهم (6: 1- 11)؛ يجب أن لا يكون الأمرُ هكذا. لقد غُسلوا وتبرّروا وتقدّسوا وانسلخوا عن عالم الخطيئة. ردّد المؤمنين عبارة يقولها الرواقيّون: كلّ شيء يَحِلُّ لي، فأعلن بولسُ أنّ الجسد الذي صار عضو المسيح في المعموديّة يخصّ المسيح وهو هيكل الروح القدس. وبالتالي، فهو مخلوق للقيامة لا للزنى والفجور.
إعلانات عديدة في هذين الفصلين تذكّرنا بالتقليد الإنجيليّ: 5: 4؛ رج مت 18: 20 (يسوع حاضر وسط المجتمعين باسمه)؛ 6: 2؛ رج مت 19: 28؛ لو 22: 30 (وعدَ يسوع بأن يدين الرسلُ أسباطَ إسرائيل الاثني عشر). لائحة الرذائل التي ترذل الإنسان من ملكوت الله (9:6- 10) قريبة مما نقرأ في مر 7: 21-22.
قال بولس: القدّيسون (أي المسيحيّون) يدينون العالم وهذا قريب من دا 7: 22 (الحكم معطى لقدّيسي العليّ) وحك 8:3، فهي تعني مشاركة المسيحيّين في مُلْكِ مخلّصهم الشامل وفي سيادته على الكون المخلوق ولاسيّمَا الملائكة.
إنّ شعب الله في العهد الجديد هو امتداد لشعب العهد القديم ولجماعة البرّيّة الملتئمة حول موسى. فيجب أن تكون جماعة كورنتوس مقدّسة. وعبارة 5: 13 (أزيلوا الفاسد من بينكم) تعود إلى تث 7:17. أمّا الحرم فهو عادةٌ عمِل بها أهل المجمع ضدّ المؤمنين عقابًا لهم. ثم إنّ العبارة "يصير كلاهما جسد واحدًا" ترجع إلى تك 2: 24.
طلب بولس من المؤمن أن لا يقاومَ الشرّ (7:6) فاستعاد وصيّةً من عظة الجبل (مت 5: 39 ي؛ 1 بط 23:2) وتَذَكَّرَ فكرةً لا يجهلها العالم اليونانيّ بأنْ من الأفضل أن نحتمل الشرّ من أن نرتكبه.

2- القسم الثاني: إجابات على أسئلة الكورنثيّين (ف 7- 11)
هناك سؤال عن الزواج والبتوليّة (ف 7)، وسؤال عن اللحوم المذبوحة للأصنام (8: 1-1:11).

أوّلاً: الزواج والبتوليّة (ف 7)
يتطرّق الرسول أوّلاً إلى مسألة الزواج والبتوليّة (7: 1-16، ثمّ ينتقل إلى اعتبارات عامّة (7: 17-24)، ويعود أخيرًا إلى الموضوع الأوّل يعالجه بطريقة جديدة.
تساءل بعض المسيحيّين: أمَا يجب أن تكون المحافظة على العفّة قاعدة عامّة. أجاب بولس: البتوليّة حالة كريمة وهي أفضل من الزواج، ولكنّها عطيّة نادرة. ما كتب الرسول مقالاً في الزواج، ولكنّه تطرّق إلى وضع خاصّ (كيف نحيا حياة مسيحيّة وسط مجتمع فاسد؟) فنصح بالزواج كوقاية ضدّ الزنى ولم يتوقّف عند أهدافه السامية. في حالة الزواج يُفرض على الزوجين القيام بالواجبات الزوجيّة، لأنّ كلَّ: احد يخصّ الآخر. وإنْ تَوَقَّفَتْ ممارسةُ هذا الحقّ فَلِوَقْتٍ محدّد وباتّفاق تامّ من أجل التفرّغ للصلاة. أمّا الطلاق فيحرّمه المسيح نفسه. غير أنّ بولس يسمح به بسلطته الخاصّة إذا رفض الزوجُ الوثنيّ أن يعيشَ بسلام مع الزوج المسيحي. هذا ما نسمّيه الإنعامَ البولسيّ.
وينتقل الرسول من هنا إلى قاعدة عامّة: المسيحيّة تستطيع أن تتكيّفَ مع كلّ حالات الحياة وتقدّسَها، فلا يجب على المسيحيّ أن يتهرّب من الوضع الخارجيّ (ختان أو لا ختان، عبوديّة أو حرّيّة) الذي وُجد فيه حين دُعي إلى الإيمان. فلا قيمة أخلاقيّة للختان أو للاَّختان. فالمهمّ هو حفظ الوصايا. ثمّ إنّ الإنسان يرتدّ إلى المسيح فيصبح عبد المسيح، والعبد الذي يرتدّ إلى الربّ يحرّره الربّ.
وبعد هذا يعود الرسول إلى مسألة الزواج والبتوليّة ليتطرّقَ إليها من وجهة فرديّة. هنا أيضًا لم يحصل على أمر من الربّ لهذا فهو يعطي نصيحة شخصيّة. ليس الزواج بخطيئة. ولكن لأنّنا وصلنا إلى الساعة الأخيرة، ولأنّ الوقت الذي يفصلنا عن النهاية قصير، فالأفضل أن نحافظ على العفّة المطلقة لأنّها تساعدنا على أن لا ننقسم، بل نكون بكلّيّتنا لما هو للربّ. وزاد الرسول على هذه المبادىء الحلّ لقضيّتين. الأولى: قضيّة الأب الذي يتردّد في أن يزوّج ابنته (آ 36- 38)، الثانية: قضيّة المرأة التي مات زوجها (آ 39- 40).
العفّة هي عطيّة من الله (7:7)، وتلك فكرة نجدها في التقليد الإنجيليّ (مت 19: 11). ويميّز بولس الزواج بين المسيحيّين حيث يمنع الطلاق وزواج المطلّقين (7: 10- 11)، والزواج بين المسيحيّ وغير المسيحيّ الذي ينظّمه بسلطته الخاصّة (12:7-16).

ثانيًا: أكل اللحوم المذبوحة للأصنام (8: 1- 11: 1)
كان قسم من اللحوم المذبوحة للآلهة الوثنيّة يباع في السوق. وكان اليهود يعتبرون هذا الطعام نجسًا. فماذا يجب على المسيحيّين أن يفعلوا؟ إنّ مجمع أورشليم منع استعمال لحوم الأصنام (أع 28:15-29)، ولكنّ بولس لم يفرض هذه الفريضة على المرتدّين في كورنتوس، لأنّه لو فعل لَعَزَلَ هؤلاء المسيحيّين عن محيطهم. ولكنّ هناك من يتردّد. فاهتمّ بولس بتربية ضمائر المسيحيّين. إنطلق من مسألة تعدّاها الزمن، ولكنّه استفاد من الظرف ليعطيَ تعليمًا مهمًّا.
يبدأ الرسول فيعطي المبادىء التي تسود لحوم الأصنام (ف 8) ثمّ يعطي مثلين: مثل بولس نفسه (ف 9) ومثل العبرانيّين في البرّيّة (10: 1-22) وأخيرًا يعود إلى لحوم الأصنام ليعطيَ الحلّ العمليّ (23:10- 11: 1).
وإليك المبادىء: يعرف المسيحيون أنّ الأصنام ليست شيئًا، ولكنّ هذه المعرفة ليست في الجميع. فإن أكلنا من لحوم الأصنام شكّكنا إخوتنا أصحابَ الضمائر الضعيفة. لهذا تفرض علينا المحبّة أن نمتنعَ عنها وإلاّ أخطأنا ضدّ المسيح (7:8). فالمسيحيّ يعرف أن يتخلّى عن حرّيّته وعن حقوقه. هذا ما فعله بولس نفسه فما طالب يومًا بحقوقه ليعيشَ من الإنجيل بل اعتبر أنّه فخرٌ له أنْ يعلنه مجّانًا. وهو من أجل قضيّة الإنجيل يجعل نفسه كُلاًّ للكلّ ويحرم نفسه من كلّ شيء على مثال الراكضين في الحلبة.
وفي البرّّية سقط آباؤنا بالشهوة والشرك بعد أن تعمَّدوا في الغمام والبحر (الغمام قاد العبرانيّين وعبور البحر الأحمر رمز إلى المعموديّة المسيحيّة). واقتاتوا من طعام وشربوا شرابًا روحيًّا (المنّ ومياه الصخر هي رمز إلى الإفخارستيّا). والخطر ذاته يكمن للمسيحيّين: أن يشاركوا في مائدة الشياطين بعد أن يشاركوا في مائدة الربّ.
وبعد هذا العرض التعليميّ الغنيّ، يعود بولس بالتفصيل إلى الاستنتاجات العمليّة: يستطيع المؤمن أن يأكل من كلّ ما يباع في السوق وما يقدّم له على المائدة دون أن يسأل، ولكن إن قيل له إنّ هذه لحوم أصنام عليه أن يمتنع لئلاّ يشكّكَ الآخرين. وهنا يتمّ التناسق بين المعرفة والمحبّة في حرّيّة المسيحيّ الحقيقيّة.
أبرز بولسُ خطرَ الشكوك وقال: من أخطأ ضدّ القريب أخطأ ضدّ المسيح. وهكذا تذكّر التقليد الإنجيليّ كما نقرأه خاصّة في مت 17: 1-2 (مر 9: 42، لو 17: 1-2)؛ 25: 45. والعبارة في 9: 14 (أمر الربّ أنّ الذين يبشّرون بالإنجيل يعيشون من الإنجيل) تعود إلى قول يسوع (مت 10: 40؛ لو 7:10). وأعلن بولس أنّه رغم حرّيّته صار عبدًا للجميع ليربحَ أكبر عدد ممكن (9: 19)، فَتَذَكَّرَ أقوالَ يسوعَ الذي ما جاءَ ليُخدمَ بل ليَخدمَ ويقدّمَ حياتَه فديةً عن كثيرين (مت 20: 28؛ مر 10: 45).
وعاد بولس إلى العهد القديم حين تحدّث عن عبور البحر الأحمر وأحداث البرّيّة. ولكنّ أسفار موسى لا تكفي لتفسّر أقوال بولس. فعبور العبرانيّين وسط الغمام لا يعرفه سفر الخروج الذي يشير إلى غمامة تسبق العبرانيّين أو تتبعهم. وكيف نفسّر عبور العبرانيّين في البحر والنصّ يقول إنّهم ساروا على اليابسة؟ وكيف نفسّر أيضًا ذكرَ الصخر الذي يرافقهم والذي هو المسيح؟ إنّ بولس يتصوّر أحداث البرّيّة كما كان يتصوّرها اليهود في عصره على ضوء بعض المزامير (78؛ 105) وسفر الحكمة (ف 16؛ 19) وفيلون الذي ماثل بين الصخر وحكمة الله، وتقليد الرابانيّين الذي يتحدّث عن الصخر المرافق. وبما أنّه يستعمل أحداث البرّية لتعليم المسيحيّين فهو يعيد تفسيرها على ضوء الواقع المسيحيّ الذي يعطيها عمقًا جديدًا. فهو حين يتكلّم عن العماد في موسى يفكر في العماد بالمسيح.

3- القسم الثالث: تعليمات عن حياة الجماعة وقيامة الموتى (11: 2- 15: 58)
يتطرّق هذا القسم إلى حجاب النساء (2:11-16) والاحتفال بعشاء الربّ (11: 17-34) والمواهب (ف 12- 14) وقيامة الموتى (ف 15).

أوّلاً حجاب النساء (11: 2-16)
هذا التوسعّ موجّه ضدّ أمر لا يتوقف عند لباس النساء. ثبَّتت غل 28:3 المساواة بين الرجل والمرأة في العالم المسيحيّ. هذه المساواة تشير إليها 11: 11. إنّ بولس يهاجم الفوضى ويحاول أن يضع حدًّا للتجاوزات فيشدّد على تنوّع الوظائف في النظام المسيحيّ أيضًا وعلى خضوع المرأة للرجل. وإلى هذا الخضوع يرمز الحجاب الذي تلبسه النساء في الاجتماعات. يعود الرسول إلى براهين كتابيّة ولاهوتيّة (خَلْقُ المرأة من الرجل، حضور الملائكة في الجماعات المسيحيّة) وأخلاقيّة (اللياقة والحشمة). وإذ أراد أن ينهيَ الجدال جاء بتقليد كنائس الله.

ثانيًا: الاحتفال بعشاء الربّ (17:11-34)
إنّ الطقس الإفخارستيّ يعيد عشاء يسوع الأخير ويَتمّ وسط عشاء المحبّة. كان عشاء المحبة يسبق الاحتفال بالإفخارستيّا. عشاء الربّ هو أعمق تعبير عن اتّحاد المسيحيّين (أع 2: 44-47؛ 2: 7) ولكن رافقته الانقسامات في كورنتوس. كلّ فريق يأكل وحده. الأغنياء يتشارهون والفقراء يجوعون. أراد بولس أن يداويَ هذا المرض فرجع كعادته إلى المبادىء السامية وذكر ظروف تأسيس الإفخارستيّا وهدفها وخطورتها: فن يشارك فيها وهو غير أهل لها يجلب على نفسه عقاب الله. أجل، سنجد في هذا النصّ أقدم وثيقة عن تأسيس سرّ الإفخارستيّا على يد يسوع.

ثالثًا: المواهب (ف 12- 14)
نجد أوّلاً في هذا التوسّع الطويل إعلانَ المبدأ المتعلّقِ باستعمال المواهب (ف 12)، ثمّ نشيدَ المحبّة (12: 31-13:13) التي تسمو على كلّ المواهب. ونعود أخيرًا إلى موضوع المواهب من أجل الممارسة العمليّة (ف 14).
ينظّم بولس استعمال المواهب حسب المبادىء التالية: تأتي المواهب الحقيقية من الروح القدس وهي تختلف عمّا عند الوثنيّين من إثارات انخطافيّة تجعلهم يضيعون. هذه المواهب لا تدفعنا إلى التجديف وينبوعها الواحد الأقانيم الإلهيّة الثلاثة. وهذا التنوّع فيها يعود إلى أنّها أعطيت لفائدة جسد المسيح. أعضاء جسد الإنسان متنوّعة وكذلك أعضاء جسد المسيح، فلها وظائف متنوّعة ومرتّبة بحسب تسلسل. وإذا أردنا أن نبحث عن الموهبة العظمى فما لنا إلاّ المحبّة. ويقدّم بولس ثلاث قولات جوهريّة تؤلّف نشيد المحبّة. القولة الأولى (13: 1-3): أعمال البطولة الفائقة ليست بشيء من دون المحبّة. القولة الثانية (13: 4-7): المحبّة أمّ الفضائل وملكتها وهي أوضع الفضائل وأكثرها عمليّة لأنّها تظهر دومًا في بساطة الحياة اليوميّة. القولة الثالثة (8:13-13): المحبّة تفوق النبوءات وموهبة الألسن والمعرفة وفضيلتَيِ الإيمان والرجاء. إذًا لنطلب فضيلة المحبّة ونفضّل النبوءة على التكلّم بالألسنة الذي لا ينفع الكنيسة. فالتكلّم بالألسنة يحتاج إلى من يفسّر، وإن مارسناه حَسِبَنا الناسُ مجانين. أمّا النبوءة (أو الكرازة) فهي تبني وتعلِّم المؤمنين وغيرَ المؤمنين. وبعد أن يعطيَ بولسُ حكمًا يمليه عليه العقلُ السليم، يقدِّم بعض القواعد العمليّة الواجب اتّباعها في الجماعة.
يورد بولس في 13: 13 الفضائل الإلهيّة الثلاث، الإيمان والرجاء والمحبّة كما فعل في 1 تس 1: 3؛ 8:5؛ غل 5: 5-6؛ روم 9:12، 12؛ أف 1 :15-18؛ 4: 2- 5. هذا يعني أنّ هذا المثلّث يَعرفُه قرّاؤه. ويتوقّف بولس عند تعليم جسد المسيح المذكور أيضًا في غل 28:3 وروم 12: 4- 5، ننطلق هنا من عاملين. الأوّل: اتّحاد سرّيّ بين المسيحيّين والمسيح، وهذه الحقيقة وصلت إلى بولس في وحي طريق دمشق فاختبرها بشكل فريد. الثاني: مقابلة المجموعة بجسم حيّ.

رابعًا: قيامة الموتى (ف 15)
يرتكز واقع قيامة الموتى على قيامة المسيح التي تشهد لها ظهورات المسيح القائم بما فيها ظهور دمشق والتي تشكّل الموضوعَ الأساسيّ للكرازة الرسوليّة والإيمان المسيحيّ (آ 1- 11). الرباط متين بين قيامة يسوع وقيامتنا. فإن رذلنا الثانية أنكرنا الأولى وأزلنا الإيمان والرجاء المسيحيّ. فقيامة المسيح هي ينبوع قيامة الموتى. كما أنّ خطيئة آدم وموته أدخلا الموت على الأرض في البشر، فانتصار المسيح على الخطيئة سيتمّ بانتصاره على الموت في اليوم الأخير (آ 12-28). ثمّ يقدّم بولس برهانين: ما معنى العماد عن الموتى إن لم تكن قيامة للأموات؟ لماذا يعرِّض بولس نفسه للمخاطر إن لم تكن قيامة للأموات (آ 29-34)؟.
ولكن كيف يقوم الموتى؟ هذا ما تفسّره آ 35-38. إنّ القيامة تحوّل أجسادنا تحوّلاً عميقًا. فلا يكن لنا ارتياب في ذلك. فهناك أنواع عديدة من الأجساد، والله يقدر أن يخلق أنواعًا عديدة من الأجساد الروحانيّة. سيكون المسيح، آدم السماويّ نموذج القائمين. وإذا وفّر الموتُ الأحياءَ عند مجيء المسيح، إلاّ أنّ كلّ البشر سيتحوّلون في لحظة وحينئذ يتمّ النصر على الموت.
وتنتهي الرسالة (ف 16) بتوصية من أجل اللمّة لقدّيسي أورشليم، بإعلان مشروع زيارة إلى كورنتوس يقوم به بولس وتيموتاوس، وبالتوصية ببعض الأشخاص.
هـ- نصّ 2 كور وفنّها الأدبيّ
اكتُشف كودكس كامل حوالي السنة 200 وهو يتضمّن قسمًا كبيرًا من 2 كور رقمه 46. وهناك برديّات أخرى تعود إلى القرن الخامس أو السادس وهي تتضمّن أجزاءً كبيرة أو صغيرة. أمّا إذا عدنا إلى المخطوطات القديمة ذات الحروف الكبيرة، فالسينائيّ (القرن الرابع) والفاتيكانيّ (القرن الرابع) يحويان 2 كور كاملة. أمّا النصّ الإسكندراني (القرن الخامس) فيغفل 4: 13- 12: 6 والكودكس الأفراميّ (القرن الخامس) يتوقّف عند 8:10. وهناك 18 مخطوطة بين القرن السادس والقرن الثاني عشر وهي تتضمّن نصّ 2 كور كاملاً أو ناقصاً. وأهمّها كلارومونتانوس (القرن السادس) الموجودة في المكتبة الوطنيّة في باريس، وبورنيريانوس (القرن التاسع) المكتوبة في اللغة اللاتينيّة واليونانيّة والموجودة في ألمانيا.
نشير إلى أن قانون موراتوري الذي يعود إلى نهاية القرن الثاني يورد أوّل ما يورد 1 كور و 2 كور. أمّا مرقيون (حوالي السنة 150) فيذكر 2 كور في قانونه وهذا ما يفعله إيريناوس وإكلمنضوس الإسكندرانيّ وترتليانس وكلّ الترجمات القديمة.
ونتساءل: هل 2 كور رسالة واحدة أم مجموعة رسائل؟
انطلق النقاد من انقطاع في النصّ وتبديل في اللهجة. ففي 2: 11 ينهي بولس كلامه عن المغفرة للمذنب، وينتقل حالاً في 2: 12 إلى مجيئه إلى ترواس. وهناك انقطاع بين 6: 13، و 6: 14 وكذلك بين 7: 16؛ 8: 1؛ 8: 24 و9: 1، وتقدّمت الافتراضات المتعدّدة.
قالت فئة أولى: 2 كور هي رسالة واحدة، والانتقال من فكرة إلى أخرى نفسّره بطبع بولس السريع الانفعال، بتوقّف عن الإملاء. أملى بولس ف 1-9 ثمّ كتب بيده ف 10-13 ليهاجم بقوّة المتطفلّين. فإن كان هناك رسالة واحدة فيمكننا أن نقرأها حسب التصميم التالي: علاقات بولس مع الكورنثيّين (1: 1-7: 16)، وصيّتان عن اللمّة لكنيسة أورشليم (ف 8-9)، تنبيهات عن العمل الرسوليّ ودفاع عنه (ف 10-13).
وقالت فئة ثانية: 2 كور هي مجموعة رسائل أرسلها بولس إلى الكورنثيّين. جمعها أحد تلاميذ بولس ونسقّها. وإذا قرأناها قراءة سريعة نكتشف كتلتين ظاهرتين. الكتلة الأولى 2: 14-6: 2. الثانية 10: 1-13:13، لا شكّ أنّ هناك نقاطًا مشتركة بين الكتلتين. الكتلة الثانية متناسقة أمّا الكتلة الأولى فيختلف على مضمونها الشرّاحُ. أمّا ف 8 و9 فهما رسالتان صغيرتان أرسلتا في الوقت عينه. أرسلت 2 كور 8 إلى كورنتوس و 2 كور 9 إلى كلّ أخائيّة التي عاصمتها كورنتوس. وهكذا نستطيع أن نقسم 2 كور إلى خمس رسائل:
- الرسالة المتوسّطة 2: 14-7: 4.
- الرسالة "في الدموع" ف 10-13.
- الدفاع عن العمل الرسوليّ 1: 1-13:2؛ 7: 5-16.
- رسالة إلى كورنتوس ف 8.
- رسالة إلى أخائية ف 9.
هذا ما يقول النقد الأدبيّ. أمّا نحن فنقرأ 2 كور قراءة متتابعة. إنّها كلمة الله تتوجّه إلينا على لسان القدّيس بولس.

و- بنية الرسالة الثانية إلى الكورنثيّين
المقدّمة 1: 1- 11
1: 1-2 العنوان والسلام: من بولس وتيموتاوس إلى كنيسة الله في كورنتوس، عليكم النعمة والسلام.
1: 3-7: البركة: مقاحمة الآلام والتعزيات: تشاطروننا العزاء كما تشاطروننا الآلام.
1: 8-11: نجا الرسول من الموت: ولنا ثقةٌ أنّ الله سينقذُنا منه أيضًا.

1- القسم الأوّل: العمل الرسوليّ، صعوباته وواقعه (1: 12-7: 16)
* لماذا غيَّر بولس طريق سيره 1: 12-13:2
1: 12-14: الكورنثيّون موضوع فخر الرسول وهو موضوع فخرهم: ستفتخرون بنا كما سنفتخر بكم في يوم ربنا يسوع.
1: 15-22: يسوع هو أمين لله، نعم لله. لم يكن نم ولا، وإنّما كان كلّ شيء فيه نعم.
1: 23-2: 4: ما دفع بولس إلى تبديل مخطّطاته هو المحبّة: أريد أن تعرفوا مبلغ حبّي العظيم لكم.
2: 5- 11: الرسول والجماعة والغفران للمذنب. فمن عفوتم أنتم عنه عفوت عنه أنا أيضاً.
2: 12-13: لمّا كان بولس في ترواس قلق لأنّه لم يجد تيطس.

* خدمة العهد الجديد 2: 14-3: 18.
2: 14-17: رائحة الموت، رائحة الحياة.
3: 1-3: الكورنثيّون هم رسالة المسيح، مكتوبة لا بمداد بل بروح الله الحيّ.
3: 4-6: أهَّل اللهُ الرسولَ من أجل رسالة العهد الجديد: مكَّننا من خدمة العهد الجديد، عهد الروح، لا عهد الحرف.
7:3- 11 وَجْهُ موسى وَوَجْهُنا. كيف يكون مجد خدمة الروح؟
3: 12-18: نحن نعكس مجد الربّ بصورة مكشوفة ولسنا كموسى الذي كان يضع قناعًا على وجهه.

* العمل الرسوليّ، ضيقه ويقينه 4: 1-5: 10
4: 1-6: تجلّت معرفة مجد الله على وجه المسيح. أضاء نوره في قلوبنا لكي تشرق معرفة مجد الله، ذلك المجد الذي على وجه المسيح.
7:4-12: كنز في آنية من خزف: الحياة في الموت: الموت يعمل فينا والحياة فيكم.
13:4-15: كرازة الحياة. أقام الربّ يسوع، وسيقيمنا نحن أيضًا مع يسوع.
4: 16-18: ما نراه عابرٌ وما لا نراه أبديٌّ. لا ننظرْ إلى ما يُرى بل إلى ما لا يُرى.
5: 1-5: من الهيكل الأرضيّ الذي هو جسدنا إلى عربون الروح: لنا في السماوات بيت من بناء الله لم تصنعه الأيدي.
6:5-10: سنتجمّع ونبقى أمام الربّ لنرضيَه قبل أن نقف أمامه. لا بد لنا جميعًا من أن نمثلَ لدى محكمة المسيح لينالَ كلّ واحد جزاءَ ما عمله وهو في الجسد.

* خدمة المصالحة، وهي تقابل خدمة العهد الجديد 5: 11-13:6
5: 11-13: الوجه والقلب أو الأسباب الحقيقيّة التي دفعته لأن يكتب الرسالة.
5: 14-17: قد زال كلّ شيء قديم وها هوذا كلّ شيء جديد.
5: 18-19: الله يصالح العالم معه في المسيح ويعهد إلينا بخدمة المصالحة.
5: 20- 21: سفراء باسم المسيح والله يعظ بألسنتنا.
6: 1-2: هذا هو الوقت المرتضى، هذا هو يوم الخلاص.
6: 3- 10: مفارقات الخدمة الرسوليّة: نُحسب كاذبين ونحن صادقون، مجهولين ونحن معروفون، مائتين وها نحن أحياء، فقراء ونُغْنِي كثيرًا من الناس.
6: 11-13: الدعوة إلى الصراحة بين بولس والكورنثيّين: عاملونا بمثل ما نعاملكم.

* تبديل وجهة السير كان خيرًا 6: 14-7: 16.
6: 14-7: 1: اختيار ضروريّ: نطهّر أنفسنا من أدناس الجسد والروح كلّها.
7: 2-4: أنتم في قلوبنا على الحياة والموت.
7: 5-13 أ: وصول تيطس ومفاعيل الرسالة.
7: 13-16: فرح بولس لِمَا لَقِيَهُ تيطسُ من ترحاب في كورنتوس.

2- القسم الثاني: اللمّة من أجل كنيسة أورشليم 8: 1-9: 15
* من المبادرة إلى النعمة 8: 1-6
* سخاء المسيح وعفويّة المؤمنين في العطاء 7:8- 15
7:8-12: من الوفر إلى العطاء العفويّ. تعلمون جود ربّنا يسوع المسيح: كيف افتقر لأجلكم وهو الغنيّ لتغتنوا بفقره.
8: 13-15: لا اتّحادَ دون مقاسمة: تكون بينكم مساواة.
* يتيح مجيء تيطس تحقيق العطيّة الموعود بها 8: 16-24
* من مبادرة لدى الآخرين إلى تحقيق المشروع عندنا 9: 1- 5.
* كيف نعطي أمام الله 6:9-10؟
* غنى روحيّ يرجوه بولس في كورنتوس مع فعل شكر 9: 11- 15

3- القسم الثالث: سلطة الخدمة الروحيّة في الضعف 10: 1-13: 10
* يبقى بولس، وإن غائبًا، الرسولَ المؤسّسَ لكنيسة كورنتوس 10 : 1- 1
10: 1-6: شخص الرسول يدلّ على شخص المسيح: ليس سلاحُ جِهادِنا سلاحًا بشريًّا.
7:10- 11: من اعتقد أنّه للمسيح فليفكرّ في نفسه أنّنا نحن أيضًا للمسيح بمقدار ما هو له.

* جرأة بولس فدّ الرسل "المميّزين" وضدّ الرسل الكاذبين 10: 12- 11: 15.
10: 12-18: مقدار خدمة بولس وحدودها.
11: 1-6: يطالب بولس بسلطته لثلاثة أسباب: هو أصل أعراس كورنتوس مع المسيح، والكورنثيّون يتحمّلون الرسل الكذّابين، وبولس ليس أقلّ من هؤلاء الرسل "المميّزين".
7:11- 11: تجرّد الرسول الحقيقيّ.
11: 12-15: بولس يدحض حجج الرسل الكذّابين.
* بولس يجعل نفسه على مستوى خصومه 11: 16-12: 10.
11: 16-29: أتعاب بولس الرسوليّة. أسفار متعدّدة، أخطار من الأنهار، أخطار من اللصوص.
11: 30-33: ويبرز بولس ضعفه. أنا أفتخر بما يبدو من ضعفي.
12: 1- 10: وينتقل بولس إلى رؤى الربّ ومكاشفاته. ويقول: إذا كنت ضعيفًا كنت قويًّا.

* بولس يمارس رسالة حقيقيّة في كورنتوس 12: 11- 21.
12: 11-18: العلاقات التي تميّز الرسول وتجرّده.
12: 19- 21: البنيان هو هدف العمل الرسوليّ.

* محنة قاسية بين بولس والكورنثيّين 13: 1-10
13: 1-4: سيفعل بولس ولا يشفق.
13: 5- 10: حاسبوا نفوسكم وانظروا هل أنتم على الإيمان. اختبروا نفوسكم.

* الخاتمة 13: 11-13
13: 11-12: تشجيع وسلامات. يسلّم عليكم جميع القدّيسين.
13:13 بركة ثالوثيّة: نعمة ربّنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس معكم جميعًا.

ز- 2 كور والعهد القديم
ترد في 2 كور نصوصٌ عديدة من العهد القديم. يقدّم لها بولسُ بهذه العبارة: "قال الله" (4: 6). أو "يقول" (6: 2)، أو "كما كتب" (4: 13). وهناك إيرادات من دون مقدّمة. إن 17:10 تعود إلى إر 9: 24؛ و 13: 1 إلى تث 19: 15.
كيف يفسّر بولس العهد القديم في 2 كور؟
تدلّ 2 كور 3: 1 ي على روح الله العامل في القلوب، وهي تشير إلى إر 31 :33 وحز 26:36. ما يوجّه المؤمنين ليست الشريعة بل حضور يجدّد القلوب ويحوّل إمكانيّاتِ الفهم. فنحن مع المسيح نعيش نظامًا جديدًا. ولكي يبيّن بولسُ هذه الحقيقة، يتوسعّ في المعارضة بين العهد الجديد والعهد القديم. وبهذا يطبّق ما قاله في 1: 19- 20 فيشدّد على أنّ المواعيد الكتابيّة تمّت بالتأكيد في يسوع المسيح كما عاش في الزمن. وفي 17:5 نقرأ: "زال كلّ شيء قديم وها هوذا كلّ شيء جديد".
ويبدو بولس في 2 كور كموسى الجديد وإرميا الجديد.
نقرأ أوّلاً 3: 6- 7: تلك ثقتنا بالمسيح لدى الله، ولا يعني ذلك أنّ بإمكاننا أن ندَّعي شيئًا لأنفسنا، فإنّ إمكانَنا من الله، فهو الذي مكّننا من خدمة العهد الجديد، عهد الروح، لا عهد الحرف، لأنّ الحرفَ يميتُ والروحَ يحيى. فإذا كانت خدمة الموت (شريعة موسى) المنقوشة حروفها في حجارة قد أحيطت بالمجد، حتّى إنّ بني إسرائيل لم يستطيعوا أن ينظروا إلى وجه موسى لمجد طلعته، مع أنه مجد زائل، فكيف يكون مجد خدمة الروح؟
وهناك مقابلة بين دعوة بولس ودعوة إرميا. قال بولس: الويل لي إن لم أبشّرْ بالإنجيل، فأحَسَ أنّ الله أعطاه هذه الوظيفة وحمَّله حملاً ثقيلاً. رج 1 كور 9: 15- 18؛ إر 1: 6- 8؛ 20: 9. فالخدمة الرسوليّة ضعيفة كالخدمة النبويّة: "إنّها كنزٌ في آنية من خزف" (7:4؛ إر 18: 4-6). وكما فتح لنا إرميا قلبه وأسرَّ لنا بمكنوناته، كذلك فعل بولس الذي ظلّ فرحًا بينما سيطر الحزن على إرميا. وإنّ 7: 2- 4 تدخلنا في قلب المأساة التي عاشها بولس مع الربّ. وإنّ بولسَ سيعبّر عن موقفه تجاه الكورنثيّين بكلمات مأخوذة من إرميا. الهدم والبناء في 10: 3- 6؛ 13: 10؛ رج إر 1: 10؛ 14:12-17؛ 7:18-9؛ 6:24؛ 28:31؛ 32: 41. لم يفهمْ شعبُ إسرائيلَ إرميا، ولم يفهم الكورنثيّون بولس، فتألّم كلاهما حين رأيا الشعب يتخلّى عن محبّة الله (11: 2- 4؛ رد إر 2: 1 ي).

ج- من هم خصوم بولس في 2 كور؟
من الصعب أن نتعرّف إلى خصوم بولس وأن نعرف عددهم وأصلهم وطريقة مخاصمتهم له. تتحدّث 7: 12 عن شخص واحد، هو الظالم. وتتحدّث 11: 4 عن مجموعة لها ميول متعدّدة. لقد سبّب "الظالِمُ" حزنًا لبولسَ (2: 5- 6) بل إلى الجماعة. هو يعتقد أنّه للمسيح (7:10، 11) ولكنّه متطفّل جاء يكرز بيسوعَ آخرَ (11: 3- 4). ويشير بولسُ أيضاً إلى خصومٍ عديدين جاؤوا من الخارج وتلقّبوا برسل مميّزين (11: 5- 6، 12- 13؛ 12: 11- 12).
تحدّث عنهم بولس وعن مهاجمتهم له ليستطيعَ أن يجيبهم. وهولا يحتفظ إلاّ بالأمور التي تصيب خدمته الرسوليّة، فينطلق منها ليحدّد طريقته في أن يكون رسولاً.

1- الخصم في ف 1-7
يقف بولس أمام مثير للشفقة قد لامته الكنيسة فأظهر بولس نحوه حلمًا ووداعة. ولكنّ هذا الرجل هو غير الزاني الذي تتحدّث عنه 1 كور 5: 1- 13. لقد كان الرسول قاسيًا أمام الفوضى الأخلاقيّة (رج 1 تس 4: 3؛ روم 13: 12) فلا يعقل أن يعفوَ بسرعة عن حالة مثل هذه.
المذنب هو غريب عن جماعة كورنتوس، وفي هذا الإطار يبدو الكورنثيّون أبرياء. ولكنّهم لم يخبروا بولس بأمره بل انتظروا وقتًا طويلاً. إلاّ أنّهم تابوا عن تقاعسهم وأظهروا اندفاعًا تجاه الرسول.
هل ننطلق من 12: 21 فنرى في هذا الرجل أحد الغنوصيّين الذي تاب فيما بعد فبدا بولس حليمًا معه. فإن كان غنوصيًّا فهو لم يقف موقف اليهود الذين يزيدون في تقدير موسى (3: 7؛ 13، 15). ونتساءل: أيكون هذا الخصم أبلّوس؟ يتحدّث النصّ الغربيّ لسفر الأعمال عن أبلّوس فيقول: "إنّ الكورنثيّين المقيمين في أفسس والذين سمعوا أبلّوس دعوه للانتقال معهم إلى بلدهم. واتّفق معه أهل أفسس فكتبوا إلى التلاميذ في كورنتوس ليستقبلوه استقبالاً حسنًا". حمل أبلّوس رسائل التوصية هذه (3: 1) وأقام في كورنتوس وانتقد بولس: هو رسول جاء متأخرًا وما عرف يسوع وما أفاد من تعليمه. أمّا أبلّوس فهو أحد السبعين الذين تبعوا يسوع (لو 10: 1) ولهذا يسمح لنفسه بأن يعلّم يسوع آخر غير الذي يعلّمه بولس (11: 4). قاوم تعليم بولس وشخصه (7: 12) وجرَّح فيه لأنّه "لم يعرف المسيح بالجسد". كان فصيحًا فشبّهوه ببولس (11: 6). تعلّق بالحكمة والغنوصيّة فردّ عليه بولس (11: 6). كان قريبًا من إسطفانس في نقاطٍ عديدة ولكنّه استعان بشريعة موسى (3: 1 ي؛ أع 7: 1 ي) وشارك في مظاهر اختطافيّة (12: 1؛ 10). هذا هو رأي أحد الشرّاح، ولكنّه يبقى مجرد افتراض.

2- خصوم بولس في ف 10-13
ماذا يقول لنا بولس عنهم؟ هو يصفهم بتسع صفات:
- القسم الأكبر مدنهم متهوّدون يتعلّقون بممارسات يهوديّة مع أنّهم صاروا مسيحيّين (11: 22؛ رج 3: 6-16).
- تلعب الغنوصيّة والمعرفة دورًا هامًّا عندهم (11: 6) وإن لم يكن بأهمّيّة 1 كور.
- يرغبون بحماس في الاختبارات الروحيّة غير العاديّة حيث الرؤى والانكشافات تلعب دورًا كبيرًا (12: 1-10). ولكنّ هذا يختلف عن المواهب المذكورة في 1 كور 12: 1 ي.
- الكلام والفصاحة ظاهرتا إلهام لهم (11: 5- 6). ولكنّهم لا يقدرون أن يفتخروا أنّ المسيح يتكلّم فيهم.
- يحبّون كلّ ما فيه آياتٌ ومعجزاتٌ وعجائبُ (12: 12؛ رج 1 كور 1: 22).
- يرفضون رسالة بولس الكرستولوجيّة وسيصلون إلى وقت يرذلون فيه المسيح ويعيشون طلاقًا روحيًّا فيُفْصَلُونَ عن الاتّحاد السرّيّ بالمسيح (11: 2- 3).
- يلعب الرباط الماليّ بينهم وبين الجماعة دورًا كبيرًا ليكفل صحة رسالتهم (11: 7، 11؛ رج 2:7).
- هؤلاء المعارضون هم رسل كذّابون ومبشّرون خادعون يتخفَّون وراء رسل المسيح (13:11-14؛ رج 17:2؛ 2:4؛ 12:5).
- إنّهم مأخوذون بتفوّقهم، لهذا يسمّيهم بولس مرّتين "رسلاً مميّزين" (11: 4؛ 11:12؛ رج 5:4).

3- هل يمكن أن نتعرّف إلى هؤلاء الخصوم؟
يصوّرهم بولس على أنّهم رفضوا رسالته الكرستولوجيّة، ويزيد:
- يقدّمون نفوسهم على أنّهم رسل المسيح (7:10؛ 23:11).
- يحملون رسائلَ توصية (10: 12، 18؛ رج 3: 1).
- هم مبشِّرون هلّينيّون ويتعاطَون مع العالم اليونانيّ.
- هل أرسلتهم كنيسة أورشليم؟ كلاّ. وهذا ما يفسّر عدم رجوعهم إلى التوراة وعدم فرضهم للختان.
- أيُّ فرق بين الرسل المميّزين الذين يمتلكون بعض السلطة والرسل الكذبة الذين لا يملكون أيّة سلطة؟
- تنازع بولس مع يهود آسية الذين كانوا السبب في توقيفه في أورشليم (أع 21: 20-36). فهل وصل تأثيرهم إلى بعض المسيحيّين؟
- هل تصادم بولس مع أوّل الهراطقة في الكنيسة؟

4- جواب بولس ينطلق من رسالته الكرستولوجيّة
اكتشف بولس من خلال انتقاداتهم لعمله الرسوليّ أنّهم يرفضون واقع رسالته الكرستولوجيّة. بدأ فأبرز الرباط الدائم بين المسيح والرسالة. شرع خصومه يَنْقُضُونَ عَمَلَهُ من الأساس فجعل نفسه في تيّار كرستولوجيّ: لقد تنازل المسيح واتّضع. ويمكننا القول إنّ بولس صوَّر وأعلن اتّضاع المسيح في واقعه التاريخيّ. ما برح أن يكون رسولاً، ولكنّه تجرّد عن كلّ ما يشكّل واقعًا ظاهرًا لرسالته. استسلم إلى الامِّحاءِ الرسوليّ (رج فل 2: 7). حَسِب الكورنثيّون أنّهم فوق التاريخ، فذكّرهم بتصرّفه بوضع الإنسان على الأرض.
وانتظر بولس طاعة رسوليّة تجلب طاعة للمسيح الذي ذكر انحدارَه الجميعُ بما صنع لهم. ولكنّ بولس لا يخلط بين طاعة وطاعة. طاعته ضعف وطاعة المسيح اتّضاع. فالضعف الرسوليّ ليس حاجزًا يقلّل من قيمة الخدمة، بل عنصر أساسيّ في كرازة الرسول وتصرّفه. فبقدر ما يكون بولسُ ضعيفًا، بهذا القدر يبرز الإنجيل ويصبح الكورنثيّون أكثرَ قوّةً. فالضعف الرسوليّ ليس ابتعادًا وتخاذلاً. إنّه يتيح لسلطة الرسول أن تظهر كما هي في واقعها.

ط- الغنى اللاهوتيّ في 2 كور
1- تعليم عن المسيح
أخذ بولس من التقليد ألقابًا ثلاثة: يسوع، المسيح، الربّ. نجد في 1 كور أنّ المسيح هو قدرة الله (1 كور 1: 24) وحكمة الله والصخر (1 كور 10: 4) وآدم الآخر (1 كور 15: 45). ولَكنّنا لا نقدر أن نعتبرَ "نعم ولا" لقبًا (1: 19).
احتفظ بولس من حياة يسوع بعبارة 8: 9 (افتقرَ لأجلكم وهو الغنيّ لتغتنُوا بفقره) ليُبرزَ تنازل المسيح ووداعته وصلاحه (10: 1). أمّا 5: 16- 17 (لا نعرف أحدًا بعدَ اليوم معرفة بشريّة) فلا تشير إلى معرفة يسوع معرفة تاريخيّة بل تشدّد على سلطانه الخلاّق. لقد تسلّم بولس من التقليد فكرة المسيح الديَّان الإسكاتولوجيّ (5: 10).
وهناك قولة تعتبر المسيح ربًّا (4: 5). وكلمةُ "آبنٍ" المطبَّقةُ على المسيح تُظْهِرُهُ في 1: 9 كَابنِ الله (هذا هو المثل الوحيد في 2 كور). ولكنّ البنوّة حاضرة في عبارة "الله، أب ربّنا يسوع المسيح" (1: 2). وتتحدّث الرسالة عن موت يسوع: "واحد مات عن الجميع" (5: 14). "الذي لم يعرف الخطيئة جعله الله خطيئة من أجلنا" (5: 21). ولقد استنبط بولس عبارتين: "في المسيح" ليدلّ على اتّحاد المؤمن به الآن، "مع المسيح" ليدلّ على رباط في نهاية الأزمنة (2: 17؛ 3: 14؛ 5: 17، 19؛ 12: 2، 19).
ويتطرّق بولس إلى العلاقة بين المسيح والله (8: 9). وفي 13: 13 نجد أوضح تعبير ثالوثيّ في العهد الجديد. وفي 4: 4 تبرز صورة الله والإنسان في وقت واحد.

2- تعليم عن الكنيسة
نقرأ كلمة كنيسة في المفرد مرّة واحدة في 2 كور 1: 1 (كنيسة الله). وفي ما عدا ذلك تبرز الكلمة في صيغة الجمع. ففي 8: 1 نجد علاقة بين الكنائس ومقاطعة مكدونية. وحين يفكّر بولس في هذه الجماعات يستعمل صيغة الجمع (8: 19، 23، 24). فالكنيسة هي موضوع نموّ وبناء من قبل الله (12: 19). وإنّ كانت الكنيسة هيكلَ الله ومعبدَ روح الله في 1 كور 3: 16 فبولس يزيد في 6: 16: "نحن هيكل الله الحيّ". فالروح يعمل في الكنيسة ويشكّل عربونَ الواقع الإسكاتولوجيّ (1: 22). فالذي كوَّننا من أجل هذا المستقبل هو الله الذي أعطانا عربون الروح (5: 5). وَيُشَبِّهُ بولسُ وَحْدَةَ الكنيسةِ بالخطبة بين عذراء طاهرة والمسيح (11: 2). ضعف الإنسان والكنيسة يذكّرنا بإناء من خزف، وقدرة الله في المسيح بكنز ثمين (4: 7 ي). فإن انتمى المؤمنون إلى هذا الدهر بكيانهم الخارجيّ فهم أعضاء الدهر الآتي بكيانهم الداخليّ الموعود بالتجدّد كلّيًّا (4: 16- 18). وهذا التجاذب في الحياة المسيحيّة حيث نحن مخلّصون دون أن نكون بعد في ملكوت السماء، تعبّر عنه 5: 1- 10: ننتقل من خيمتنا الأرضيّة المتزعزعة التي هي صورة حياتنا الحاضرة إلى البناء الثابت الآتي من السماء. هذا الانتقال هو المرحلة الأخيرة التي تعبّر عن نموّ الاتّحاد الحقيقيّ بين المسيح والمؤمن. وهذا الزخم يعبّر عنه بصورة الشعب (6: 16) السائر نحو المستقبل بمشاركته في العهد الجديد (3: 6).

3- المحبة
ترد لفظة المحبّة 9 مرّات في 2 كور وفعل أحبّ 4 مرّات. فاستعمال هاتين الكلمتين يدلّ على اتّساع معناهما. ففي 9: 7 نقرأ أنّ الله يحبّ المعطيَ الفرحان، وهذا يعني أنّ على المؤمن أن يعطيَ بفرح. وفي 11: 11 يرفض بولس انتقاد من يقول إنّه لا يحبّ الكورنثيّين لأنّه رفض أن يأخذ منهم مالاً يعيش به.
إنّ محبّة المسيح لنا هي سرّ الحياة الرسوليّة وهي أيضاً سرّ حياة كلّ مؤمن. "إنّ محبّة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا عندما نفكّر أنّه إذا كان قد مات واحد من أجل جميع الناس، فجميع الناس ماتوا أيضاً. قد مات من أجلهم جميعًا كيلا يحيا الأحياءُ من بعد لأنفسهم، بل للذي مات وقام من أجلهم" (5: 14- 15). صارت المحبّة مرادِفًا لعمل المسيح في حياة المسيحيّين. وفي 13: 11، إله المحبة والسلام هو الإله الذي يفعل في المسيح وفي المسيحيّين. وينهي بولس 2 كور فيجمع في عبارة ثالثوثيّة النعمة والشركة (13: 13) بعد أن يذكر إله النعمة والسلام. ففي 2 كور علامات الروح هي محبة حقيقيّة (6: 6، 8:8). وقصارى القول، فالذي يمتلك المحبّة يمتلكه الله (8: 24).
وتتّخذ المحبّة طابعًا أخويًّا لا يهتمّ للنتائج. نحبّ أكثر ولو وصل بنا الأمر إلى أن يُحِبَّنا الغيرُ أقل (12: 15). وفي 8: 7، 8، 24 يشدّد بولس على الطابع العامّ والظاهر المعارض لحبّ محتال يستميل الآخرين إليه. هو حضور المسيح وَسْطَ العلاقات مع الآخرين. فحين يكتب بولس رسالته في الدموع فهو لا يريد أن يُحْزِنَهم بل أن يُعْلِمَهُمْ بالحبّ الذي يَكُنُّه لهم. تتبدّل الظروف وتتنوّع التطبيقات ولكنّ المضمونَ اللاهوتيّ والكرستولوجيّ لا يتطوّر. وهناك واقعان في أساس هذا الإثبات: لقاء المسيح ببولس حين كان مضطهِدًا للكنيسة أوحى إليه بقوّة حبّ المسيح. وهذا الحدث الحاسم في وجوده أتاح له أن يتقبّل بفرح وقوّة ما تسلّمته كلّ الجماعات الأولى من المسيح والرسل. اجتمع هذان العنصران فأتاحا للرسول أن يُغْنِيَ التقليدَ رابطاً بين الروح القدس والمحبّة. وهذا الرباطُ يعطي المحبّةَ طابع الصدق والحقيقة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM