الفصل الحادي عشر في أصول قانون الكتب المقدّسة

الفصل الحادي عشر
في أصول قانون الكتب المقدّسة

أ- التقليد الحيّ تجاه الانحرافات الدينيّة
1- استمرار التقليد الحيّ
لم يطبع أيُّ تاريخ العبورَ من التقليد الرسوليّ إلى التقليد الكنسيّ: فقد مرَّ وقت قبل أن نميّز بين هذا وذاك، ونقولُ إنّ التقليد الكنسيّ جعل "الوديعة" تثمر بعد أن ثبَّتها التقليد الرسوليّ. وعلى المستوى العمليّ، تمَّ الانتقال بطريقة لا شعوريّة، يوم كان الرسل لا يزالون أحياء: سلَّموا الكرازة الإنجيليّة إلى المُرسلين، ومسؤوليّة الكنائس إلى رؤساء، ولم يكن هؤلاء وأولئك ممّن أرسلهم المسيح القائم إرسالاً مباشرًا. وعلى مستوى العهد الجديد، أعطانا "رجال رسوليّون" النسخة الأخيرة لكتابات تقرّ الكنيسة بأنّها الشهادات الصادقة للتقليد الرسوليّ. وقبل أن نتفحّص الظروف التي فيها تمَّ التعرّف إلى هذه الأسفار المقدّسة، نشير إلى نقطتين أظهر فيهما التقليد الحيّ استمراره الحقيقيّ، حين انتقل من المرحلة الرسوليّة إلى المرحلة الكنسيّة، وهما: المؤسّسات والخلق الأدبيّ.

أوّلاً: استمرار المؤسّسة
في العهد الجديد، كانت البنى المؤسّسية الإطارَ الذي ألِّفت فيه الكتابات الرسوليّة، وفي هذه البنى لعبت هذه النصوص وظائف متعدّدة: وهذا ما حاولت أن تبيّنه التحاليل السابقة. هنا لا بدّ من أن نقدّر ديناميّة المواهب التي ساعدت على انتشار الإنجيل وسط العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ، والتي ظهرت بعطايا الروح في الكنائس. ولكنّنا لن نعارض المواهب بالمؤسَّسات، فنميِّز بين جماعات مواهبيّة ظهرت في نطاق بشارة بولس الرسول، وبين جماعات من النمط المسيحيّ المتهوّد. فكلّ الجماعات وعت أنّ الروح يقودها، ووعت أنّها لا تستطيع أن تستغنيَ عن البنى. فهذه البنى، مهما اختلفت أشكالها وتنوّعت تسمياتها، هي قديمة قدم الكنيسة نفسها. لهذا ارتبطت منذ البدء ارتباطًا حميمًا باجتماعات الكنائس. ولعب المسؤولون دورًا في خدمة الكلمة أو في وظيفة الرعاية والرئاسة، فكانوا مسؤولين عن النظام الداخليّ، عن الوحدة، عن الخير المشترك. وظلَّ همُّ "حفظ الوديعة" (أي الإنجيل الحقيقيّ) الواجبَ الأساسيّ.
غير أنّ آخر أسفار العهد الجديد جعلنا نلاحظ انتقال خدمة الكلمة من الأنبياء والمعلّمين (1 كور 12: 28؛ أع 3: 1- 2) إلى الشيوخ (أو القسيس) ورؤساء الجماعات. ففي أع 20: 29- 31 نرى بولس يسلّم إلى شيوخ أفسس مهمّةَ الدفاع عن القطيع ضدّ التعاليم الضاّلة التي تلقيها "ذئاب خاطفة". ونقرأ في 1 تم 5: 17 أنّ بعض الشيوخ الذين يرئسون "يتعبون في الكلمة والتعليم"، وقد سُلِّمت إليهم في تي 1: 9 وظيفةٌ تعليميّة مهمّة. وفي 2 يو 7- 11 نرى شيخًا (أو قسًّا) يحذّر المؤمنين من المسحاء الدجّالين (1 يو 2: 18- 23؛ 4: 1- 6). يقابل هذا التطوّرُ مرحلةَ تنظيمٍ وصلت إليها الكنائس، وإمكانيّةَ كرازة توسَّعت لدى الممسكين بوظائف خدَمّية (رئيس، شيخ، راع). ولكنّه يقابل أيضاً حاجات العصر العمليّة. وهذا ما سيتيح للبنى التحتيّة (التي لم تكن كلّها حسب النموذج عينه) أن تتوحّد توحّدًا تدريجيًّا.
وإنّ أولى الوثائق المسيحيّة الآتية من خارج العهد الجديد تدلّ على سعة هذه المسيرة. فمنذ نهاية القرن الأوّل، أو بداية القرن الثاني، أقرّت الديداكيه (أو تعليم الرسل) باستمرار النموذج المسيحيّ المتهوّد مع أنبيائه ومعلّميه في كنائس سورية. وحوالي سنة 95 شهدت رسالة إكلمنضوس (التي وجّهتها كنيسة الله المقيمة في رومة إلى كنيسة الله المقيمة في كورنتوس) لكنائس تلك الأمكنة عن بنية تشبهُ بنيةَ الرسائل الرعائيّة: فعلى رأس الجماعات حلقة شيوخ يقومون بوظائفهم "الرقابيّة" متضامنين. ولكنّنا نفترض أنّه كان لواحد مدنهم دور الرئاسة وسط الآخرين. وحوالي سنة 110- 115، دلّت رسائل أغناطيوس الأنطاكيّ على أنّ "المراقب" يرئس مجلس الكهنة المحلّي في كلّ الشرق، وهو يقوم بالوظائف المعطاة للأساقفة ابتداء من القرن الثاني. نحن أمام هدف هو تحقيق مثال رسمه أغناطيوس لأهل مغنيزية: "اسعَوا أن تقيموا ثابتين في فرائض الربّ والرسل لتنجحوا في كلّ ما تقومون به حسب الجسد والروح، بإيمان ومحبّة، في الآب والآبن والروح، منذ البداية إلى النهاية، مع أسقفكم الموقّر والإكليل الروحيّ الثمين الذي تشكّله حلقة كهنتكم والشمامسة حسب الله". فالوحدة في الجماعات وبين الجماعات، وهي مؤسّسة على الإنجيل الحقيقيّ، تسبق سائر الهموم. فأصحاب الخدَم يعملون لهذه الوحدة، وبدونهم ليس من كنيسة: قلب الكنيسة هو حلقة الكهنة المتحدّين بالأسقف كالأوتار بالقيثارة. لهذا، فأعمال الجماعة الكنسيّة (المعموديّة، عشاء المحبّة، الإفخارستيّا) لا تكون شرعيّةً وصحيحةً ولا يرضى عنها الله، إلاَّ إذا تمّت حول الأسقف أو الشيخ الذي يعيّنه. والوحدة الظاهرة بهذه العلامات المنظورة، تجد أساسها في الرجوع إلى الرسل الذين يربطون الكنائس بالربّ. وهذا الرجوع يجد سِمتَه الملموسة في مبدأ التتابع الرسوليّ الذي تشدّد عليه رسالة إكلمنضوس.
فإذا نظرنا إلى الأمور من هذه الزاوية، بدا لنا استمرار التقليد الحيّ واقعًا متعدّد الجوانب تترابط عناصره: اجتماع الكنائس حول الرعاة الشرعيّين، خدمة الكلمة في خطّ الوديعة الرسوليّة الصحيحة، قراءة التوراة وشرحها على ضوء الإنجيل الواحد الذي تحدّده هذه الوديعة، تعلّق بالسلوك المسيحيّ الذي يسهر عليه رؤساء الكنائس. فالبنى المؤسّسيّة هي في خدمة هذه الأمانة، كما قالت الرسائل الرعائيّة. ونحن نفهم تشديد أغناطيوس على هذه النقطة بسبب إطار تاريخيّ محدَّد سنعود إليه: فعلى هامش الكنائس نجد مجموعات هرطوقيّة تغتصب الاسم المسيحيّ وتشوِّه الإيمان وتقوم باجتماعاتها الخاصة. أما رسالة إكلمنضوس فتبين أنَّ تحقيق المثال الذي تركه الرسل يصطدم بصعوبات تعود إلى الضعف البشريّ، حين نكون أمام خصومة حول وظيفة الأسقف. إذًا، يجب أن نتمسّك بالوحدة في الكنائس.

ثانيًا: الاستمرار الأدبيّ
إنّ الإطار الكنسيّ الذي حدّدناه هو الإطار لخلق أدبيّ يتواصل من دون انقطاع. وأشكال النصوص التي بدأوا بتأليفها في الحقبة السابقة داخل الجماعات المسيحيّة، أخذت تمتدّ وتتقبَّل تحولاّت ملحوظة. فالديداكيه قريبة من الأدب المسيحيّ القديم، وتشكلّ قاعدة كنسية للحياة الجماعيّة. ورسالة إكلمنضوس تختلف عنها بقدر ما تُبرز تدخّلَ كنيسة (كنيسة رومة التي تربط نفسها بشهادة بطرس وبولس) لتحلَّ أزمة تتخبّط فيها كنيسة كورنتوس وريثة التقليد الذي تركه بولس ورسائله. لسنا أمام عمل سلطويّ، بل أمام محبّة أخويّة. وتدلّ رسائل أغناطيوس الأنطاكيّ وبوليكربوس الإزميريّ دوام فنّ أدبيّ دشّنته الرسائل البولسيّة. ولكنّ هدفها لم يعد في تنظيم حياة الجماعات باسم السلطة الرسوليّة: إنها تدلّ على الشركة بين الكنائس ورعاتها، مع التشديد على أخطار الساعة الحاضرة. ورسالة إكلمنضوس الثانية (وثيقة من القرن الثاني) ترتبط بفنّ الوعظ الذي اكتشفنا أهمّيّته في رسائلَ كاملةٍ (عب، 1 بط، أف، 1 يو) أو في مقاطعَ من الرسائل. وهناك مؤلّفات ضاعت، فاحتفظ لنا أوسابيوس القيصريّ بعناوينها ومقاطع منها، وهي تكمّل هذه اللوحة. أوّلاً: "شرح أقوال الربّ" لبابياس أسقف هيرابوليس (حوالي سنة 125). ثانيًا: عمل هاجاسيب التاريخيّ. ثالثًا: "دفاعات" كوادراتوس وأرستيدس الأثينيّ... إنّها تدشّن في الأدب الكنسيّ فنونًا أدبيّة جديدة. وفي أواسط القرن الثاني شكَّل "راعي هرماس" انبعاثًا أصيلاً للفنّ الجليانيّ. ونعرف بواسطة "قانون موراتوري" أنّ مؤلّفه هو شقيق البابا بيّوس الذي مات على أيام أنطونينوس (138- 161). وفي الوقت نفسه، اتّخذ الأدب الخلاّق أشكالاً جديدة مع الفيلسوف يوستينوس في دفاعَيْهِ (148- 161) اللذين أرسلهما إلى الإمبراطور أنطونينوس وإلى مجلس الشيوخ الرومانيّ، وفي "حواره مع تريفون" (دوّن حوالي سنة 165)، فشهد على الجدال مع العالم اليهوديّ وعلى تفسير للتوراة المقروءة في اليونانيّة تفسيرًا مسيحيًّا.
ونشير في هذا الإطار العامّ إلى دوام اصطلاح أدبيّ في العالم الجليانيّ اليهوديّ وفي آخر مراحل العهد الجديد، وهو اللجوء إلى إغفال الأسماء. تُجعَل مؤلّفات دوَّنها كتَّاب مجهولون تحت اسم شخص من العالم القديم، يهوديًّا كان أو مسيحيًّا. وقد كمِّلت بعضُ الأسفار اليهوديّة المنحولة وحوِّرت في الجماعات المسيحيّة ابتداء من القرن الثاني. وهكذا نجد مؤلّفاتٍ يقبل بها الإيمان المسيحيّ القديم مثل" صعود أشعيا" الذي يترجم صوفيّةً مسيحيّةً قريبة من العالم الجليانيّ اليهوديّ. ونسبت إلى أبطال الزمن الرسوليّ مؤلّفاتٌ جليانيّة. مثلاً: "رؤيا بطرس" التي قرئت في بعض الجماعات المسيحيّة. "رسالة برنابا" التي تحارب اليهود وتقلّل من قيمة العهد القديم. ولكنّ خدعة اللجوء إلى أسماء الرسل جعلت من الضروريّ أن يتدخّل رؤساء الكنائس المتعلّقون بالتقليد الصحيح: فهناك مؤلّفات لا قيمةَ تعليميّة أو روحيّة فيها، وهناك مؤلّفات وضعتها الشيع المتفرّعة من المسيحيّة فروّجت لأفكارها، وهذا ما شكّل خطرًا للمؤمنين.

2- خطر الانحرافات
من الصعب أن نصنّف التيّارات التي زاحمت "الكنيسة الكبرى" منذ القرن الثاني، ولاسيّما وإنّ حدود الإيمان المستقيم لم تظهر إلاَّ في ردّة فعل ضدّها. نبدأ بالمسيحيّين المتهوّدين، ثمّ نراقب في المحيطات "الأرثوذكسيّة" توسّع تقوى مشبوهة، ونكتشف أخيرًا الدور الذي لعبته غنوصيّة مجتاحة ومونتانيّة متحمّسة ومنوّرة. كلّ هؤلاء تركوا نتاجًا أدبيًّا نحتاج إلى معرفته لنفهم مشاكل العصر.

أوّلاً: تصلّب المسيحيين المتهوّدين وتطوّرهم
طُرد المسيحيّون المتهوّدون من الجماعات اليهوديّة ومن المجامع بين سنة 85 وسنة 100، فلم يخسروا أصالتهم في الحال. لقد كان وضعهم المدنيّ والدينيّ متزعزعًا: طُردوا من العالم اليهوديّ فشكَّلوا انفصالاً تخفّى وراء التشريع الذي تعترف به الإمبراطوريّة الرومانيّة حيال اليهود. ولكن من هذا القبيل، أبعدهما الخضوع لممارسات الشريعة عن سائر الكنائس التي سيطر فيها العنصر اللايهوديّ. ولكنّنا نلاحظ تأثيرهم في قسم من الأدب المسيحيّ القديم. ثمّ إنّ جماعات تفرّعت من هذا النموذج فعاشت في الشرق ولاسيّما في سورية حتّى القرن السادس. ما نعرفه عن هذه الجماعات هو تحجرّ متزايد وانغلاق على الذات قتل كلّ إشعاع. ولكن كان لها أدب خاصّ ولاسيّما كتيّبات إنجيليّة عرفها القدّيس إيرونيموس.
وهذا التحجرّ دفع بعضهم إلى تكوين شيع أنتجت أدبَ حربٍ ودعايةٍ ، وُضع تحت اسم بطرس ويعقوب. فعند الأبيونيّبن (كان لهم إنجيل خاصّ) انحرفت نظرتهم إلى المسيح عن النماذج الرسوليّة فوصلوا إلى التبنويّة (نظرة تعتبر أنّ المسيح صار ابن الله بالتبنّي في العماد) أو الظاهريّة. وآخرون دخلوا في التيّار الغنوصيّ وأدخلوا فيه أفكارهم الخاصّة، وهذا ما يفسّر الدور المنسوب إلى الرسل مثل توما ويعقوب في الغنوصيّة السوريّة والمصرّية. وهكذا تكوَّن، انطلاقًا من مسيحيّة قديمة مقسّمة إلى تيّارات متعدّدة، أدبٌ إنجيليّ من الدرجة الثانية لا يكفله كفيل، وقد حاول أن يغطّيَ تعليمه المنحرف أو المشكوك فيه بالسلطة الرسوليّة.
ثانيًا: من تقوى مشكوك فيها إلى أدب مغرِض
إهتمّت الكنيسة الكبرى بالمحافظة على الإيمان القويم. ولكنّ الميلَ إلى الأدب المُغْفَلِ نما فشكَّل خطرًا بقدر ما نسبت ترجمةُ الإيمان والتقوى إلى الرسل نتاجًا ذات مضمون ملتبس أو هزيل. رأينا في الكنيسة توسيعًا إخباريًّا (هاغاده) للتقاليد الإنجيليّة: نجده في خبر الطفولة لدى متّى وهو يعبّر عن الكرستولوجيا الصحيحة. واحتفظ خبر الآلام والقيامة ببعض سمات الهاغاده في الأناجيل القانونيّة حين ألقى على التقاليد الشفهيّة صورة بيبليّة ترتبط بالفنّ لا بالتاريخ وتعبّر عن الفكر اللاهوتيّ بطريقة ملموسة (مثلاً: مت 27: 45، 51- 53؛ 28: 2- 4). وتحتفظ توسيعاتُ هذا الفنّ بمكان محدود في نصوص أغناطيوس الأنطاكيّ ويوسيتنوس دون أن تحتميَ وراء سلطة الرسل أنفسهم.
ولكنّ نوعين من الانحرافات أدخلا في هذا المجال عناصرَ مشبوهة تتعدّى حصّة الحرّيّة التي يتركها الإيمان لمخيّلة المسيحيّ. أوّلاً: هناك توسّعات أسطوريّة تطعّمت في تقاليد الطفولة وتقاليد الآلام والقيامة. فترك الكتَّاب العنانَ لمخيلتهم وتوغلوا في عالم المعجزات دون رادع ولا قاعدة. ففي "إنجيل يعقوب" (القرن الثاني) رافقت التقوى نظرة مشبوهة إلى بتوليّة مريم. وفي "إنجيل بطرس" (حوالي 130) "ورسالة الرسل" (بين 130 و150) اتّخذ عرض التعليم سيرًا منحرفًا فجعلنا نهمل "قاعدة الإيمان". ثمّ إنّ فكرة وحي باطنيّ سلّمه المسيح القائم إلى رسله فتح الطريق أمام المجموعات "السرّيّة" التي ستنتشر في الغنوصيّة. من هذا القبيل وحده، وجب أن نميِّز إرث الرسل الصحيح من العناصر الخياليّة التي تطعّمت فيه.
ثانيًا: إنّ التقليد الجليانيّ ملأ المخيلات بحُمّاه. فنحن نعرف بواسطة أوسابيوس القيصريّ أنّ بابياس أسقف هيرابوليس استسلم للأحلام الألفية المنسوبة إلى الشيوخ الذين استمعوا إلى الرسل: وسارت هذه العناصر مسيرتها، فصدّقها إيريناوس وأدخلها في إسكاتولوجيّته عن إيمان الشيوخ. إنّ مثَل إيريناوس يدلّ على الصعوبة في تمييز التعليم الصحيح وسط المعطيات التي نقلها التقليد الشفهيّ.

ثالثًا: من المعلّمين الكذبة إلى الغنوصيّة
ولكنّ الخطر سيزداد. رأينا أنّ كتابات العهد الجديد الأخيرة نَدَّدَتْ بمحاولات الأنبياء الكذبة الذي تغلغلوا في الجماعات فأفسدوا الإيمان: هذا ما تقوله رسالة يهوذا والرسائل الرعائيّة وسفر الرؤيا ورسائل يوحنّا ورسالة بطرس الثانية (هذا لا يعني أنّ الخصوم هم هم في كلّ هذه الكتابات). وبين سنة 100 و150 تبلورت الميول السابقة للغنوصيّة الحاضرة على حدود العالمين اليهوديّ والمسيحيّ، فدخلت في عدّة تيّارات تلفيقيّة محورها ميتولوجيّات الخلاص. وحاولت هذه الغنوصيّة التي ثبّتت أقدامها، أن تُدخل في نهجها أكبر عدد من العناصر المسيحيّة. ومع أنّ طابعها طابع باطنيّ لأنّها تنقل تعليمًا سرّا يعطي المعرفة "الخلاصيّة"، فقد تركت الغنوصيّة أدب دعاية غزيرًا انتشر في الشرق الأوسط: في سورية مع الكسائيّة (شيعة تحافظ على عادات يهوديّة) والمعمدانيّين الذين سيلدون التيّار المندعي (أو العارفين). وفي الإسكندريّة التي ظلّت مكان تخمير فكريّ. ومن هناك انتقلت إلى المراكز المثقّفة في عالم البحر المتوسّط (رومة، أثينة) رفي العالم الفارسيّ حيث ستنفصل عنها المانويّة في القرن الثالث.
كان لهذا الأدب سوابقُ وثنيّةٌ ولاسيّما في مجموعة هرمس. ولكن حين أدخل النهج الغنوصيّ عناصر مسيحيّة. دخل في عالم المعمّدين والموعوظين. من جهة، اقتدى الكتَّاب بالفنون الأدبيّة في الكتابات الرسوليّة فدوّنوا أناجيلَ ورؤىً (لا رسائل لأنّهم لا يقدرون أن يزيّفوها). ومن جهة ثانية، تخفّت المؤلَّفات تحت اسم رسل المسيح: توما، يعقوب، فيلبّس، برثلماوس، متّيّا... وهكذا عُرض تعليمُ المعلّمين الغنوصيّين في مؤلّفاتهم. مثلاً: تفسير يوحنّا لهيراكليون، الذي سيرد عليه أوريجانس. "رسالة من بطليموس إلى فلورا". كتبها تلميذ إيطاليّ لولنطينس واحتفظ بها إبّيفانيوس. وانتقل التقليد الدينيّ لباسيلديس (بين 120 و150) وولنطينس (بين 135 و160) من خلال الأدب المنحول، فانتشر في أوساط واسعة: إنّ مسيح الإيمان قد أعطى تعاليم سريّة لبعض تلاميذَ مختارين، قبل انطلاقه من هذا العالم أو بعد قيامته. واتّخذ مضمونُ هذا التعليم شكلَ "أقوال" انحرفت فجها بعض الموادّ الإنجيليّة الأولى عن معناها، فأعيد تفسيرها وتأليفها، وصيغت صياغةً جديدةً وموسّعة. إنّ إنجيل توما (يعود إلى القرن الثاني وإلى محيط سوريّ) يعطينا أمثلة عن هذه العمليّات المختلفة.

رابعًا: الاستناريّة النبويّة عند مونتانوس
نشر الغنوصيّةَ معلّمون جعلوا الإنجيل يتكيَّف ومتطلّبات الروح الدينيّة عند اليونانيّين والرومانيّين، وضمّوا المسيح إلى أساطيرهم في التحرّر. وإذ عادوا إلى الأدب الرسوليّ المزيَّف، عارضوا عمل رؤساء الكنائس، وجابهوهم بسلطة تفوق سلطتهم، هي سلطة الرسل، وادّعَوا أنّهم يستندون إليها. ومن جهة ثانية، رأى الأساقفة أنّ سلطتهم يعارضها تيّار مختلف يقدّم نفسه وارثًا للروح النبويّة المواهبيّة: أنّه تيّار مونتانوس الذي يخصّص له أوسابيوس القيصريّ مقطعًا هامًّا. فحماس مونتانوس الاستناريّ وُلد في فريجية حيث انتشرت عبادة قيباليس، إلاهة الخصب. تأثّر مونتانوس حين اهتدى إلى المسيحيّة بهذه العبادة، فاعتبر نفسه "أُرْغُنَ" الروح القدس، وأنّه يحمل وحيًا جديدًا يتفوّق على وحي التقليد والكتابات الرسوليّة. ولهذا رفضت المجموعات المرتبطة بهذا الانبعاث الروحيّ سلطة الأساقفة المحلّيّين المتعلّقين بالتقليد القديم، ولكنّ أصحابها بَقُوا في الكنيسة وحاولوا أن يدخلوا إليها التقشّف والتقوى. حارب أساقفة آسية هذا التيّار، ولكنّه انتشر في الغرب فوصل إلى ليون (فرنسا) ورومة وقرطاجة (ربحوا ترتليانس سنة 210- 211 الذي أسّس جماعة منشقّة). حاولت المونتانيّة أن تفبرك "كتبًا مقدّسة جديدة" ولكن لم يبق لنا إلاّ كتابات ترتليانس الأخيرة. بدأت الحرب ضدّ المونتانيّة مع ديونيسيوس أسقف كورنتوس (بين 160 و170) وامتدّت حتّى القرن الثالث، حين شجبها البابا زافيران حوالي السنة 200.

ب- تثبيت مجموعة الأسفار المقدّسة
1- التعلّق بالتقليد الرسوليّ
كلّ المسائل التي أثارها الانشقاق وجدت حلاًّ لها في وقت كانت الكنيسة مضطهدة على يد سلطات الإمبراطور أو الولاة المحلّيّين، فافتقرت إلى سلطة مركزيّة تتدخّل في الوقت المناسب. أمّا أهمّيّة رومة المتنامية فكانت وليد الاعتراف بدورها كَحكَم. وأمّا رؤساء الكنائس في مختلف أصقاع المملكة، فحاولوا كلّ في مكانه أن "يحفظوا الوديعة" (1 تم 1: 20؛ 2 تم 1: 14) لئلا يضلّ المؤمنون بسبب "تعاليم مختلفة وغريبة" (عب 13: 9). وقاموا بعملهم مستندين إلى مبدأ أساسيّ هو الرجوع إلى التقليد الرسوليّ. فهذا اللجوء العمليّ سيطر على الموقف الذي اتّخذه الأساقفة المحلّيّون بوجه المعلّمين الغنوصيّين والأنبياء المونتانيّين. لا شكّ في أنّ الغنوصيّين انتسبوا إلى تقليد سرّيُّ نُقل مشافهة. ولكن واجههم الأساقفةُ بالتقليد الحقيقيّ الآتي من الرسل والمحفوظ في الكنائس بفضل تعاقب الشيوخ. وهذا التقليد الذي ظهر في العالم كلّه، يستطيع أن يدركه في كلِّ كنيسةٍ كلُّ الذين يريدون أن يَرَوُا الحقيقة. لهذا يعدّد إيريناوس سلسلة التعاقبات التي تربط رعاة الكنائس الحاليّين بالرسل. وهكذا أصاب الغنوصيّين في الصميم بالرجوع إلى التقليد، كما أصاب كلّ من اعتبر نفسه حاملاً وحيًا يتفوّق على وحي الرسل.
ولكن كيف يُعرَف تقليد "خارجيّ" بطريقة أكيدة وصحيحة؟ إنّ التتابع الأسقفيّ يحتفظ به بشكل عمليّ بواسطة النظم والليتورجيّا وقواعد السلوك وشروح الإيمان، التي هي خبز الكنيسة المشترك. ويشهد عليه النصوص التي تساعده على التحقّق من أسسه: من جهة، هناك الأسفار التي ورثتها الكنيسة من العالم اليهودي، أي أسفار العهد القديم. ومن جهة ثانية، يجب أن نعرف بتأكيد الأسفار التي تنتسب إلى الرسل: نضع جانبًا الأناجيل والأعمال والرسائل والرؤيا التي تمثّل تقليد الرسل، ونميّزها عن كتابات انتشرت فروّجت لتعليم الهراطقة. إنّ العهدين يشكّلان كنز الكنيسة الذي يغتصبه الهراطقة.
وسلطة الكتب الرسوليّة هذه تفترض معيارين مجتمعين يساعداننا على التعرّف إليها. الأوّل يرتبط بمضمون الكتب وعقيدتها. نحن نرذل الكتابات التي تنتسب إلى الرسل وتنحرف عمّا آمن به وعلّمه بطرس وبولس ويوحنّا ويعقوب والآخرون. فتواصلُ التقليد الحيّ الذي يكفله التتابع الأسقفيّ، يتدخّل ليرفض كلّ قيمة لكتب باطنيّة تعارض الوحي العامّ.
والمعيار الثاني يؤكّد ويحدّد المعيار الأوّل: نحن ننطلق من استعمال الكنائس لنعرف أيًّا هي الكتب التي نتسّلمها كشاهدة صادقة عن التعليم المستقيم. فالكتب التي ترتبط فعلاً بتقليد كلّ من الرسل أو الأشخاص الرسوليّين، والتي نحتفظ بها بحقّ في الكنائس، تحمل سمة أصلها بنسبتها الأدبيّة أو بقربها من الرسل. ولهذا يَجمع إيريناوس كلَّ المعلومات الممكنة عن تأليفها وقرّائها. يعتمد على استعمال قديم يقرّ بأنّ هذه الكتب هي قاعدة الإيمان والحياة، فيبيّن أنّه رجل التقليد.
ويمكننا أن نتكلّم في هذا المجال عن "قانونيّة" ناشطة. فالكتب تشهد لقاعدة الحقيقة، لقاعدة الإيمان. هذا هو المعنى الأوّل لكلمة "قانونيّ" نطبّقها على الأسفار المقدّسة. لا شكّ في أنّ الاعتراف العمليّ بقانونيّتها سبق التحديد الذي أعطاه إيريناوس. وحين يلجأ الآباء الرسوليّون والمدافعون إلى الأناجيل والرسائل دون أن يذكروا اسم مؤلّفها، فهم ينسبون لها سلطة خاصّة هي سلطة التقليد الرسوليّ. مثلاً: يرجع يوستينوس إلى الأناجيل ويسمّيها "مذكّرات الرسل" كما يقول اليونانيّون، ويعيد إلى "مذكّرات بطرس" نصًّا أخذه من إنجيل مرقس. وهو يقول حرفيًّا إنّ "المذكّرات" أو "الأناجيل" تُقرأ مع أسفار الأنبياء في الجماعة المسيحيّة. وهكذا تبقى الجماعة الكنسيّة المكان الذي تُحفظ فيه الأسفار وتُقرأ وتُفسر، كما كانت المكان الذي فيه دُوّنت: فالاستمرار كامل بين تكوينها في الزمن الرسوليّ، واستعمالها خلال القرن الثاني. نحن هنا أمام تقليد "عمليّ" يكفل التقليد التعليميّ في وقت عارضه الهراطقة.

2- نحو لائحة رسمّية للنبات الرسوليّة
أوّلاً: ضغط الظروف
كانت ردّة فعل ضدّ الكتب العديدة التي دوّنها الأنبياء المونتانيّون. اعتبروا أنّهم يحملون وحيًا جديدًا يفوق وحي الإنجيل، فاندفعت الكنيسة تُبرز الأناجيلَ وسائر الكتب الرسوليّة، وتُذَكِّرُ أنّ الإيمان المسيحيّ يجد فيها قاعدته النهائيّة، وأنّ لا شيء يمكن أن يزاد عليها. وكانت أيضاً حرب ضدّ الدعاية الغنوصيّة التي لجأت إلى سلطة المسيح ورسله لتؤكّد سلطة كُتبها التي تحيد عن الإيمان. فوجب على الكنيسة أن تعرّف إلى الأناجيل والرسائل والرؤى التي تمثّل حقًّا التقليد الرسوليّ. وهكذا أُبعدت الكتب الكاذبة وتميَّز القمح من الزؤان.
وعجلَّت مبادرتان فرديّتان في تحرّك الكنائس المختلفة. أوّلاً: جاء إلى رومة حوالي السنة 140 معلّم غنوصي أصلة من البنطس واسمه مرقيون. فعلّم نظامًا ثنائيًّا يعارض فيه العهدان الواحدُ الآخر. رذل مرقيون كلَّ أسفار العهد القديم واعتبرها من عمل العقل الخلاّق الشرّير ولم يحتفظ من العهد الجديد إلاّ بإنجيل لوقا بعد أن شوّهه، وبقسم من رسائل القدّيس بولس. حُرم سنة 144 وناقضه يوستينوس، ولكنّه ربح تبّاعًا كثيرين سيحاربهم ترتليانس بعد نصف قرن في كتابه "ضد مرقيون" (دوِّن في نسخة أولى سنة 200، وثانية سنة 207، وثالثة سنة 211). هذا الكتاب هو مرجعنا الأساسيّ للتعرّف إلى "النقائض" التي نشرها المعلّم الهرطوقيّ. أمّا ردّة الفعل على هذه المحاولة فكانت إجبار الأساقفة والمعلّمين المسيحيّين على وضع لائحة كاملة بكتبهم المقدّسة وإبعاد الأسفار المنحولة والمشبوهة.
المبادرة الثانية: بين سنة 170 و180 ألَّف طاطيانس وهو تلميذ ليوستينوس انجرَّ إلى جماعة المتعفّفين (أو ربّما المرقيونيّين)، ألّف "التناغم الإنجيليّ" أو "دياتسارون" (عبر الأربعة أناجيل): حذف كلّ تكرار، مزج الأناجيل الأربعة، وضمّ إليها بعض التقاليد المنحولة، وقدَّم للمسيحيّين عملاً جديدًا يقرأونه فيستغنون به عن الأناجيلِ الأربعة. نجح الكتاب نجاحًا باهرًا ففسّره أفرام في القرن الرابع. ولكنّ الرجال المتعلّقين بالتقليد أعادوا الانتباه إلى الإنجيل الرباعيّ الذي يملك وحده سلطة رسوليّة لا جدال فيها.
في الظروف المعقّدة، وخلال القرن الثاني، تمّ عملان كانت نتيجتهما تثبيت العهد الجديد. من جهة، كوَّنت الكنائس لائحة رسميّة تمثّل بالنسبة إليها قاعدة الإيمان. ومن جهة ثانية حاول الناسخون المسيحيّون أن يحسّنوا نصّ الكتب التي يعتمد عليها إيمانهم وكرازة الكنيسة: انتقلوا من نصّ شعبيّ فيه اختلافات عديدة إلى نصّ مثَبت وعلميّ بانتظار النصوص المنقّحة في القرن الرابع.

ثانيًا: الإشارات الأولى إلى لوائح رسميّة
ظلّ الآباء حتّى إيريناوس يعتبرون أنّ الكتاب المقدّس هو العهد القديم لأنّه "نبوءة عن المسيح". إذًا لا نستطيع أن نهمل تثبيت لائحته الرسميّة في الكنائس. من هذا القبيل كان المعيار الأساسيّ استعماله القديم في الجماعات. ففي مختلف أصقاع الشتات اليونانيّ، كانت التوراة أوسع ممّا هي عليه في الإطار الفلسطينيّ. إلاَّ أنّ الكنائس التي اتّصلت بوسط يهوديّ مهمّ، والكتَّاب الذين انخرطوا في الجدال مع اليهود، تأثّروا بالقرارات التي اتّخذها معلّمو يمنية. مثلاً: هناك شهادة للائحة ضيّقة عند مليتون السرديسيّ (النصف الثاني من القرن الثاني) الذي يعلن في رسالة إلى أونسيموس أنّه تسلّمها من الشرق (كما يقول أوسابيوس القيصريّ). ونجد أثرًا لهذا التأثير في القرن الرابع (مثلا كيرلُّس الأورشليميّ). ولكنّ استعمال إيريناوس الذي هو معاصر لمليتون السرديسيّ يطابق ممارسة الكنائس المغروسة في الشتات اليونانيّ، ولاسيّما في الإسكندريّة، إنّه يستعمل سفرَيِ الحكمة وباروك (يسمّيه إرميا) والأجزاء اليونانيّة من دانيال بل أيضاً سفر عزرا الرابع (الذي هو سفر منحول). ويعتبر إيريناوس النسخة اليونانيّة ملهمة من الله، وهذا ما يسمح بقراءته في الليتورجيّا. في هذا المعنى عينه كتب أوريجانس إلى يوليوس الأفريقيّ ليبدّد شكوكه بالنسبة إلى أسفار لا تتضمّنها اللائحة اليهوديّة التي أثبتها الرابّانيّون: عرف اللائحة المؤلّفة من 22 كتابًا، ولكنّه ضمَّ إلى توراته كلّ الأسفار القانونيّة الثانية.
أمّا فيما يخصّ العهد الجديد فلا نملك إلاَّ شهادات قليلة ومباشرة عن اللوائح الموضوعة في الكنائس المحلّيّة. فقانون موراتوري هو لائحة رومانيّة موضوعة بين سنة 165 وسنة 185. هو يعرف الأناجيل الأربعة وسفر الأعمالى وكلّ رسائل القدّيس بولس (ما عدا عب). وهو يرذل الرسائل المنحولة فيدلّ على ردّة الفعل ضدّ مرقيون وسائر الهراطقة. وهو يعرف رسالة يهوذا ورسالتين ليوحنّا ورؤيا بطرس "التي يرفض بعض منّا أن يقرأوها في الكنيسة". أمّا المقدّمات المعارضة لمرقيون فلها هدف ضيّق. ترجمت من اليونانيّة فجاءت متأخّرة ولكنّها تستند إلى استعمال سابق. لن نجد في القرنين الثاني والثالث لوائح، لهذا سنلجأ إلى الكتّاب، والاختلاف بينهم ضئيل. بعضهم يؤكّد أنّ رسالة برنابا (إكلمنضوس الإسكندرانيّ) وراعي هرماس (إيريناوس) ورؤيا بطرس (قانون موراتوري، إكلمنضوس الإسكندرانيّ) هي قانونيّة. يرفض الكاهن الرومانيّ كايوس كلّ ما كتبه يوحنّا في ردّة فعل ضدّ المونتانيّة. كثيرون يجهلون الرسالة إلى العبرانيّين (قانون موراتوري) أو لا ينسبونها إلى بولس (هيبّوليتس، ترتليانس) بسبب الصعوبات النقديّة التي أشار إليها أوريجانس. أجل، لم تدخل عب في المجموعة البولسيّة في كلّ مكان في الوقت عينه. أمّا رسائل يعقوب ويهوذا وبطرس الثانية ويوحنّا الثانية والثالثة فلم تذكر إلاَّ قليلاً، لهذ حسبها أوسابيوس القيصريّ في القرن الرابع بين الكتب المختلف عليها.
هذه التردّدات لا ترتبط بمبدأ القانونيّة الذي رأينا أهمّيّته. ولكنّنا نلاحظ أنّ كلمة "قانون" لا تدلّ على لائحة الأسفار المقدّسة إلاَّ في مجمع لاودكية سنة 360: ولكنّها عنت إلى هذا الوقت قاعدة الإيمان كما رأينا عند إيريناوس. فالكتابات الرسوليّة (بالمعنى الواسع الذي يجعل منها شهودًا للتقليد الرسوليّ) تشكّل قاعدة العقيدة التي إليها نعود. من هذا القبيل يكون من الخطأ أن نقول إنّ مرقيون كان صاحب الكتاب المقدّس المسيحيّ أو البادىء بأوّل قانون مسيحيّ. حين شكلَّ أوّل لائحة ضيّقة كان أوّل من حاول أن يثبت قانونًا في القانون وإنجيلاً أساسيًّا يقيِّم سائر الكتابات ويبعدها عن اللائحة المستعملة. ولكنّ محاولة مرقيون التي كانت مجدِّدة ظاهريًّا، قد باءت بالفشل في الواقع. لقد كان القانون بحسب تحديد إيريناوس موجودًا في الحياة العمليّة منذ كانت الكنائس المحلّيّة تقرأ في اجتماعها النصوص التي ترى فيها إرث الرسل الصحيح على مستوى الإيمان والحياة المسيحيّة. في هذا الإطار، لا تقدر المسائل النقديّة أن تتدخّل إلاَّ بطريقة ثانويّة مشكّكة بسلطة هذا الكتاب أو ذاك: تساءل الآباء منذ القرن الثاني: هل بولس هو صاحب عب؟ وفيما بعد شكّكوا في بعض الرسائل الكاثوليكيّة وفي الرؤيا وقالوا: لم تكن صحّتها الأدبيّة أكيدة. أمّا التأويل الحديث فميّز بوضوح هاتين المسألتين: بعد أن أبرز التوسّعَ الأدبيّ الذي تركه الرسل، دعانا إلى أن لا نخلط بين سلطة كتاب يُعتبر قاعدة حياة، وبين صحّته الأدبيّة وطرائق تأليفه. هنا تُترك الحريّة للنقّاد لأن يتحرّكوا داخل تعلّقهم بالتقليد الرسوليّ الذي هو قاعدة الإيمان الأخيرة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM