الفصل الثامن عشر: المسألة الإزائيّة

الفصل الثامن عشر
المسألة الإزائيّة

حين قرأنا أناجيل متّى ومرقس ولوقا ظهرت لنا مشابهات واختلافات متنوّعة. فهذا واقع فريد في عالم الآداب نسمّيه التوافق المختلف. وهذا يطرح علينا سؤالاً: ما هي العلاقات المتبادلة بين هذه الأناجيل؟
هذا ما نسمّيه المسألة الإزائيّة، بمعنى أنّنا نضع نصّ إنجيل بإزاء إنجيل آخر. هي مسألة علميّة مجرّدة، وقد ظلّت الدراسات فيها نظريّة وقريبة من الافتراضات. إلاَّ أننا توخّينا أن نعالجها ليكون هذا المدخل متكاملاً.
حاول القدّيس أغوسطينس، أن يبيّن الاتفاق الجوهريّ بين الأناجيل الإزائيّة أي أناجيل متّى ومرقس ولوقا. وحاول اللاهوتيّون والوعّاظ أن يقدّموا "تناغماتٍ" تهدف لا إلى التشديد على الواقع الإزائيّ، بل إلى تنسيق التقاليد المختلفة فتضحّي بالاختلافات البسيطة وتجعل الخبر في إطار زمنيّ لحياة يسوع. أوّل محاولة من هذا النوع كانت محاولة طاطيانس في الدياتسارون: حاول أن يستعين بالأناجيل الأربعة ومن هنا معنى الكلمة اليونانيّة، ليسطّر خبرًا متواصلاً للبشارة. ولكنّ الكنيسة لم تشجّع مثل هذه المحاولات، وفضّلت الأخذ بالأناجيل الأربعة رغم الصعوبات التي تعترض تنسيقها وتناغمها.
وحاول العلماء الأوروبيّون في نهاية القرن الثامن عشر أن يعرضوا الوضع بموضوعيّة دون محاولة البرهنة عن توافق التقاليد. وأتقنوا الأداة فوصلوا إلى نظرة إجماليّة إلى النصوص: جعلوا النصوص المتقاربة في نظرة واحدة فاكتشفوا درجة تقاربها وتباعدها. هذا ما نسمّيه الواقع الإزائيّ. ونحن سندرس المجموعات والتفاصيل لأنّها تؤثّر على المضمون والقرينة والتعبير الإنجيليّ. ولا ننسَ أنّنا حين نطرح هذه المسألة إنّما نتوخّى تأويلاً أفضل للأناجيل لا اقتصارًا على حلّ مشكلة.

أ- عرض الواقع الإزائيّ
1- مضمون الأناجيل الثلاثة
تقدّم لنا الأناجيل الثلاثة الأولى المعطياتِ عينها من كمّية أقوال يسوع وأعماله (رج مت 9: 35؛ مر 4: 22؛ يو 21: 25). نجد المعجزاتِ عينَها والأمثالَ عينَها والمجادلاتِ عينَها والأحداثَ الرئيسيّة في حياة يسوع. فإذا ألقينا نظرة سريعة تقابل بين الإزائيّين والإنجيل الرابع يبدو الأمر لنا واضحًا.
نسمّي التقليد المثلّث المقاطع الموجودة عند الشهود الثلاثة، أي متّى ومرقس ولوقا. إنّه التقليد المرقسيّ، لأنّ مرقس يحتلّ المكانة الوسطى بين متّى ولوقا. ونسمّي التقليد المثنّى المقاطع الموجودة عند شاهدين هما متّى ولوقا. ونسمّي الصنوين تقليدين يتكرّران في إنجيل واحد.

أوّلاً: نظرة عامّة إلى الموادّ الإزائيّة
وصل الإحصائيّون إلى نتائجَ تكاد تكون مماثلة. ثمّ إنّ تقدير درجة القرابة بين شاهدين يمكنها أن تختلف. مثلاً النسب في متّى (1: 1- 7) وفي لوقا (3: 23- 38) هو تقليد مشترك وكذا نقول عن تجارب يسوع عند مرقس (1: 12- 13)، وعند متّى (4: 1- 11)، وعند لوقا (4: 1- 13). وهناك فوارق زادها هذا الإنجيليّ أو ذاك. وإنّ الإحصائيّات تختلف إذا انطلقنا من الآيات أو من الجمل أو من الكلمات.
فالتقليد المثلّث يغطّي نصف آيات مرقس (330 من أصل 661 آية) وثلث آيات متّى (330 من أصل 1068 آية) وثلث آيات لوقا (330 من أصل 1150). ويغطّي تسعة أعشار كلمات مرقس (10045 كلمة من أصل 11078) ونصف كلأت متّى (8751 كلمة من أصل 18298) وثلث كلمات لوقا (6761 من أصل 19430 كلمة). ثمّ إنّ مرقس لا يملك إلاّ خمسين آية خاصّة به: مثل صبر الزارع (مر 4: 26- 29)، حادث أقرباء يسوع (مر 3: 19- 21)، شفاء الأخرس الأصمّ (مر 7: 31- 37)، أعمى بيت صيدا (مر 8: 22- 26) وبعض الأقوال المتفرّقة. أمّا ما تبقّى من مرقس فنجده عند مّتى ولوقا. فكأنّي بمرقس يمثّل القاسم المشترك في التقليد الإزائيّ. ولكنّ مرقس يقدّم تقاليدَ يجهلها متّى أو لوقا كما أنّه يجهل تقاليدَ عديدةً أوردها متّى أو لوقا.
أمّا التقليد المثنّى فيغطّي خِمس آيات متّى ولوقا أي 3951 كلمة عند متّى و3782 كلمة عند لوقا. ثمّ إنّ متّى يملك 315 آية (أو 5596 كلمة) خاصّة به: خبر الطفولة (ف 1- 2)، ثمانية أمثال، بعض الأخبار وأقوال عديدة. ويملك لوقا 500 آية (أو 8887 كلمة) خاصّة به. إذًا يبدو أنّ هناك يَنبوعًا مشتركًا يستقي منه متّى ولوقا، ويزاد عليه تقاليد خاصّة يعرفها الواحد ويجهلها الآخر.

ثانيًا: تقاليد الموادّ الإزائيّة
هناك يقين إجماليّ عن التقارب بين الموادّ المستعملة، ولكنّه يخفّ حين نتفحّص التفاصيل. هناك تذكّر واحد ولكن كم من الاختلافات. فصلاة الأبانا تتضمّن خمس طلبات عند لوقا وسبع طلبات عند متّى. إذا قرأنا مت 10: 10 ولو 9: 3 أو 10: 4 نجد أنّ يسوع يمنع تلاميذه أن يأخذوا أيّ شيء الطريق. أمّا في مر 6: 8 ي فهو يسمح لهم بأن يأخذوا عصاً. ولكنّ هذه الفوارق الدقيقة لا تلغي اليقين الذي وصلنا إليه ولكنّها تحدّد مدلوله. لهذا يجب أن نتساءل دومًا: لِمَ هذه الروايات المختلفة في أخبار متشابهة إجمالاً؟
إذا تفحّصنا المضمون طُرح علينا سؤالان: إذا أنكرنا كلّ ارتباط أدبيّ، فكيف نبرّر التوافقات العديدة؟ وإذا قلنا بارتباطات مشتركة بين النصوص، فكيف نفسِّر الإسقاطات والزيادات؟ لا يكفي أن نربط هذا بنظرة الكاتب إلى النصّ أو باهتمامه بالقرّاء. فكيف نتجنّب الموقف الاعتباطيّ في تفسيرنا؟

2- ترتيب الموادّ الإنجيليّة
أوّلاً: المتتالية الإجماليّة للمقاطع
لقد توزَّعت المواد عند الإنجيليّين الثلاثة في أربع مراحل: الأولى، تهيئة رسالة يسوع (مت 3: 1- 4: 11؛ مر 1: 1- 13؛ لو 3: 1- 4: 13). الثانية، يسوع في الجليل (مت 4: 12- 18: 35؛ مر 1: 14- 9: 50؛ لو 4: 14- 9: 50). الثالثة، صعود يسوع إلى أورشليم (مت 19: 1- 20: 34؛ مر 10: 1- 52؛ لو 9: 51- 18: 43). الرابعة، الآلام والقيامة (مت 21: 28؛ مر 11- 16؛ لو 19: 24).
إذًا، يبدو أنّ كرازة أولى طبعت بطابعها النهائيّ أحداث حياة يسوع (رج أع 10: 37- 41). فإنّنا نجد رسمة مماثلة رغم الزيادات الخاصّة بكلّ إنجيليّ. ولكن في قلب هذا التوافق الإجماليّ هناك اختلافات بارزة. أهمّها اختلاف متّى عن مرقس ولوقا. فلوقا يتبع (4: 31- 9: 6) ترتيب مرقس (1: 21- 6: 13). أمّا متّى فيسير وحده ولاسيّما في تبديل محلّ خطب الرسالة والأمثال. ثمّ إنّ توزيع أقوال يسوع يختلف في لوقا عمّا هو في متّى. فمتّى يجمع أقوال يسوع في بعض خطب رئيسيّة، أمّا لوقا فيوزّعها على مجمل الكتاب.

ثانيًا: المتتالية الجزئيّة للأخبار
نجد في هذه النصوص المتشابهة توافقًا أو تنافرًا في تفاصيل المتتاليات. هناك توافق في قرينة واسعة مختلفة. فمتتاليات مر 1: 21- 6: 13 ومت 4: 23- 13: 58 هي مختلفة. ولكنّنا نجد تكتيلات جزئية بين مر 1: 21- 45 ومت 7: 28- 8: 16، بين مر 2: 1- 22 ومت 9: 1- 17، بين مر 2: 32- 3: 6 ومت 12: 1- 14، بين مر 3: 22- 4: 34 ومت 12: 22- 13: 34، بين مر 4: 35- 5: 20 ومت 8: 18- 34، بين مر 5: 21- 43 ومت 9: 18- 26.
وهناك اختلاف في تكتيل مماثل. ففي التكتيلات الجزئيّة أدناه نكتشف عكاسات عند متّى بالنسبة إلى مرقس. وُضع مر 1: 40- 45 في متّى قبل مر 1: 21- 39، وُضع مر 4: 25 في متّى قبل مر 4: 13- 24، وُضع مر 4: 35- 5: 20 في متّى قبل مر 2: 1- 22، وُضع مر 5: 21- 43 في متّى قبل مر 2: 1- 22.
أمّا لوقا فيسير بمحاذاة مرقس: إنّه يقحم تقاليده الخاصّة دون أن يفسد نظام المتتالية المرقسيّة. ولكنْ في قلب هذا التوافق الإجماليّ نجد عكاسات أو تنقيلات عديدة. فدعوة التلاميذ في مر 1: 16- 20 تسبق خطبة يسوع الأولى في كفرناحوم وتتبعها في لو 5: 1- 11. والناصرة هي في قرينة مختلفة عند مر 6: 1- 6 وعند لو 4: 16- 30. هناك تقاليد مرقسيّة عديدة تجد ما يقابلها في الفاصل الكبير عند لو 9: 51- 18: 14؛ مر 3: 22- 30؛ 4: 30- 32؛ 9: 42- 48، 49، 50؛ 10: 11- 12، 31؛ 12: 28- 34؛ 13: 15- 16، 21- 23، 33- 37. وفي خبر الالام نجد تنقيلات عديدة: لو 22: 14- 23، 31- 33، 36- 38، 43- 44؛ 23: 6- 16، 27: 31، 40- 43، أخيرًا نلاحظ تنقيلات في مر 10: 35- 45؛ 11: 15- 17.
وقد يرتبط بنهاية متتالية متوافقة حدث بعيد عنها. مثلاً: المجادلة عن بعل زبول في لوقا لا يتبعها حدث متّى ومرقس عن عائلة يسوع الحقيقيّة، بل حدث يشبهه، هو حدث المرأة التي تبارك أمّ يسوع (لو 11: 27 ي). أمّا الحدث عن عائلة يسوع الحقيقيّة فيورده لوقا في قرينة تختلف عن قرينة متّى ومرقس، بعد فصل الأمثال (لو 8: 19- 21).

ثالثًا: وجود متتالية متنافرة داخل مقطع واحد
إذا أخذنا الحلقة عينها وجدنا الأقوال والأحداث واردة في ترتيب واحد. ولكنّ هناك عكاسة تدهشنا: تعكس التجربة الثانية والتجربة الثالثة عند متّى ولوقا. وهناك تبديل في الجملة الواحدة. مثلاً في مت 13: 8 تعطي حبّة القمح مئة وستّين وثلاثين أمّا في مر 4: 8 فتعطي ثلاثين وستّين ومئة. ثمّ نجد شاهدين يتّفقان ضدّ الثالث. مثلاً مت 14: 21= مر 6: 44 ضدّ لو 14:9 أ.
هذه الاختلافات هي كثيرة وهي تصيب كلّ تفاصيل التقليد وتؤثّر على فهم الواقع الإزائيّ. ومهما توغّلنا في التفاصيل بدت حرّيّة الكتّاب واضحة في معالجات الموادّ أو المتتاليات.
هنا يُطرح السؤال: إذا كانت المتتالية الإجماليّة تعكس ارتباط رسمة واحدة، فكيف نفسّر هذه التبدّلات المتعدّدة؟ هل يكفي أن نربطها بعمل الإنجيليّين الأدبيّ؟

3- التوافق في التعبير
إنّ المشابهات والاختلافات لا تصيب فقط مضمون الموادّ المستعملة وقرينتها، بل التعبير نفسه. نلاحظ أوّلاً التوافق. إذا قابلنا أسلوب يوحنّا بأسلوب الإزائيّين وجدنا أنّ أسلوبَ الإزائيّين فريدٌ إذ فيه قليل من الحوارات وقليل من الخطب المؤلّفة.
أوّلاً: في بنية الخبر
نجد التوافق على مستوى بنية الخبر. فبعض الإشارات والمعترضات ترد في النقطة عينها من الخبر مع أنّ الحركة الإخباريّة لا تفرضها. مثلاً: "لأنّهما كانا صيّادين" (مت 4: 18= مر 1: 16). في خبر شفاء المخلّع نجد انقطاعًا في الموضع عينه وبالألفاظ عينها "لكي تعلموا أنّ ابن الإنسان له في الأرض سلطان يغفر به الخطايا، ثمّ قال للمخلّع" (مت 9: 6= مر 2: 10= لو 5: 24). ونقول الشيء عينه عن التعليق "ليفهم القارئ" (مت 24: 15= مر 13: 14).

ثانيًا: في الألفاظ
ويصل التوافق حتّى التماثل بالألفاظ. لا شكّ في أنّنا لا نجد آياتٍ تشبه الواحدة الأخرى شبهًا كاملاً. ولكنّنا مع ذلك نرى مشابهات مثيرة. ترد كرازة يوحنّا في 63 كلمة عند لوقا ومتّى وليس من فرق إلا في كلمتين فقط (مت 3: 7 ب- 10= لو 3: 7 ب- 9).

ثالثًا: في أقوال الرب
يتصرّف كلّ من الإنجيليّين بحرّية في القسم الإخباريّ ولكنّه يوافق الآخر في أقوال الربّ. مثلاً: حادث الضابط الرومانيّ (مت 8: 5- 13= لو 7: 1- 10؛ 13: 28 ي). حادث ابني زبدى (مت 20: 20- 28= مر 10: 35- 45). شفاء المصروع (مت 17: 14- 20= مر 9= 14- 29= لو 9: 37- 43؛ 17: 5 ي).

رابعًا: في استعمال الكلمات النادرة
لا نجد هذه الكلماتِ النادرةَ إلاَّ في هذا المقطع من الإزائيّين، ولا نجدها في أيّ مكان آخر من العهد الجديد. نجد في الموضع عينه الماضي القديم لفعل "ترك، غفر" في مت 9: 2، 5= مر 2: 5، 9= لو 5: 20، 23 (مغفورة). وكذا نقول عن كلمة "يُرفع" (مت 9: 16= مر 2: 21= لو 5: 36). وهناك عبارة في مت 12: 1= مر 2: 23= لو 6: 1 حيث الفعل الكلاسيكيّ لا يعني عادة "اقتلع (أو قطف) السنابل" بل "شدّ الشعر". وهناك أمثلة أُخرى عديدة تدلّ على ارتباط أدبيّ بين الأناجيل أو لغة مشتركة.

خامسًا: في إيرادات نصوص العهد القديم
قد تكون الايرادات مماثلة عند الإزائيّين الثلاثة مع أنّها لا ترجع إلى العبرانيّة ولا إلى السبعينيّة. مثلاً: مت 3: 3= مر 1: 3= لو 3: 4 تبدّل نصّ أش 40: 3- 5 لتقول عن المسيح ما كان يقال عن الله نفسه. ثمّ إنّ مت 11: 1= مر 1: 2= لو 7: 27 تورد ملا 3: 1 وتطبّقه على يسوع. رج أيضاً مت 4: 4، 7= لو 4: 4، 12؛ مت 22: 24، 37= مر 12: 19، 30= لو 20: 28؛ مت 26: 31= مر 14: 27.

4- التنافر في التعبير
أوّلاً: ملاحظات عامّة
غالبًا ما نجد اختلافات طفيفة بين نصوص مأخوذة من تقليد واحد: الانتقالات بين حادثتين، الفوارق الإنشائيّة، تبدّل كلمات تعكس نظرة أخرى... كلّ هذا ينسبه النقّاد إلى العمل التأليفيّ لدى هذا الإنجيليّ أو ذاك. إنّ لو 11: 33 قد حسَّن لغة القول عن السراج كما نجده في مت 5: 15.
ثمّ إذا عدنا إلى اللغة الآراميّة نجد أنّ الاختلافات في الألفاظ تعود إلى اختلافات في ترجمة كلمة آراميّة واحدة. فكلمة "بريا" الآراميّة قد ترجمها لو 5: 31 "الأصحّاء" ومت 9: 12= مر 2: 17: "الأقوياء".
وهناك ظاهرة ثالثة هي ظاهرة البنية الثابتة والكلمات المتنوّعة. روى مرقس حادثة طرد الروح النجس (مر 1: 25- 27) في الإطار الذي روى فيه معجزة تهدئة العاصفة (مر 4: 39- 41). وروى خبر الإعداد للعشاء الأخير (مر 14: 13، 14، 16) في الإطار الذي روى فيه الدخول إلى أورشليم (مر 11: 1- 6). يمكننا أن نقول إنّ أحد عناصر الأخبار انفصل عن أسرته: بقيت البنى والألفاظ ثابتة، وتنوّع الموضوع.

ثانيًا: بنية ثابتة وكلمات متنوعة
قلنا أعلاه إنّ بنية خبر المخلّع مماثلة في الإزائيّين الثلاثة حتّى في الألفاظ. ونفسّر هذه الظاهرة باتّصال أدبيّ بين الشهود الثلاثة. غير أنّ هذا الشرحَ لا يكفي في حالاتٍ أخرى. مثلاً: في مت 23: 13= لو 11: 52 نجد العبارة عينها: الويل لكم. هجوم على نوعين من الناس: الكتبةِ والفرّيسيّين. "لأنّكم". يختلف الفعل (أغلقتم، استوليتم). ويتبدّل الموضوع: ملكوت السماوات، مفتاح المعرفة. إنّ لو 11: 21- 22 يقدّم لنا المعنى الذي عبده في مت 12: 27= مر 3: 29، ولكنّه يستعمل ألفاظاً مختلفة.
نستطيع أن نضع في هذه الفئة التقارب بين مثل الوزنات (مت 24: 14- 30) ومثل الدنانير (لو 19: 11- 27)، ومثل الأعراس الملكيّة والمدعوّين إلى الوليمة (مت 22: 1- 10؛ لو 14: 16- 24). هناك تنوّع على مستوى التقليد الشفهيّ، ولكنّ هناك اتّصالاً أدبيًّا بين الاثنين.

ثالثًا: كلمات ثابتة وبنية متنوّعة
في حادثة واحدة ظلّت الكلمات هي هي، ولكنّها بدّلت موضعها ومعناها ووظيفتها. قد تحفظ الكلمات المعنى عينه، ولكنّها تعبّر عن واقع مختلف: "صرخ الروح بصوت قويّ وخرج من الممسوس" (مر 1: 26) أو استقبل يسوع (4: 33). أقام يسوع حماة سمعان (مر 1: 31). أمّا مت 8: 15 فيقول إنّها قامت (كما من عالم الموت). وقد تأخذ اللفظة مدلولاً مختلفًا أو وظيفة أخرى في الجملة. فكلمة "لوغوس" اليونانيّة تعني "الحدث والخبر" في مر 1: 45 و"السمعة" في لو 5: 15. وهذا في إطار حادثة واحدة. والكلمة اليونانيّة الواحدة تعني في مت 14: 24 أنّ "السفينة تتقاذفها الأمواج" وفي مر 6: 48 أنّ "التلاميذ يلاقون مشقّة في التجذيف". نقرأ في مت 10: 27: "ما أقوله لكم في الظلمة قولوه في النور". صارت في لو 12: 3: "ما تقولونه في الظلمة سيسمع في النور". في مر 12: 20 مات الأخ الأكبر ولم يترك عقبًا. في مت 22: 25: لم يكن للزوج عقب، فترك زوجته. في مت 27: 50: حين صرخ يسوع بصوت قوي في ساعة موته أسلم الروح. في مر 15: 37: حين صرخ يسوع لفظ الروح. وأخيرًا نقرأ في مت 13: 35: "أليس هذا ابن النجّار"؟ وفي مر 6: 3: "أليس هذا هو النجّار، ابن مريم"؟

خاتمة
هناك اتّفاقات تجعلنا نتحدّث عن ارتباط متبادل بين هذه المقاطع أو أقلّه اتّصال أدبيّ. ولكنّ هناك اختلافات، يُرجعها بعضهم إلى فنّ التأليف والميول التعليميّة، وينسبها البعض الآخر إلى نشاط الإنجيليّ الأدبيّ والتعليميّ. مثلاً: التعميمات المتّاويّة عن الأشفية التي تمّت في المساء (مت 8: 16= مر 1: 32)، النظرة الأورشليميّة التي نراها في لو 24: 6.
هنا نودّ أن نتوقّف عند محاولات تفسير هذه الظاهرة وأوّلها التقليد الشفهي.

ب- التقليد الشفهي
1- المناهج
إنّ غيسلر مؤسّس منهج التقليد الشفهيّ (سنة 1818) يستبعد كلّ ارتباط أدبيّ مشترك بإنجيل واحد: فالكرازة الأولى تقولبت سريعًا بسبب فقر ألفاظ اللغة الآراميّة وحسب قواعد التكرار المتواصل. من هنا التشابهات في المؤلَّفات. ولكن تنوّعت الكرازة حسب متطلّبات كلّ محيط فكانت الاختلافات.
وجاء من يصحّح هذا المنهج: كمّل متّى اليونانيّ التقليد الآراميّ بمجموعة خطب ترجمت إلى اليونانيّة. واستعمل لوقا كتابات مجزّأة لمّها من مكان آخر. إذًا الأناجيل مستقلّة بعضها عن بعض وقد كتبت في أماكن مختلفة: مرقس حوالي سنة 64 في رومة. متّى حوالي سنة 66 في الشرق ولوقا في الوقت عينه في سورية. ولكن بقي هذا مجرّد افتراض.
وظهر منهج ثالث يتحدّث عن لغة إنجيليّة مشتركة برزت في استعمال عبارات أو كلمات نادرة. والألقاب المعطاة ليسوع (ابن الإنسان، ابن الله، الربّ) والرسل (الاثنا عشر، التلاميذ، الرسل) تدلّ على تطوّر قي ممارسة هذه اللغة.
ولكن أما يمكن أن يكون هناك اتّصال أدبيّ بين الأناجيل أو بين الوحدات التي سبقت المرحلة الإزائيّة.

2- دور التقليد الشفهيّ
يُقرّ معظم الشرّاح بدور التقليد الشفهيّ في تنسيق بعض المقاطع، في التقاليد البسيطة، في مقاطع من التقليد المثنّى. ولكنّهم لا يكتفون بالتقليد الشفهيّ في التقليد المثلّث. ثمّ إنّ المتتاليات الطويلة التي تمتدّ إلى خمسة عشر مقطعًا لا تجد ما يبرّرها في منهج التقليد الشفهيّ.
ولكنْ يبقى أنّ التقليد الشفهيّ يلعب دورًا: هناك الإنشاء الشفهيّ الذي يعرّفنا به اختصاصيّو اللغة الآراميّة (الإيقاع، التوازي، الأساليب الذاكريّة، الكلمات الرابطة، التضمينات)، هناك تبدّل في استعمال الأفعال ومعانيها.
وهكذا يتّفق الشرّاح على القول بدور هامّ للتقليد الشفهيّ في تدوين الأناجيل. ولكنّهم يرفضون تعميم هذا المنهج ويختلفون في مدى تطبيقه.

ج- ترابط الإزائيّين بعضهم ببعض
إنّ أصحاب الترابط المتبادل بين الأناجيل يتأثّرون بالتشابهات في المضمون وفي تنسيق الموادّ، ويتركون جانبًا الفوارق الطفيفة. ونقدّم بعض الإثباتات.
1- يتّفق مجمل الشرّاح على القول إنّ مرقس مستقلّ عن لوقا ومتّى.
2- عندما لا يتبع متّى أو لوقا مرقس في الموادّ المستعملة، أو في التنسيق، أو في التعبير، فهما يختلفان الواحد عن الآخر.
3- إذا أخذنا خبر الالام، فلكلّ من متّى ولوقا تقاليده الخاصّة بحيث لا ينسخ الآخر.
4- لا يقلّد متّى لوقا عندما يحوِّل بعض الأحداث مثل كرازة يسوع في الناصرة أو الصيد العجائبيّ.
5- لا يقلّد متّى لوقا في المقاطع الإضافيّة التي احتفظ بها لوقا من مرقس (مر 5: 8- 10، 18- 20، 29- 33). وهو يغفل المقاطع الأربعة التي يتفرّد لوقا بمشاركة مرقس فيها.
6- يجعل لوقا حوالي 15 مقطعًا مشتركًا بين متّى ومرقس ولا يأخذ بالإشارات الخاصّة بمتّى.
7- إذا تحدّثنا عن التنسيق نقول إنّ متّى ولوقا لا ينفصلان عن مرقس حين يسير الواحد منهما منفردًا. مثلاً: يقدّم متّى متتالية شخصيّة عن أحداث الجليل. ويتفرّد لوقا بعكس بعض الأمور في خبر الالام أو بنقل المجادلة على بعل زبول أو مثل حبّة الخردل. ولكنّ لوقا ومتّى يتّفقان على مرقس في حدث الباعة المطرودين من الهيكل.
8- يمكننا القول إنّنا نجد أمورًا قديمة في كلّ من متّى ولوقا دون أن نحدّد تبعيّة الواحد إلى الآخر.
9- يختلف متّى ولوقا عن مرقس حين يهملان الأحداث الخمسة الخاصّة بمرقس، حين يجعلان حدث الباعة المطرودين من الهيكل حالاً بعد الدخول إلى أورشليم، حين يُهملون بعض الإشارات الخاصّة بمرقس أو يقدّمان فوارقَ قديمةً.
10- وإذا توقّفنا عند التقليد المثنّى، فقابلنا مقاطع متى ولوقا نجد ارتباطاً متبادلاً في توافق إجماليّ. فالموادّ متشابهة، ولكنّنا لا نقول إنّ الواحد نسخ الآخر. فالاختلافات كثيرة في أخبار الطفولة والأنساب وظهورات المسيح القائم من الموت ونصّ الأبانا ومثلي الوزنات والدنانير...
11- هل من تنسيق للموادّ؟ هناك متتالية متشابهة (مت 10: 26- 33= لو 12: 2- 9)؛ ولكنّ هناك اختلافًا عميقًا. هناك تماثل مدهش في العبارات (مت 3: 7 ب- 10= لو 3: 7 ب- 9، مت 11: 25- 27= لو 10: 21- 22). مع فروقات عديدة. كلّ هذا يدفعنا إلى القول إنّه ليس من تبعيّة أدبيّة مباشرة بين متّى ولوقا. غير أنّ هذا التوافق يتطلّب تفسيرًا. هل هناك مراجع خطّيّة أو شفهيّة؟
12- هل يرتبط لوقا بمرقس؟ نعم، يجيب البرهان الكلاسيكيّ ويستند إلى الأجزاء المرقسيّة (لو 4: 31- 6: 19؛ 8: 4- 9: 50؛ 18: 15- 21: 38). في هذه المتتاليات الثلاث يعود لوقا إلى موادِّ مرقسَ وإن أغفل بعضها فلكي يمنع التكرار (المسح بالطيب في بين عنيا) أو الشكوك (عومل يسوع كمجنون بواسطة أقربائه: مر 3: 20- 21 أو اعتبر جاهلاً اليوم والساعة: مر 13: 32. أو متروكًا من الآب: مر 15: 34). ثمّ إنّ تنظيم الموادّ عند لوقا شبيه بتنظيمها عند مرقس. وإذا انتقلنا إلى وسائل التعبير وجدنا أنّ لوقا يحسِّن لغة مرقس ويتجنّب خشونة الإنشاء وقلّة المهارة في عرض الوقائع. وراح هؤلاء الشرّاح يقولون إنّ لوقا وضع أمامه نصّ مرقس. وقالوا: لم يستعن لوقا بمرقس فقط، بل بنصّ متّى الآراميّ كما نقل إلى اليونانيّة... ولكن يجب أن نزيد على كلّ هذا تدخّل التقليد الشفهيّ ونقول إنّه كان في حوزة لوقا مراجع استقى منها مرقس وهي تضمّ مقاطعَ مثل هذه: مر 2: 1- 3: 6؛ 4: 1- 34؛ 4: 35- 5: 43؛ 6: 6- 44؛ 8: 27- 9: 29؛ 9: 20- 10: 52؛ 11: 27- 12: 44؛ 13: 1- 31.
13- هل يرتبط متّى بمرقس؟ ليس الوضع بسيطاً كما كان في لوقا، ولكنّ بعض الشرّاح يقولون إنّ متّى وضع هو أيضاً مرقس أمامه حين دوَّن إنجيله. فما هو أكيد هو أنّ موادَّ مرقس دخلت كلّها تقريبًا في إنجيل متّى فلم يفلت إلاَّ 40 آية من أصل 675 آية. وزاد متّى 12: 30، 33- 45؛ 17: 24- 27؛ 19: 10- 12؛ 20: 1- 16؛ 21: 28- 32. وترتيب إنجيل متّى هو ترتيب إنجيل مرقس خاصّة بعد مت 14: 1= مر 6: 14 (ما عدا حادثة الباعة في الهيكل والتينة اليابسة). ثمّ إنّ متّى بدّل مواضع بعض المقاطع. أخذ أربعة أخبار معجزات (مر 1: 40- 45؛ 4: 35- 5: 43) فجعلها في مت 8- 9. وأخذ مقطعين عن الاثني عشر، واختيار التلاميذ (مر 3: 13- 19) وتعليمهم (مر 6: 7- 11) وجمعهـا في خطبة ف 10. وأخذ دهشة الشعب أمام تعليم يسوع في مر 1: 12 فجعلها في مت 7: 28- 29. إلى كلّ هذا نزيد خطبتي الرسالة والأمثال.

د- الينابيع المراجعيّة
1- مرقس هو مرجع سابق للوضع الإزائيّ
أوّلاً: الينبوعان
نجد في أساس هذا النهج يقينًا هو أنّ متّى ولوقا يرتبطان مباشرة بمرقس. قال بعضهم: هو نصّ سابق لمرقس. وقال غيرهم: هو التقليد الشفهيّ وما جمعه من معلومات في قوالب سابقة. إذًا يبقى ضباب بين متّى ولوقا ويَنبوعهما المشترك الأوّل. أمّا الينبوع الثاني فيفترض وجوده تقاليد مشتركة بين متّى ولوقا وغائبة عن مرقس. سمّاها العلماء "المعين" وحاولوا أن يحدّدوا طبيعة هذا المعين وامتداده. عادوا إلى شهادة بابياس ليجدوا البرهان أنّه وجدت مجموعة أقوال يسوع دوّنها متّى الرسول (مت 5: 7، 10، 13، 18، 23- 25) وغيرها مثل 19: 3- 12؛ 16:19- 26؛ 19: 27- 20: 16... وجاء من يحدّد هذا اليَنبوع الذي يزاد على مرقس ليكمّل متّى ولوقا.
وإليك التفسير: بما أنّنا لا نقدر أن نكتفيَ لا بمنهج التقليد الشفهيّ (الذي يبقى غامضاً) ولا بالوثيقة الواحدة (التي تبقى ناقصة) وجب أن نتكلّم عن تقليدين أو يَنبوعين. نحن نعرف اليَنبوعَ الأوّل فكيف نحدّد اليَنبوع الثاني؟ هناك أقوال وأخبار (تجارب يسوع، ضابط كفرناحوم) وتنسيقات... راح بعضهم يجزّئون هذا المعين ولكنّهم عادوا فتكلّموا عن طبقات التقليد الدائم النموّ.
ولكن جاء من ينتقد نظريّة اليَنبوعين ويعتبر أنّ اليَنبوع الأوّل هو في رأي هذه المدرسة متّى الآراميّ.

ثانيًا: الإنجيل الأوّل والمرجع الإضافيّ
وطرح أحد العلماء فكرة إنجيل أوّل آراميّ نقل إلى اليونانيّة، كان مرقس. عرف مّتى ولوقا متى الآراميّ ومرقس اليونانيّ. وراح علماء آخرون يتحدّثون عن متّى الآراميّ الذي هو يَنبوعُ متّى ومرقس والذي يعكسه لوقا عبر مرقس. وهكذا مزجوا النظريّة المراجعيّة (متّى الآراميّ) ونظريّة الترابط (يرتبط متّى اليونانيّ بمرقس وبمتّى الآراميّ). وهكذا نكون أمام يَنبوعين رئيسيّين للتقليد المثلّث: متّى الآراميّ ومرقس. لا شكّ في أنّنا نقدر أن نفسّر شهادة بابياس من أجل وجود متّى الآراميّ. ولكن يجب أن نسند النقد الخارجيّ بالنقد الداخليّ، أي أن نسند ما قاله بابياس بدراسة موضوعيّة للنصّ الإنجيليّ.

ثالثًا: محاولة بناء متّى الآراميّ
إنّ إنجيل متّى الآراميّ لا يغطّي فقط المقاطع اللامرقسيّة (أي المعين) بل كثيرًا من مواد التقليد المثلّث. مثلاً: خبر شفاء ممسوس الجدريّين (مت 8: 28- 34)، خبر إقامة ابنة رئيس المجمع (مت 9: 18- 26)، الخطبة الكنسيّة (ف 18)... فالإنجيل الأوّل ورث اسم متّى لأنّه استفاد بصورة خاصّة من إنجيل متّى الآراميّ. إذًا، نجد في أساس التقليد الإزائيّ شهادة بطرس بواسطة مرقس، وشهادة متّى في نصّه الأصليّ. فلسنا أمام مرجعين بل أمام إنجيلين هما يَنبوعان للتقليد الإزائيّ. وتساءل بعضهم: ما الذي حصل لكي يكون رسم مرقس مشابهًا لمتّى الآراميّ دون أن يرتبط به؟ التقليد الشفهيّ لا يكفي. وقال آخرون: هذه النظريّة تحتاج إلى مرجع ثالث.
فجاء عالِم (هو الأب فاغاني) يتجنّب هذه الصعوبات. أعلن أنّ متّى الآراميّ المنقول إلى اليونانيّة قد عرفه متّى اليونانيّ كما عرفه مرقس ولوقا. كان هذا الكتاب الأوّل "نصًا شفهيًّا" فأغناه مرقس بكرازة بطرس، وحين دوّن كلّ من متّى ولوقا إنجيله، كان أمامه متّى الآراميّ المنقول إلى اليونانيّة ونصّ مرقس.
واقترح هذا العالِم مرجعًا إضافيًّا لمتّى الآراميّ يتضمّن أقوالاً وُضع معظمها في فاصل لوقا الكبير (لو 9: 51- 18: 14)، وسمّاه كنز لوقا. وكان في هذا المرجع أيضاً 45 آية خاصّة بمتّى وحده.

2- مراجع سابقة للوضع الإزائيّ
إن تخلّى العلماء عن وجود مرجع أو مرجعين في أصل التقليد الإنجيليّ، فهذا لا يعني أنّهم سيرجعون إلى افتراض التقليد الشفهيّ أو إلى منهج الترابط الأدبيّ. هناك طريق وسطى ما تزال مفتوحة: وضع مراجع متنوّعة خلف الأناجيل الإزائيّة.
أوّلاً: تقليد إنجيليّ ومراجع متعدّدة
إنّ حياة الرسالة في الجماعة الأولى تفسّر تكوين الأناجيل. بدأوا باكرًا يؤلّفون نماذج من الأعمال والأقوال تَكُون بشكل مذكّرة في أيدي الوعّاظ والمعلّمين. وكان كلّ واحد يستقي من هذه المذكّرة حسب حاجات سامعيه وحسب ما يرتئيه: المعجزات، أقوال يسوع، آلام المسيح، هذا الخبر أو غيره. وهكذا تكوّنت مجموعات قصيرة أو طويلة، قبل أن تدوَّن في الأناجيل. فلا يكفي أن نقابل الوحداتِ الأدبيّةَ لنحدّد أصل الأناجيل، بل يجب أن نتفحّص تسلسل هذه الوحدات. لم تكن هذه المجموعات عمل الوعّاظ الجوّالين، بل عمل الكنائس التي كانت تعطيها شكلها الأوّل وتنشرها.
قال أصحاب المدرسة التكوينيّة إنّ الإنجيليّين كانوا مُقَمِّشين جمعوا وحدات ومجموعات وُجدت قبلهم ووضعوها في إنجيلهم. وجاء الأب "سرفو" يشرح نظرية "الوثائق المختلفة". حافظ على ارتباط متّى اليونانيّ ولوقا بالنسبة إلى مرقس وجعل في أساس التقليد الإزائيّ تنظيمًا آراميًّا واسعًا تبعته تقاليد جزئيّة متعدّدة. كلّ هذا نقل إلى اليونانيّة: هذا هو متّى الأوّل الذي يرتبط به الإزائيّون الثلاثة.
ولكن نتساءل: هل نحن أمام وثيقة واحدة أم أمام وثائق متعدّدة؟ لا نستطيع أن نتحدّث عن إنجيل واحد، ولكنّ الوثائق المتنوّعة التي تمثّل هذا التقليد طبعت بطابع واحد، طابع الكرازة المربّعة الأقسام. لا حاجة إلى اللجوء إلى "ينبوع ثان"، فمتّى الآراميّ يكفي أن يفسّر مجمل المسألة. له بعض الخصوصيّات ولكنّه يظلّ بشكل ضباب. فلا بدّ إذن من تحديد المرحلة التي سبقت مباشرة متّى الآراميّ.

ثانيًا: أربع وثائق
انطلق العالِم الدومينيكانىِّ "بوامار" من أنّ إنجيل مرقس يقدّم نصوصاً معقّدة لا تفسّر إلاّ بالرجوع إلى وثيقتين سابقتين للوضع الإزائيّ. وهكذا يدمج مرقس (ب) والوثيقة (أ) في خبر قرابة يسوع الحقيقيّة (مر 3: 31- 35) وإقامة ابنة يائيرس (مر 5: 21- 43) وخطر الغنى (مر 10: 23- 27). ويدمج ثلاث وثائق في صلاة الجسمانيّة ونكران بطرس ليسوع والهزء بيسوع كنبيّ. فنقدر أن نقول إنّ الأناجيل الثلاثة تفرض وجود ثلاث وثائق (أو ينابيع)، تشكّل كلّ منها الينبوع الرئيسيّ لكلّ إنجيل: (أ) لمتى، (ب) لمرقس، (ج) للوقا (وبالأخصّ في خبر الالام). غير أنّ الوضع يبدو أكثر تعقيدًا من ذلك. فمرقس ينشأ من (ب) ويدمج معه (أ) وبعض (ج). هذا هو مرقس الوسيط، اليُنبوع الرئيسيّ لمرقس الحاليّ الذي يرتبط جزئيًّا بمتّى الوسيط ولوقا الأوّل. ونضع في أصل متّى الوثيقة (أ) والمرجع (ي). ولنصل إلى متّى الحاليّ يجب أن نقرّ بتأثير مرقس الوسيط. وينشأ لوقا الأوّل من الوثيقة (ب) والوثيقة (ج) ومن المعين ومن متّى الوسيط. أمّا نصّ لوقا الحاليّ فيرجع إلى لوقا الأوّل المتأثّر بمرقس الوسيط.
إذًا يتضمّن التقليد الإزائيّ المراحل الأساسيّة التالية: بعد إعداد المجموعات السابقة للإنجيل، ألّفت الوثيقة (أ) التي هي إنجيل من أصل فلسطينيّ ولد في الأوساط المسيحيّة التي من أصل يهوديّ. الوثيقة (ج) تعكس تقليدًا مستقلاًّ عن (أ) وترجع هي أيضاً إلى أصل فلسطينيّ. لا نستطيع أن نحدّد المرجع (ي) لأنّ لوقا الأوّل تأثّر أيضاً بمتّى الوسيط الذي يتضمّن التقاليد اللامرقسيّة. (أ) و(ج) و(ي) هي ينابيع الإزائيّين الأولى، ونضمّ إليها الوثيقة (ب) التي هي إعادة تفسير (أ) في الكنائس المسيحيّة التي من أصل وثنيّ.

ثالثًا: افتراض أخير: ثلاث وثائق
استعاد "غابوري" محاولة "سرفو" ليحدّد المرحلتين الرئيسيّتين في تكوين الأناجيل. فبين النصوص الحاليّة والوثائق المتعدّدة للتكتيلات الجزئيّة نجد مرحلتين سبقتا مباشرة تدوين الإزائيّين. فالتنسيق العامّ لمقاطع التقليد المثلّث يفرض يقينًا وهو أنّ العلاقة بين الأناجيل الثلاثة تختلف حسب أجزاء كلّ منها. تسير الروايات الثلاث معًا في طريق واحدة حتّى الإعلان البدائيّ للملكوت (مت 3: 1- 4: 11= مر 1: 1- 13= لو 3: 1- 4: 13) وبعد تدخّل هيرودس (مت 14: 1- 27: 61= مر 6: 14- 15: 47= لو 9: 7- 23: 56). أمّا القسم الوسيط (مت 4: 12- 13: 58= مر 1: 14- 6: 13= لو 4: 14- 9: 6) فيبدو مشوّشًا.
رأى الإنجيليّون الثلاثة هذا الاختلاف بين القسم المشوّش والقسم المنسّق. في القسم المنسّق فُرضت اللحمة عليهم فاكتفوا بأن يزيدوا أو ينقّصوا تفصيلاً صغيرًا دون أن يبدّلوا في المتتالية المشتركة. أمّا في القسم المشوّش فيتصرّف الإنجيليّون بحرّيّة ويوزعون بطريقتهم الخاصّة الموادّ التي وصلت إليهم.
ونزيد على هاتين الوثيقتين الأساسيّتين المراجع المشتركة بين ومتّى ولوقا والمراجع الخاصّة بكلّ منهما. ولكنّنا لسنا أمام وثيقة واحدة، بل جملة وثائق.

خاتمة
تفرض ممارسة تأويل الأناجيل تفسيرًا للواقع الإزائيّ. أيّها أفضل نظريّة؟ لسنا ندري. ولكن يجب أن لا تكون النظريّة غامضة كالتقليد الشفهيّ، ولا صلبة مثل نهج اليَنبوعين. فهذا النهج قدّم خدمات جلّى للبحث النقديّ وقدّم نظريّة ثابتة وبسيطة نستطيع أن نطبّقها في الممارسة. ولكنّ هذا النهج يبسّط المعطيات الأدبيّة إلى أقصى الحدود ويقودنا إلى تجاهل ما في إنجيل متّى من ابتكار.
نستطيع أن نبدأ بنهج اليَنبوعين، ولكنّه يحتاج إلى التقليد الشفهيّ. حينئذ يدمّر نفسه كنهج مراجعي دقيق. فمرقس ليس التقليد الأوّل، ولا متّى ولا لوقا. أمّا اليَنبوع الثاني (أي المرجع) فليس وثيقة بل طبقة من التقليد الإنجيليّ. ففي أصل التقليد الإنجيليّ نجد تكتيلات ثابتة أو متقلّبة، واسعة أو ضيّقة.
ونختم قولنا بأنّ التقليد الشفهيّ يعمل دومًا وإنْ لم يقتصر العمل عليه. فقد تدخّل في بداية التقليد الإنجيليّ وفي نهايته قبل أن يتثبّت في الأناجيل الثلاثة، بين فترة الاتّصالات الأدبيّة وفترة التدوين النهائيّ. فالدراسات الحديثة تؤكّد أهمّيّة دور الجماعات في التقليد. وما ننسبه إلى تبديلات أدبيّة هو في الواقع تحوّل في قلب الجماعة. وهذا ما يفسّر الاختلافات العديدة التي لا تجد ما يبرّرها في مناهج الترابط الأدبيّ.
كانت هناك اتّصالات أدبيّة لا بين الأناجيل الحاليّة بل في الوثائق السابقة للمرحلة الإزائيّة. هذا ما توصّل إليه كلّ من بوامار وغابوري اللذين قدّما افتراضاً يفسّر ظاهرة تنوّع التنسيق في الأناجيل الإزائيّة الثلاثة التي هي متّى ومرقس ولوقا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM