الفصل التاسع عشر: التوراة كتاب مواعيد الله

الفصل التاسع عشر
التوراة كتاب مواعيد الله

نحن لا ندرس التوراة (أي أسفار العهد القديم) من وجهتها الجامدة كنظام ديني مؤسّس على شريعة تنمو وتتسع على مرّ التاريخ، بل نتوقف على الزخم الداخلي الذي يعطي معنى لهذا التاريخ ويجعلنا ننظر الى المستقبل. هذا المستقبل تعبّر عنه سلسلة الشريعة وقد كان هدفها وغايتها (روم 4:10).
نتوقّف في مقالنا هذا عند مرحلتين:
الأولى: نجد في التوراة وعد خلاص إسكاتولوجي (من أجل نهاية الأزمنة) يعلن عن العبور من نظام الشريعة إلى نظام النعمة.
والثانية: إنّ لوحة الخلاص كما يرسمها الأنبياء تستند إلى ما يحمله تاريخ بني إسرائيل ونظمهم من صور ورموز تبق غامضة ولا تتّضح تمامًا إلاّ في العهد الجديد. ليس الوعد بالخلاص أمرًا سهلاً، فهو كشرائع التوراة ونظمها يتوسّع في مجرى التاريخ متتبّعًا سياقه. وهو يشكّل وجهًا أساسيًا من كلام الله فيوقظ الرجاء في قلب الإنسان.

أ- الإسكاتولوجيا أو علم الآخرة
الإسكاتولوجية وجهة خاصّة من معرفة الأنبياء للتاريخ، وهذه الوجهة تختصّ بالغاية والنهاية. فمواعيد الله ليست كلّها إسكاتولوجية بالمعنى الحصري، لأنّ لبعضها أهدافًا تاريخية تتحقّق في وقت قريب أو بعيد. لهذا فالأحداث التي تعلن عنها هذه المواعيد تكون علامة تشهد أنّ الله "يسهر على كلمته ليحقّق ما وعد به " (إر 1: 12). ولكن من خلال هذه الأحداث يمتدّ النظر إلى البعيد، إلى الأيام الأخيرة ونهية الأيام إلى أفق المستقبل الذي يتحقّق فيه ملء مخطّط الله. في هذه الحال نحن أمام الإسكاتولوجيا كما تعرفها النصوص الكتابية.

1- الإسكاتولوجيا عبر الكتب التاريخية
الإسكاتولوجيا هي نظرة محدّدة إلى نهاية التاريخ. وحين تأتي النهاية تضع حدًّا لمسيرة الزمن، لأنّ مخطّط الله يكون أدرك غرضه. لا شكّ في أنّنا لا نجد هذه النظرة في نصوص التوراة القديمة كما نقرأها في أسفار موسى الخمسة والأسفار التاريخية، ولكنّنا نجد فكرة تقول لنا إنّ الرب جعل غاية للتاريخ الذي يقوده، وهذه الغاية يعبّر عنها بالمواعيد التي تكشف شيئًا فشيئًا مخطّطه الخفيّ.
ولكن كيف الوصول إلى هذه النصوص القديمة وقد دوّنت بعد عهد داود وسليمان،
ثمّ أعيد تدوينها وزيد عليها في عهد الأنبياء وزمن الجلاء؟ أمّا تصوّر المؤرخون في بني إسرائيل مواعيد الله لإبراهيم (تك 12: ا- 3) وموسى (خر 3: 7- 10) ويشوع (يش 1: 2- 5) على ضوء ما وصلت إليه الأحداث في عهد داود وسليمان؟ ونبوءة ناتان التي بقيت قريبة من تعابيرها الأصلية لم تسلم من لمسات يد كاتب جاء بعد ذلك. فإن أخذ الكتّاب بهذه النصوص القديمة فلأنّهم وجدوا فيها المبدأ الأساسي لغاية التاريخ كما سيتوضّح مع الأنبياء.
إنّ جامعي التقاليد القديمة وجّهتهم فكرة غائيّة التاريخ، فبدا لهم تسلسل الأحداث من إبراهيم إلى العصر الذي كتبوا فيه وكأنّ يدًا علوية تقوده بحسب مخطّط إلهي. فني كل وقت تسير الأحداث إلى غاية سرّية: يُرفع الحجاب من وقت إلى آخر عن هذه الغاية بواسطة المواعيد الإلهية التي ترافق مسيرة التاريخ. أخذ هؤلاء الجامعون بأسلوب أدبي يجعل مقاطع "نبوية" في سياق الخبر، فشدّدوا على استقطاب التاريخ وفتحوا الأنظار على المستقبل. فأقوال إسحق (تك 27: 27- 29) ويعقوب (تك 49: أي) وبلعام (عد 23 - 24) وموسى (تث 33: 1 ي) وهذا أو ذاك من الرجال (أصم 23:3- 26؛ 1 مل 13: 2) تدلّ على هدف الله في تاريخ مقدّس بدأ ببداية الكون (تك 3: 14- 19) وتُلقي الضوء على سائر أحداث الحاضر والماضي.
نستنتج من كل هذه المعطيات انّ التاريخ هو، بالنسبة إلى إيمان الشعب والوحي الذي ينير هذا الإيمان، مخطّط الله الذي يتحقّق، ووعده الذي يتمّ. وفي كل مرحلة تبيّن كلمة الله لشعب إسرائيل هدفًا سيُدركه في وقت قريب أو بعيد: نموّ نسل إبراهيم الذي سيصير أمّة عظيمة (تك 12: 2؛ 15: 3- 5؛ 22: 16- 17)، إقامة نسل إبراهيم في أرض كنعان التي ستصير ملكًا له بعد الخروج من مصر (تك 15:13؛ 13:15- 16؛ خر 8:3- 17؛ 23:23- 31)، تثبيت ملكية داود (2 صم 7: 10- 16؛ رج تك 49: 10؛ عد 7:23؛ 17:24- 19). وبعد تحقيق هدف معيّن، يتوسّع الأفق ويظهر هدف آخر. وهكذا يسير التاريخ المقدّس مساره بطريقة تدريجية، ولكن من خلال هذه الأهداف الجزئية يمتدّ النظر إلى آفاق لا حدّ لها، إلى آفاق ممكنة، بحيث إنّ تحقيق وعد في التاريخ يُبقي الباب مفتوحًا أمام واقع أعلى وأسمى: الوعد ببركة إلهية شاملة بمداها (تك 12: 2- 3 ؛ 49: 25- 26؛ عد 23: 20) تصل إلى كل أمم الأرض، الوعد بسعادة تامّة في أرض تدّر لبنًا وعسلاً (خر 18:3؛ 23: 25- 26؛ عد 23: 21؛ 6:24- 8؛ تث 33: 16- 18؛ 2 صم 7: 10)، الوعد بانتصار تام على الأعداء المحيطين بشعب الله (خر 23: 31؛ 2 صم 7: 10)، الوعد بمملكة مثالية تبقى ثابتة إلى الأبد (2 صم 7: 5 أي). إنّ تاريخ شعب الله هو فكرة خلاص ستجد تمامها في نهاية التاريخ. وحدث هذا الخلاص النهائي سيجيء بعد أحداث المستقبل القريب الذي هو موضوع هذه المواعيد الإلهية.
أجل، هذا هو موضوع الخلاص وهو يفترض اختبار تحرّرات بني إسرائيل عبر تاريخهم: تحرّر من مصر (عد 8:24)، تحرّر من الأعداء المحيطين بالشعب (2 صم 7:. ا). ويتضمّن الخلاص أيضًا كل أحلام السعادة التي يمكن للإنسان أن يحلم بها: وفرة الغلال ونموّ القطعان (تك 49: 11- 12، 25- 26؛ خر 23: 25- 26)، مجد ملكي يحمل الازدهار إلى الشعب والبلاد (عد 24: 18- 19؛ 1 مل 3: 11- 13). وهذا الخلاص يفترض فوق كل شيء حياة حميمة مع الله الذي جعل مسكنه وسط شعبه (1 مل 8: 12- 21)، وثبَّت ملكه على الأرض فجعل من بني إسرائيل "مملكة كهنوتية وشعبًا مقدّسًا" (خر 6:19).
هذا الخلاص سيتذكرّه الشعب في أعياده التي تروي أعمال الله في التاريخ، وسيعيشه بنو إسرائيل رجاءً يرتبط بملك الله فيهم. دُشن هذا الملك في عهد سيناء. واحتفل به في الهيكل (مز 7:24- 10 ؛ 47: 1 ي) وهو يذكّر الشعب بعظائم الله في الخلق (مز 93: 1 ي؛ 3:95- 5) وفي التاريخ (خر 15 :18). إنّ عرش الله يقوم في هيكل أورشليم الذي هو مقام الملك العظيم (مز 48: 2؛ رج أش 6: 1 ي)، ومن هناك يبسط سلطانه على كل الأرض (مز 47: 8- 9) وينصر مسيحه (مز 2: 8- 9، 110: 2- 6) ويعطي شعبه السلام (مز 72: 7- 15) ومؤمنيه الخلاص والسعادة (مز 72: 1- 3). هي صلاة موجّهة إلى المستقبل، تستند إلى مواعيد الله وتتثبّت على اختبار الماضي فتتطلعّ إلى اليوم الذي يحقّق فيه الله خلاصًا كاملاً.

2- الإسكاتولوجيا عبر أقوال الأنبياء
قبل أن يحدّثنا الأنبياء عن تحقيق تام للخلاص، يتأملون في تحطّم النظام الحاضر وهذا التحطّم يكون شرطًا لقيام النظام الآتي.
منذ عهد سيناء كانت مواعيد الله مشروطة، وكان تحقيقها مرتبطًا بطاعة الشعب لربّه (خر 23: 22). فمان أطاع الشعب كان حسنًا وإلاّ جاء العقاب الإلهي صارمًا (خر 23: 21؛ لا 26: 14- 38؛ تث 28: 15- 46). ولقد حفظ لنا التقليد عقابات تاريخية حلّت بالشعب بسبب خطاياه: هزيمة خلال المسيرة في البرّية (تث 19:1- 46)، صعوبات في عهد القضاة (قض 2: 11- 15)، ضيق مع الفلسطيّين (صم 2:4 - 22). رذل الله لشاول بسبب خطاياهم.
أجل، أعلنت النصوص القديمة فكرة العقاب الذي يصيب الأمّة بسبب خطايا الأفراد والجماعة. ولكنّ الأنبياء سيشدّدون على العقاب الذي يحطمّ أمسك شعب الله ويخرب بنيته. بدأ عاموس (5: 4- 6) فوضع الشعب أمام طريقين: إمّا التوبة وإمّا الدمار! وتبعه سائر الأنبياء. ولكن سيتثبّت الشعب بالشرّ فتصبح النكبة الوطنية أمرًا لا مفرّ منه: سيفتقد (سيزور) الرب شعبه بسبب خطاياه (عا 3: 2)، فعلى الشعب ان يستعدّ لهذا اللقاء (عا 4: 12). وبما أنّ العقوبات السابقة لم تنجح في إرجاع الشعب إلى ربّه، فقد جاءت نهاية بيت إسرائيل (عا 3:8؛ حز 7: 1- 11)، وستحلّ بهم نكبة فتجعل مدنهم خرابًا وأرضهم بورًا (أش 5: 5- 6).
أمّا ملامح هذه النكبة فستكون عكس البركات التي تحقّقت جزئيًا في التاريخ الماضي: يفنى الشعب (عا 3:5؛ 9: 14؛ هو 9: 11- 14؛ أش 10: 22- 23 ؛ إر 15: 1- 14)، ويزول السلام فيحلّ محلّه الاجتياح (أش 5: 26- 30 ؛ 8: 5- 8؛ إر 4: 5- 31 ؛ 6: 1 ي) والهزيمة والدمار الذي تخلّفه الحرب (عا 13:2- 16 ؛ هو 5: 8 - 10، أش 1: 4- 9؛ حز 6: 1-10 ). لن تعود سلطة للملك بل للحاكم الأجنبي الذي يستبدّ بالشعب (عا 6: 14؛ إر 27: 1ي). وبدل الحياة الهادئة في أرض الوطن، سيكون لبني إسرائيل السبي والنفي (عا 7:6 ؛ هو 6:10 ؛ إر 20: 4- 6). سيُنزع التاج عن راس الملك (هو 10: 7؛ إر 34: 1- 3) وتدّمر السامرة وأورشليم (هو 8: 14 ؛ مي 3: 12؛ أش 28: 1- 14؛ إر 19: 10- 11) ويدنّس الهيكل (إر 7: 1 ي؛ حز 9: 5- 7) وتنقلب أعياد الفرح حدادًا وطنيًا (عا 8: 10؛ هو 2: 11- 13؛ 9: 4- 5). هل تمزّق مخطّط الله؟
لا، لم يتخلّ الله عن مخطّطه، وبقي الخلاص هدف التاريخ المقدّس. ولكنّ هذا الهدف لن يتحقّق في الزمن الحاضر بل في آخر الأيّام (مي 4: ا؛ أش 2: 2) أي في مستقبل بعيد لا نستطيع تحديده. ولكن قبل ذلك، ستحلّ النكبة بالشعب فتدمّر السامرة سنة 721: لقد طلّق الله شعبه، شعب السامرة الخاطئ، كما يطّلق الرجل امرأته الزانية (إر 6:3- 8). ولكنّ أختها (أي أخت السامرة) يهوذا (عاصمتها أورشليم) لم ترتدّ عن خطيئتها فجاءها عقاب الله وشربت كأس المرّ نفسه (إر 8:2- 10؛ حز 23: 32- 34) سنة 587.
ما نلاحظه في هذه الأقوال هو أنّ الإسكاتولوجيا النبوية تأتي أيضًا بكلام يعزّي ويشجّع. إذا كان لا بدّ للشعب من أن يُعاقب، فالله لا يفشل في مخطّطه الخلاصي وستكون الكلمة الأخيرة له: "إكرامًا لاسمه" ولأنه الإله الرحيم (هو 11: 8- 9 ؛ إر 31: 20 ولهذا، عندما تحلّ ساعة المحنة يتطلعّ إرميا (23: 5- 8) إلى المستقبل المفعم بالرجاء، ويعلن حزقيال (53:16- 63؛ 28: 24- 26) نجاة الشعب القريبة. كان صاحب المزامير (74، 79، 80) قد تساءل: هل نسي الله مواعيده السابقة؟ لا، لم ينسَ الله، وبعد زمن الضيق والذلّ، سيأتي زمن النور والفرح (أش 8: 23)، زمن نهاية الأزمنة. وما انتظره الشعب من خلاص في زمن الملوك، سيتمّ في آخر الأزمنة حين يملك الرب في صهيون ويكون ملكه كاملاً ويشمل البشرية جمعاء (إر 19:8؛ أش 15:43 ؛ صف 14:3- 15 ؛ مي 12:2-13).
وعاد بنو إسرائيل من المنفى (سنة 538 ق. م) واصطدموا بالواقع المرير: انتظروا خلاصًا كاملاً بشكل إعادة بناء الأمّة على مثال ما كان لهم في العهد الملكي، فكانت النتيجة هزيلة. حينئذ فترت همّة الشعب وخارت عزيمته. فجاءت كلمات بعض الأنبياء بأسلوب جلياني (مثل رؤيا يوحنّا مثلاً) (أش 24-27، 56-66، يوء3-4، زك 9-14) وجعلت أمامهم يوم الرب العجيب (زك 6:14- 7) الذي يختلف عن الماضي والحاضر، ووعدتهم بخلق جديد يبدّل السماء والأرض (أش 65: 17؛ يوء3: 3- 4). أجل، بعد توالي ممالك الأرض سيؤسّس الرب ملكًا لا ينقضي ولا يزول (دا 2: 44)، ملكًا يكون خاصًّا به (دا 4: 31 ؛ 6: 27). بعد العالم الحاضر سيأتي عالم آخر من خارج التاريخ فيضع حدًّا لتاريخ البشر.

3- الإسكاتولوجيا في الأسفار الحكميّة
لم تقتصر الإسكاتولوجيا على مخطّط الله بالنسبة إلى الشعب، بل اهتمّت أيضًا بمصير الأفراد. وإذا كانت المواعيد أعطيت لكل بني إسرائيل، وإذا كان التضامن يسود مصير الأفراد. إلاّ أنّ الأفراد يشاركون في عطايا الله بقدر أمانة كل واحد منهم للرب: إنّ الخاطئين سيُقطعون من شعب الله فيموتون ميتة مبكّرة وينقطع نسلهم (حز 7:20، 12؛ 7:34).
سنجد هذه الفكرة واضحة في التعليم الحكمي حيث لا نعرف فرقًا بين الخيرات الموعود بها للأفراد والخيرات الموعود بها للجماعة إن هي خضعت لله وعملت بوصاياه. وإذا كان خلاص بني إسرائيل يكمن في ازدهاره في الزمن الحاضر، فموضوع رجاء كل فرد يكمن في المشاركة في هذا الازدهار. هذا ما نقرأه في سفر الأمثال (3: 9- 10): "أكرم الرب من مالك ومن بواكير جميع غلالك، فتمتلئ أهراؤك قحًا وتفيض معاصرك خرًا". وقال أم 3: 1- 2: "يا بُنيّ، لا تنسَ شريعتي واحفظ وصاياي في قلبك، فهي تزيد أيّامك وسنين حياتك سلامًا". ويعرفنا سفر المزامير (37: 1- 2) أنّ الصدّيقين يرثون الأرض وينعمون بالسلام.
صوّر الأنبياءُ الشعبَ الجديد وكأنّه شعب أبرار رجعوا إلى الرب، أناس جعلوا في قلوبهم شريعة الله (أش 51: 7)، مؤمنون كان الله لهم إلهًا وكانوا له شعبًا (إر 31- 33).
من أجل هذا حفظ لهم البرّ والخلاص (أش 51: 8) فأخذوا يتذوّقون سعادة هي مشاركة مسبّقة في الخلاص الإسكاتولوجي. هذا هو رجاء المؤمنين، والكتاب يعلن أنّهم على حقّ وانّهم سيحصلون على ما يرجون. قال سفر الأمثال (3: 21- 24): "أنظر الرأي والتدبير... لأنّ فيهما حياة لنفسك... فتسير في طريقك مطمئنًّا. إذا نمت فلا ترتعب وإذا رقدت يحلو نومك ". وقال سفر المزامير (34: 9- 11): "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب! هنيئًا لمن يحتمي به... الأشبال (أو: الكفّار) تحتاج وتجوع، ومن يطلب الرب لا يعوزه خير".
ولكنّ الواقع لم يطابق هذا القول. وجاءت فترة الرجوع من المنفى مخيّبة للأمّة بعد أن تأخّر خلاص الله (أش 59: 9: رجونا النور فإذا الظلمة)، ومخيّبة للأفراد الذين رأوا الأبرار يتألّمون والأشرار ينعمون بكلّ خير (إر 12: 1- 12). حينئذ صرخ المؤمنون إلى الرب (مز 49: 1ي؛ 73: 1ي): الطريق مسدود أمامهم. لا شكّ في أنّ هناك رجاء، لا شك في أنّ الله ينتقم لمحبّيه (أي 25:19). ولكن كيف يكافيء بالخير أتقياءه؟ الجواب: كما أنّ الخلاص النهائي يتمّ وكذلك العالم والزمن الذي نعيش فيه، هكذا يكافئ الله أحبّاءه بعد هدف الحياة الحاضرة. قال سفر المزامير (49: 16): "الله وحده يفتدي نفسي من قبضة القبور حين يأخذني إليه ". وقال أيضًا: "بمشورتك تهديني وإلى المجد تأخذني من بعد" (مز 73: 24). وحدّثنا سفر دانيال (12: 2- 3) عن القيامة كواقع يلمسه جميع الناس، الأبرار منهم والأشرار. قال: "الراقدون في تراب الأرض يستيقظون بعضهم للحياة الأبدية وبعضهم للعار والرذل الأبدي ". بعد حياة لم تحصل على مكافأة، ستكون لهم مكافأة خاصّة في عالم ممجدّ يملك فيه شعب القدّيسين إلى الأبد. وما قاله سفر دانيال سيقوله سفر الحكمة عن "نفوس الصدّيقين التي هي بيد الله فلا يمسّها عذاب " (حك 3: 1). عندما يفتقدهم الرب ليكافئهم يتلألأون بهاء (حك 3: 7). يحيون إلى الأبد ويكافئهم الرب ويأخذهم العليّ تحت حمايته فينالون ملك الكرامة وتاج الجمال من يد الربّ لأنّه يسترهم بيمينه وبذراعه يقيهم (حك 15:5- 17).
وخلاصة القول، إنّ فكرة الخلاص النهائي المرتبطة بملك الله تمرّ في مراحل ثلاث. في مرحلة أولى ننظر إلى تحسّن حالة بدأت تتحقّق في تاريخ بني إسرائيل، في مرحلة ثانية ينتقل هذا التحسّن إلى آخر الأزمان ونهاية التاريخ، ولكنّه يبقى متّصلاً بالتاريخ؛ في مرحلة ثالثة يكون موضع نهاية الأيّام في ما وراء التاريخ، والعالم الآتي الذي فيه يدخل الناس يكون غير ذلك الذي نعيش فيه في الزمن الحاضر.

ب- نهاية الزمن كما تتصوّره التوراة
توقفّنا عند موضوع ملك الله فرأينا فيه موضوعًا إسكاتولوجيًا (أي يقودنا إلى نهاية الأزمنة). قدّم لنا وضعًا (يهوه أو الرب هو ملك) يفترض رجوعًا إلى التاريخ المقدّس (يهوه يملك على العالم منذ الخلق وعلى شعبه منذ العهد) وإلى الطقوس (يهوه ملك في الإحتفالات الليتورجية). وقد أخذ الأنبياء بهذا الموضوع فعبّروا عن أهداف الله في المستقبل: في الأزمنة الأخيرة، سيقيم الله ملكه كاملاً في كون خلقه وفي شعب اختاره. على غرار ما قلنا، نتوقّف عند مواضيع ثلاثة: يوم يهوه (الرب)، يوم الدينونة، يوم الخلاص. وهكذا تكون لنا صورة، وإن غامضة، عن نهاية الزمن. سيأخذ العهد الجديد بهذه الصورة فيحدّثنا عن "يوم يهوه " الذي يتضمّن "دينونة" يشجب بها الله أعداء مخطّطه ويعاقبهم، ويحمل "خلاصًا" يتجاوز نظام سيناء بشموله جميع البشر. كل هذا يتمّ بالتبديل الداخلي الذي يفعله التي في قلوب البشر وبالسعادة التي يشركهم فيها.
1- يوم يهوه
يوم يهوه (الرب الذي هو) هو عيد يهوه العظيم، عيد المسنة الجديدة الذي يذكّر الشعب بانتصار يهوه الأوّل في نشاطه الخلاّق. يحتفل المؤمن بالله الملك ويبايعه من جديد سيّدًا عليه. من هنا تنتج فكرة الخلاص التي تجعل انتصار الرب الأوّل حاضرًا في شعبه عبر الطقوس والاحتفالات.
ويوم يهوه هو يوم تاريخي، وهو يدلّ على المناسبات التي أبدى الله فيها قدرته فمنح الشعب نصرًا أكيدًا كما في يوم مديان (أش 3:9؛ رج قض 7: 15- 25). إنّ إيمان الشعب في العهد القديم ينطلق من اختبار لأعمال الله في التاريخ. وهكذا صارت بعض أيّام الرب موضوع احتفال. هذه هي الحالة بالنسبة إلى الخروج من مصر "في ذلك اليوم خلّص الرب بني إسرائيل من أيدي المصريين... وشاهد بنو إسرائيل القوة العظيمة التي صنعها الرب بالمصريين. فخاف الشعب الرب وآمنوا به وبموسى عبده " (خر 14: 30- 31). وهذه هي الحالة بالنسبة إلى الفصح الذي يذكّر الشعب بذلك اليوم ويجدّد فيهم الإيمان. فهذه الليلة التي يسهرون فيها ترتبط بتلك الليلة التاريخية التي عمل فيها الله ما عمل من أجل شعبه (خر 12: 12). وهذه هي الحالة بالنسبة إلى "اليوم الذي وقف فيه بنو إسرائيل في حوريب أمام الرب " (تث 4: 10؛ رج خر 16:19 ي) ليقبلوا منه بنود عهده. من هذه الوجهة، كان لأيّام الرب التاريخية المهمّة بالنسبة إلى الإيمان، امتداد في الأجيال اللاحقة وفي أيّام الرب العبادية.
إنّ يوم يهوه يحمل الرجاء إلى المؤمنين الذين يتذكّرون عظائم الرب في الخلق والتاريخ فيقطفون ثمار هذا التذكّر: الماضي هو عربون الحاضر وتذكّر الأيّام التاريخية يعطي معنى للأيّام العبادية ويتضمّن وعدًا باختبار أيّام مماثلة في المستقبل. وهكذا يجدّد الله مواعيده، ويثبّت ملكه، ويمنح الخلاص لشعبه. وكانت تتجمّع أحداث الماضي فتنتقل إلى المستقبل لتكوّن لوحة مثالية عن يوم يهوه الآتي والذي سيكون "يوم نور". لهذا كان معاصرو النبي عاموس (5: 18- 19) يعلّقون عليه الآمال مستندين إلى اختبار الماضي، وإلى امتياز بني إسرائيل كشعب الله، وإلى فاعلية الممارسات الطقسية. تخوّف الأنبياء من مثل هذا الموقف الذي جعل الشعب يفتخر بهويته لا بأمانته لربّه، وحطّ من قيمة ديانة سيناء فأحدرها إلى مستوى العبادة الوثنية في أرض كنعان.
وكانت ردّة الفعل قوّية على تعليم مغاير للتعليم الصريح عن العهد، فحدّثنا الأنبياء عن يوم يهوه كيوم ظلمة (عا 18:5- 20 ؛ 9:8- 10)، كيوم غضب (صف 1 :15؛ حز 22: 24) ورعب (أش 2: 1-19) وعقاب (عا 2: 13- 16؛ أش 10: 3). ووجّهوا رسالة إلى الشعب يدعونهم فيها إلى التوبة واضعين أمامهم أقوال تهديد لا كلام تعزية. إذا كان الشعب أمينًا فاليوم الظاهر في الأفق يمكن أن يحمل الأمل. ولكن بما أنّ الشعب يقسّي قلبه في العصيان، فيوم الرب يكون يوم تهديد دائم تشكّل النكبات الحاضرة مقدّمة له (يوء 1 :15- 20 ؛ 2: 1- 11).
ولكنّ كلام الأنبياء ليس فقط إعلانًا لكوارث تنصبّ على البشرية. فيوم الرب له وجهتان: وجهة دينونة يتبعها عقاب ينزله الرب بكل خصوم عهده، ووجهة خلاص يمنحه الرب لشعبه من أجل نجاح مخطّطه. هذا اليوم سيكون يوم ضيق ولكنّ بني إسرائيل سينجون منه (إر 30: 5- 8). هذا اليوم سيكون يوم عقاب للأمم الوثنية (أش 13: 6- 9، إر 46: 10) ومقدّمة خلاص لبني إسرائيل (أش 11: 10 ي؛ 12: 1؛ 26:32) وللوثنيين الراجعين إلى الرب (أش 2: 1- 4).
بعد المنفى، سيبدو يوم الرب كيوم فصل بين الأشرار والأبرار داخل شعب الله وداخل جماعة الشعوب. سيكون رهيبًا للمسيئين الخاطئين ويحمل الفرح إلى الذين يتّقون اسم الرب (ملا 17:3- 21). سيكون مريعًا للأمم التي تضايق شعب الله، ويحمل الخلاص إلى الذين يدعون باسم الرب (يوء3: 4- 3:4). سيكون هذا اليوم زمن النهاية والزمن المحدّد (دا 11: 35، 40) الذي فيه يحل الزمن الآتي محلّ الزمن الحاضر سيكون اليوم الأخير الذي فيه يذهب بعضهم إلى الحياة الأبدية والبعض الآخر إلى الرذل الأبدي (دا 12: 1- 2). سيكون يوم افتقاد (زيارة) الرب فينال الأبرار مكافأة أعمالهم والأشرار العقاب الذي ينتظرهم (حك 7:3، 10).
إنّ ما يؤكّده لنا يوم الرب هو وجود حدث أخير يتمّ فيه مخطّط الله. أمّا متى يكون هذا اليوم، فأمر سرّي رغم كل بحث عن الرموز (رج دا 9: 1 ي). ولكنّه سيحصل قريبًا، وهذا ما يجعل المؤمنين في وضع انتظار مقلق ومضطرب.
ويأتي العهد الجديد في نهاية انتظار شعب إسرائيل. مِع يسوِع "تمّ الزمان " (مر ا:15). مع يسوع يتحقّق الوعد النبويّ بيوم الرب تحقيقَا كاملاً كيوم دينونة (مت 11: 32 ي؛ رؤ 6: 17) ويوم خلاص (أف 4: 30).

2- الدينونة
أوّل وجهة لتحقيق يوم يهوه (الرب الذي هو) هو تحقيق دينونة تكون مدخلاً إلى الخلاص الإسكاتولوجي. هناك مقاطع عديدة في الكتب المقدّسة تورد اختبار دينونة الله بالنسبة إلى مصير بني إسرائيل (عد 11: 14) والأمم الغريبة (خر 33:4؛ 11: 4- 8) والبشرية عامّة (تك 3: 14- 19؛ 11: 1- 9). إنّ الغضب الإلهيّ لا يصيب فقط بني إسرائيل بل أبناء آدم الذين يصل إليهم حكم الله ودينونته.
كل حكم لله في التاريخ له بعده الإسكاتولوجي، لأنّه يزيل حاجزًا يمنع مخطّط الله من الوصول إلى غايته. فالحكم على مصر وفرعون مثلاً لا يهدف فقط إلى تحرير الشعب، بل إلى أحكام خاصّة فتصيب كل الجماعات البشرِية وتحقق مخطّط الله تحقيقًا نهائيًا. فشعب إسرائيل، هو المميّز، تصل إليه دينونة الله أوّلاً (عا 3: 2): حَكم الرب على السامرة، ثمّ على أورشليم (مي 9:3- 12) لأنّه عزم على أن يدوس كرمه العقيمة (أش 5: 5- 6) ويعامل زوجته الخائنة كالزواني (حز 38:16 ي). وإذ يتصرّف الرب على هذا الشكل، فهو لا يريد أن يفني شعبه، بل أن يقف في وجه الخطأة الذين يهدّدون مخطّطاته بعصيانهمِ لشريعته. وكما أصاب غضب الله شعب إسرائيل، فهو سيصيب الأمم لأنهم هم أيضاً خطئوا: إقترفوا معاصي تشجبها شريعة الله (عا 1: 3- 2: 4)، أظهروا تكبّرًا وتحدّوا الله (أش 10: 7- 19؛ 14- 27). لهذا يدعو الرب السيف المنتقم على كل سكان الأرض (إر 35: 15- 38) فتدمَّر السامرة وأورشليم، وتسقط نينوى (نا 2- 3) وبابل (أش 43: 14-15؛ 47: أي)، وتعرف أدوم غزوة الأنباط (1 ش 34: 1 ي). ولكن ما دام الخلاص الإسكاتولوجي لم يتمّ، وما دام العالم هو هو، عالم خطيئة وجور وكبرياء، فالدينونة تبقى ضرورة مسلّطة على الشعوب. هذا ما يعلنه الأنبياء بعد السبي. سيقوم الله على المتكبّرين والظالمين (مز 94: 1 ي)، ويطهّر الشعب بواسطة جيش ميخائيل (دا 2: 1). وهكذا، لن تعود الدينونة حدثًا عابرًا من أحداث التاريخ، بل تصبح الحدث النهائي الذي يدّشن العهد الأخير.

3- الخلاص
ليست الدينونة منتهى مخطّط الله، بل شرط سابق لهذا المنتهى. وموضوع الإسكاتولوجيا النبوية هو إعلان الخلاص. فإذا قابلنا هذا الخلاص بالحالة الحاضرة، فهو يبدو بشكل نظام جديد يتجاوز النظام القائم منذ عهد سيناء. فهو يبدّل البشرية تبديلاً روحيًا، ويعيد بناء الجنس البشري حول البقيّة الباقية.

أوّلاً: تبدّل البشرية
إنّ الهدف الذي يتطلعّ الله إليه في التاريخ المقدّس ليس نجاح شعبه في أمور الزمن، بل إقامة ملك له على الأرض تظهر نتائجه في ممارسة العبادة والخضوع للشريعة.
منذ سيناء فرض الرب على شعبه مجهودًا خاصًّا ليعدلوا عن عبادة الأصنام وعن جنون الأمم الوثنية، وليمارسوا فرائض الشريعة. إنّ هذه الوجهة من تعليم العهد تشكلّ أساس الروحانية الاشتراعية (المرتبطة بسفر تثنية الاشتراع) التي هي صدى لفكر تقليدي يعود إلى عهد موسى (تث 7: 2- 5؛ 8: 11- 19). في هذا الإطار يشدّد المشترع على واجب الطاعة للرب وتنقية الإرادة وختان القلب (تث 10: 12- 22). لا يستطيع الإنسان أن يخلُص إذا رفض العودة إلى الله. لهذا نرى الأنبياء يحثّون المؤمنين على التوبة (إر 3: 11- 13) والابتعاد عن الشرّ وطلب الخير (عا 5: 14؛ أش 1 :16- 19) والعدول عن الخطيئة وممارسة العدالة (إر 7: 5- 7؛ حز 18: 21- 23).
ولكنّ هذا الارتداد الداخلي يبقى مستحيلاً على الإنسان وحده. فشعب إسرائيل لا يستطع أن يتجاوب ونداءات الرب المتكرّرة، إن محبّته لا تعدو أن تكون كسحابة صيف (هو 6: 4). شرّه لا شفاء له منه (إر 22:13- 27)، وعبادته عبادة سطحية (أش 13:29) لأنّه شعب قاسي الرقاب عاصٍ (حز 3:2- 7؛ رد تث 9: 24). وكانت نتيجة وعظ الأنبياء تصلّبهم بالشرّ لا ارتدادهم، وهذا ما جعل سقوطهم سريعًا (أش 6: 9 – 10 ).
ولكن ما لا يستطيع الإنسان أن يفعله بذاته، فالله سيهبه له كعطيّة يُنعم بها عليه. أراد الرب أن يكون شعبه نقيًّا فنقاه من الداخل بحياة مكرّسة ومقدّسة (حز 36: 25). طلب منهم الرب أن تكون شريعته قي قلوبهم (تث 6:6)، فما استطاعوا، فحفرها بنفسه في قلوبهم كما حفر كلماته العشر على لوحي الوصايا (إر 33:31). وجعل فيهم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا (حز 11: 19 ؛ 26:36) ووضع فيهم روحه الذي يفعل المعجزات (يوء 3: 1- 2). وهكذا يقدرون أن يعرفوا شريعته (إر 31: 34) ويعملوا بها (حز 11: 20؛ 27:36). وقصارى الكلام، الربّ هو من يردّ شعبه إليه ليستفيدوا فيما بعد من الخلاص الموعود به.
فإذا أراد الله أن يحقّق التوبة التي يطلبها، وجب عليه ان يلجأ إلى هذه القوّة السرّية التي يستطيع وحده أن يهبها. "اشفني يا رب فأشفى، وخلّصني فأخلص " (إر 17: 12). وأعظم صلاة توبة يرفعها صاحب المزامير (51: 1ي) إلى الله ليست فقط نداء إلى رحمة الله يتلوه الخاطئ الذي يريد أن يبدّل حياته، بل طلب نقاء داخلي وتبديل القلب وحلول الروح الإلهي في إنسان وعى أنّه خاطئ منذ ولادته. ويطلب الإنسان نعمة تسبق نظام العهد الجديد وهي تقدّم الحلّ للتناقض الحاصل بين متطلّبات الله وعجز البشر بعد هذا يعرض الإنسان "فرح الخلاص، فيرنّم بعدالة الله ويعلن تسبحته ". هل وضع متطّلبات الله جانبًا؟ كلاّ. ولكنّ الإنسان لا يستطيع أن يتجاوب ومتطلّبات الله من دون مبادرة إلهية تبدّله من الداخل وتضعه على طريق الخلاص.
وعندما يعلن العهد الجديد تعليمه عن الفداء فهو سيستعيد مضمون مواعيد الأنبياء ويجعلها قرب الصليب. وإذ يعلن القدّيس بولس أنّ العهد الجديد تجاوز العهد القديم المؤسّس على الشريعة، فلأنّه رأى أنّ هذه المواعيد قد تمّت بموهبة الروح التي تحوّل قلوب المؤمنين. "إنّ الذين ينقادون إلى روح الله يكونون حقًّا أبناء الله " (روم 8: 14؛ رج غل 18:5-25).

ثانيًا: بناء البشريّة
عندما نتحدّث عن بناء البشرية نرى أنّ العهد الجديد يتجاوز ما وصل إليه عهد سيناء. فالشعب الذي ينعم بالخلاص لن يكون فقط أمّة من الأمم، أمّة مؤلّفة من أبرار وخطأة وهي محصورة في جماعة ضيّقة. ولكن، سينطلق الخلاص من بقيّة الأبرار الباقية لينفتح على كل الأمم، على الجنس البشري كلّه.
أعلن الكتاب في حديثه عن الدينونة أنّ الأبرار وحدهم يشاركون في الخلاص. لا شكّ في أنّه، بفضل العهد، كان بنو إسرائيل الشعب المختار الذين يغمرهم الرب بعطاياه. من أجلهم صنع المعجزات عند الخروج من مصر (تث 11: 1- 4). ولهم وحدهم أعطى الشريعة (مز 147: 9- 10) وأرض الموعد (تث 7:8- 10؛ 11: 10- 12). ولكنّه قبل أن يدخلهم أرض الميعاد امتحنهم في البرّية لينزع منهم الخاطئين. فعَل معهم كما فعل في الأيّام الماضية يوم ترك بقيّة من الأبرار في شخص نوح ليشاركوه في بناء عالم جديد (تك 8:6- 9؛ 23:7؛ 8: 15- 22).
وعندما كلّم الأنبياءُ الشعبَ عن الدينونة، جاء كلامهم امتدادًا لما قالته أسفار موسى الخمسة: إحتفظ الرب لنفسه بسبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبهم للبعل (1 مل 18:19). وهو سيغربل خاصّته (عا 8:9- 10) ويختار منهم بقيّة تعود إلى الرب وتستفيد من نعمة الخلاص (أش 4: 2؛ 7: 3؛ مي 4: 7؛ صف 3: 12- 13). وفي الأيّام الأخيرة، ستكون هذه البقيّة، أي شعب المستقبل، "أمّة صدّيقة" (أش 26: 2)، وشرط الدخول فيها هو التوبة لا هوية عرقية أو قبلية. نحن هنا أمام شمولية تشبه إلى حدّ بعيد ما سيعلن عنه يسوع في عظة الجبل (مت 5-7).
لا شكّ في أنّ نظرة التقليد التوراتي نظرة ضيّقة. ولا شكّ في أنّ نظام العهد السينائي يجعل الأمم الغريبة خارج نظام الخلاص. ولكن رغم ذلك، فالمؤرّخ اليهوهي (نسبة إلى يهوه يشدّد على البركة) يجعل مخطّط الخلاص يبدأ ببداية البشرية ويُدخل تاريخ شعب الله في إطار يشمل الجنس البشري كلّه. أمّا الوعد لإبراهيم فيصل إلى كل الأمم (تك 3:12)، لا إلى أمّة واحدة. والعهد مع المسيح الملك يبيّن أنّ الشعوب تخضع لملكه وتستفيد من الخيرات التي يؤمّنها الله على الأرض (تك 49: 10؛ مز 8:2).
ويشدّد الأنبياء على موضوع ملك الله حيث تشارك كل الأمم في السلام الآتي في نهاية الأزمنة (أش 2: 2- 4 ؛ مي 4: 1- 3) وفي عبادة يهوه الإله الواحد (أش 45: 14- 17، 20- 22). وعندما يحدّثنا أشعيا (42: 6- 7 ؛ 7:49) عن عبد يهوه (عبد الله) فهو يجعله وسيط عهد بين الله وجميع الشعوب ونورًا للأمم ليصل خلاص الرب إلى أقاصي الأرض. وبدأت على أثر ذلك حركة ارتداد نرى آثارها في سفر يونان وفي أشعيا. إنّ الرب يقول للغرباء الذين انضمّوا إليه ليعبدوه ويحبّوه ويكونوا له عبيدًا: "كل من حافظ على السبت والتزم بعهدي فإنّي آتي به إلى جبلي المقدّس وأملأه فرحًا في بيت صلاتي وأرضى عن ذبائحه ومحرقاته على مذبحي، لأنّ بيتي يدعى بيت صلاة لجميع الشعوب " (أش 6:56- 7). ويتابع الأنبياء جامعين في نظرة واحدة موضوع البقيّة الباقية من بني إسرائيل وموضوع جماعة الأمم الراجعة إلى الرب. يقول أشعيا (66: 18- 20) "انا آت لأجمع الأمم من كل لسان فيأتون ويرون مجدي. وأجعل بينهم آية من عندي. والذين نجوا من شعي أرسلهم إلى ترشيش (إسبانيا) وفول (أو فوط) ولود (شواطئ البحر الأحمر)... وإلى الجزر البعيدة. أرسلهم إلى الذين لم يسمعوا عنّي ولم يروا مجدي. وينادي رسلي بمجدي في الأمم (الوثنية) ". ويقول زكريّا (16:14 ي): "إنّ الذين نجوا من بين الأمم... يصعدون سنة بعد سنة إلى أورشليم ليسجدوا للرب ملك الكون، وليحتفلوا بعيد المظال (عيد الفرخ في الخريف). وإنّ لم يصعد أحد من أمم الأرض ليسجدوا للرب، ملك الكون، فلا ينزل عليهم مطر (علامة الغضب الإلهي). وإذا رفض أهل مصر أن يصعدوا إلى أورشليم ليحتفلوا بعيد المظالّ فسينالون الضربة الأولى التي يضرب بها الرب سائر الأمم الذين لا يصعدون ليعيّدوا". وينشد صاحب المزامير (86: 4 ي): "أذكر المصريين والبابليين بين الذين يعترفون بي، وأعدّ بين الذين ولدوا في أورشليم شعبَ فلسطية (شاطئ أرض كنعان. كانوا مختونين) وصور وكوش (أي الحبشة). وعن صهيون يقولون: كل الأمم ولدوا فيها. إنّ الله تعالى كوّنها، ودوّن في كتاب الشعوب أولئك الذين ولدوا هنا".
أجل، إنّ الرب سيجمع كلّ الأمم والألسنة ليضع حدًّا لانقسام بابل (أش 19: 16-25) فيشترك جميع البشر في الفرحة عينها، ويعيّدودن كلّهم للإله الواحد (أش 14: 1؛ 25: 6- 18). وهنا يبرز سموّ النظام الجديد على النظام القديم، ويأتي العهد الجديد فيبيّن أنّ أقواله الأنبياء تمّت في سرّ الشعب الجديد المبنيّ في يسوع المسيح (أف 2: 14- 16 ؛ رؤ 7: 9). ارتدّت فقط بقيّة من بني إسرائيل ودخلت في الشعب الجديد (روم 9: 25- 33 ؛ 11: 1- 10) فالتقت بأبناء الأمم الوثنية الذين كانوا بعيدين عن الخلاص (روم 7:15- 11) ثمّ صاروا قريبين بدم المسيح (أف 13:2).

ج- من التاريخ إلى نهية التاريخ
1- الدينونة الأخيرة
لا تكتفي الإسكاتولوجيا الكتابية بأن تنقل الدينونة الإلهية إلى الأزمنة الأخيرة، بل ترسمها في صور تيوفانية (تدلّ على ظهور الله) تعبّر بطريقة حسّية عن تدخّل الله في أمور البشر وبشكل كوارث تدلّ على عقاب الخاطئين.

أوّلاً: تيوفانيا الدينونة
يعرف الكتّاب نوعين من التيوفانيات: الله المحارب أو الله الديّان الذي يظهر ليردّ أعداءه على أعقابهم أو ليقاصصهم. والله المجلّل بالبهاء الذي يظهر ليكشف عن مجده لشعبه وأخصّائه. وإذ أراد الكتاب أن يتصوّر الله، رجع إلى رمز العاصفة أو إلى أرض وجبال تذوب وبحار تجفّ وخليقة تعود إلى العدم. نقرأ مثلاً في مز 8:18 ي: "ارتجفت الأرض وارتعشت، واضطربت أسس الجبال ومادت من شدّة غضبه. تصاعد دخان من أنفه ونار آكلة من فمه كأنّ في جوفه جمرًا متّقدًا" (رج أي 38: 1؛ نا 1 :3، 6).
أخذ التقليد الكتابي بهذه الرموز وعكسها على تيوفانيات الله المحارب والديّان. ففي اختبار الخروج بدا الله بشكل غمام في النهار ونار في الليل (خر 13: 21- 22؛ رج 24: 24؛ 7:15- 8). وفي الحديث عن الدخول إلى أرض الميعاد قال سفر التثنية (33: 2): "أقبل الرب من سيناء، وأشرق من سعير، وتجلّى من جبل فاران، وأتى من ربى القدس وفي يمينه شريعته كشعلة نار " (رج قض 5: 4- 5). وقال سفر المزامير (18:77-19) "سهامك تطايرت في كل صوب. صوت رعدك في الزوبعة وبرقك أضاء المسكونة، والأرض اضطربت وارتعشت " (رج مز 8:68- 9).
يأتي الله المنتقم ليضع حدًّا لغطرسة أعدائه: "هوذا الرب. من مكان سكناه ينزل ويطأ مشارف الأرض فتذوب الجبال تحته وتنحلّ الأودية كالشمع في النار... لأجل معصية بني يعقوب وخطايا آل إسرائيل " (مي ا:3- 5). ونقرأ في حزقيال (38: 22) إنّ الرب سيعاقب شعبه الخاطئ بالوباء والقتل والمطر الطاغي والبرد القاسي، وإنّه سيمطر النار والكبريت عليهم وعلى جيشهم وعلى الشعوب الكثيرين المتعاهدين معهم. وفي أشعيا (2:34- 3): "إنّ سُخط الرب على جميع الأمم، وغضبه على كل جندهم، وقد أسلمهم إلى القتل ودفعهم إلى الذبح، فتطرح قتلاهم إلى الأرض، وينبعث النتن من جيفهم، وتسيل الجبال من دمائهم " (رج أش 15:66- 16؛ حج 7:2 ؛ ملا 19:3).

ثانيًا: عقاب الله للخاطئين
ينطلق الكتاب من اللعنات التي كان بنو إسرائيل يتلفّظون بها على نفوسهم خلال حفلاتهم الطقسية إن هم خانوا العهد (رج تث 28 : 15- 63؛ لا 26: 14- 40) ومنها آفات الزراعة، والحروب والهزائم والسبي والنفي. كما ينطلق أيضًا من نكبات اختبرها الشعب على مرّ تاريخه كدمار المدن (أش 13: 20- 23؛ 34: 11- 17) والانكسار في الحروب (حز 39: 9- 20).
وهناك تلميحات واضحة إلى الطوفان (أش 24: 8) ودمار سدوم (أش 34: 9- 10؛ حز 22:38 ؛ مز 11 :6) وضربات مصر (حز 22:38) وموت فرعون (حك 22:5) وهزيمة سنحاريب (مز 48: 5-8). ثمّ إنّ الذبائح التي نجسّت موضع توفت في وادي هنوم (إر 7: 31؛ 19: 5- 6 ؛ 33:32) ستحمل الينا صورة رمزية عن العقاب النموذجي الذي سيحلّ بكل أعداء الرب بمقتضى شريعة المثل (أي سن بسن وعين بعين. لم نزل على مستوى الشريعة الناقصة): نار تشبه نار حطب توفت: تكون أداة عقاب الله للخاطئين (أش 30: 33) أو تفني جثث الموتى في الوادي الملعونة (أش 66: 24 ؛ رج سي 17:7؛ 16: 21 ؛ دا 2:12). من هنا ستنطلق صور"جهنم " التي تمرّ عبر الكتب المنحولة قبل ان تصل إلى العهد الجديد (مر 43:9- 48) لتدلّ على حيث النار التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت.

2- الحدث الإسكاتولوجي (يحلّ في نهاية الزمن)
إنّ لاختبار عطايا الله في تاريخ بني إسرائيل بُعدًا يفوق دينونته. فالأحداث الماضية بينت مسبقًا ما سيكون الخلاص النهائي. من أجل هذا، سنتوقّف عند الحدث الإسكاتولوجي والنظام الإسكاتولوجي والوسيط الإسكاتولوجي.
عندما كان الأنبياء يعلنون عقابًا يهدم كل نظم الأمّة ومؤسّساتها، كانوا يجعلون الشعب يستشفّ بعد هذا الدمار تحقيقًا لهذا المخطّط في المستقبل الذي كشف لنا الماضي خطوطَه الكبرى.

أوّلاً: اختبارات تاريخية متكّررة
إنّ وضع بني إسرائيل بعد العقاب يشبه وضعهم في مصر قبل الخروج: كانوا منفيين في أرض غريبة يضيّق عليهم سيّد غريب. ولهذا ستّتخذ عودة الشعب شكل انطلاق جديد شيبه بالأوّل. فقد لمّح أشعيا (10: 26) إلى البحر الأحمر، وجعل هوشع (2: 12) الشعب في إطار خروج جديد، وقابل إرميا (16: 14- 15) الخروج الذي تمّ في الماضي بذلك الذي سيتمّ ساعة رجوع بني إسرائيل إلى أرضهم. إنّ هذه الاختبارات التاريخية العظمى تتّخذ قيمتها بالنسبة إلى الإيمان. فيقول ميخا (7: 4- 5): "ارعَ شعبك بعصاك، غنم ميراثك الساكنين وحدهم في الغاب... أرنا معجزاتك كما في اليوم الذي أخرجتنا من أرض مصر". ويقول أشعيا (63: 10 ي): "ذكر شعبه الأيّام القديمة، أيّام موسى، وتساءل: أين الذي أصعد شعبه من البحر، غنمه مع رعاته؟ سيّرهم في الغمام كفرس في البرّية فلم يعثروا".

أجل، إنّ الأقوال الإسكاتولوجية تعلن عبورًا جديدًا للبحر (أش 43: 16- 21) وخلاصًا جديدًا إلى أرض الميعاد (إر 31: 11- 14).
إنّ هذه الصور تعود بنا إلى التاريخ القديم. هي لا تعطينا رسمة دقيقة عن المستقبل بل تمثّله لنا في إطار رمزي راجعة إلى بعض الإشارات المختارة. فبالنسبة إلى السامعين، يعني موضوع الخروج تجمّع المنفيين ورجوعهم إلى أرض الآباء... وستنظّم حركة بعد قرار كورش (أش 48: 20؛ 52: 11. سنة 538 ق م) وتعلن برنامج عملها. ولكنّ هناك ملامح تدلّ على سموّ الحدث الإسكاتولوجي على أحداث الماضي فتدعونا كي لا نبقى على مستوى التفسير المادّي للنصوص، بل أن نستشفّ من خلال الرموز واقعًا أغنى وأسمى من كل ما عرفه التاريخ.

ثانيًا: سموّ الحدث الإسكاتولوجي
أوّل هذه الملامح هو التيوفانيا التي ترافق الخلاص النهائي: في الخروج مشى الله أمام شعبه (حز 13: 21- 22) وعلى جبل سيناء ظهر له. هكذا يرى المؤمنون وجه الرب ويشاهدون عظمته ومجده (مز 8:63) بحيث يكون كل عمل طقسي تيوفانيا ممكنة: عندما دعي الشعب أمام جبل سيناء على صوت البوق، تجلّى الرب لشعبه بمجده الرهيب (حز 16:19- 25). وشارك موسى والشيوخ في وليمة العهد المقدّسة (حز 9:24- 11). وخلال عبور البحر الأحمر، مازال الغمام، الذي هو علامة حضور الله، يرافق الشعب ليدلّه على الطريق ويقيه من كل شرّ (خر 0 34:4- 38).
إنّ كل هذه التيوفانيات تبقى نموذجًا لهذا الرجوع الكبير. ففي سفر اشعيا نتعرّف إلى صورة الله الذي يقود شعبه عبر البرّية (أش 49: 10) فيراه الرقيب من بعيد راجعًا إلى صهيون (أش 8:52) ويتجلّى مجده (أش 40: 5). وبعد رجوع المنفيين ينقلنا الكاتب الملهم إلى هيكل أورشليم لنعيش تيوفانيا جديدة (أش 10: 1 ي) تعود بنا إلى ما حدث مع سليمان يوم تدشين الهيكل (1 مل 8: 10- 13). ندخل في هيكل جديد وسعه وسع الكون (حز 43: 1- 5). وفي إطار رؤيا أشعيا (ف 24- 27) سيكون إطار هذه التيوفانيا وليمة العهد الجديد الطقسية: يحتفل بها الشيوخ في أورشليم فيشاهدون مجد الله يشعّ عليهم، لا بصورة عابرة، بل دائمًا وأبدًا. وهكذا يدخل الشعب في حالة تشبه حالتهم في البرّية: تتمتعّ الأمّة الناجية بحياة مع الله تدوم إلى الأبد. لأجل هذا يعطي الرب شعبه نعمته ويكتب شريعته في قلوبهم ويفيض روحه عليهم. هو القدير الذي يقيم الموقى (حز 37: 1- 14) وسيقيم شعبه من الموت ويكون عمله رمزًا إلى إعادة الحياة التي وعد بها الرب الأبرار في نهية الزمن.

3- النظام الإسكاتولوجي
إنّ النظام الإسكاتولوجي يأخذ مواضيعه من نظام سابق ويبقينا أمام خطّين اثنين. فهناك أنبياء (هوشع، وحزقيال) يعتبرون أنّ نظام القبائل هو النظام المثالي. وهناك آخرون (أشعيا، ميخا) يجعلون هذا المثال في عهد الملكية التي عرفت أوجها مع داود وسليمان. وسنرى كيف اجتمع بعد الجلاء هذان الخطّان في النصوص الكتابية.
ستجد الأرض المقدّسة خصبًا لم تعرفه من قبل (هو 2: 23- 24؛ عا 13:9-15؛ رج تث 7:8-10). وهي ستتميّز بالعدالة (حز45 : 1- 12 ؛ 13:47- 48) بالنسبة إلى شعب جديد نما نموًّا عجيبًا (حز 37:36- 38). وستكون أورشليم الجديدة أبهى وأجمل من القديمة (إر 31: 6- 12) ويكون هيكلها مركز العالم في إطار ديني يدلّ على أنّ الخلاص امتدّ فشمل الكون. سيأتي إلى بيت الله جميع الأمم، سيصعد إليه شعوب كثيرون ويقولون: هلمّوا نصعد إلى جبل الرب وهو يعلّمنا طرقه (أش 2: 2- 4؛ رج مي 4: 1- 3؛ زك 16:14- 21). ويكون الملك الجديد عادلاً حكيمًا مسالمًا، يكون أعظم من داود وسليمان. أمّا مملكة شعب الله فتكون واسعة جدًّا بحيث تصل إلى أقاصي الأرض (أش 9: 6؛ 3:54 ؛ 60: 1- 17). وسيقود الرب حروبه المقدّسة بشخصه أو بشخص مسيحه فيكون انتصاره كاملاً (أش 54: 15- 17؛ 63: 1- 6). بعد هذا يعمّ السلام الإسكاتولوجي (زك 9: 10).
ولكنّ الأنبياء يعرفون أنّ الماضي كان يحتوي الظلال، أمّا العهد الإسكاتولوجي فلا. فصورة الأرض الجديدة المقدّسة ستحملنا إلى صورة الفردوس الأرضي. وهناك تتحوّل البشرية إلى ما كانت عليه قبل الخطيئة. ويتبدّل إطار الحياة أيضًا: فاليوم الذي يشعّ على أورشليم يكون يومًا عجيبًا لا يعرف تعاقب النور والظلمة (زك 14: 7). وهذا ما يجعلنا وراء التاريخ.
وترسم لنا كتب الجليان (يتجلى الله فنراه) لوحات عن العالم الآتي حيث تمتزج السماء بالأرض، ويكون هيكل أورشليم على مثال الإطار السماوي الذي يقف فيه قديم الأيّام (أو الأزلي) وابن الإنسان (دا 7: 9-10). يخرج نهر نار من تحت عرش الله كما يخرج ينبوع من تحت عتبة الهيكل (دا 7: 10؛ رج حز 47: 1 ؛ زك 8:14). والملائكة الذين يخدمون الله بالصلاة يذكّروننا بالكهنة الذين يخدمونه هنا في هيكله. فالهيكل بُني حسب الخيمة المقدّسة التي يقيم الله فيها (حك 8:9). وأورشليم الأرضية قد بناها داود وسليمان بحسب نموذج في السماء سنتعرّف إليه في اليوم الأخير، يوم يحلّ الكامل محلّ الناقص. وهنا نعرف علاقة العالم الحاضر بالعالم الآتي، عالم الصورة بعالم المثال، عالم الخطوط الأولى بالحقيقة التامة الناجزة.

4- الوسيط الإسكاتولوجي
الوسيط الإسكاتولوجي هو وسيط الخلاص وممثّل الشعب أمام الله وحامل عطايا الله إلى شعبه. في هذا المجال نجد معطيات متنوّعة يأخذ فيها الوسيط صورة المسيح الداودي وعبد يهوه وابن الإنسان.

أوّلاً: المسيح الداودي
ونعني بذلك الذي يختاره الله ويمسحه كما مسح داود في الماضي. ينطلق الأنبياء من نبوءة ناتان (2 صم 7: 5- 16؛ مز 89: 30- 38) فيتصوّرون الوسيط الآتي بملامح ملك يكون ابن داود ومسيح الرب. اليه ينظر أشعيا (9: 5- 6) وميخا (5: 1- 5) ويجعله إرميا (23: 5- 6) في إطار عهد جديد بحسب شريعة سفر التثنية (17: 14- 20). ويحدّثنا حزقيال (34: 23- 24) عن داود الجديد الذي سيكون أميرًا لا ملكًا (حز 45: 7- 12) بعد أن زالت الملكية من بني إسرائيل على أثر دمار أورشليم سنة 587. أمّا زكريا (8:3- 10) فيرفع أنظارنا إلى "النبت " (رج ار 23: 5) الذي سيراه حاضرًا في شخص زربابل.
ويظهر سموّ المسيح الداودي واضحًا في كل الملوك الذين سبقوه: فهو يجسّد مثالاً من الكمال الديني والأخلاقي، ويحمل إلى البشر سلامًا وسعادة لا ظلّ فيهما، ويصنع خلاصًا يصل إلى جميع البشر ولا يكون له انقضاء.

ثانيًا: عبد يهوه (عبد الله)
إنّ لقب عبد يهوه قد أعطي لموسى (عد 7:11) وداود (مز 89: 21) والأنبياء (عا 7:3) واليهود الأتقياء (مز 79: 10؛ أش 13:65- 14). لا نجد ملامح ملوكية في صورة عبد يهوه، ولكنّنا نجد تقاربًا بينه وبين موسى. فعبد يهوه كموسى، يحمل الحقّ والشريعة (أش 42: 4) وقد صار عهدًا لشعبه (أش 42: 6). وهو يلعب في العهد الذي أعلن عنه إر 13:31- 14 دورًا موازيًا لدور موسى في عهد سيناء. ولكنّ موسى النبي العظيم (تث 34: 10) كان أوّل الأنبياء الذين سيتشبهون به (تث 18: 15). وهكذا يشبه عبد يهوه الأنبياء وقد حلّ عليه روح الله (أش 42: ا) كما حلّ عليهم. ودعاه الله وأفرزه (أي وضعه جانبًا. أش 49: 1) كما دعا إرميا، وحمّله رسالته إلى البشر (أش 50: 40) فلم يقبلوها (أش 49: 4 ؛ 50: 5- 9). هذا ما جرى لرسالة إرميا (إر 26: 20-23). أمّا دور ألم عبد يهوه في تحقيق الخلاص فهو ظاهر: هو ضحيّة بريئة، يقدّم نفسه كذبيحة تكفير، ويحمل آثام الكثيرين ويبرّرهم (أش 53: 10-10). من خلال هذه الكلمات، نستشفّ اختبار الألم الذي أحسّ به في أيّام المنفى جماعةُ مساكين الله وتلاميذ الأنبياء (أش 16:8- 18). كانوا أمناء للشريعة، ولكنّهم تحمّلوا ما تحمّله غيرهم من عقاب بسبب خطيئة الشعب. فصرخوا إلى الرب من أعماق ضيقهم (مز 44: 1 ي ؛ 74: 1 ي ؛ 79: 1 ي). كانوا بقيّة الأبرار وروح الأمّة: دعوها إلى التوبة فرفضتهم. سُلموا إلى الموت لأجل شعبهم فكانوا الشعب الحقيقي و"عبد يهوه " (أش 41: 8- 16). وسنجد ملامحهم في وجه عبد يهوه الذي مثّل شعبه فكفّر بآلامه عن خطايا الجماعة ولعب دور وسيط العهد للشعب الآتي (أش 42: 6).
هذه الصورة المأساوية تدخلنا في عمق تاريخ بني إسرائيل، وهي ترسم لنا سرّ العهد الجديد في وجهة واقعية نراها في المصير المحفوظ ليسوع، وفي وجهة روحانية بحدها في معنى موت يسوع وقيامته. وسيطبّق يسوع ما قيل في عبد يهوه على حياته (لو 17:4- 21؛ رج أش 61: 1- 2)، وعلى آلامه فيقول (مر 10: 45): "إنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم ويبذل نفسه من أجل جماعة كثيرة" (رج أش 13:53؛ لو 33:22).

ثالثاً: ابن الإنسان
آخر صورة من صور الوسيط الخلاصيِ هي صورة ابن الإنسان الذي رآه دانيال (13:7) على سحاب السماء وقد أوقي سلطانًا على جميع الشعوب (دا 7: 14). نحن هنا في إطار المملكة الإسكاتولوجية التي ستحلّ محلّ ممالك الأرض بعد دينونة الله: يزول الزمن الحاضر أمام الزمن الآتي (دا 2: 44- 45). إنّ رمز الإنسان الآتي من السماء يعارض رمز الحيوانات الطالعة من الهوّة. وهذا ما نقوله عن مملكة الله التي تعارض ممالك البشر، وحزب الله الذي يعارض حزب البشر. أمّا حزب الله فشعب قدّيسي العليّ (دا 7: 25) الذين يضطهدهم الحيوان الأخير (أنطيوخس أبيفانيوس) إلى أن يسلمهم الله الملك إلى الأبد (دا 7: 18، 27). وهكذا يدلّنا النصّ، من خلال الرموز، على الشعب الإسكاتولوجي، شعب بني إسرائيل الحقيقي الذين محّصتهم المحنة ونقّتهم (دا 33:11- 35) فنجوا بفضل تدخّل ميخائيل (أي قدرة الله. دا 12: 1) وحصلوا على الخلاص الأبدي (د 121: 2- 3).
نجد هنا تقاربًا بين عبد يهوه وابن الإنسان. فنصّ سفر دانيال يضع أمامنا جماعة من الأبرار والحكماء يعلمّون الجماعة (دا 33:11) ويبرّرونها (دا 3:12) قبل أن يسقطوا بالسيف والنار (دا 33:11). ولكنّ هذه المحنة تنقّيهم (دا 11: 35، 12: 10) وتجعلهم يتمتّعون بمجد القيامة (دا 3:12) عندما يحلّ العالم الآتي محلّ العالم الحاضر. أمّا عبد يهوه فقد قُتل وقُطع من أرض الأحياء (أش 8:53) فبرّر الكثيرين (أش 53: 11). وبعد أن امتحن دخل النور (أش 53: 11) ليقاسم العظماء الغنيمة (أش 53: 12). فاختبار عبد يهوه يرجع إلى محنة مساكين يهوه في زمن المنفى وهو يصوّر الوجه الأرضي لبقيّة الشعب ويشدّد على خصب الألم ودوره في نهية الزمن. واختبار ابن الإنسان يدلّ بطريقة رمزية على مصير هذه البقية في ما وراء التاريخ: بعد أن تدخل في مجد العالم الآتي يُعطى لها ملك الله ولقب بني إسرائيل القديم: "مملكة كهنوتية وأمّة مقدّسة" (خر 19: 6).
ِخاتمة
ما دام العهد القديم قائمًا، فشعب الله هو في فترة استعداد يؤدّبه الرب خلالها بواسطة الشريعة وأحداث التاريخ وعلاقة الشعب بالرب كما ينظمّها عهد سيناء. إلاّ أنّ المواعيد النبوية تبيّن أنّ هذا النظام يتطلعّ إلى نظام آخر سيتجاوزه من كل جهة. وهكذا يتحدّد موقع العهد القديم بالنسبة إلى العهد الجديد، والعهد الجديد بالنسبة إلى العهد القديم. ولكن ما تكون طبيعة النظام الآتي؟ إنّ المواعيد تتحدّث عنه منطلقة من اختبار شعب إسرائيل، فتنقل عناصر هذا الاختبار إلى الأزمنة الأخيرة، وتدخل في هذه العناصر كمالاً لا غبار عليه، وتبدأ تفسير الماضي تفسيرًا رمزيًا سيأخذ به العهد الجديد ويكمّله. وهكذا تصبح النبوءات العلاقة الحيّة بين العهدين: هي تتجذّر في اختبار العهد القديم، وتوجّه أنظارهم إلى العهد الجديد، فتحوّل اختبار شعب الله إلى لاهوت يحدّثنا عن سرّ الخلاص.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM