الفصل الثاني: عشر الفنون الأدبيّة في العهد الجديد

الفصل الثاني عشر
الفنون الأدبيّة في العهد الجديد

مقدّمة
تكلّمنا سابقًا عن النقد الأدبيّ والكتاب المقدّس وحصرنا موضوعنا في كتب العهد القديم. وها نحن نتوقّف في هذا المقال على الفنون أو الأنواع الأدبيّة في العهد الجديد، متوخّين أن نجعل النصّ الكتابيّ أكثر شفافيّة، فنفهمه لا بصورة سطحيّة خارجيّة بل بصورة رصينة متقنة تدخلنا إلى أعماقه، فلا نعود نقرأ الأناجيل وكأنّها فقط حياة يسوع التي جرت منذ ألفي سنة وكتبها الإنجيليّون على غرار المؤرّخين الذين كتبوا حياة الإسكندر أو سقراط، ولا نتهرّب من التمرّس برسائل القدّيس بولس بسبب تركيبها وصعوبة فهمها رج 2 بط 3: 15- 16)، ولا نخاف من الولوج في سفر الرؤيا الذي هو أوّلاً وأخيرًا كتاب الرجاء في عالم يائس ورسالة تعزية وسط المحن والاضطهادات.

أ- الفنون أو الأنواع الأدبيّة
عندما نتكلّم عن الفنون الأدبيّة لا نبحث عن مستوى الكتاب صناعة وأسلوبًا بل نتأمّل طريقة من طرائق الكتابة ونوعًا من الأنواع الأدبيّة يلجأ إليه الكاتب لإيصال الكلمة إلى الناس. وكما أنّ هناك أنواعًا من السينما وأنواعًا من الفنّ المعماريّ، كذلك هناك أنواع من الفنون الأدبيّة. ونحن عندما نعرف الفنّ أو النوع الذي ينتمي إليه النصّ، موضوع درسنا، حينئذ يسهل علينا فهمه.
إنّ كلامنا على الفنون الأدبيّة ينطبق على التراث الذي انتقل إلينا من شفة إلى شفة فوصل إلينا شفهيًّا، أو ذلك الذي دوّنته الأيادي فوصل إلينا مكتوبًا. لا شكّ في أنّ هناك أنواعًا تختصّ بالأدب الشفهيّ دون الأدب المكتوب، كالمثل والمرافعة والنكتة، وأنواعًا تختصّ بالأدب المكتوب، كالمذكّرات الشخصيّة. ولكن قلّما نجد في النصّ الأدبيّ الموسّع فنًّا أدبيًّا واحدًا، بل نجد الكاتب ينتقل من فنّ إلى آخر فلا يملّ القارئ أو السامع.
إنّ الفنون الأدبيّة أمر مألوف عند الذين يدرسون في الصفوف التكميليّة والثانويّة، إذ يطّلعون على فنّ الشعر أو النثر، وعلى الفنّ القصصيّ أو الملحميّ أو الروائيّ. وهي أمر مألوف في حياتنا أيضاً، دون أن نعيره انتباهنا. فعندما نقرأ الجريدة نحن نميّز بين الافتتاحيّة والصفحة المحلّيّة، ونلاحظ الصفحة الأدبيّة أو السيمائيّة أو الرياضيّة، ونتوقّف على الإعلانات وأسعار العملة وصفحة الوفيّات، ويمكننا أن نغوص في قراءة الرواية المتسلسلة أو ننكبّ على الكلمات المتقاطعة. وهكذا تكون جريدتنا انعكاسًا للتنوّع الأدبيّ الذي نجده في الكتب. فإنْ كنّا لا نمزج بين الرواية العاطفيّة والمقالة العلميّة، ولا نخلط بين ديوان الشعر والكتاب المدرسيّ، فلماذا نقرأ مجموعة من سبعة وعشرين كتابًا تمثّل أسفار العهد الجديد وكأنّها نوع أدبيّ واحد؟ ولماذا نطالع سفر الرؤيا وكأنّه حدث واقعي فَنَتِيْه في عالم الأشكال والألوان وتتزاحم أمامنا الأعداد والأرقام، وننسى أنّنا أمام فنّ أدبيّ هو الفنّ الجليانيّ الذي يتوسّل الصور الممّوهة ليوصل الخبر والحقيقة إلى المؤمنين في زمن الاضطهاد؟
إنّ الفنون الأدبيّة هي إذًا أشكال عامّة وفنَيّة للفكر لها سماتها وشرائعها الخاصّة وهي تكوّن ضروبًا وأصنافًا من الكتابة ينتظم في داخلها نتاج الفكر. هي أطر تُسكَب فيها المعرفةُ البشريّة ووسائلُ من التعبير يعتمد عليها الكاتب ليفصح بها عمّا في فكره بحسب الهدف الذي يضعه أمام عينيه. فنحن نستطيع أن نروي الخبر ذاته وكأنّه قصّة واقعيّة أو نكتة ونادرة، ولكلّ طريقة أسلوبها. وهكذا عندما ندخل في بنية مقالة من المقالات فنعرف الفنّ الأدبيّ الذي أخذ به الكاتب، نستطيع أن نفهم قصده عندما كتب ما كتب.
اعتاد دارسو الآداب أن يرتّبوا الفنون الأدبيّة فذكروا الفنّ الشعريّ والفنّ النثريّ والفنّ الملحميّ والفنّ الغنائيّ والفنّ الروائيّ. واعتاد البعض أن يميّز بين الفنون الأدبيّة الرئيسة والفنون الأدبيّة الثانويّة. فالأولى هي التي تتضمّن آثارًا واسعة وذات نفس طويل وبنية متشعّبة، كالرواية والملحمة والقصّة، والثانية هي التي تتضمّن آثارًا ذات نفس قصير، كالقصيدة والمثل والرسالة الصغيرة... وسنأخذ نحن بهذا التمييز لدى قراءتنا أسفار العهد الجديد، فنجعل الفنّ الإنجيليّ، كما نقرأه في الأناجيل الأربعة، والفنّ الإخباريّ، كما نقرأه في أعمال الرسل، في إطار الفنون الأدبيّة الرئيسة، ونجعل المثل وخبر المعجزة، إلخ... في إطار الفنون الأدبيّة الثانويّة.
من أين يأتي الفنّ الأدبيّ؟ إنّه يرجع إلى تقليد شعب أو جماعة من الشعوب ترتبط فيها مضامين الأفكار والعواطف ببنى أدبيّة خاصّة وأسلوب مميَّز. فالمعلّقات ولدت في إطار الجزيرة العربيّة بحياتها القبليّة حيث للحبّ والفخر والحرب طبيعة خاصّة؛ والروايات التمثيليّة ولدت في بلاد اليونان حيث علّمت الديموقراطيّة الناس المحادثة والحوار، والزجل الشعبيّ الذي نعرفه في لبنان ولد مرتبطاً بشعب تمرّس في حضارة السريان فأراد أن يعبّر عن أفكاره وعواطفه بقوالب عرفها في حياته وترسّخت في لاوعيه؛ والأناجيل أيضاً ولدت في الشعب المسيحيّ قبل أن تدوَّن كتابةً. فلقد تناقلت الأفواه كلمات قالها يسوع وأمثال ضربها ليفسّر سرّ الملكوت، وأورد هذا أو ذاك من الشهود العِيان ما فعله يسوع من عمل أو اجترحه من معجزة. ثمّ جُمعت كلمات يسوع في مجموعة أولى فكان فصل يذكر الأمثال وكأنّها قيلت في يوم واحد (مرقس 4: 1 وما يلي)، بينما ردّدها يسوع في المناسبات المتعدّدة، وكان فصل يذكر العجائب العشر (مت 8- 9) التي اجترحها يسوع بحسب الظروف والأوقات. وكذلك نقول عن رسائل القدّيس بولس حيث نجد ترانيم دينيّة قيلت في الجماعة المسيحيّة قبل أن يجعلها القدّيس بولس في رسائله (مثلاً، فل 2: 6- 10)، أو نقاشًا بين المؤمنين عن أهمّيّة الشريعة والإيمان في حياة المسيحيّين عرضه القدّيس بولس فيما بعد في رسالته إلى أهل رومة.
والكاتب، عندما يستعمل فنًّا أدبيًّا معيّنًا غايته التسلية أو التعلّم والإقناع أو التأثير في الناس وهزّ مشاعرهم، يتوسّل المعطياتِ الخاصة بهذا الأدب والأسلوبَ الذي يميّزه عن أيّ أدب آخر. فأسلوب التشريع والفقه غير أسلوب الحبّ والخمر، والأسلوب التاريخيّ غير الأسلوب القصصيّ. فعلى هذا السبيل يقف كتاب أعمال الرّسل بين الفنّ التاريخي والفنّ القصصيّ الدينيّ، وقد توخّى كاتبه أن يحضّ المؤمنين على الحياة المشتركة وأن يجتذب غير المؤمنين إلى هذه الجماعة التي تتّسم حياتها بالفرح والعطاء والتضحية من أجل نشر ملكوت الله.
ولكن كيف نطّلع على فنّ أدبيّ، كيف نتبيّن سماتِه الأساسيّة؟ هناك طريقتان، الأولى بالمقابلة والثانية بالتحليل.
عندما درسنا نصوص العهد القديم على ضوء النقد الأدبيّ عارضناها بنصوص عديدة من آداب شعوب مصر وبابل وفينيقية فرأينا وجه التماثل في البنية والمضمون والأسلوب والمفردات وخلصنا إلى القول بوجود هذا الفنّ الأدبيّ أو ذاك مشدّدين على الناحية الروحيّة والدينيّة. وهذه هي المقابلة. أمّا التحليل فهو عمليّة صعبة وطويلة نلجأ إليها خاصّة عندما ندرس آثار الأقدمين فنلاحظ التردادات وصور الكتابة والتشابيه والإيقاع في موسيقى اللغة والألفاظ، فنربط النصّ الذي ندرسه بفنّ أدبيّ معروف. هكذا عمدنا إلى درس رسائل القدّيس بولس على ضوء الرسائل العديدة التي وصلتنا من العصور القديمة، وهكذا قابلنا سفر أعمال الرسل بكتب تيطس ليفيوس أو بلينوس الأصغر أو يوليوس قيصر التاريخيّة.
وعندما نعرف إلى أي فنّ أدبيّ ينتمي أثر من الآثار، وعندما نكتشف القواعد والاصطلاحات التي يخضع لها هذا الفنّ، لا يبقى علينا إلاَّ أن نقرأ النصوص من خلال هذا المنظار، وحينئذ يكون تفسيرنا صحيحًا.

ب- الفنون الأدبيّة الرئيسية
1- مبادئ عامة
قال بيّوس الثاني عشر في رسالته "بفيض من الروح القدس": "على المفسّر أن يرجع إلى عصور الشرق القديم فيستعين بعلم التاريخ والآثار والاتنيّات وسائر العلوم، ويكشف الفنّ الأدبيّ الذي لجأ إليه الكاتب الملهم في ذلك الزمان. إنّ الشرقيّين رجعوا إلى طرق للكتابة خاصّة ببلادهم وعصرهم ليعبّروا عمّا في أفكارهم...".
ولقد بلور المجمع المسكونيّ ما قيل في هذا الشأن فأعلن في دستور الوحي الإلهيّ (عدد 12): "لمّا كان الله يتكلّم في الكتاب المقدّس بواسطة البشر وعلى طريقتهم، وجب على شارح هذا الكتاب، ليتفهّم ما أراد أن يوصله الله إلينا، أن ينتبه في تنقيبه إلى ما كان في نيّة الكتّاب القدّيسين أن يعبّروا عنه حقًّا وإلى ما راق الله أن يظهره بكلامه.
"لتوضيح نيّة الكتَّاب القدّيسين يجب إذًا، من بين ما يجب اعتباره، اعتبار الفنون الأدبيّة أيضاً. فالحقيقة تُعرَض وتفسَّر بصور مختلفة، في نصوص تاريخيّة أو نبويّة أو شعريّة أو غيرها. فمن الواجب على الشارح أن يفتّش عن المعنى الذي كان في نيّة الكاتب المقدّس أن يعبّر عنه، والذي عبّر عنهِ حقًّا في الظروف المعيّنة التي عاش فيها وبواسطة الفنون الأدبيّة المتداولة إذ ذاك".
لماذا تشدّد النصوص الرحميّة في الكنيسة على هذا الأمر؟ لأنّ الكتاب المقدّس، بحسب العقيدة المسيحيّة، كتاب أوحى الله به فكان هو مؤلّفه وكاتبه الأوّل، إلاَّ أنّه قد لجأ إلى الكاتب البشريّ كأداة يعبّر بها عن كلامه بطريقة البشر. فما يقوله هذا الكاتب في لغة بشريّة يقوله الله عينه. وإذا أردنا أن نفهم كلام الله، علينا أن نفهم ما نوى الكاتب أن يقوله، وهذا يفترض أن نكتشف بصورة خاصّة الفنّ الأدبيّ الذي استعمله الكاتب لينقل كلام الله إلينا.
إنّ صعوبة درس الفنون الأدبيّة في العهد الجديد تكمن في أنّنا لسنا أمام كتاب واحد بل أمام مكتبة واسعة تتألّف من سبعة وعشرين كتابًا علينا أن نكتشف الفنّ الأدبيّ الأساسيّ الذي ينتمي إليه كلّ منها، ثمّ الفنونَ الأدبيّة الثانويّة التي يصطبغ بها هذا السفر أو ذاك. إنّ الفنون الأدبيّة الكبرى هي الإنجيل وأعمال الرسل والرسالة والرؤيا. أمّا الفنون الأدبيّة الصغرى فهي المثل والجدال وسرد العجائب وقصّة الالام...
ولكن قبل الحديث عن كلّ فنّ أدبيّ بمفرده نودّ أن نعرض بعض مبادئ التفسير العامّة التي تستند إليها الفنون الأدبيّة في العهد الجديد.
إنَّ المبدأ الأوّل هو أنّ الفنون الأدبيّة في العهد الجديد تتميّز عن الفنون الأدبيّة في سائر الكتب. فالهدف الدينيّ الذي توخّاه الكتّاب الملهمون صبغ تفسير النصّ الكتابيّ بصبغة خاصّة. لقد توخَّوا قبل كلّ شيء أن ينقلوا إلينا حقيقة الخلاص، أن يعطونا درسًا عن عمل الله ومخطّطه في التاريخ وعن الطريقة التي ينخرط بها الإنسان في هذا التاريخ المقدس. ولقد سعَوا كذلك إلى نقل إيمانهم إلى الآخرين وتوطيد إيمان المؤمنين ورجائهم ومحبَّتِهِم، وهدفُهم أن يعلّموا ويوبّخوا ويشجّعوا لا أن يسلُّوا الناس أو يرضوهم بالكلام المنمّق أو ينقلوا إليهم معلومات تاريخيّة أو علميّة. وبالتالي فإنّ الفنّ الأدبيّ في الكتاب المقدّس، وإن شابَهَ فنًّا أدبيًّا في غيره من الكتب، يبقى خاضعًا للهدف الدينيّ الذي توخّاه الكاتب الملهم.
أمّا المبدأ الثاني فيقوم على ما يمتاز به كلّ فنّ في الكتاب المقدّس. فإذا كان هدف التفسير أن ندرك فكرة الكاتب الملهم الذي يكشف عن بعض قصده عبر الفنّ الأدبيّ الذي يختاره، فعلى شارح الكتاب أن ينبّه في شرحه إلى النواميس والمعطيات التي يخضع لها هذا الفنّ الأدبيّ. ونعطي على ذلك بعض الأمثلة: هل نفسّر نشيدًا ليتورجيًّا نقرأه في رسائل بولس (أف 1: 1- 10؛ فل 2: 6- 11) كما نفسّر خبرًا يروي أسفار بولس وتجوالاته (رج أع 13: 1 ي)؟ وهل نشرح نصًّا من سفر الرؤيا (12: 1 ي) فيه الخيال والتصوّر غير المألوف كما نشرح تفاصيل سيرة بولس من خلال رواية أسره وانتقاله من أورشليم إلى رومة (أع 27: 1 ي)؟
أمّا المبدأ الثالث فهو المرونة في استعمال الفنون الأدبيّة. فلقد أظهر الكتّاب الملهمون مرونة في استعمال الفنون الأدبيّة كما أخذوها عن عصرهم، فلم يتقيّدوا بها تقيّدًا حرفيًّا بل أعطَوها منحى خاصًّا يتوافق والتعليم الذي ينقلونه ويلائم عبقريّتهم الموجّهة بفعل الروح القدس. على هذا النحو كانت كتب الرؤى تتورّع من ذكر واضع الكتاب وتشرع في الحديث عن نشأة الكون بطريقة أسطوريّة تجعل القارئ يعيش في عالم سرّيّ باطنيّ. أمّا القدّيس يوحنّا فقد ذكر اسمه في بداية كتاب الرؤيا (1: 4، 9) وفي نهايته (22: 8)، وبدأ خبره على طريقة الأنبياء المتكلّمين باسم الله (1: 3) بانيًا مسيرة التاريخ كلّها حول شخص المسيح كما عرفه الرسل.

2- الفنّ الأدبيّ الإنجيليّ
في البداية لم يعرف المؤمنون إلاَّ الإنجيل. وكلمة إنجيل تعني التبشير (فل 1: 3، 5؛ 2 كور 2: 12)؛ وتعني أيضاً مضمون البشارة التي ينادي بها الرسول (1 كور 9: 14) ويطلع الناس عليها (1 كور 15: 1) ويكلّمهم بها (1 تس 2: 4)؛ وفي العهد القديم تعني "البشارة" الخبر المفرح (2 صم 18: 20، 25؛ 2 مل 7: 9)، وعند اليونان تعني خبر النصر المفرح والإعلام بالسلام. فالإنجيل هو إذًا إعلان الخلاص في شخص يسوع المسيح وليس كتابًا أو أثرًا أدبيًّا أو تاريخيًّا.
لقد استُعملت كلمة إنجيل أوّل ما استعملت على يد يوستينوس الذي كتب دفاعه الأوّل (عدد 66) سنة 150 ب. م. فقال: "إنّ الرسل نقلوا إلينا في مذكّراتهم المسمّاة أناجيل...". وإذا كانت كلمة إنجيل قد نُسبت إلى ما دوَّنه كلّ من متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، فلأنّ كلّ واحد منهم أعلن على طريقته هذه البشارة.
هذا وإنّ قراءة الإنجيل تستدعي الملاحظاتِ التاليةَ لتكون قراءةً صحيحة.
أوّلاً، إنّ الإنجيل هو شهادة إيمان، وكرازة تستند إلى وقائع، ونداء يتوجّه إلى الناس ليبعث فيهم الإيمان ويثبّته، قبل أن يكون نَسْخًا آليًّا دقيقًا لكلمات يسوع أو تحقيقًا مباشرًا يصوّر أحداثًا بطريقة جافّة جامدة. نحن لسنا أمام صورة فوتوغرافيّة عن يسوع بل أمام شهادة أناس عرفوه وعاشوا معه وقالوا لنا من هو وكيف ولجوا سرّه فتبدّلت حياتهم. ولو وصل إلينا تحقيق مباشر عن يسوع لما عرفنا عنه الكثير ولظلّت حياتنا خارجًا عنه. أمّا وأنّنا أمام شهادة الرسل فنحن نكتشفه من الداخل.
ثانيًا، لدى قرائتنا الإنجيل لا ينبغي التوقّف على ما نجده فيه من إشارات إلى الزمان (في ذلك اليوم، بعد ذلك، حينئذ) أو إلى المكان (في الطريق، على الجبل، عند البحيرة)، وهي إشارات غامضة وضعت لتكون إطارًا لكلام يسوع وأعماله. ولا ينبغي أن نبحث عمّا قاله يسوع حرفيًّا، لأنّ بحثنا هذا لا يجدينا نفعًا، بل علينا أن نبحث عن الفكرة التي أراد يسوع أن يعبّر عنها، فنميّز بين التعليم الذي يريد أن يقوله لنا والطريقة الملموسة التي بواسطتها يعرض علينا هذا التعليم. ففي مثل الوكيل الخائن (لوقا 16: 1- 8) لن ننظر إلى تصرّفه في سرقة معلّمه بل إلى فطنته في عمله؛ وفي مثل العملة الذين أُرسلوا إلى الكرم (مت 20: 1- 16) نعرف كَرَمَ ربّ الكَرْم ورحابةَ صدره فلا نجادل باسم عدالة بشرّية ضيّقة.
ثالثًا، إنّ أقوال يسوع وأعماله جمعت تبعًا لمضمونها. ضمّ متّى في خطبة الجبل (5- 7) مجموعة من التعاليم الجديدة التي تسمو على تعليم موسى، ثمّ سلسلة من عشر معجزات (8- 9). وجعل مرقس في فصل واحد (4: 1- 33) الأمثال التي قالها يسوع في ظروف متعدّدة. فمن النافل إذًا البحث عن تسلسل زمنيّ يجعل هذه المعجزة قبل تلك وهذا المثل قبل ذاك. إنّ الإنجيليّين يطلعوننا على مراحل حياة يسوع الكبرى ويُعرضون عن التفاصيل. لذلك نعتبر نحن أنّ الكتب التي تحاول أن تعرض علينا حياة يسوع متوخّيةً السياق التاريخيّ الدقيق، تبقى محاولة فاشلة. وهذا ما فهمته الكنيسة السريانيّة بشخص أحد أساقفتها ربولا الرهاويّ (بداية القرن الخامس)، الذي حرَّم استعمال الدياتسارون، أي الإنجيل المستخلص من الأناجيل الأربعة، وأمر باستعمال الأناجيل المتفرّقة: فإذا كان أمامنا أربع لوحات من الفسيفساء، هل نفكّ حجارتها ونأخذها لنكوّن منها قطعة جديدة؟ وإذا كان أمامنا أربعة أناجيل كلّ واحد يشكّل بحدّ ذاته تحفة فنّيّة، كيف لا نمسخها إنْ مزجنا بعضها ببعض؟ كلّ ما نستطيع أن نفعله هو أن نقابل النصّ بالنصّ لزى وجه التماثل أو التخالف بينهما، أن نجعل النصّ بإزاء النصّ الآخر لنكتشفَ التفاصيل الخاصّة بكلّ إنجيل، فتتوضّحَ أمامنا ملامحُ وجه يسوع كما انطبعت في هذا الإنجيل أو ذاك.
رابعًا، إنّ كلّ إنجيل من الأناجيل يعكس المحيط الذي كتب فيه ويتوجه بكلامه إلى مستمعين معيّنين. فمتّى كتب إنجيله إلى الكنائس المؤلّفة من أناس ارتدّوا من اليهوديّة إلى المسيحيّة، ولهذا اهتم بأن يوضح لهم أنّ يسوع هو وارث المواعيد التي حصل عليها داود وأنّه المسيح الذي أعلن عنه الأنبياء. وكتب لوقا إنجيله إلى الكنائس التي أسّسها بولس الرسول في العالم اليونانيّ والرومانيّ، مريدًا أن يثبّت إيمان المؤمنين المرتدّين من الوثنية ويبيّن لهم أنّ التعليم الذي قبلوه هو أهل للثقة. ومن هذا المنطلق علينا أن نفسّر الاختلافات في التفاصيل. فإذا قابلنا مثلاً عظة السَهل عند القدّيس لوقا (6: 20- 49) بعظة الجبل عند القدّيس متّى (5- 7) رأينا أنّ هذا يورد مقاطع عديدة من التوراة (مثلاً خر 21: 24؛ لا 19: 18؛ تث 5: 18) ليبيّن سمّو الشريعة الجديدة بيسوع على الشريعة القديمة بموسى؛ بينما يكتفي القدّيس لوقا بالتشديد على وصيّة المحبة وعلى واجب ممارسة الرحمة: كونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم.
خامسًا، إن نصّ الإنجيل موحى كلَّه، فلا حاجة إلى التمييز بين ما قاله يسوع نفسه وما تأمّلت فيه الكنيسة الأولى وما دوّنه الكاتب الملهم. فكلّ ما في كتاب الإنجيل هو قاعدة حياة للمؤمنين، فلا نعتبرْ أنّ ما هو أصيل أكبرُ قيمةً ممّا ليس بأصيل. فإن نسبنا الرسالة إلى العبرانيّين إلى بولس أو إلى أحد تلاميذه فقيمتها اللاهوتيّة هي هي؛ وإن قلنا إنّه ليس مرقس الذي كتب نهاية إنجيله (16: 9- 20)، بل أحد تلاميذه، فهذا لا يؤثّر في قيمة هذا المقطع الذي لا يختلف من حيث العقيدة عن سائر مقاطع الإنجيل.

3- الفنّ الأدبيّ الإخباريّ
في هذا الفنّ يندرج سفر أعمال الرسل الذي كتبه القدّيس لوقا رفيق درب القدّيس بولس، فسرد فيه أحداثًا عرفها أو شارك فيها. فبعد أن صوَّر حياة الجماعة المسيحيّة الأولى في أورشليم (1- 5) وضع أمام عيوننا نشاط الكنيسة الأولى (6- 15) ثمّ جعلنا نرافق بولس في رحلاته التي ستنتهي به إلى الأسر في رومة ( 16- 28).
إنّ أعمال الرسل لا تمثّل فنًّا أدبيًّا فريدًا كالأناجيل، ولكنّها تتميّز بسمات خاصّة تجعلها تختلف عن فنّ الإخبار التاريخيّ، إذ فيها أكثر من الخبر والتاريخ وهي قبل كلّ شيء عمل تاريخيّ دينيّ.
إذا نظرنا إلى المبنى رأينا كتاب أعمال الرسل يندرج في الفنّ التاريخيّ كما عرفه اليونان والرومان: بنية دراماتيكيّة، وبحث عن الجمال، وأسلوب خطابيّ يدخل فيه الكاتب خطبته التي يجعلها في فم شخص رئيسي لإيضاح الاحداث، وتركيز على شخصيّات تعتبر مثالاً ونموذجًا. أمّا إذا نظرنا إلى المعنى فالفرق يبدو شاسعًا بين كتاب الأعمال وغيره من كتب التاريخ، لأنّه كتاب دينيّ. إنّ هيرودوتس المؤرّخ اليونانيّ يلمّح إلى دور القدر في معاكسة الأبطال، وتِيطس ليفيوس الرومانيّ يندّد بالانحلال الخُلقُيِّ في رومة عصره فيعزوه إلى طالع المدينة وحظّها. أمّا سفر الأعمال فيشدّد على عمل الروح في الكنيسة الأولى وعلى حضور يسوع في جماعته التي أسّسها.
وإذا قابلنا سفر الأعمال بكتب التاريخ عند العبرانيّين اكتشفنا هنا وهناك عمل الله الحاسم في التاريخ ومشاركة الشعب كلّه في هذا التاريخ. ولكن كما أنّ نظرة القدّيس لوقا تختلف عن النظرة اليونانيّة التي تعتبر التاريخ عمل بعض الأبطال وتسلسل العلل على مستوى قرارات البشر، كذلك تختلف نظرته عن النظرة العبرانيّة التي تعرض أشخاصاً يقاومون الله أكثر المرّات. إنّ القدّيس لوقا يضع أمام عيوننا شخصين رئيسيين، بطرس وبولس، خاضعين كلّ الخضوع للربّ الذي يقود حياتهما. وهو يستوحي أيضاً من الفنيّن النبويّ والجليانيّ ليبرز حتميّة عملِ الله ككلّ وقدرته التي تجعل التاريخ يتقدّم في خطّ مستقيم، مع العلم أنّ حرّيّة البشر تبقى فاعلة ومؤثّرة في مجرى الأحداث التفصيليّة. فرغم حضور الله الفاعل دائمًا، فحياة بولس، مثلاً، تبدو في خطر: تآمر عليه اليهود في دمشق ليقتلوه (9: 23- 25)، أراد أهل إيقونية أن يرجموه (14: 5- 7)، لا بل رجموه وتركوه بين حيّ وميت (14: 19- 23).
إلى أيّ نوع أدبيّ يرجع كتاب الأعمال؟ إنّه ليس كتابًا تاريخيًّا محضاً كالسيرة والمذكّرات والحوليّات، والمؤرّخ الذي يدرسه من هذه الزاوية يجد فيه نقصاً كبيرًا. فالفصول الأولى لا تشير إلى أيّ تسلسل زمنيّ بل تكتفي بعرض لوحات تكاد تكون مستقلّة بعضها عن بعض. ثمّ إنّنا لا نجد أيّ ذكر لتأسيس كنائس دمشق والجليل وحيفا وفينيقية والإسكندريّة وأفسس وعكّا ورومة، مع العلم أنّ سفر الأعمال يشير إلى وجودها. ولا نجد كذلك أيّ إشارة إلى رسالة بطرس خارج فلسطين وإلى نهاية حياته، ولا نعلم شيئًا عما فعله سائر الرسل ولا عن أزمة كنيسة غلاطية التي يلمّح إليها القدّيس بولس (1: 1 ي)، ولا عن خلاف بولس مع أهل كورنتوس، ولا عن نتيجة الدعوى المقامة عليه في رومة.
ومع ذلك، لا تنتهي أعمال الرسل إلى الفنّ الكرازيّ أو التعليميّ المحض، لأنّ التاريخ يحتلّ فيها مكانة هامّة. فرغم النقص الذي نجده هنا وهناك، فالسفر يحتوي على تفاصيل عديدة، كأسفار بولس مرحلة مرحلة ووقائع محاكمته في أورشليم وقيصريّة (21 – 24).
إنّ موقع سفر الأعمال هو بين التاريخ والكرازة، ويمكننا أن نعتبره تاريخًا دينيًّا يهدف إلى بنيان الجماعة أو نظرة لاهوتيّة إلى التاريخ. أمّا هدفه فيمكننا أن نقرأه من خلال موضوعه العامّ، ألا وهو إعلان خلاص الله على جميع الأمم. لقد أبلغ يسوع الرسل أنّهم سينالون قوّة ويكونون له شهودًا في أورشليم وكلّ اليهوديّة والسامرة حتّى أقاصي الأرض (1: 8). وفهم الرسل بدورهم أنّ الربّ فتح باب الإيمان للوثنيّين أيضاً (14: 28)، وأنّه أرسل خلاصه إليهم وأنّهم سيستمعون إليه (28: 28). وهذا الخلاص الذي بدأ ببداية حياة يسوع (إنجيل لوقا) ثمّ امتدّ في حياة الكنيسة وتاريخها، يشكّل امتدادًا لتاريخ بني إسرائيل. فإنّ الربّ أمين في مواعيده وهو سيّد التاريخ الذي يحقّق قصده تدريجيًّا بقيادة الروح. إنّ أعمال الرسل تصوّر انتشار المسيحيّة في المسكونة فتبيّن كيف بدأت البشارة بقوّة الروح القدس وما زالت مستمرّة إلى يومنا. وهذه البشارة تتمّ بإعلان الإنجيل حتّى يصل إلى رومة، إلى أقاصي الأرض. وهكذا ينتهي الكتاب عندما يصل القدّيس بولس إلى رومة (28: 25 ي).
الهدفان الرئيسيان لسفر الأعمال هما إذًا تعليم المؤمنين ودعوة الوثنيّين لكي يفهموا التاريخ المقدّس الذي يشاهدونه. غير أنّ هناك أهدافًا أخرى وإن كانت أقلّ أهميّة. فقد أراد القدّيس لوقا أن يبيّن للسلطات الوثنيّة أنّ المسيحيّين أبرياء مما يلصق بهم من اتّهامات، وأن يعلّم المسيحيّين المهدّدين بالأخطار أن لا يتحدّوا السلطات المحلّيّة، وأن يبرّر رسالة بولس إلى الوثنيّين رغم معارضة المسيحيّين الذين من أصل يهوديّ.
أمّا بناء سفر الأعمال فينطلق من ثلاثة مبادئ، مبدأ لاهوتيّ وهو الرسالة إلى الأمم الوثنيّة، ومبدأ جغرافيّ وهو انتشار الإنجيل بصورة تدريجيّة من أورشليم حتّى رومة، ومبدأ رسوليّ وهو التحدّث عن رسولين، بطرس رسول الربّ إلى اليهود (1- 12)، وبولس رسول الربّ إلى الوثنيّين (13- 28). في هذا البناء تلعب الخُطب، وهي تربو على العشرين خطبة وتشكّل ثلث أعمال الرسل، دورًا هامًّا وتؤلّف وحدة أدبيّة تامّة. لقد ألَّفها القدّيس لوقا، كما كان يفعل المؤرّخون اليونان، انطلاقًا من تقليد وصل إليه، وجعلها في المكان المناسب من كتابه ليشرح مضمون الأحداث التي رواها.
وطلبًا للمزيد من الوضوح في نظرتنا إلى أعمال الرسل لا بدّ لنا من إبداء الملاحظات التالية.
أوّلاً، إنّ لوقا كتب سفر الأعمال فعرض فيه تاريخ انتشار الإنجيل في المسكونة وقدَّم تعليمًا دينيًّا يهدف إلى بناء الجماعة المؤمنة. فلا يجوز لنا أن نقلّل من أهمّيّة الكتاب التاريخيّة أو ننكر على لوقا أمانته للأحداث كما وصلت إليه بواسطة شهود عِيان (لو 1: 2)، وإلا عارضنا هدفًا أساسيًّا من أهداف الكتاب، ألا وهو تبيان استمرار الاتّصال بين الجماعة الأولى التي أسّسها يسوع في أورشليم والجماعات التي تأسّست في مدن العالم اليونانيّ والرومانيّ. كما أنّه لا يجوز لنا أن نكثر من أهمّيّة الكتاب التاريخيّة، لأنّ القدّيس لوقا أخذ بطريقة عصره في تدوين التاريخ فتصرّف بشيء من الحرّيّة في عرضه الأحداث وإنشائه الخطب ومحاضر المحاكم. فهو مثلاً يذكر أنّ بولس أقام مرّة واحدة في دمشق ومرّتين في أورشليم، بينما يذكر بولسُ نفسُه أنّه أقام في دمشق مرّتين وفي أورشليم ثلاث مرّات؛ ونراه أيضاً يجمع في نصّ واحد نقاشين حدثا بمناسبة مجمع أورشليم ويعرض الأمور وكأنّها تمّت بصورة هادئة، بينما يبدو من كلام القدّيس بولس أنّها كانت صاخبة (ق أع 15 1 ي مع غل 2: 1 ي).
ثانيًا، إنّ المؤرّخ في القديم كان يتصرّف بحرّيّة حيال التقاليد التي تصل إليه. فلا يجب إذًا أن ننطلق من الحدث لنشرح النصوص بل من النصّ لنفهم غاية الكاتب الدينيّة. لا ينبغي الاهتمام أكثر مما يلزم بتفاصيل ليست أساسيّة ولا بما أغفله الكاتب من ذكر الوقائع والتواريخ ولا بما نراه من تضارب كما هي الحال في روايات ارتداد بولس الثلاث (رج أع 9: 1 ي؛ 22: 5- 16؛ 26: 10- 18؛ رج غل 1: 12- 17)؛ كما أنّه يجدر بنا أن لا نتوقّع أن يورد القدّيس لوقا بدقّة حرفيّة ما قاله الرسل وما فعلوه، بل أن نعلم أنّه عندما يتكلّم عن حالة الكنيسة لا يصوّر الأمور كما حدثت تمامًا بل يسبغ عليها طابعًا مثاليًّا. لهذا نراه يصف الجماعة الأولى تعيش بالوئام والمحبّة (2: 42- 47؛ 4: 32- 35؛ 51: 12- 16)، بالرغم من الخلافات الموجودة في كلّ جماعة، ويصوّر مجمع أورشليم وقد تحلّى بروح السلام، مع أنّنا نتخيّل الجدال بين بطرس وبولس.
ثالثًا، إنَّ هدف سفر الأعمال الأوّل هو هدت دينيّ يتوخّى التعليم والبنيان. فلهذا يجب أن نفسّر الكتاب كلّه كنصّ دينيّ غايته دينيّة قبل أن تكون تاريخيّة، وأن نعطي الأهمّيّة الأولى للخطب لا للأخبار، لأنّ الخطب تتوجّه بصورة خاصّة إلى معاصري القدّيس بولس فتنقل إليهم نِظرته اللاهوتيّة وتجعلهم يستمعون إلى كلمة خلاص الله وكأنّها تقال لهم للمرّة الأولى؛ كما يجب أن لا ندهش إنْ أغفل لوقا أمورًا لا تشرّف الكنيسة، كالصراع بين بطرس وبولس والأزمة الغلاطيّة والجدل بين بولس وجماعة كورنتوس، فإنّ همّه التعليميّ دفعه إلى إغفال بعض الأمور والتشديد على البعض الآخر من أجل البنيان.
رابعًا، لقد كان من أهداف القدّيس لوقا الدفاع عن الإنجيل والإعلان عن شموليّته، لإقناع المسيحيّين الآتين من الشعب اليهوديّ بصحّة العقيدة الجديدة، واجتذاب الوثنيّين إلى الدين الجديد، وحماية المسيحيّين الآتين من الأمم الوثنيّة من هجوم المسيحيّين المتهوّدين. لهذا نرى أنّ القدّيس لوقا يطيل الحديث عن رسالات بولس في الأمم وجداله مع اليهود. وبما أنّه حاول أن يستميل السلطات الرومانيّة إلى الديانة المسيحيّة، فأظهر أنّ الدين الجديد لا يتدخّل في سياسة الدولة، فنحن لا نعجب إن هو تساهل تجاه المملكة الرومانيّة وما تمثّله من سلطة وثنيّة.

4- الفنّ الرسائليّ
تشكّل الرسائل أكثر من ثلث العهد الجديد وهي كناية عن كتابات موجّهة إلى فرد أو جماعة، معظمها من بولس والباقي من يوحنّا وبطرس ويعقوب ويهوذا.
إنّ الآداب القديمة عرفت الفنّ الرسائليّ وقد وصل إلينا منه ما يربو على الأربعة عشر ألف رسالة منها سبع مئة وستّ وتسعون لشيشرون خَطِيبِ رومة (106- 43 ق. م.)، نجد فيها الرسالة الخاصّة الحميمة التي تقيم حوارًا مع الصديق البعيد، وتلك التي تتوجّه إلى قرّاء عامّيّين فتتّخذ شكل مقالة أو كتاب.
إنّ الرسائل التي نقرأها في العهد الجديد تتوجّه إلى شخص معلوم، تيموثاوس أو تيطس أو فيلمون أو غايوس، أو إلى جماعة معروفة، كنيسة غلاطية أو كورنتوس أو تسالونيكي... ثمّ إنّ هذه الرسائل كتابات أَمْلتها ظروف طارئة فجاءت جوابًا على حاجة معيّنة وهدفت إلى توطيد الإيمان وتشجيع المسيحيّين في الاضطهاد وتحديد العقيدة وإصلاح الضالّين والوقوف بوجه البدع والهرطقات... وهكذا صارت الرسالة بسبب اتّساعها كتابًا مطوّلاً وبحثًا لاهوتيًّا يهمّ الجماعة المسيحيّة أن تسمعه وتعمل به.
كتب القدّيس بولس رسائله على طريقة معاصريه. ففي المقدّمة يذكر أوّلاً اسمه: بولس رسول المسيح (2 كور 1: 1؛ أف 1: 1) أو عبد يسوع المسيح (روم 1: 1؛ فل 1: 1). ثمّ يذكر اسم معاونيه ليشدّد على أنّ الكلام الذي يقوله ليس كلامه وحده: سسُتينسُ (1 كور 1: 1) وتيموثاوس (2 كور 1: 1؛ فل 1: 1) وسلوانس (1 تس 1: 1). وبعدها يسمّي الأشخاص الذين كتب إليهم ويسلّم عليهم لا على طريقة الوثنيّين بل على طريقة الجماعة المسيحيّة. والمرسَل إليهم هم المسيحيّون المؤمنون (أف 1: 1) أحبّاء الله (روم 1: 7) القدّيسون (2 كور 1: 2)، وهم كنائس غلاطية (1: 2) أو أساقفة فيلبّي (1: 1) وشمامستها مع جميع القدّيسين، وهم تيموثاوس، ابن بولس في الإيمان (1 تم 1: 2) وتيطس (1: 4) وفيلمون. أمّا السلام الذي به يحيّي المرسَل إليهم فهو: عليك النعمةُ والسلام من لَدُن الله الآب ومن لدن مخلّصنا يسوع المسيح (تي 1: 4؛ روم 1: 7). وأخيرًا يرفع صلاة إلى الله يشكر له إنعاماتِه في ساعة الشدّة والضيق (2 كورنتوس 1: 3)، ويحمده على إيمان أهل رومة (1: 9) وغنى أهل كورنتوس (الأولى 1: 4)، ويباركه لأنّه اختار المؤمنين ليكونوا عنده قدّيسين بلا عيب في المحبّة (أف 1: 4).
بعد المقدّمة التي تطول أو تقصر، ينتقل القدّيس بولس إلى جسم الرسالة وفيه قسمان، قسم نظريّ تعليميّ يشرح فيه الرسول ناحية من العقيدة لم يفهمها المؤمنون، وقسم عمليّ يحضّ فيه المؤمنين على أن يسيروا سيرة مؤسّسة على العقيدة التي تعلّموها. وينهي القدّيس بولس رسائله بأخبار معاونيه، ويسلّم على المسيحيّين ذاكرًا اسم هذا وذاك: سلّموا على برسكلّة وأكيلا معاونيّ في المسيح يسوع... سلّموا على حببيي أبينيتوس... سلّموا على مريم... سلّموا على أندرونيكس ويونيّاس (روم 16: 3 ي).
يمكننا أن نقسم رسائل القدّيس بولس أربع مجموعات تشكّل كلّ منها مرحلة من مراحل تفكيره. فالمجموعة الأولى التي تتكوّن من 1 و2 تسالونيكي (سنة 51) تشدّد على مواضيع الكرازة المسيحيّة الأولى وتوجّه انتباهنا إلى مجيء المسيح القريب. والمجموعة الثانية التي تتكوّن من 1 و2 كورنتوس وغلاطية ورومة وفيلبّي (سنة 56- 58) تشدّد على الخلاص بالإيمان بيسوع المسيح الذي ما زال يعمل في كنيسته. والمجموعة الثالثة التي تتكوّن من الرسائل إلى كولسّي وأفسس والصديق فيلمون (سنة 61- 63، وكان بولس في السجن) تشدّد على مكانة المسيح في التاريخ والكون. والمجموعة الرابعة التي تتكوّن من 1 و2 تيموثاوس (أسقف أفسس) وتيطس (أسقف كريت) التي كتبت سنةً قبل وفاة بولس (سنة 67) تهتمّ بتنظيم الكنائس والمحافظة على وديعة الإيمان.
في الختام، نوجز هنا بعض المبادئ التي تسهّل لنا عمل تحليل الرسائل التي كتبها كلّ من بولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهوذا.
أوّلاً، علينا أن نحترم تنوّع هذه الوثائق دون أن نحاول خلطها بما نعرفه من رسائل كتبت في العصور القديمة. كما علينا أن نفسّرها دون أن ننسى سماتِها الثلاث: هي رسائل، وهي وثائق رسميّة، وهي أدب دينيّ.
ثانيًا، علينا أن نلجأ إلى كلّ الوسائل الممكنة لنطّلع على الظروف التي فيها كتبت هذه الرسائل: متى كتبت؟ لمن كتبت؟ من كتبها؟ ما هي العلاقة التي تربط الكاتب بالقارئ؟ حينئذ نجد نفوسنا أمام تلميحات وإشارات مألوفة لدى القرّاء الأوّلين وغامضة بالنسبة إلينا.
ثالثًا، إنّ هذه الرسائل كتبت في المناسبات، فلا ننتظرنّ أن نجد فيها مقالة لاهوتيّة تعالج كلّ جوانب المسائل الدينيّة. فالرسالة إلى أهل رومة، مثلاً، لا تكلّمنا عن الكنيسة ولا عن سرّ القربان المقدّس؛ والرسالة الأولى إلى كورنتوس تحاول الإجابة عن أسئلة محدّدة دون غيرها: الزواج والبتوليّة وذبائح الأوثان...
رابعًا، إنّ هذه النصوص تختلف بغايتها الدينيّة عن سائر الرسائل التي عرفها الأدب القديم. فرسائل القدّيس بولس، وإنْ كُتبت في مناسبات محدودة، إلاَّ أنها تنقل إلينا تعليمًا يغذّي إيماننا اليوم، وهذا ما يفرض علينا أن نبحث عن أبعادها الدينيّة إذا أردنا أن نفهمها بالروح الذي كتبت فيه.

5- الفنّ الجليانيّ أو الرؤيويّ
يعيش كاتب الفنّ الجليانيّ في زمن من الضيق فيرى على ضوء الإيمان خلاص الله متجلّيا وينكشف له ما سيفعله الله من أجل أحبّائه في نهاية الأزمنة. ينظر إلى الحاضر نظرة متشائمة لأنّه يراه في قبضة الشرّ، غير أنّ هذا الحاضر سيتجلّى له في رؤية متفائلة لأنّ الله سينتصر في النهاية فيخلُق أرضاً جديدة وسماء جديدة (رؤ 21: 1)
هذه هي الروح التي كُتب الفنّ الجليانيّ فيها، وقد انتشر بين القرن الثاني ق. م. والقرن الثاني ب. م.، فترك لنا آثارًا عديدة نذكر منها على سبيل المثال كتبًا غير قانونيّة: كتاب أخنوخ، كتاب اليوبيلات (القرن الثاني ق. م.)، ارتفاع موسى، رؤيا باروك السريانيّة، رؤيا إبراهيم، رؤيا موسى أو حياة آدم وحوّاء (القرن الأوّل ب. م.)، وصيّة إبراهيم، رؤيا صفنيا (القرن الثاني ب. م.).
لم يحفظ الكتاب المقدّس من هذا الفنّ الجليانيّ إلاّ كتابين اثنين هما سفر دانيال في العهد القديم ورؤيا يوحنّا في العهد الجديد. إلاَّ أنَّ هذا الفنّ تمثّل أوّلاً في بعض صفحات الأنبياء (أش 24- 27؛ حز 1- 3؛ زك 9- 14) وفي مقاطع من العهد الجديد (مت 24؛ مر 13؛ لو 21؛ 1 تس 4: 13- 5: 11).
في الفنّ الجليانيّ نحن أمام كشف يرسله الله عبر رؤى ترافقها كلمات تفسّر ما تعنيه، نحن أمام صورة مملوء ة بالرموز تهدف إلى إدخالنا في عالم القدس، عالم السرّ، عالم يفوق الوصف، فتدلّنا على أنّ الله حاضر وفاعل في التاريخ. أمّا مضمون تعليم هذا الوحي فهو بسيط جدًّا بالرغم من التعقيد في الصور والأسلوب. فالكاتب يريد أن يقول إن الله، بالرغم من الظواهر المعادية، يفعل منذ اليوم في الكون وسوف يكشف لنا انتصاره على عالم الشرّ في مستقبل مُشرق وقريب. فهدف كتب الرؤيا هو تطمين المؤمنين في أزمنة الضيق وتعزيتهم في الشدائد وتقوية رجائهم بالله ودعوتهم للرجوع إليه بتوبة صادقة.
أجل، إنّ كتب الرؤيا هي كتب الأمل والرجاء. ولكي يضع أساسًا لهذا الرجاء يعرض المؤلّف مقاله بشكل كتاب قديم حُفظ سرًّا إلى الآن ثمّ انتقل إلينا عبر خادم من خدّام الله الأقربين مثل أخنوخ وإبراهيم وموسى... ينظر "خادم الله" إلى المستقبل القريب بالنسبة إليه والماضي بالنسبة إلى الكاتب، ثمّ يمدّ نظره إلى المستقبل البعيد، إلى يوم يتدخّل فيه الله بصورة حاسمة فيظهر مجد الملك مسيحه. وبما أنّ النبوءة عن المستقبل القريب تحقّقت، فالقارئ يثق بما يتنبّأ به الرائي عن نهاية العالم، وهو المتأكّد أنّ إرادة الله لا تقاوَم ومخطّطه سيتمّ مهما فعلت إرادة الشرّ لتقف بوجهه.
إنّ الفنّ الرؤيويّ قريب جدًّا من الفنّ النبويّ. والفارق بينهما هو أنّ النبيّ ينقل إلينا ما سمع ويتطلعّ إلى الحاضر داعيًا المؤمنين إلى العيش بأمانة للعهد، أمّا الرائي فينقل إلينا عبر الصور الخياليّة تعليمًا يتعلّق بمعنى التاريخ النهائيّ تاركًا لنا أن نتّخذ الموقف الذي نراه مناسبًا.
في اللغة الجليانيّة تلعب الرموز دورًا هامًّا يفسّر الرائي بعضاً منها ويبقى الباقي لغزًا بالنسبة إلينا لنبحث عن معناه. فسفر الرؤيا يشرح لنا أنّ النجوم هي ملائكة الله (1: 20) وأنّ المنارات هي الكنائس (1: 20) وأنّ السبع أعينًا هي أرواح الله السبع (4: 5؛ 5: 6) وأنّ رؤوس الحيوان السبعة تمثّل سبع تلال وسبعة ملوك (17: 9- 10) هي تلال رومة وأباطرتها، وأنّ الكتّان الأبيض يرمز إلى أعمال المؤمنين الصالحة (19: 8). فعندما نقرأ هذه الصور لا نحاول أن نتخيّل ما تمثّله؛ وبعضها لا يقبل به العقل. فمن رأى حيوانًا بسبعة رؤوس وعشرة قرون (13: 1)، أو حملاً بسبعة قرون وسبع عيون وهو يحمل بيده كتابًا (5: 6- 7)؟
إنّ رؤيا القدّيس يوحنّا هي كتاب يحمل كلمة الأمل إلى المسيحيّين المضطَهدين لأجل إيمانهم بالإنجيل (2: 8- 10؛ 6: 9- 11؛ 7: 14)، وهي تعرض أمامهم الحرب الأخيرة التي فيها يتغلّب الله على الشرّ بيد المسيح الذي هو قائم وسط التاريخ كلّه. أجل، في المسيح بدأت نهاية الأزمنة وإن ظلّت بالنسبة إلينا موضوع إيمان. نحن نعيش اليوم مجابهة بين قوى الشرّ وقوى الخير، بين الشيطان والمسيح، ولكنّ المسيح وقدّيسيه (أي المؤمنين) سينتصرون في النهاية. فما علينا إلاَّ أن نعيش إيماننا ومحبّتنا منتظرين تدخّل المسيح الظافر. وانطلاقًا من هذه المعطيات نقول:
أوّلاً، إنّ رؤيا القدّيس يوحنّا تحمل رسالة تعزية وأمل انطلاقًا من نظرة لاهوتيّة ونبويّة إلى التاريخ وبشكل وحي رمزي في خطّ كتب الجليان المعروفة. لهذا لا نبحث عن تصوّر دقيق لأحداث محدودة في التاريخ، فهدف الكاتب دينيّ ورعائيّ، وهو إن لجأ إلى أسلوب تصويريّ ورمزيّ ليحدِّثَنا عن التاريخ فإنّه لم يتوخَّ إشباع فضول قرّائه وإعطاءهم معلومات مسبّقة عن أحداث ستقع في هذه السنة أو تلك. إنّ من يبحث في هذا الكتاب عن صورة مفصّلة لتاريخ الكنيسة والكون يضلّ السبيلَ ولا يفهم شيئًا من كلام يوجّهه الله إلينا.
ثانيًا، إنّ تعليم سفر الرؤيا إجماليّ، أي إنّه ينطبق على التاريخ ككلّ لا على عصور أو عهود محدودة. لهذا يجب أن لا نقابل بين أحداث من تاريخنا الحاليّ وما نقرأه بين سطور سفر الرؤيا، فنطبّق صورة الجرادِ والوحشَيْنِ أو الضربات السبع على ما نعيشه اليوم، ونعتبر مع بعض المعتبرين أنّ نهاية العالم قد حلَّت ونحدّد لها السنة والشهر واليوم.
ثالثًا، إنّ سفر رؤيا القدّيس يوحنّا يتوجّه إلى كنائس آسية السبع (1: 3، 11) ويتضمّن تلميحاتٍ عديدةً إلى الظروف التاريخيّة التي عرفتها هذه الكنائس في القرن الأوّل المسيحيّ. لهذا علينا أوّلاً أن نطلع على هذه الظروف التي دفعت يوحنّا إلى تدوين كتابه، حالة الكنيسة في نهاية القرن الأوّل ووضع رومة السياسيّ والدينيّ، ثمّ على ضوء ذلك نفهم معنى التلميحات العديدة إلى الوحشين، والزانية الكبرى، والرؤوس السبعة والقرون العشرة.
رابعًا، إنّ رؤيا القدّيسِ يوحنّا تتوجّه أيضاً إلى كلّ كنائس المسيح، والعدد سبعة يدلّ على الملء والكمال والكلّ. إنّ الله أراد أن يطلع عباده على ما سوف يحدث (1: 1)، ولهذا أرسل كلامه إلى كلّ من يريد أن يسمع الأقوال النبويّة الموجودة في هذا الكتاب (22: 8). وعلينا نحن أن نلقيَ على الكتاب نِظرة إيمان فنكتشف فيه ما أوحى به الروح إلى الكنيسة في كلّ الأزمنة، فنفهمَ أنّ الصراع بين المسيح والشيطان لا يزال قائمًا وكذلك الاضطهادات على الكنيسة، ونعلم أنّ الوحشين (السلطة التي تعبد نفسها، والمال وما يتبعه من سعي وراء الملذّات) ما زالا حاضرين اليوم وأنّ المؤمنين ما برحوا يسفكون دماءهم شهادة للمسيح.
خامسًا، إنّ القدّيس يوحنّا يلجأ في رؤياه إلى أسلوب الإعادة والتكرار ليؤثّر في قلب القارئ، فنرى في تسلسل اللوحات والصوَر الفكرةَ ذاتها وهي الحرب بين الشرّ والخير التي ستدوم إلى نهاية الكون. فنِظرتنا إلى تسلسل الرؤى ليست إذًا نِظرة إلى تسلسل للأحداث في الزمن، بل إلى تسلسل يتدرّج من الغموض إلى الوضوح، بقدر ما نستطيع أن نتكلّم عن الوضوح في الأدب الجليانيّ.
سادسًا، نحن نعرف أن غلافًا من الرمزيّة يحيط ببعض كلمات سفر الرؤيا، كالأعداد والألوان والحيوانات وعناصر الطبيعة، يهدف إلى تمثيل خياليّ لأحداث روحيّة. لهذا لا ينبغي أن نأخذ بالأعداد والأرقام وما إليها في حرفيّتها، بل في ما ترمز إليه من أمور لا تعدّ ولا تقاس. فالعدد 7 هو عدد التمام والكمال والكلّيّة، ونصفه هو عدد النقص يدلّ على زمن المحنة والاضطهاد والألم، والعدد 12 هو عدد شعب الله بقبائله الاثنتي عشرة أو برسله الاثني عشر، والعدد 4 يرمز إلى العالم بجهاته الأربع، والعدد 1000 يدلّ على الكِمية التي لا تعدّ ولا تحصى. وهناك رموز عديدة نفهمها إن قابلناها بما ورد في كتب العهد القديم. فالنخل يمثّل النصر، والعينُ المعرفةَ، والجناحُ الحَركةَ، والأبيض الانتصار، والأسود الموت... ويكفي أن نقرأ أيّ تفسير لسفر الرؤيا لنجد فيه شرح الرموز ومعنى الألغاز.

ج- الفنون الأدبيّة الثانويّة
لن نطيل الكلامَ على الفنون الأدبيّة الثانويّة كما أطلناه على الفنون الأدبيّة الرئيسة. نكتفي بذكر بعضها مع لمحة قصيرة عن كلّ نوع منها.

1- المثل
هو القول السائر بين الناس نماثل فيه حالة بحالة باحثين عن وجه الشبه بين الحالتين: "يشبه ملكوت السماوات عشرَ عذارى أخذن مصابيحهن" (مت 25: 1). والمثل هو أيضاً قول حكميّ طويل أو قصير يهدف إلى الإرشاد والتعليم: "من له أذنان سامعتان فليسمع" (مت 11: 15؛ 13: 19).
حين نقرأ المثل نتساءل: لمن قال يسوع هذا المثل؟ وما هي المناسبة التي قاله فيها؟ وما كان هدفه؟ عندئذ يمكننا أن نفهم الفكرة الأساسيّة. فمثل حبّة الخردل يلفت نظرنا إلى المسافة الشاسعة بين الحبّة الصغيرة والشجرة الكبيرة (مت 13: 31، 32)؛ ومثل الوزنات ينبّهنا إلى الطريقة التي بها عامل ربّ البيت عبيده بحسب ربح كلّ واحد منهم (مت 25: 14- 30). ويمكننا أن نطبّقَ المثل على حياتنا فنعرفَ ما هو فرح الراعي الذي يجد خروفه الضالّ (لو 15: 3- 7)، ونتعلّمَ الرحمة من السامريّ (لو 1: 25- 37)، ونتجنّبَ قساوة القلب التي مارسها الدائن الظالم (مت 18: 21- 35).
إنّ الأمثال عديدة في الإنجيل وقد ضربها يسوع ويعطي الجموع تعليمًا سهلاً ويدفع السامعين إلى أخذ موقف من التعليم الذي يلقيه على مسامعهم. هذا ما نقرأه في مثل الكرّامين القتلة (مت 21: 33- 46). فلقد سمعه الأحبار والفرّيسيّون فأدركوا أنّه يعرّض بهم في كلامه، ولكن بدل أن يرتدّوا ويغيّروا حياتهم حاولوا أن يمسكوا المسيح ليقتلوه.

2- سرد المعجزة
عندما نقرأ خبر معجزة نقع على خمس مراحل: أوّلاً مقدّمة تعرض الوضع أمامنا، وثانيًا الطلب إلى يسوع ليتدخّل مع صلاة تنمّ عن إيمان الطالب أو رفاقه، وثالثًا تدخّل يسوع واجتراحه للمعجزة، ورابعًا النتيجة التي تحصل، وخامسًا ردّة الفعل عند الحاضرين: خوف ودهشة وإعجاب أو رفض ومقاومة.
ولنأخذ على سبيل المثال معجزة شفاء مُقْعَدِ كفرناحوم (مر 2: 1 ي)، فهناك عرض للحالة وطلب صامت إلى يسوع (آ 1- 4)، ثمّ تدخّل يسوع وشفاء المقعد (5- 11)، وأخيرًا دهشة الجميع: مجّدوا الله (آ 12). وكذلك معجزة تسكين العاصفة (مر 4: 35- 41)، ففيها أيضاً عرض للحالة (آ 35- 37) ثمّ الطلب إلى يسوع أن يتدخّل (آ 38)، ثمّ تدخّل يسوع وزجر الريح (آ 39، 40)، وأخيرًا ردّة الفعل عند الرسل: خافوا خوفاً شديدًا (آ 41).
وكذلك معجزة طرد الشياطين من رجُل في ناحية الجراسيّين (مر 5: 1- 20)، فهنالك عرض مطَول لحالة "المريض" (آ 1- 6)، ثمّ تدخّل يسوع (آ 7- 14)، ثمّ النتيجة (آ 15)، وأخيرًا خوف وإعجاب (آ 16- 20).
إنّ كاتبي الأناجيل أرادوا أن يلفتوا انتباهنا، عندما سردوا خبر المعجزات، لا إلى الناحية المدهشة فحسب، والدهشة يمكنها أن تقرّبَ الإنسان إلى الله أو تبعدَه عنه، بل خصوصاً إلى نتيجة الإيمان وعظمة أعمال الله. فالكلمات التي استعملها العهد الجديد للحديث عن المعجزة تشير إلى الناحية الروحيّة الدينيّة أكثر منه إلى الناحية الخارقة (رج مثلاً مت 24: 24 حيث نقرأ كلمة آية). فالمعجزة هي عمل الله (يو 10: 25) وهي تدلّ على قدرته ووسع سلطانه (يو 6: 2- 14) فتكون علامة تجعل الناس يؤمنون. فلا نتوقّفنّ إذًا عند الخارق من المعجزة متناسين الهدف الأوّل منها ألا وهو الكشفُ عن شخصيّة يسوع، أو تخليصُ الإنسان من كلّ ما يستعبده، أو إنعاشُ الإيمان وتثبيتُه، أو التأكيدُ على صحّة أقوال يسوع.

3- لائحة الفضائل والرذائل
نجد في العهد الجديد ما يقارب الأربعين مقطعًا عن الفضائل التي نمارسها والرذائل التي نتجنّبها. نعطي على سبيل المثال لائحتين بالرذائل، الأولى من إنجيل مرقس (7: 21- 22): "لأنّه من باطن الناس، من قلوبهم تنبعث المقاصد السيّئة والفحش والسرقة والقتل والزنى والطمع والخبث والغِشّ والفجور والحسد والشتم والكبرياء والغباوة"، والثانية من رسالة القدّيس بولس إلى أهل كولسّي (3: 5- 8): "اميتوا إذًا أعضاءكم التي في الأرض بما فيها من زنى ودعارة وشهوة وهوى فاسد وطمع وهو عبادة الأوثان... دعوا عنكم كلّ ما فيه غضب وسخط وخبث وشتيمة، لا تنطقوا بقبيح الكلام ولا يكذب بعضكم على بعض". ونعطي أيضاً لائحتين بالفضائل، الأولى من رسالة القدّيس بولس إلى أهل غلاطية (5: 22): "أما ثمر الروح فهو المحبّة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف ودماثة الأخلاق والأمانة والوداعة والعفاف"، والثانية من الرسالة إلى كولسّي (3: 12- 14): "وأنتم الذين اختارهم الله وقدّسهم وأحبّهم، البَسُوا عواطف الحنان والرأفةِ واللطفِ والتواضعِ والوداعةِ والصبر. احتملوا بعضكم بعضاً... والبسوا فوق ذلك كلِّه ثوبَ المحبّة: إنّها رباط الكمال".
إنّ هذه الطريقة في سد الرذائل والفضائل أمر معروف في كتب العهد القديم وعند الفلاسفة الرواقيّين وفي ديانات فارس، وقد اهتمّ بها القدّيس بولس بصفة خاصّة.

4- المرافعة والجدال
في المرافعة نجد أحد الرسل أمام الحاكم: بطرس أمام السنهدرين، محكمةِ اليهود (أعمال 4: 8- 12) وكذلك إسطفانُس (7: 1- 53) وبولس أمام الحاكم فيلكس (24: 10- 21) ثمّ أمام أغريبا (26: 2- 23). وفي كلّ هذه المواقف لا يتراجع الرسل عمّا قالوا، لا بل يستفيدون من المرافعة ليبشّروا باسم المسيح. ولنا مثال على ذلك في الحوار بين أغريبا وبولس. قال أغريبا لبولس: "تريد أن تقنعني بوقت قليل فتجعلني مسيحيًّا". فأجاب بولس: "إني أرجو من الله، ليس لك وحدك، بل لجميع الذين يسمعونني اليوم، أن يصيروا بالقليل أو بالكثير، إلى ما أنا عليه (أن يصيروا مسيحيّين) ما عدا هذه القيود" (أع 26: 28، 29).
أمّا في الجدال والمناظرة فنحن أمام فنّ أدبيّ عرفه اليهود واستعمله الإنجيليّون. يقوم يسوع بحركة أو كلام فيثير الدهشة والاستغراب عند الحاضرين. يشفي رجلاً يوم السبت أو يقول للمخلعّ: "مغفورة لك خطاياك"، فيبدأ الجدال ويجيب يسوع: "ليس الأصحّاء محتاجين إلى طبيب، بل المرضى"، "أعَمَلُ الخير يحلّ يوم السبت أم عمل الشر؟" (مر 3: 4)، "أيّها المراؤون، أحسن أشعيا في نبؤته عنكم" (مر 7: 6). وحينئذ على الحاضرين أن يتّخذوا موقفًا، فمنهم من يكون مع يسوع ومنهم من يكون عليه.

5- الصلاة والنشيد وخطبة الوداع
إنّنا نجد الكثير من الصلوات في كتب العهد الجديد، أوّلها الصلاة التي علّمنا إيّاها يسوع، "أبانا الذي في السماوات" (مت 6: 9- 13)، ثمّ تلك التي قالها أمام رسله: "أحمدك يا أبتِ، ربّ السماوات والأرض" (مت 11: 25)، وأيضاً تلك التي قالها ليودعّ فلا تلاميذَه ليلةَ آلامه وموته: "يا أبتِ، قد أتت الساعة: مجدِّ ابنَك ليمجدّك ابنُك... احفظهم باسمك الذي وَهبته لي ليكونوا واحدًا كما نحن واحد" (يو 17: 1- 26). وعلى خطى يسوع صلّى الرسل والتلاميذ: صلىّ إسطفانُس ساعة موته (أع 7: 59، 60) كما صلىّ يسوع على الصليب (لو 23: 34- 36)، والرسل قبل أن يختاروا متّيّا ليكون معهم (أع 1: 24- 25) كما فعل يسوع قبل أن يختار الاثني عشر رسولاً (لو 6: 12).
أمّا الأناشيد فنقرأُها خاصّة في رسائل القدّيس بولس، وقد تكون ممّا كان يَتَرَنَّمُ به المسيحيّون الأوّلون في الصلاة الليتورجيّة. نذكر منها بداية الرسالة إلى أفسس (1: 3 ي): "تبارك إله وأبو ربّنا يسوع المسيح الذي باركنا في المسيح بكلّ بركة روحيّة في السماوات، ذلك بأنّه اختارنا قبل إنشاء العالم لنكون عنده قدّيسين بلا عيب في المحبّة"، ونورد نصّ الرسالة إلى فيلبّي (2: 2 ي): "تخلّقوا بخلق المسيح. فمع أنّه في صورة الله لم يعدّ مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته متّخذًا صورة العبد"، ونذكر أيضًا ما قاله القدّيس بولس إلى أهل كولسّي (1: 13 ي) عن يسوع المسيح الذي "هو صورة الله الذي لا يُرى وبكر الخلائق كلّها. ففيه خُلق كلّ شيء ممّا في السماوات وممّا في الأرض، ما يُرى وما لا يُرى" (رج أيضاً 1 كور 12: 31- 14: 1).
ولنا في العهد الجديد خُطْبات وداعيّة عديدة، الأولى قالها يسوع ليلة آلامه وموته ليعطي تلاميذه التعليمات التي ستوجّه عملهم بعد ابتعاده عنهم (يو 13- 17؛ لو 22: 21- 32)، والثانية قالها القدّيس بولس لشيوخ الكنيسة المجتمعين في أفسس لوداعه: "أنا أعلم الآن أنّكم لن تَرَوا وجهي بعد اليوم، أنتم الذين ست بينهم كلِّهم أنادي بالملكوت" (أع 20: 25)، والثالثة والرابعة نقرأهما في الرسالة الأولى (4: 1 ي) والثانية (3: 1 ي) إلى التلميذ تيموثاوس وفيهما يعلن القدّيس بولس أنْ قد اقترب وقت رحيله، ثمّ يسدي النصح إلى من يتابع عمل الرسالة بعده: "لا يستخفّنّ أحد بشبابك، بل كنْ قدوة للمؤمنين بالكلام والسيرة والمحبّة والإيمان والعفاف. ثابر على القراءة والوعظ" (1 تم 4: 12).
ويمكننا أن نطيلَ اللائحة فنتحدّثَ عن التطويبات (مت 5: 3- 12) التي تجعلنا في جوّ التيّار الحكميّ الذي يعلن الهناء والسعادة لخائفي الربّ وسامعي كلمته والعاملين بها، وعن السيرة الذاتيّة (غل 1: 11- 2: 10) حيث يروي القدّيس بولس أو غيره من الرسل بعض نتف من حياته، وعن الالام والقيامة، وعن رواية البشارة لمريم وزكريّا، وعن خبر ولادة يسوع ويوحنّا...

خاتمة
تحدّثنا عن الفنّ الإنجيليّ والإخباريّ والرسائليّ والجليانيّ وعن فنون ثانويّة أخذ بها الكاتب الملهم ليؤثّر في قرّائه ويدخلهم في سرّ كلمة الله الحاضرة فينا أمس واليوم وإلى الأبد. ومهما كان اللباس الذي ارتدته كلمة الله لتصل إلينا، فهي ترجع إلى شخص يسوع وهي تعمل لكي يكون الكلام الذي كتب في الماضي حاضرًا في حياتنا نحن الذين لأجلهم كتبت هذه الكلمات: "كتب هذا لتؤمنوا بأنّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولتكون لكم، إذا آمنتم، الحياةُ باسمه" (يو 20: 31).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM