القسم الرابع :يسوع في مصر والناصرة

يسوع في مصر والناصرة
2: 13- 23

لجأ إلى الجليل. وجاء إلى مدينة اسمها الناصرة فسكن فيها.
أورد متّى، بعد خبر المجوس، سلسلة من الأحداث، فجعل ظل الصليب يُشرف على فرح الميلاد: الهرب إلى مصر، مقتل أطفال بيت لحم الأبرياء، العودة إلى الجليل، لا إلى بيت لحم، خوفاً من ظلم أرخيلاوس.
وبحث متّى كما في كل مشاهد الطفولة، عن خلفية في تاريخ شعب الله، فأبرز إيراداً من الكتاب المقدس. هنا فرى خبر موسى كما يرويه التقليد ويجمّله.
في هذا النوع من الأخبار، لا ينقطع الإتصال بين الأرض والسماء. هنا بشكل حلم، وهو نوع من الوحي يبدو بصورة خفيّة. إذن، الله هو الذي يقود الأحداث، حتى وإن أخذت مساراً محيرّاً ومأساوياً.
بما أن المجوس عرفوا في يسوع ملك اليهود، كان لا بدّ له أن يقيم في مدينة داود، في بيت لحم. ولكن لا. فعليه أن يسير في طريق المنفى إلى مصر، إلى حيث سبقه عدد كبير من بني قومه منذ مئات السنين. وكما عاد بنو إسرائيل من مصر، هكذا سيعود يسوع، بحسب نبوءة هوشع (11: 1): "من مصر دعوت ابني".
وحين تحدّث متّى عن الإقامة في الناصرة، لم يجد في الكتاب المقدّس إيراداً محدّداً، فاكتفى بالعودة إلى الأنبياء بشكل عام. هنا تحيّر الشرّاح. لم تُذكر قرية الناصرة في العهد القديم. ثم إنّها كانت ضيعة محتقرة (يو 1: 46). وفيما بعد سيسمّى المسيحيون الذين من أصل يهودي باسم مستعار فيه بعض السخرية: ناصريين.
وقد نجد تلميحاً إلى "نذير" أي المنذور والمكرّس لله، على ما كان شمشون (قض 13: 5). ولكن هذا المعنى مستبعَد. ووُجد تلميح الى كلمة "نصر" (داود) التي نقرأها في أش 11: 1. وهكذا نجد في نهاية إنجيل الطفولة موضوع البنّوة الداوديّة (يسوع ابن داود) الذي قرأناه في البداية (1: 1).
ومهما يكن من أمر، فهذا الحدث يدلّ على أنّ استقبال يسوع عرض يوسف الصدّيق وخطيبته مريم لعدد من المخاطر. إنّ مصير الولد يحدّد مصير والديه. هذه هي الأمانة لدعوة تمرّ عبر المنفى إلى مصر والحياة الخفيّة في الناصرة.
"قم". هذا ما قال الله ليوسف الذي عليه أن يهرب مع الطفل وأمّه. "قم". هذا ما قاله الله أيضاً ليوسف الذي عليه أن يعود إلى أرض إسرائيل مع الطفل وأمّه. واستعدّ يوسف ليقيم في اليهوديّة. ولكن جاءه في الحلم تنبيه: هناك خطر على حياة الطفل. حينئذٍ أقام في الجليل، في مدينة الناصرة.
حين نقرأ هذه الصفحة، لا نستطيع إلاّ أن نفكّر بعدد من الأسر التي لا تعرف الراحة والأمان. لا عمل لربّ البيت هنا، فعليه أن يهاجر. ولكن إلى أين يذهب، وأين يقيم؟ قد تهجَّرت العائلة بسبب الحرب وما تجرّه من ويلات. إن صورة "العائلة المقدّسة" الجميلة تنسينا مراراً أنّ يوسف ومريم عرفا مرارة المنفى والبعد عن البيت العائلي كما عرف الطفل تهديداً بالموت.
جاء الله إلى عالمنا، فاختار حياة الفقراء مع كلّ ما فيها من تقلبات. فالسعادة والقداسة توجدان أيضاً في بيوت حقيرة مع ضائقة اقتصاديّة وأطفال مرضى. القداسة هي هنا شرط أن لا نستسلم لقلق ينكر حضور الله.
في هذه الحياة التي لا تعرف الراحة، نجد سلاماً كبيراً. لا يعارض يوسف ولا يخاف، بل يعمل، ينطلق. ومريم لم تنسَ ما قالته يوم البشارة: أننطلق في الليل، إلى المجهول؟ ليكن لي حسب قولك.
تبرز كلمة الله هنا في الأحلام. أما بالنسبة إلينا، فقد تتفجّر في التأمّل والصلاة الشخصيّة: "أنرني، يا رب". وقد يبرز الحدث فيقول لي: "قم، تقبّل المجهول والمزعج". كانت العائلة بألف خير. ولكن وضعت الوالدة طفلاً فتبدّل كل شيء. أو طُرد الوالد من المعمل. أو وُلد طفل معاق. مصائب عديدة. ونحن نحتاج أن تعلّمنا العائلة المقدّسة سرّ سلام يواجه كل الاحتمالات.
هذا السلام اسمه الثقة والاتّكال على الله. مهما كانت أوامر الله، يعرف يوسف ومريم أن هذا ما يجب أن يعملاه لخير الطفل.
مهما كان الاتّحاه الذي تتّخذه حياتنا، فلسنا وحدنا. الله هو هنا. فلنتحقّق من ذواتنا ومن ثقتنا به. هذه الثقة هي فضيلة الساعات الصعبة. "فليكن لي حسب قولك". صارت هذه العبارة في المنفى أو عند الصليب كلمة ثقة تجعلنا نعيش حياتنا مهما عرفت من صعوبات.
سافر يسوع وهو في بطن أمّه إلى الناصرة. وما إن وُلد حتّى فُرض عليه الهرب. إنّه مطارَد ومضطَهَد. ولكنّ سفره هو حجّ أيضاً. فيسوع يسير في الطريق التي سار فيها آباؤه من فلسطين إلى مصر، ومن أرض العبودية إلى أرض الموعد.
كل مغامرة شعب الله المستعبَد والمحرَّر تتسجل في خبر يسوع الخادم والمخلّص. وستكون حياته تنقُّلاً على طريق الجليل، ثمّ صعوداً إلى أورشليم. ولم ينتهِ السفر إلاّ في صباح الفصح ساعة يصعد يسوع إلى الآب.
وغداً يكون صعود مريم وصعودنا نحن إذا أردنا أن ندخل في مسيرة المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM