الفصل العشرون التفسير المسيحي للعهد القديم

الفصل العشرون
التفسير المسيحي للعهد القديم

في هذا القسم درسنا العهد القديم من حيث مكانته في مخطّط الخلاص، والطريقة التي بها يرتبط بسرّ المسيح. ثمّ توقّفنا عند الشريعة والتاريخ والمواعيد وربطناها بالعهد الجديد. يبقى لنا نقطة أخيرة لا بدّ من معالجتها، لا زال العهد القديم بين أيدينا بشكل أسفار مقدّسة تشكّل لنا كلمة الله على غرار أسفار العهد الجديد.
ماذا تعني هذه العبارة: العهد القديم هو كلمة الله؟ هي تعني فقط أنّ الله تكلّم في الماضي بواسطة هذه الأسفار الى آبائنا في الإيمان، بل تعني أيضًا أنّ الله يكلّمنا اليوم بهذه الأسفار. والمسألة المطروحة علينا الآن هي: كيف نفهم هذه الكلمة فهمًا صحيحًا؟
نعالج هنا مسألة التفسير المسيحي فنصل إلى التفسير البيبلي. ندرس في قسم أوّل المسألة في شكل عامّ، ثمّ ننتقل إلى معاني الكتاب المقدّس.

I- مسألة التفسير المسيحي للعهد القديم
طرحت مسألة تفسير النصوص البييلية منذ أيّام اليهود، لا من قبيل الحشرية والفضول، بل بضغط من الضرورات الحياتية. كيف نوفق بين نصّين يبدوان متعارضين؟ كيف نستخلص من النصوص نورًا لإيماننا وقاعدة لحياتنا؟
من جهة، قدّم الإيمان للمفسّرين معطيات عامّة دلّتهم على نوعية التعليم الذي يجب أن يبحثوا عنه في النصوص؛ ومن جهة ثانية، وجد هؤلاء المفسّرون في حضارة عصرهم أساليب عمليّة تتيح لهم أن يربطوا بالنصوص الدروسَ التي جعلهم الإيمان يكتشفونها.
وهذا الربط الحميم بين عناصر الإيمان وعناصر الحضارة، سنجده في التفسير البيبلي كما عرفته الكنيسة الأولى. ففي زمن العهد الجديد، صار سرّ المسيح الذي فيه تمّت الشريعة والأزمنة ومواعيد الله، مفتاح تفسير الكتب المقدّسة. ولكن حين نستعمل هذا المفتاح لشرح نصّ من النصوص، تبرز أساليب الرابّانيين كما عند القدّيس بولس، والإسكندرانيين كما في الرسالة إلى العبرانيين. وسيكون الوضع هكذا في تاريخ الكنيسة على مدى أجيالها. فالتأويل المسيحي سيعود دومًا إلى الإيمان ليطلب منه مبادئه المسيحية وتوجيهه العامّ والمعطى الموحى الذي سيربطه بالنصوص البيبلية.

أ- وضع التأويل الكتابيّ
تميزّت حضارة الإسكندرية في أيّام إكلمنضوس وأوريجانس بنظرة رمزية إلى الكون، ففسّرت الكتب تفسيرًا مجازيًا. واليوم، هناك العقلية العلمية التي تفرض قراءة نقدية للكتب المقدّسة. ليس النصّ الكتابي صنمًا نعبده ولا نجسر أن نقترب منه. إنّه كلام الله وضع في فم البشر ونحن نفهمه بأساليب البشر لا بدّ من إدخال النقد إلى عالم التفسير.

1- إدخال علم النقد
ما هو النقد؟ هو عمليّة فهم وتمييز نستعمل فيها كل وسائل العقل لنفهم فهمًا صحيحًا اللغة البشرية التي تحمل كلام الله.

أوّلاً: النقد الأدبيّ
إنّ فهم نصوص العهد القديم لا تتطلّب فقط معرفة مادّية للّغات التي كتب فيها. فللكلمات وزنها وللعبارات عالمها. فالوحي يتعدّى الزمان والمكان، وتحمله لغة من اللغات. هنا نفكّر بالأساليب الأدبية التي عرفها شعب إسرائيل، بل شعوب الشرق الأوسط.
فإذا أردنا أن نفهم حقًّا الأسفار المقدّسة، نتعرّف إلى عبقرية اللغات والحضارات السامية، ونتبع مسيرة المجتمع الذي دوّنت فيه منذ أيّام البداءة حتّى الحياة في الإسكندرية في القرن الأوّل ق م. ويجب أن نتعرّف إلى الشخص الذي كتب، إلى الزمن الذي فيه كتب، إلى الظروف التي دفعته الى الكتابة. وبمختصر الكلام، نطبّق على النص الملهم كلّ أساليب النقد الأدبي المطبّقة على كتبنا الدنيويّة. وما يمكن أن يبرزه مثل هذا العمل هو تعليم وجّهه حاملو كلام الله إلى أناس في القرن العاشر أو السابع أو الثاني ق م. لم نصل بعد إلى التعليم الذي يتوجّه الينا الآن في إطار وحي كامل وفي حياة كنسيّة تامّة. ولكن لا بدّ من المرور بالنقد الأدبي لنصل إلى آخر مراحل التأويل الكتابي. ولكنّ الشرق يخاف من النقد الأدبي ويكتفي بأن يتعلّق بحرف الكتاب يردّده ولا يفسره ويفصله.

ثانيًا: النقد التاريخي
لقد تمسّك التقليد المسيحي دومًا بواقع التاريخ البيبلي. داء عنه أوريجانس ضدّ هزء سلسيوس دون أن ينسى البحث عن المعنى الروحي الذي يصل بنا إلى المسيح. وعلى هذا الأساس دوّنت شميلات تاريخية مؤسّسة على الكتاب المقدّس: التهيئة الإنجيلية مع أوسابيوس القيصري، مدينة الله مع أوغسطينس... وعلى مرّ العصور طوّر الشرّاح أساليبهم مستندين إلى الأساليب التاريخية والى نتائج الحفريات الأثرية، فلم تعد التوراة كتابًا معزولاً، بل رافقتها المدوّنات العديدة واللويحات.
في هذا الإطار طبّق المؤرخون على النصوص البيبلية المعتبرة وثائق من التاريخ، القواعدَ عينها التي تطبّق على سائر الوثائق البشرية. ولكنّهم اصطدموا بصعوبتين. الأولى رفض كل ما هو فائق الطبيعة واعتباره نوعًا من الأساطير، والثانية رفض النقد التاريخي الذي ما زلنا متمسّكين به في الشرق.
فالدراسة العلمية للكتب المقدّسة لا تستطيع أن تستغني عن التساؤل حِول الكتّاب، وتواريخهم، وفنّهم الأدبي... هذا ما يسمّى الشكّ المنهجي. وهو يعني تدقيقًا يتيح لنا أن نفهم القيمة الحقيقية لكلّ سفر ونقدّر بُعده الصحيح ونستعمل شهادته لنكوّن التاريخ البيبلي تاركين لكل وثيقة فنّها الخاصّ. هناك التاريخ السياسي، والتاريخ الاجتماعي، والتاريخ الديني.

ثالثًا: النقد الفلسفي
ونتقدّم خطوة أخرى. فوراء العلم التاريخي الذي يرسم تاريخ البشر ويكتشف التسلسل بين الأحداث. يبقى على العقل أن يقدّر هذا الصرح الذي بناه: هناك حكم على الأشخاص والأفكار والأحداث والنظم. نحن لا نضع أفكارًا مسبّقة ونفرضها على الواقع.
كما أنّنا لا نرفض هذا النقد متذرّعين بالقول بأنّ العقل البشري لا يستطيع أن يحكم على وحي الله. هذان هما الخطران اللذان يجب أن نتلافاهما. ماذا نعمل؟
نبدأ فنقوم بمقابلة بين العهد القديم وسائر المظاهر الدينية. صارت الوثائق كثيرة بعد أن كشفت لنا الحفريّات عن قسم من كنوزها. هناك علم المجتمعات والحضارات الذي يساعدنا على التعرّف إلى انتقال العبرانيين من بساطة حياة البدو إلى تعقّد الحقبة الهلّنسيّة.
ماذا يقول دستور العهد وقانون الذبائح؟ ما هو المستوى الأخلاقي من هذه الديانة؟ ما هي العلاقة بين الديانة والتاريخ في لاهوت العهد كما في الإسكاتولوجيا النبوية؟ وهنا يأتي تاريخ الديانات.
مثل هذا النقد لن يبرهن عن الطابع العلوم في العهد القديم والعهد الجديد، ولكنّه يلعب دوره حين يهيّئ العقول للتعرّف إلى هذا الوحي وقبوله. ويبيّن أنّ العهد القديم يجد كل معناه في إطار التعليم الإنجيلي مع ما حمله من خصائص تلقي ضوءاً على الواقع البشري.

2- تجاوز النقد بأشكاله المتعدّدة
قدّم النقد البيبلي خدمات جلّى. ولكن يجب أن نتجاوزه. فالتأويل العلمي المحض يترك الجوهر جانبّا ولا يكون عملاً كنسيًا. فكلمة الله لم تسلّم إلى الكنيسة لتغذّي بحث المؤرّخين وتفكير الفلاسفة، بل لتغذي إيمان البشر وحياتهم الدينية. وإعلانها (نقول قبل قراءة الإنجيل في الليتورجيا المارونية: كونوا في السكوت) هو بداية حوار ينتظر فيه الله جوابًا من البشر إذن لا يستطع تفسير العهد القديم أن يكون عمليّة علمية محضة، تقف في عالم التجريد. إنّه يرتبط بسائر نشاطات الكنيسة، كاللاهوت والدفاع المسيحي والرعائيات.

أولاً: التأويل واللاهوت
حين نتعرّف إلى عمل اللاهوتيين المسيحيين، نلاحظ أنّ الكتاب المقدّس بعهديه هو ينبوع تفكيرهم، وهذا منذ بداية تاريخ الكنيسة. من هنا يطلب اللاهوتي من المؤوّل أن يقدّم له موادّ تدخل في شميلته اللاهوتية. لن يهتمّ اللاهوت بالمعتقدات الناقصة عند شعب العهد القديم، وهي تقابل أولى مراحل الوحي الكتابي. بل يهتمّ باكتشاف سرّ المسيح في النصوص البيبلية. هنا لا بدّ من أن نسمع النصوص أوّلاً ولا نفرض عليها تفكيرنا اللاهوتي المسبّق.

ثانيًا: التأويل والدفاع المسيحي
نحن أمام مواجهة. ندافع عن الكتاب المقدّس ضدّ محاولات التفسير التي تفرغه من مضمونه العلوي. ثمّ نستعمله بشكل وضعي لنهيّئ الدرب التي تقود الإنسان إلى الإيمان. هذا يفترض عملاً تأويليًا صادقًا جدّيًا موضوعيًا، فيقوم بتفسير الوقائع داخل الإيمان: ما هي العلامات التي تتيح لنا أن نتعرّف في قراءتنا للعهد القديم إلى تدخّل الله في بشرية تبحث عنه؟ كيف نكتشف في سرّ المسيح العنصر الذي يؤمّن التماسك الداخلي والمعنى العميق لهذه النصوص؟ وحين نحدّد موقع العهد القديم بالنسبة إلى مجمل الواقع الديني وبالنسبة إلى المسيح، نراه مفهومًا في منظار الإيمان المسيحي.

ثالثًا: التعليم والرعائيّات
لا ينسى مؤوّل الكتاب المقدّس أنّه يعمل داخل جماعة تعتبر الكتب المقدّسة غذاء لحياتها. لهذا عليه أن يُبرز القيمة الحياتية في النصوص، أن يساعد على تأوينها في الليتورجيا والكرازة. هنا نعود إلى تاريخ الكنيسة، ونلاحظ بحث الليتورجيّا في نصوص العهد القديم والعهد الجديد لتحتفل بسرّ الخلاص الذي تمّ في يسوع المسيح وعاشته الكنيسة على مرّ العصور: عودة إلى التاريخ، إلى أقوال الأنبياء، إلى المزامير والأناشيد الملهمة. مثلاً نقرأ آلام المسيح على ضوء نشيد عبد الله (أش 13:52- 12:53) أو على ضوء مز 22: إلهي إلهي لماذا تركتني؟

ب- ما هي الحلول
هناك واجبان مفروضان علينا: أن نقبل بعمليّات النقد، ثمّ نتجاوز النقد. إنّما تبقى المسألة التي يطرحها التفسير المسيحي للعهد القديم من دون جواب. سنحاول أن نبرز بعض العناصر الأساسية. أوّلاً: أيّ موضوع نبحث عنه في الكتب المقدّسة لنرضي في الوقت عينه عمليّة النقد ولاهوتِ الكتاب الملهم؟ ثانيًا: أيّ لغة استعملتها الكتب المقدّسة لكي تعبّر عن هذا الموضوع؟ ثالثَا: ما هو الأسلوب المفروض علينا لكي نتجاوز القشرة ونكتشف غنى هذا الموضوع؟

1- الموضوع الوحيد في الكتاب المقدّس
العهد القديم هو مجموعة متنوّعة على مستوى الفنون الأدبية أو الموادّ المعالجة. هل نستطيع أن نعيدها إلى الوحدة، فنكتشف في كل صفاتها موضوعًا واحدًا وحيدًا؟ الجواب هو نعم، شرط أن نرجع إلى الوراء لتكون نظرتنا متكاملة عبر الوجهات العديدة.

أوّلاً: سرّ الخلاص
إذا أردنا أن نفهم موضِوع الكتب المقدّسة، لا يكفي أن نجمع الموادّ المعالجة. فبعضها لا يهمّ مسألة الخلاص. مثلاً، لائحة عشائر سعير وملوك أدوم (تك 36: 8- 43)، سجلّ المساحة لقبائل إسرائيل (يش 13- 19)، لائحة أبطال داود (2 صم 23: 8- 39)، تاريخ الحروب الأرامية (2 مل 6: 8- 8: 15)، لائحة الأنساب في سفر الأخبار الأوّل (ف 1-8).
أسفار العهد القديم هي كتب دينية تهدف إلى تغذية القرّاء وتنمية حياتهم الروحية. من هذا القبيل، جُعلت في حياة جماعة بشرية هي شعب إسرائيل، حين لوَّن العنصرُ الديني كل مظاهر وجوده. لهذا سُمّيت هذه الأسفار قانونية، واهتمامنا بها اهتمامنا بالإيمان: هو الله الحيّ في علاقاته مع البشر، هو مخطّط الخلاص الذي يتمّ على الأرض في تاريخ شعبه.
هنا يبرز موضوع الإلهام. فالله لا يوحي لنا بشيء إلاّ ما يهمّ خلاصنا. هذا ما سوف نبحث عنه وحده في الأسفار المقدّسة.

ثانيًا: سرّ الخلاص وسرّ المسيح
نستطيع أن ننظر إلى سرّ الخلاص على مستوى الناس الذين تعاقبوا على مرّ العصور. فكل واحد منّا يحاول أن يلتقي بالله في ظروف حياته الملموسة التي يعيشها. ويقول لنا الوحي بشكل واضح إنّنا لن نصل إلى هذا اللقاء بدون الوسيط الوحيد، يسوع المسيح (1 تم 5:2) الذي ننال نعمته.
ونستطيع أن ننظر إلى سرّ الخلاص على مستوى الجماعة البشرية. وحينئذ نراه في امتداده التاريخي. يبدأ مع الخليقة وينتهي معِ عودة المسيح بالمجد. قلبه ومحوره عبور يسوع المسيحِ على الأرض. بعده، يتّخذ السرّ شكلاً أسراريًا في تاريخ الكنيسة. وقبله كان يعمل مسبّقًا. إذن سرّ الخلاص وسرّ المسيح ليسا شيئين مختلفين مع أنّه يجب أن ننتظر ملء الأزمنة ليُكشفَ عن سرّ الخلاص بوضوح على أنّه سرّ المسيح. وهكذا ليس العهد القديم فقط تهيئة خارجية لسرّ المسيح. إنّه جزء منه. لم يأتِ المسيح بعد، ولكنّ إسرائيل بدأ يعيش سرّه. وهذا السرّ ظهر في الكلمة النبوية التي تحرّك عند الناس حياة إلهية تشبه حياتنا، وتجعلنا نستشفّ بدقة متزايدة ما سيكون تحقيقها التامّ في تهيئة الزمن. وظهر للذين يطلبونه بسلامة القلب. وظهر في تاريخ إسرائيل بما فيه من وجوه سرّية ومخطّط روحي.
حين نقول إنّ لأسفار العهد القديم موضوعًا واحدًا هو سرّ الخلاص، فهذا يعني أنّ موضوعها سرّ المسيح الذي اكتشفه إسرائيل تدريجيًّا واختبره مسبّقًا تحت ستار الأحداث والنظم.

2- لغة الكتب المقدّسة
موضوع الكتب المقدّسة هو سرّ الخلاص، هو سرّ الله في علاقته مع البشر فكيف تعبّر لغة البشر تعبيرًا وافيًا عن هذا الواقع العلويّ بكلمات تأخذها من خبرتنا البشرية اليومية؟ الجواب على هذا السؤال يشرف على التأويل الكتابي كلّه، فهدف التأويل هو مساعدتنا على فهم صحيح للّغة التي استعملها الكتاب المقدّس.

أوّلاً: البيبليا والرمزية الدينية المشتركة
هذه المسألة هي حاضرة في كل لغة دينية تحاول أن تترجم معرفة الله. فهي تلجأ إلى الرمز الذي بدونه ليس من لغة دينية ممكنة. ينطلق الإنسان من خبرة حياته (في العالم الحسّي، في المجتمع) فيتمثلّ عن طريق القياس العالم المتسامي الذي أدخلته فيه حياته الدينية. فالعبور من نظام الأشياء إلى نظام آخر بفعل التقابلات بين الوقائع الرمزية والواقع الإلهي المرموز عنه، يشكّل مقارنة ملموسة تتيح للإنسان أن يعبّر بكلمات عادية عمّا يعرفه أو يستشفّه عن الله.
نحن أمام تطبيق مبدأ معروف في اللاهوت المسيحي يقول: "فمنذ خلق العالم لا تزال صفاته الخفيّة، أي قدرته الأزلية وألوهيّته، ظاهرة للبصائر في مخلوقاته" (روم 1: 20). بما أنّ الخلائق هي وحي حقيقي وطبيعي عن الله الحيّ، فالإنسان يستطيع أن يعود اليها ليكوّن لغة بها يعبّر عن علاقته الحميمة مع ذاك الذي يتجاوز العالم المحسوس. لا شكّ أنّ هذه المعرفة الطبيعية لله قد تشوّهت وفسدت في بشرية خاطئة (روم 1: 21- 23). وهذه اللغة الرمزية قد تنحطّ وتمتلئ بمضامين ضالّة. هذا هو واقع الميتولوجيات القديمة. ولكنّ المبدأ الذي يُشرف على هذه اللغة يبقى هو هو. فيكفي أن نصحّح المسار لئلاّ تخون الرموز المستعملة موضوعها وتضلّ طريقها اليه.
وهذا ما حدث في الوحي البيبلي: شفى الطبيعة البشرية المجروحة، فأبعد عن رمزيتها التمثّلات التي لا تليق بالله الحيّ والتي عرفتها الوثنية المجاورة. ولكنّه أخذ رموزًا مشتركة بين اللغات الدينية في الشرق. فتحدّث عن الله كأب وملك وراع وزوج. وتصوّر الهيكل بيته وذبائح السلامة مشاركة في مائدته. وهو يكثر من الصور ليدل على عمل حمايته: هو البرج والصخرة والقلعة والترس. وهكذا تتجذّر لغة العهد القديم في الخبرة البشرية المشتركة فتنقّي معطياتها وتُبرز مدلولها الديني.

ثانيًا: خلق رمزيّة دينية خاصّة
ولكنّ هدف الوحي لا يقتصر على تنقية معرفتنا الطبيعية لله واللغة الخاصّة بالحديث عنه، فموضوعها الجوهري هو من نظام آخر: إنّه يعرّف البشر على سرّ الخلاص الذي تحقّق نهائيًا في يسوع المسيح. لهذا هو يحتاج إلى لغة وافية، لغة رمزية، وإن اختلفت عن التي انطلقت من خبرة البشر المشتركة. فيجب أن تتجذّر الرموز في خبرة إنسانية خاصّة ترتبط بوضوح بالوقائع المتسامية التي لا بدّ من ترجمتها. هنا تجد خبرة إسرائيل معناها وعلّة وجودها. إنّها خبرة شعب مصيره يختلف عن مصير سائر الأمم: هو يعيش من أحداث وجهّها الله من أجل تاريخ الخلاص. وهو يمتلك نظمًا أرادها الله من أجل سرّ الخلاص. وهو عرف رجالاً أرسلهم الله من أجل سرّ الخلاص. إنّ هذه العودة الدائمة إلى سرّ الخلاص تمنح خبرته التاريخية قيمة خبرة دينية تعرّفنا إلى كلمة مرسلي الله بمدلولها. لهذا، فاللغة البيبلية تلجأ إلى معطيات هذه الخبرة لتعبّر بكلمات البشر عن سرّ الخلاص، وذلك لشرح نظرة الله الحالية على شعبه داخل عهد سيناء أو للإشارة إلى الهدف النهائي الذي يشير اليه هذا الشعب، وهذا الهدف هو المسيح. وهكذا تكون خبرة إسرائيل نقطة انطلاق لرمزيّة جديدة تعطي التاريخ فرادته والنظُم أصالتها. واستعادةُ اللغة الرمزية المشتركة تتّخذ لونًا خاصًّا. مثلاً، الله الآب أو الله الزوج يُفهمان في خلفية الخبرة التاريخية للخروج والعهد.
هذه الملاحظات تتيح لنا أن نفهم العلاقة بين الصور الرمزية (التي تتضمّنها الأحداث والأشخاص والنظم في إسرائيل) ولغة الوحي. فالصور هي في منطلق اللغة. وتنتمي إلى بنيتها الأساسيّة. في البداية، بدأ سرّ الخلاص يُفهم شيئًا فشيئًا. وحين برزت الإسكاتولوجيا النبوية، تأسّست النهية على تفسير رمزي للماضي فتحدّثت النصوص عن خروج جديد، عهد جديد، عبور جديد في البرّية، دخول جديد إلى أرض الميعاد، أورشليم الجديدة، داود الجديد، الهيكل الجديد.
لا شكّ في أنّ الفكر يتأرجح على هذا المستوى بين بناء مادّي جديد لحالة سابقة واستبدال هذا البناء بواقع أسمى. كانت النبوءة ملتبسة. ولكن لمّا حضر العهد الجديد وتجسّد الكلمة ودخل عمله الفدائي في الخبرة التاريخية لشعب الله، كشف بُعد الصور كشفًا كاملاً. وإذ أراد الكتّاب المسيحيون أن يجعلوا هذه النهية مفهومة، ظلّوا يستعملون لغة مرتكزة على الصور. فعبّروا عن حقائق العهد بمقولات صاغتها خبرة إسرائيل التاريخية. تلك كانت أوّل لغة للاّهوت المسيحي الذي لجأ إلى الكتّاب الملهمين ليترجم سرّ المسيح في كلمات بشرية. لا شكّ في أنّ الخبرة المباشرة لهذا السرّ ملأت الكلمات مضمونًا جديدًا. حين أتمّ يسوع الصور والكتابات النبويّة، حوّلها كلّها إلى إنجيل، كما قال أوريجانس، فقاد اللغة الرمزية في العهد القديم إلى ملئها وكمالها.

ثالثًا: نقد اللغة البيبلية
كان إيمان البشر في العهد القديم جوابًا على كلمة الله. ولكنّ هذه الكلمة تُقرأ ككلمة نبويّة وكأحداث خلقها الله لينسج مصير شعبه. فكيف نفصل بين وجهتَيْ التعليم الإلهي دون أن نفرغه من محتواه.
إنّ نقد اللغة البيبلية مهمّ لأنّه يتيح لنا أن نكتشف من خلال الرموز المستعملة، الخبرة الوجودية. ولكنّ طرد السُطُر وما فيها من صور مخيبة للآمال يفرغ الرموز من كلّ مضمون كياني ويفصلها عن التعليم الذي تحاول أن تعبّر عنه. فإذا أردنا أن نترجم تعليم الله دون أن نخون وجهته الوجودية التي تعطيه قيمة حياتية، ودون أن ننسى وجهته الكيانية التي تؤمن لنا معرفة صحيحة للحقائق المتسامية، ان اردنا ذلك لا نجد لغة ممكنة إلاّ اللغة الرمزية في التوراة كما فسّرها العهد الجديد.

3- ما هو التفسير المسيحيّ للعهد القديم
التفسير المسيحي للعهد القديم يفرض على المفسّر أن لا ينحصر داخل حدود النقد، كما يفرض عليه أن لا يبحث عن بناء لاهوتي يتوسّل مناهج اعتباطية. فالهدف المطلوب هو فهم صحيح لكلمة الله كما كتبت بنعمة الإلهام. ولكن في الإطار المسيحي، يبقى هذا الفهم ناقصًا إن بحثنا فقط عن الأفكار البشرية لدى الكتّاب، إن لم نكتشف سرّ الخلاص كما أوحي به الينا. وهذا يتطلّب تنبّهًا إلى ما تحرّكه النصوص من عاطفة في قلوب آبائنا، في قلوبنا نحن الذين نعرف معرفة واضحة سرّ المسيح.
هنا نتوقّف عند ثلاث نقاط. الأولى: أيّ اتجاه نعطيه للبحث النقدي ليقودنا الى المعنى المسيحي للكتب المقدّسة؟ الثانية: بأيّة جدليّة ننتقل من معنى النصوص كما ندركها على مستوى سياقها التاريخي الأصلي إلى المعنى الذي تصل اليه في إطار واسع هو إطار الوحي الكامل؟ الثالثة: ما هي تطبيقات هذا النهج العامّ؟

أوّلاً: اتّجاه النقد
قواعد النقد هي إنها تنتمي إلى عالم العقل ولها حقّ ببعض الاستقلالية. لها الحقّ أن تتدخّل بطريقة غير مباشرة ليبقى العقل في حدودها فلا يتجاوزها، أو ليبقى للإنسان انفتاح على نور إلهي أسمى إذا حاول العقل أن يجعل من نفسه المقياس المطلق للأشياء، أو لتبقى الأحكام بعيدة عن الضلال. غير أنّ المسألة التي نطرحها لا تعني القواعد التي نأخذ بها في عمليّة النقد، بل اتّجاهه الأساسي والروح الذي نقوم به. فسواء كنّا أمام النقد الأدبي أو التاريخي أو الفلسفي، فالعمل يتضمّن ثلاث مراحل مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا منطقيًا: ندرس الظروف البشرية للفكر واللغة. ومن هنا ندرك الفكرة في اللغة التي عبّرت عنها. وأخيرًا، نرى قيمة ما درسنا ومعناه. وحين يتعلّق أمر بالكتاب المقدّس، فالنصّ المدروس هو ملهم وهو يعبّر عن وحي الله ويعني سرّ الخلاص. وهذا ما يؤثّر على مراحل النقد الثلاث.

- الظروف البشرية
لسنا أمام لغة طبيعية مستقلّة في ذاتها وتطوّرها. بل هو وحي إلهي ناله الكتّاب الملهمون من أجل معرفة سرّ الخلاص، سواء نالوا الموهبة النبوية أم كانوا صدى لشهادة الأنبياء فتقبّلوها في الإيمان. فلغتهم يحرّكها الوحي الإلهي وهذا ما يؤمّن للوحي ترجمة وافية تلعب فيها عصمة الله دورها. الفكر واللغة يتقابلان. نميزهما ولكنّنا لا نفصلهما.

- من اللغة إلى الفكر
إنّ ظروف الزمان والمكان والمحيط البشري والحضاري، تكيّف معرفة سرّ الخلاص كما يملكها كل كاتب ملهم. والمسألة هي هي سواء كنّا أمام معرفة نبوية أم معرفة إيمانية مؤسّسة على الشهادة النبوية: هذه المعرفة يحدّها أفق زمن محدّد حتّى ولو وصلت نظرة النبي إلى المستقبل حتّى زمن النهية. لا شكّ في أنّ معرِفة النهية عند الأنبياء تتضمّن سمات جدّة مطلقة. وحتّى في هذه الحالة تبقى خلفيّتُها خبرةَ بشرية تعطيها كثافتها الملموسة.
والحال أنّ هذه الخبرة ليست بعد العهد الجديد والمسيح. إنّها خبرة التاريخ والنظم التي كانت تهيئة وصورة، وتكون فقيرة أو غنيّة بحسب اقترابها أو بعدها من العهد الجديد. وبقدر ما تقود معرفة السرّ التي تترجمها النصوص إلى هذه النصوص، فهي واضحة أو أقلّ وضوحًا.
وتتكيّف اللغة التي يستعملها الكاتب ليترجم تعليمه، وهذه اللغة تتجذر في الخبرة البشرية لشعب الله، كخبرة أولى لسرّ الخلاص. ولهذا فهي تستطيع أن تترجم هذا السرّ فلا يعارضها وحي العهد الجديد، بل يغنيها ويوضح ما فيها من التباس. حين نعلم حدود الخبرة التي فيها تتجذّر هذه اللغة، نعرف أنّ هذه اللغة لا تستطيع أن تترجم السرّ في ملئه وكماله.
وهكذا يكون لدراسة العوامل البشرية التي تكيّف النشاط النقدي للكتّاب الملهمين، نتائج مهمّة. من جهة، فهي تفسّر الطابع الناقص لتقديمها للسرّ، ونحن نفهم هذا الطابع من خلال تحليل النصوص، ومن جهة ثانية، فهي تبرّر مجهود القارئ المسيحي لكي يدرك السرّ كلّه من خلال صورة ناقصة يقدّمها هذا الكتاب أو ذاك. وهذه الدراسة، حين تلفت الانتباه إلى معرفة السرّ التي يمتلكها كل كاتب، والى مكانة السرّ في نفسيّته الدينية، والى الطرق التي وصل بها إلى السرّ بحياة إيمانه، فهي تتيح لنا أن نرى الوجهة التي اهتمّ بها ليشرح هذا السرّ، وكيف أنّ العبارة تكشف هذا السرّ وتخفيه معًا.
هذه الملاحظات هي هامّة لأنّها تتيح لنا أن نبرز الفكر المسيحي في النصوص انطلاقًا من فكر الكتّاب الملهمين كما قدّمه الينا النقد. فعبر التعابير الناقصة والمتلمّسة، ندرك السرّ كل السرّ. لا شكّ في أنّنا ما كنّا لندركه لو لم يعرفنا به سرّ الإيمان المؤسّس على العهد الجديد. ولكن بعد ان نؤمّن هذه المعرفة، نتجاوز الحدود التي اصطدم بها الكتّاب لنُبرز في وضح النهار الموضوعَ السرّي الذي استشفّوه في معرفة نبوية كيّفتها ظروف زمنهم فما استطاعوا أن يعبّروا عنها بصورة مرضية.

- الحكم على مدلول النصوص وقيمتها
وفي نهاية هذا العمل النقدي، نصل إلى الفلسفة الدينية والى اللاهوت أو بالأحرى ستطرح الفلسفة الدينية أسئلة لن يكون في مقدورنا أن نقدّم جوابًا عليها دون أن نتجاوز حدود الفحص العقلي. فهذا الجواب يتطلّب التزام الإيمان، وهذا ما يدخلنا في نطاق اللاهوت.

ثانيًا: جدليّة التجاوز
أجل، لا بدّ من تجاوز النقد على خطى كتّاب العهد الجديد ولاسيمّا القدّيس بولس وصاحب الرسالة إلى العبرانيين. وهذا يتمّ بأشكال عديدة.

- من الحرف إلى الروح
يرى القدّيس بولس أنّ الفهم المسيحي للعهد القديم يتطّلب عبورّا من الحرف إلى الروح. هاتان اللفظتان تميّزان نظامين دينيين مؤسّسين على عهدين. العهد الجديد الذي قُطع مع يسوع المسيح يحمل إلى البشر عطيّة الروح الإلهي التي تحييهم. أمّا العهد القديم، عهد سيناء، فلم يحمل إلاّ عطيّة خارجيّة هي الشريعة، التي كانت في حدّ ذاتها حرفًا ميتًا لا يقدر أن يعطي الحياة، وهو مناسبة موت للذين يعصونها (2 كور 3: 6- 7). وعلى المسيحيين الذين نالوا الروح في المعمودية أن يخدموا الله في جدّة (جديد) الروح لا في عتق (عتيق) الحرف (روم 6:7). وهذا يفرض عليهم أن يفهموا الشريعة القديمة التي تتجاوز ماديّة الفرائض وتحتفظ بمعناها العميق سواء كانت فرائض قانونية أو عبادية متّصلة بنظم إسرائيل. وهكذا يحلّ " ختان الروح " محلّ "ختان الحرف"، ختان القلب محلّ ختان اللحم (روم 2: 27- 29).
والتطبيق الوحيد الذي اختبره القدّيس بولس يعني مسألة الشريعة القديمة، وتلك كانت مسألة موت أو حياة لكنيسة عصره التي تحّركها محاولات المسيحيين المتهوّدين. ولكنّ لهذا المبدأ تأثيرات أوسع. فكل نصوص العهد القديم لها بُعد محدّد بالنظر إلى عهد سيناء والنظام المؤسّس عليه. هذا هو المعنى الذي يكتشفه النقد، ولا بدّ من المحافظة على قوام هذا الحرف الذي فيه يكلّم الله آباءنا (عب 1:1 ) حسب قواعد تدبير التهيئة. فإذا أردنا أن نكتشف التعليم الذي يوجّهه إلينا، يجب أن نجعل هذا الحرف في ضوء التدبير الجديد لكي نكتشف مقصده العميق والمرتبط بنظام الروح الذي دخلنا فيه. وإلاّ سجَنَنا النقدُ في حرف ميت قد يشبع فضولنا، ولكنّه لا يحمل إلينا شيئًا مفيدًا لخلاصنا. مثل هذا الحرف يشجبه القدّيس بولس.

- من التربية الإلهية إلى هدفها حسب عناية الله
نحن نفهم فهمًا أسهل العبور من الحرف إلى الروح إذا فكّرنا في دور الشريعة القديمة في مخطّط الخلاص. كانت مربّية شعب الله إلى أن جاء المسيح وحصلنا على التبرير بالإيمان به (غل 23:3- 25). والتطبيق الوحيد الذي يعلنه بولس هنا هو مسألة الشريعة. غير أنّ مبدأ التربية الإلهية قد يتوسّع إلى كل وجهات العهد القديم: الشرائع والنظم، التاريخ والمواعيد النبوية.
إذا أراد إنسان أن يولد إلى حياة جديدة في المسيح، عليه أوّلاً أن يختبر عجزه عن أن يخلّص نفسه من دينونة الله. بالشكل عينه كشف السرّ الإلهي لإسرائيل شقاء كيانه الخاطئ الذي أخضعه لدينونة الله، ونظام موعد نعمة يعُطى فيه الخلاص مجّانًا. فإن أردنا أن نكتشف مكانة كل نصّ بيبلي في تربية الله، يجب أن نرى كيف ينتظم بالنسبة إلى وحي المسيح، كيف يتطلعّ إلى سرّ الخلاص الذي سيتحقّق حين يتمّ وقت التهيئة. هذا يفترض أنّنا نحترم احترامًا مطلقًا الواقع التاريخي، ونفهمه في المعنى الذي كان له ساعة دوّن. هذا هو عمل النقد. ولكنّ هذا يفترض أيضًا أنّنا نتنبّه إلى علاقته بنهاية التاريخ المقدّس، ونكتشف الدينامية العميقة التي أتاحت له أن يقوم بوظيفته التربوية. حينئذ يظهر بعده المسيحي، فيلعب بالنسبة الينا الدور التربوي الذي لعبه بالنسبة إلى آبائنا.

- من الصور إلى الحقيقة
وأخيرًا، يصوّر القدّيس بولس وصاحب الرسالة الى العبرانيين العبور من العهد القديم إلى العهد الجديد كعبور من الصور إلى الحقيقة. هناك تطبيقات لهذا المبدأ. على واقع تاريخ التهيئة، على مؤسسّات النظام القديم ولاسيمّا شعائر العبادة. هناك المعنى الظاهر الذي يتوقّف عنده النقد. ولكنّ البعد العميق للنصّ يفترض تجاوز نتائجه. نكتشف سرّ المسيح تحت القشرة العابرة التي كانت علامة ناقصة عن حضوره: يختفي العهد الجديد في العهد القديم. ويتوضّح القديم في الجديد.

ثالثًا: تطبيقات عمليّة
- على مستوى الدفاع المسيحيّ
نأخذ بعين الاعتبار معطيات النقد. فلا نركّز طريق الإيمان إلاّ على نتائج عقلية لا جدال فيهِا. هنا نعيد تفكيرنا في البرهان النبوي الذي هو تقليد في الكنيسة. لا نحاول أن نبني برهانًا يفرض نفسه بالقوّة، فيما يخصّ تحقيق النبوءات، بل نفكّر في ظاهرة تاريخية هي أنّ العهد القديم واقع لا بدّ من اكتشاف مبدأ وحدته ومضمونه.
ونعود إلى التربية الإلهية كما وصلت إلى المسيح وسرّه. فالعهد القديم ليس ظاهرة دينية تكفي نفسها بنفسها. إنّه واقع ديناميكي. وما يوحّده ويعطيه معناه هو الهدف الذي اليه قاد شعب إسرائيل. فحرف شريعته لا يجد سبب كيانه في نفسه، بل يقوم بتربية أخلاقية ودينية تهيئ إسرائيل لنظام الروح الذي يُدخله فيه المسيح. ونقول الشيء عينه عن التاريخ الزمني والنظم التي تبني حياة شعب الله: تقوم بتربية دينية، فتهيّئ يومًا يتحرّر فيه الإيمان من القشور الموقّتة ليصل إلى الواقع النهائي.

- على مستوى اللاهوت
إنّ الوحدة بين العهدين تشكّل للاّهوتيّ واقعًا لا جدال فيه. تبقى المشكلة: كيف نجد في العهد القديم التعبير التدريجي عن وحي قاده العهد الجديد إلى كماله؟ فدون أن ننسى الوحدة الملموسة لسرّ الخلاص كما تتمّ في المسيح، نبحث عن وجهات برزت في حياة إسرائيل وخبرته التاريخية أو في المواعيد الإسكاتولوجية. وحين نتبع نموّ الوحي من كتاب إلى كتاب نبرز مواضيع تنتظم داخل إطار واحد هو سرّ المسيح. لن يبحث اللاهوتي عن عناصر مسيحية في العهد القديم، بل يتطلعّ إلى نضوج تعليم يصل بنا إلى المسيح. كل موضوع يتجذّر في الخبرة البشرية لشعب التوراة. يرتبط بهذا السند الموقّت فيتعمّق فيه شيئًا فشيئًا إلى أن تنقله النبوءة إلى إطار إسكاتولوجي، أي بالنسبة إلى نهاية الزمن. وحين يأتي المسيح يملأ بمضمون سرّه هذا التعبير الذي كيّف مسبّقًا لكي نعبّر عنه. هذا ما نقول عن الملكيّة في أرض إسرائيل. نقلتنا النبوءة إلى وعد بالملك المسيح، وحقّق يسوع المسيح هذا الوعد، ولكنّه أعطى مضمونًا جديدًا للملكيّة المنتظرة (يو 37:18) التي تتجلى في المجد بعد الزمن الحاضر (رؤ 19: 11- 16).

- كل مستوى عمل الرعاية
ويفرض عمل الرعاية أن نرى في كل نصّ كتابي حضور المسيح. لن نكتفي بأن نضع كل نصّ في منظار الموضوع الذي يتوسّع فيه، كما نفعلِ في اللاهوت. حينئذ نقدّم للحياة الروحية طعامًا غير كاف، لأنّ المعنى الحرفي يرتبط ارتباطَا وثيقًا بنظام دينيّ تجاوزه المسيح. ولكنّ هدف الكرازة والليتورجيا هو أن نصل إلى التعليم الأساسي الذي له قيمته لنا اليوم. من جهة وَضَعَ هذا التعليمُ الإنسانَ الوجودي أمام الله الذي يكلّمه، ومن جهة ثانية، أفهمنا هذا التعليمُ سرَّ الخلاص كما نراه في بنيته الأساسية.
مثلاً، يجد القدّيس بولس في تفسيره الرمزي لسرّ الخروج (1 كور 10: ا- 11)، عالم الأسرار المسيحي من خلال الصور: آباؤنا "اعتمدوا في موسى في الغمام وفي البحر، وأكلوا كلّهم طعامًا روحيًا واحدًا وشربوا كلّهم شرابًا روحيًا واحدًا". إنّ الروح (أي حضور المسيح الخفيّ) يختفي تحت حرفيّة النصّ كما اختفى في العلامات الناقصة التي عرفها التاريخ الماضي. فنحن نكتشف الواقع الإسكاتولوجي تحت الصور، نكتشف الروح تحت الحرف.

II- معاني الكتاب المقدّس
بعد أن عالجنا مسألة التفسير المسيحي للعهد القديم نتوقّف على معاني الكتاب المقدّس. بدأ القدّيس بولس وميّز في الكتاب الحرف من الروح والصور من الحقيقة. وعلى خطاه تحدّث آباء الكنيسة عن معان عديدة، وهدفهم أن يقرأوا العهد القديم في منظار مسيحي.

أ- تعدّد المعاني الكتابية
ا- أمور عامّة
أوّلاً: ألفاظ ومفردات
- المعنى الحرفيّ
يدلّ الحرف عند القدّيس بولس على الكتاب المقدّس نفسرّه كما يفسرّه اليهود لا على ضوء المسيح. هذه الطريقة لا تلجأ إلى النقد الأدبي، بل تتطلعّ إلى كل عناصر العهد القديم ونظمه ونصوصه كوحدة لا تتجزّأ. وعند أوريجانس، المعنى الحرفي (أو المعنى البشري أو المعنى التاريخي) هو نتيجة تفسير يفهم الكلمات والجمل في المعنى الحقيقي (ضدّ المجازي). واليوم المعنى الحرفي هو الذي جعله الكاتب في النصّ. وهكذا تنحصر النظرة في العهد القديم.

- المعنى الروحيّ
روح الكتاب المقدّس عند القدّيس بولسِ هو المعنى الذي أعطانا إيّاه وحي سرّ المسيح. أمّا عند أوريجانس فالمعنى الروحيّ هو أيضَا المعنى المجازي. وهكذا ميّز أوريجانس ثلاثة معان: التاريخي والصوفي والروحي.

- المعنى المجازيّ
قدّم القديسة بولس المعنى المجازي لنصّ بيبلي في خدمة التأويل المسيحي (غل 4: 24). وهكذا صار المجاز مع أوريجانس كل تفسير يبقى أمينًا للاّهوت البولسي عن العهدين فينقل عناصر نصّ من نظام عفا عليه الزمن إلى نظام جديد. وهكذا صار للمعنى المجازي مدلولان. في معنى عامّ، معنى أمور العهد القديم في تعلّقها بالعهد الجديد، في معنى دقيق، كلّ مدلول يشير إلى سرّ المسيح والكنيسة (لا يتحدّث عن حياة النفس).

ثانيًا: نقاط اتّفق عيها
- معنى النصوص
المعنى الحرفي هو المعنى الذي يربطه كاتبه بنصه. نعني هنا الكاتب البشري الذي هو أداة في يدّ الله من أجل تأليف الأسفار المقدّسة. ولا نعني الله الذي هو الكاتب الرئيسي. قد يكون هذا النصّ حقيقيًا أو استعاريًا.
المعنى الروحي هو تفسير نصوص العهد القديم على ضوء المسيح. نحن نرى فيها شهادة مسبّقة لسرّ المسيح.

- معنى الأشياء
تحدّث القدّيس توما الاكويني عن المعنى الروحي، المعنى النمطي، المعنى الصوفي. المعنى الروحي يربطنا بسرّ المسيح. المعنى النمطي يجد في نظم العهد القديم وأشخاصه صورًا عن المسيح.

2- المعنى الحرفيّ في الكتاب المقدّس
لا بدّ من تمييز درجتين حين نلج إلى داخل النصّ الحرفي. الأولى يتوقف عندها النقد، والثانية يصل اليها اللاهوت. الأولى هي المعنى الحرفي، والثانية هي المعنى التامّ أو ملء المعنى.

أوّلاً: المعنى الحرفيّ
يرتبط هذا المعنى بالنقد لأنّه ينتج عن تحليل للنصوص. ولكنّه يتضمّن دومًا معنى لاهوتيًا يشكّل جوهره. وهكذا نتتبعّ من جيل إلى جيل نموّ الوحي. الموضوع الوحيد لهذا الوحي هو سرّ الخلاص الذي تمّ في سرّ المسيح. فالمعنى الحرفي للكتاب المقدّس يُقرأ بالنسبة إلى هذا الموضوع الوحيد، ولكنّه يعرضه حسب الظروف في منظارين مختلفين.
المنظار الأوّل هو اختبار إسرائيل. لقد أختبر شعب الله السرّ في أحداث تاريخه، وغذّى منه حياة إيمانه، وهذا ما نكتشفه في صلاته. ولكنّ هذه المعرفة محدودة من جهتين، بأفق كل عصر، وبنظام عهد سيناء. في هذه الشروط، عبّر عن سرّ علاقات الله بشعبه بصورة ناقصة هيّأت تعليم العهد الجديد ورسمت أولى خطوطه دون أدن تصل إلى مستواه. المنظار الثاني هو منظار الأقوال النبوية. هنا يقدَّم السرّ في منظار الإسكاتولوجيا. ويُعلن تمامه كالحدث الأسمى الذي يتوّج مخطّط الخلاص. لا شكّ في أنّ اللغة المستعملة للتعبير عن هذا الموضوع ناقصة لإنّها مشروطة بخبرة إسرائيل. ولكنّنا نقول إنّ النصوص أشارت حتّى في معناها الحرفي إلى سرّ المسيح متمّم الخلاص.

ثانيًا: المعنى التامّ أو ملء المعنى
- طبيعة المعنى التامّ
المعنى التامّ هو المعنى الحرفي ندركه في مستوى آخر من العمق. فالتعبير عن سرّ الخلاص في العهد القديم محدود. ولكنّ اللاهوتي يجد من خلال هذا التعبير الناقص ملء السرّ. أو بالأحرى هو يعرف السرّ بواسطة العهد الجديد فيُسقطه على النصوص ليكتشف معنى أكمل وأعمق.
ونأخذ مثل الأقوال النبوية. أشار النصّ الكتابي إلى السرّ كلّه، وإن بدت اللغة ضعيفة فما استطاعت أن تعبّر عنه. والمعنى التامّ هو تجاوز هذا الضعف والنقص من أجل فهم اللغة النبوية حسب قواعد الوحي التامّ. مثلاً نقرأ سرّ صليب يسوع مع أع 4: 25- 28 في عبارة مز 2 الذي عنى في معناه الحرفي الملك المسيح في حروبه على الأرض. وكذا نقول عن نشيد عبد الرب (أش 13:52- 53: 12) الذي دلّ على بقيّة بارّه أو على نبيّ محدّد في خط إرميا. لقد دلّت الأحداث أنّ يسوع هو المسيح المنتظر، وإن لم تكن مملكته من هذا العالم، وأنّ البقيّة أو النبيّ الذي يكفّر عن الخاطئين هو يسوع نفسه. فحين عاش ما يتحدّث عنه المزمور والمقطع النبوي، أعطى هذه النصوص ملء المعنى الذي لم يكن في مقدور المؤمنين أن يدكوه.
ونعود إلى المعنى الحرفي التاريخي. فهو يرتبط بإحدى وجهاته بسرّ الخلاص. لا بالسرّ كواقع مقبل، بل بالسرّ كواقع معاش قد شارك فيه شعب الله في الماضي ويشارك فيه الآن. ينطلق المفسرّ من هذا التعبير الذي يتلمّس طريقه ليظهر سرّ الخلاص كما تحقّق (وإن بغموض) في المسيح وكما أُعطي لنا أن نشارك فيه. وهكذا يتّضح المعنى التامّ للنصوص. ونعطي مثلين:
المثل الأوّل، مز 22. كان توسّلة فردية بين توسّلات أخرى تعبّر عن صلاة تقيّ سحقته المحنة. ولكن بعد أن ردّده المسيح على الصليب لكي يعبّر عن وضعه الخاصّ، تفجّر من معناه الحرفي معنى كامل يرتبط ارتباطًا مباشرًا بسرّ آلام المسيح.
المثل الثاني، نشيد موسى في خر 15. عنى في المعنى الحرفي لا خلاص إسرائيل المقبل، بل الخروج من مصر، والتحرّر من العبودية، كما يحتفل به الفصح كل سنة. ولكن بعد أن ذُبح المسيح فصحنا (1 كور 7:5) أسقط سرّ الخلاص الإسكاتولوجي بضوئه على هذا النصّ فأعطاه معنى كاملاً استغلته ليتورجية ليلة الفصح.
المعنى التامّ هو امتداد للمعنى الحرفي، ولكنّه أعمق منه بدرجة تتعدّى كل تصوّر.

- المعنى التامّ ووجدان الكاتب الملهم
ما هو هذا الوجدان؟ إن تكلّمنا عن معرفة واضحة ومميّزة نعبّر عنها بلغة وافية، فهذه المعرفة لمعنى جديد لم تكن للكتّاب الملهمين. وإلاّ، فلماذا نبحث عن معنى تامّ من خلال المعنى الحرفي؟ هناك حقائق أوردها الكاتب الملهم، ثمّ زيدت حقائق أخرى لم يكن يعرفها أوحيت بعده فألقت بضوئها على نصّه وأعطته بعدًا جديدًا. ولكنّ هذه الزيادة تبقى خارج نظرته، لأنّه حين كتب لم يكن واعيًا للبعد الذي حفظته العناية لعمله، كما لم يكن لأبطال التاريخ المقدّس وعي المدلول الرمزي للتاريخ الذي يعيشونه. نحن لا نبحث عند الكاتب الملهم عن معرفة بالمعنى التامّ، ولكنّنا نؤكدّ أنّ هذا المعنى هو موجود بصورة إجمالية في معرفة حقيقية لسرّ الخلاص. هناك رباط داخلي بين المعنى الحرفي والمعنى التامّ، وهذا الرباط سيتوضّح حين يأتي عنصر جديد ووحي لاحق. هذا ما حصل حين جاء العهد الجديد فألقى بضوء جديد على نصوص العهد القديم. مثلاً النبوءة عن حبل العذراء البتولي (أش 7: 14؛ رج متى 1 :23).

3- تكييف الكتاب المقدّس
ليس للكتاب المقدّس إلاّ معنى واحد هو المعنى الحرفي الذي يجد امتداده في المعنى التامّ. وكل ما يخرج عن هذين المعنيين هو تكييف للنصوص. ولكنّ هناك أنواعًا من التكييفات، بعضها تطبيق اعتباطي يفسّرها تلاقي الأفعال، وهناك استعمالات ليتورجية تُستعمل فيها العبارة البيبلية دون الرجوع إلى السياق الذي وردت فيه، وبعض التكييفات تبدو أقرب إلى النصّ البيبلي وهي تتوسعّ على خلفيّة متينة لمعنى تامّ ثبّته التقليد. ولكنّها تكيّف كل تفاصيل النصّ على سرّ المسيح على حساب شروح مجازية تتعدّى حدود النمطية. في هذه الحالة نتكلّم عن تكييفات صورية ورمزية. ولنا عنها نماذج عديدة في العهد الجديد. مثلاً، اعتبارات بولس على هاجر وعهد سيناء (غل 4: 24 ي). والتقارب بين المسيح "المتألم خارج أبواب " (المدينة) وضحيّة التكفير "المحروقة خارج الخيم " (عب 13: 11- 13). مثل هذه التكييفات سنجدها عند آباء الكنيسة والشراح العديدين الذين سيلجأون إلى رموز أخذوها من الكتاب المقدّس ليترجموا بصورة ملموسة التعليم الخفيّ في كلام الله.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM