الفصل الثالث عشر: مشاريع الإنسان في سفر الجامعة

الفصل الثالث عشر
مشاريع الإنسان في سفر الجامعة

يتحدّانا سفر الجامعة(1) منذ آيته الأولى: "كلّ شيء باطل". وستتجاذبنا تأكيدات تبدو متضاربة فلا تزكنا في لامبالاتنا. تارة يكتب الحكيم: "قلت للضحك: فيك جنون، وللفرح: ماذا تنفع " (2:2)؟ ولكنّه يؤكد بعد ذلك بقليل: "مدحت الفرح" (15:8). بل هو يدعو تلميذه قائلاً: "فافرح، ايها الشاب " (11: 9). لماذا يمتدح الفرح ويدعونا إلى الفرح إن كان الفرح لا ينفع شيئًا؟ ونجد مثل هذه التضاربات (الظاهرة) بمناسبة الحديث عن وجهات الحياة المختلفة.
من أجل هذا نتساءل: ما هو معنى الكتاب؟ أي مفكّر هو هذا الحكيم الذي سّمي في العبرية "قهلت " نسبة إلى قهل أر الجماعة. قد يكون ترّأس الجماعة. لهذا سُمّي الجامعة (مؤنّث الجامع أي الذي يجمع الناس). وسمّي هذا الحكيم "الساخر" لأنّك تحسّ حين تقرأه وكأنّه لا يأخذ الأمور على محمل الجدّ. اي تعليم يقدّمه لنا سفر الجامعة؟

أ- من هو هذا الحكيم
1- هو فيلسوف
ينتمي إلى مدرسة الحكماء في التوراة ويقدّم لنا أفكاره عن الحياة. وكتابه يدخل في الأسفار الحكميّة. قال بعضهم هو متشائم(2)، خيّبت الحياة طموحاته، فبدا سلبيًا إلى آخر حدود السلبية: كل شيء باطل. "كأنّك تحاول أن تقبض على الريح" (1: 14). أجل، الإنسان متروك على أمره، لا مخرج له وهو يتوجّه إلى الموت(3). وشدّد البعض الآخر على الوجهة الإيجابيّة، فاستنتج أنّ "الحكيم " هو متفائل(4). وتظنّ فئة ثالثة أنّه واقعيّ(5). يقوِّم وجهتَيْ الحياة، عناءها وفرحها. "الخير هو في ما تراه العين " (6: 9). لا يستطيع الإنسان أن يعرف الأمور معرفة يقينية، ولاسيّمَا على مستوى الله، مهما قالت الحكمة التقليدية. لا يقدر الإنسان أن يكتشف أسباب عمل الله (3: 11). تبقى نوايا الله خفيّة على الإنسان، ولاسيمّا فيما يتعلّق بالكون: "جيل يمضي وجيل يأتي والأرض قائمة (لا تتحرّك) مدى الدهر. الشمس تُشرق والشمس تغيب... الريح تدور وتدور... جميع الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن " (1: 4- 7). يبقى هذا الحكيم هادئًا رغم ما تحرمه منه الحياة، ويطلب الفرح لا في ملذّات الحياة بل في الحكمة. يتصرّف كالعالِم: يتفحّص كل وجهات الحياة من زاوية المبادئ المحسوسة، ولكنّه لا يصل إلى نتيجة. فالحواسّ لا تكفي، والعلم لا يساعدنا على اكتشاف معنى الحياة.

2- هو عالم أخلاق
رأى آباء الكنيسة (إيرونيموس مثلاً) ومعلّموها (برنردس أو بونافنتورا) في "الحكيم " رجل جهاد وإماتة، رجلاً يعلّمنا التجرّد من كل ما ليس الله. الإنسان مدعو إلى السماء، لهذا كل شيء على الأرض باطل، ولا خليقة تُشبع قلب الإنسان. فمن تعلّق بها عدّ جاهلاً. هؤلاء الشرّاح فسّروا النصّ انطلاقًا من اعتقادهم بوجود آخرة(6). نشير هنا إلى أنّ الشعب اليهودي لم يعرف الخلود وقيامة الموتى والسعادة في الآخرة إلاّ في القرنين الأوّل والثاني ق م. نقرأ في دا 12: 2: "كثيرون من الراقدين (الموت هو رقاد ونوم) في تراب الأرض (يدفن الموتى في التراب) يقومون (يستيقظون): بعضهم للحياة الأبدية، وبعضهم للعار والرعب الأبدي ". وقال أحد الإخوة السبعة وهو يستعدّ للموت في سبيل إيمانه: "سنقوم لحياة أبدية" (2 مك 7: 9). وقال حك 3: 1: "أمّا نفوس الصدّيقين (الأبرار) فهي بيد الله، فلا يمسّها العذاب ". لا شكّ في أنّنا نستطيع أن نفسّر سفر الجامعة على ضوء ما نعرفه اليوم من علم الآخرة، ولكنّ "قهلت " (أو الحكيم) كان مسجونًا في هذا العالم، فوجب عليه أن يجد جوابًا على رغبته في السعادة. فالحكمة في أساسها بحث عن السعادة.
وقدّم آخرون شرحًا معاكسًا. قالوا: قدّم الحكيم سعادة تقوم بأن "نأكل ونشرب" (2: 24). كل ما خلقه الله هو صالح، وقد وضعه في تصرّف البشريّة التي ستنعم به في أمان. إنّ لعلمه الأخلاقيّ بعدًا رعائيًا: يعلّم الفرح(7)، يتكلّم عن الغنى، ويطلب الربح، ينصحنا بأن نقبل خيرات هذه الأرض وكأنّها عطيّة من الله. بل يدعو الشابْ لكي لا يحرم نفسه من أيّة لذّة في هذه الحياة: "سرْ حسب طرق قلبك (القلب هو موضع الفهم)، وحسب ما تراه (أو ترغب فيه) عيناك " (9:11). ويقول: تجنّب التطرّف لئلا تهلك، حتّى على مستوى البرّ والحكمة (7: 16). فليستفد الإنسان من لذّات الأكل والشرب واللبس والعطور: إذهب كل خبزك بفرح، واشرب خمرك بقلب مسرور، لأن الله رضي عن أعمالك. لتكن ثيابك بيضاء في كل حين، وليستفد رأسك من العطور. تمتعّ بالعيش مع المرأة التي أحببتها جميع أيّام حياتك الفانية (أو البالية، الباطلة) (9: 7- 9) "إن عاش الإنسان سنوات عديدة فليفرح فيها جميعها. ولكنّ الأيّام المظلمة ستكون عديدة وإنّ المستقبل باطل " (8:11). أجل، في نهاية الحياة، تحلّ الظلمة محلّ النور والحزن محلّ الفرح. ويبقى نمط آخر من اللذّة هو العمل: يتذوّق الإنسان السعادة في عمله، وهذا عطيّة من يد الله (24:2).

3- هو لاهوتي
إنّ لهذا الحكيم نظرة خاصّة إلى الله. تظنّه يتعلّق باللاأدرية فيعارض إمكانية الوصول إلى السبب الأوّل: لا يقدر الإنسان أن يدرك عمل الله منذ البداية إلى النهاية (3: 11). يقول إنّ الله يدين البشر، ولكنّ هذا الديّان لا يفرّق بين مصير البارّ ومصير الشرّير (أو البعيد عن البرارة)، بين مصير الحكيم ومصير الجاهل. "قلت في نفسي: ما يحدث للجاهل يحدث لي أنا (أنا الحكيم) أيضًا... الحكيم يموت كالجاهل "، أي تنتهي حياته من دون رجعة (2: 15- 16). فكأنّي بهذا الكتاب يُنكر الله ووجوده(8). ولكنّك تقرأ مقاطع تدلّ على أنّك أمام لاهوتيّ مؤمن: إتّقِ (عش في خوف) الله واحفظ وصاياه. هذا هو الإنسان. هكذا يكون الإنسان. فالله سيحكم على كل عمل، خيرًا كان أو شرًّا (13:12-14).
غنى كبير في كتاب صغير، وأقوال متضاربة في كتاب يبدو واحدًا منذ البدايةْ إلى النهاية. قالوا هناك كتّاب عديدون. جاء كاتب أخير فجمع ما كتبوا: التقي والحكيم، الفيلسوف المتشائم، الصادوقي الباحث عن اللذّة... وقالوا: إنه يورد الحكمة التقليدية ويردّ عليها، أو هو يحاور شخصًا آخر حقيقيًا أو خياليًا. وقالوا: بدأ بالتشاؤم وانتهى بالتفاؤل عندما تعلّق بالحاضر تاركًا الماضي (لم يعد له من سلطة عليه) والمستقبل (لم يصل بعد اليه).
على كل حال، يبقى الكتاب سرّيًا، بل يبدو أمامنا كأنّه لغز(9). يشبه سفر أيّوب الذي ينتمي هو أيضًا إلى تيّار حكمي ينتقد النظرة التقليدية(10). قال شرّاح عديدون: تطرّق سفر أيّوب إلى الألم وسفر الجامعة إلى السعادة. وقال آخرون: تطرّق أيّوب إلى الظلم الذي يصيب البار المتألم، أمّا الجامعة فتحدّث عن عبث الحياة(11).
في الواقع، يعالج سفر أيّوب السؤال التالي: "كيف تتكلّم عن الله في ساعة الألم"؟ ننطق من نظرة سنكرونية أي نأخذ الكتاب كما يبدو لنا، كما يمسكه القارئ بين يديه مع كل تضارباته المزعومة(12). نحن ننطق من معطى مهم: لهذا الكتاب هدف. وهدفه تقويم مشاريع البشر وما يحدث لها. قد يحاول الإنسان أن يقود حياته بيديه دون الرجوع إلى الله، أن يبحث بحثًا قلقًا عن "الأكثر" عن "الأكبر". ولكنّ هذا الأكثر غير موجود، لهذا ستكون النتيجة: باطل الأباطيل: لماذا التعب؟ وقد يحاول الإنسان أن يقبل حياته من الله، أن يقبل العيش بحسب إرادة الله، حينئذ ستكون النتيجة سعادة يعطيها الله (9:9).

ب- هدف سفر الجامعة
يتضمّن الكتاب عنوانًا (1: 1) وخاتمة (12: 9- 14) يدلاّننا على شخصية الكاتب: "كلام قهلت (أي الحكيم) ابن داود، ملك أورشليم " (1: 1). إذن، ينسب الكتاب إلى سليمان بن داود. والفصلان الأوّلان يلمحان إلى حياة هذا الملك كما نقرأها في سفر الملوك الأوّل.

1- باطل الأباطيل
ويبدأ الكاتب كلامه: "باطل الأباطيل، يقول قهلت (الجامعة أو الحكيم). باطل الأباطيل. كل شيء باطل " (1: 2). وسيكرّر هذه العبارة في النهاية مع اختلاف بسيط: باطل الأباطيل، يقول قهلت، كل شيء باطل " (8:12، لم يكرّر العبارة الأولى). هذا ما يسمّى التضمين (تعود الكلمة في بداية الكتاب ونهايته فتشكّل وحدة أدبيّة تامّة). إذن، يبدأ الكتاب بكلمة "هبل " (ترد 5 مرّات في المقدّمة 30 مرّة في الكتاب كلّه). وهي تعني: العبث، الدخان، السراب، الفراغ، الباطل... الشيء العابر (في الزمن، لا يدوم) ولا قيمة له دائمة (في الحياة والوجود).
وعبارة "باطل الأباطيل " نحن نقول: نشيد الأناشيد أي أجمل الأناشيد وملك الملوك أي أعظم الملوك. باطل الأباطيل أي ذروة ما هو باطل. أهمّ شيء نضيعّ فيه وقتنا(13).
هذا ما يقوله الحكيم مرّة أولى ومرّة ثانية في 1 :2، ويدفع القارئ إلى أن يتساءل: أي شيء هو باطل؟ ويأتي جواب في نهاية الآية: كل شيء باطل. نلاحظ أنّ الكاتب لا يكرّر "باطل الأباطيل " في نهاية الكتاب (8:12) لأنّه يعتبر أنّ القارئ عرف الجواب على سؤال: كل شيء باطل.

2- كل شيء باطل
ما معنى كلمة "كل "؟ اللامحدود، المطلق، الشامل. أو: اللا محدود نسبيًا. مثلاً، حين نقول: "كل الناس رأوه " فنحن نعني كل الناس الحاضرين، وقد يعني الكل هنا كل الناس الذين اختبروا الحياة، الذين أعملوا الفكر والقلب. قد يستطيع القارئ في آخر الكتاب أن يجيب على هذا السؤال، ولكنّه لم يزل في البداية. إنّما يستشفّ أنّنا أمام كل نسبي، وإلاّ كان التأكيد الاحتفالي (تتكرّر العبارة مرّتين: باطل الأباطيل) والكتاب كلّه باطلين في ذاتهما. غير أنّ الحكيم متيقّن من شرعية فكره، وهذا ما تثبته الخاتمة (9:12- 12). فسنرى أنّ قهلت يتحدّث عن أشياء لا يعتبرها "باطلة" بطريقة أكيدة (17:3، 7، 11). فلو كان كل شيء (بالمعنى المطلق) باطلاً، لكان أفضل للقارئ أن يتوقّف عن القراءة لأنّها هي أيضاً باطلة. وقد يعني كل شيء "كل الناس " أوكل إنسان. إنّه يتكلّم عن مجمل الناس. ولكن يبقى القارئ أمام سؤالين: أي "كل " يعني؟ ولماذا هذا "الكل " هو باطل؟ ستقدّم له القرائن الأجوبة.

3- الفائدة والتعب
ويتوالى النصّ بسؤال: "أيّ فائدة للإنسان (للبشر، آدم في العبرّية مع التعريف) من جميع عنائه (تعبه) الذي يعانيه تحت الشمس " (3:1)؟ نحن هنا أمام سؤال حقيقي، لا سؤال خطابي نعرف جوابه المسبق (لا، ليس من فائدة). فكلمة "يترون(14)" (فائدة) لا نجدها في كل التوراة إلاّ في سفر الجامعة. هي كلمة مأخوذة من عالم التجارة: ربح شركة تجارية، ما يبقى لك بعد أن تحسم كل المصاريف. وكلمة "عمل " (راجع عمل في العربية) يتردّد كإسم وفعل: تعب، اشتغل شغلاً قاسيًا ودائمًا مع قلق فكري (مز 90: 10: حياتنا هي تعب وشقاء). وقد تعني الكلمة: ربح، استحقّ ثمرة عمله المضني، استحقّ نتيجة العمل، استحقّ الأجرة. كرّر الكاتب كلمة "عمل(15)" كما كرّر كلمة "هبل " فكشف عن وجهة مهمّة من فكره. يفكّر في العمل المضني، عمل "آدم " أي البشرية أوكل كائن بشري (رجلاً أو امرأة) يعيش هنا (على الأرض) "تحت الشمس ". هنا تعود كلمة "كل " فتربطنا بالآية السابقة وتشير إلى حدود "كل " التي نجدها في آ 2. إنّ الكل الذي يهتمّ به قهلت يمثّل النشاط المضني للبشر على هذه الأرض (9:1، 13، 14؛ 17:2؛ 17:8 ؛ 9: 3، 6). هذا السؤال الحقيقي مفتوح على أيّ جواب. قد يكون الجواب إيجابيًّا: نعم، هناك فائدة. قد يحصل أن يُنتج التعبُ المضني المالَ أو اللذّة أو نتيجة اخرى (فائدة بسيطة أو مهمّة)، وقد يكون سلبيًا: لا فائدة منه.

4- من البداية إلى النهاية
بداية جا (1: 2- 3) وخاتمته (12: 8) تتقابلان. نحن كما قلنا أمام تضمين (واحتواء): بداية سلبية تقابلها خاتمة إيجابية. وبكلام آخر، نقصُ البداية سيُملأ في النهاية. مثلاً، إذا كان الإنسان متزوّجًا في البداية فلن ننتظر خبر زواج يفترض إنسانًا غير متزوج. وهذا المبدأ ينطبق على كل نصّ حتّى ولو كان تعليمًا محضاً: يُطرح السؤال في المقدّمة وينتهي حين نجد الحل في الخاتمة. يبدأ جا مع نقص، مع علامة استفهام. يريد أن يعرف هل من فائدة للتعب المضني.
إنّ التحوّل الذي به يصل السلبي (في البداية) إلى الإيجابي (في النهاية) يمرّ عبر أربع مراحل: ما يدفع الإنسان إلى العمل. المهارة التي يحتاج إليها الإنسان ليعمل. إن امتلكها انتقل إلى تنفيذ المشروع. وهذا ما يتحقّقه في النتيجة. يتعلّق سؤال جا بالنتيجة، بالفائدة، بتنفيذ مشروع، بعمل الإنسان المضني. ولكي يجد الحكيم الجواب على سؤاله، عليه أن يتفحّص ما يفعله الناس. وهذا ما يفعله في الواقع: يلاحظ ويدرس "ما يُصنع تحت الشمس " (1: 9، 13). يتفحّص "كل نشاط مضنٍ ". ويصل إلى القول إنّه لا يحمل فائدة: "لا فائدة منه تحت الشمس " (2: 11). اذن، يستطيع أن يستنتج: "كل (الكل، مجمل) النشاط المضني هو باطل ".
لا يستطيع قهلت أن يصل إلى هذه النتيجة (الكل، كل شيء باطل) إلاّ بعد أن يتفحّصها. إذن، في نهاية الكتاب (12: 8). ولكنّه جعل الخاتمة في بداية كتابه (كما يفعل كتاب عديدون)، استبق الأمور فقال: "كل شيء باطل " (1: 2). كان لدى الحكيم حدس أراد أن يدرسه. وقد نستطيع ترجمة 1 :2: "يبدو لي أنّ كل شيء باطل ".
إذن، يبرز سفر الجامعة كما يلي: الحالة الأولى. التحوّل (سؤال، جواب). الحالة النهائية. في الحالة الأولى: يبدو أنّ مجمل البحث القلق هو باطل (1: 2). ويطرح السؤال: ومع ذلك، أما يبقى شيء (3:1)؟ وبعد أن يتفحّص الحكيم مجمل المشاريع البشرية ينتهي إلى الجواب: لا، لا يبقى شيء. ونصل (بعد هذا التحوّل) إلى الحالة النهائية: إنّ مجمل البحث القلق هو باطل (8:12).

5- كيف يدرس الكاتب المشاريع البشريّة
هناك الجواب السلبي الذي يأتي سريعًا: كل شيء باطل. لا فائدة تُنتظر (2: 11)، ومع ذلك يتوالى الكتاب على مدى فصول عديدة (حتى 7:12). هنا نصل إلى مسألة التصميم: هو مجموعة خواطر(16). واكتشف البعض الآخر تصميمًا دقيقًا (17). من الواضح أنّ جا لا يشبه سفر الأمثال الذي يكتفي بجمع أقوال متفرّقة. ولكنّه ليس مقالاً يوسّع موضوعه حسب تصميم دقيق. هو بين هذا وذاك. يعود الموضوع عبر النصّ كلّه، وهذا ما تدلّ عليه الألفاظ والعبارات والجمل المتشابهة(18). ومنها السؤال الأساسي: "أيّ فائدة" (1: 3؛ رج 2: 22؛ 3: 9؛ 5: 10؛ 6: 8، 11)؟ هناك الأداة الاستفهامية "مه "= ما، ماذا؟ يستعملها قهلت عشر مرات مع ثماني مرّات حول السؤال عن الفائدة (ترد مرّتين في 8:6)، ويبقى نصان، 2:2: "ماذا ينفع "؟ ثمّ 12:2: ماذا سيكون الإنسان الذي يأتي بعد الملك؟ وصل الجواب سريعًا (2: 11). ولكنّ الحكيم يتابع بحثه فتمر كل المشاريع البشرية في الغربال.
ويتمّ الفحص على مرحلتين. في البداية شرح الحكيم في صيغة المتكلّم ما صنع (صنعتُ لي بِرَك ماء، 2: 5) وما قال في نفسه (قلت في نفسي، 1 :16). إنّ ضمير المتكلّم يسيطر على القسم الأوّل كلّه. ثمّ يتكلّم الحكيٍم عمّا رأى وعرف (صيغة المتكلّم)، عمّا صنعه الآخرون (صيغة الغائب): رأيت... إنسانًا رزقه اللّه (6: 1- 2). وينتقل إلى نصائح يوجّهها إلى آخرين (بصيغة المخاطب): إحذر (4: 17)، إفرح (11: 9). هذا يتيح له بادئ ذي بدء أن يقسم تفحص المشاريع البشرية إلى قسمين: اختبار شخصي واستنتاج شخصي (1: 12- 2: 26). ملاحظات وتوصيات للآخرين (3: 1- 12: 7). "باطل الأباطيل، قال قهلت ". قال هذا الكلام لنفسه (مونولوج)، وقاله للآخرين (حوار).
ولكن قبل أن يصل الكاتب إلى مشروعه الشخصي، يقدّم ملاحظة أولانية (1: 4- 11): ما يصنعه الناس الآن قد صنعه آخرون قبلهم، وسيصنعه آخرون بعدهم في المستقبل. وبعبارة أخرى، بعد أن روى خبرته الشخصية (القسم الاول) وما لاحظه عند الآخرين (القسم الثاني)، لن يعترض معترض: سيكون مشروعي مختلفًا. ستكون لي فائدة ونفع. يؤكّد الحكيم أن لا أحد يستطيع أن يخترع شيئًا جديدًا، ويستند إلى الطبيعة ليبرهن عن قوله. الأرض، الشمس (النار)، الريح (الهواء)، الماء. ونظام الطبيعة هو نظام الإنسان. ما يهمّ قهلت من الطبيعة هو أن توصله إلى مشاريع الإنسان العائش هنا "تحت الشمس ".

ج- نوعان من المشاريع البشريّة
1- اختبار شخصيّ واستنتاج شخصيّ (1: 12- 2: 26)
حين أراد الحكيم أن يجد جوابًا على السؤال عن الربح الذي يجنيه الإنسان من التعب الذي يتعبه، أخذ يتفحّص المشاريع البشرية. قال مرّتين إنّه سيدرس "كل" ما يصنعه الناس "تحت السماء" (13:1) أو "تحت الشمس " (1: 14). فكّر في القسم الأوّل بمشاريعه الخاصّة. لا ننسى أنّ هذا القسم يبدأ بالتأكيد على أنّ قهلت كان ملكًا (1: 12). نحن إذن، أمام مشاريع ملك، وهذا ما يعطيها قيمة خاصّة.

أوّلاً: مشاريع باطلة
عندما يلاحق الإنسان مشروعًا ما، فهو يهدف إلى اقتناء شيء له قيمته. أمّا الحكيم فلاحق مشروعين. المشروع الأوّل: الحكمة: "قلت في نفسي: ها قد عظّمت (جعلتها عظيمة، أكرمتها) الحكمة وأنميتها، أكثر من أي ملك كان قبلي في أورشليم. واختبرت الحكمة والعلم. واهتممت بمعرفة الحكمة، وبمعرفة الجنون والحماقة، فعرفت أنّ هذا أيضاً قبض ربح. من كثُرت حكمته كثُر غمّه، ومن ازداد معرفة ازداد ألمًا (1: 16- 18). المشروع الثاني: الغنى: "قلت في نفسي... بنيت لي بيوتًا وغرست لي كرومًا... واقتنيت العبيد والجواري " (2: 1-10). نستطيع أن نتكلّم عن الأفراح والخيرات الروحية، كما نستطيع أن نتكلّم عن الأفراح والخيرات المادّية.
تحاور الحكيم مع نفسه. "قلتُ في نفسي " (16:1؛ 2: 1). "قرّرت " (بعد نقاش) (3:2). لم يَدع الله الملك ليقوم بهذه المحاولة، ولم يدعُه بشر فالملك لا يتقبّل أمرًا من أحد. ثمّ إنَّه يمتلك كل الوسائل ليصل إلى هدفه. فمن يجرؤ على معارضته. بل، إنّ الكل يساعدونه. لهذا سينجح. لاحظنا أهمّية كلمة "كل " في بداية الكتاب. وها هو الملك يقول إنّه حصل على "كل " حكمة (1: 16)، على "كل " غنى (2: 5)، أكثر من أي انسان (أو ملك) كان قبلي في أورشليم (16:1؛ 7:2، 9). لم يحصل ملك على ما حصلت عليه. ولكن يشدّد النصّ على أنّ الملك قام بمجهودات ليحصل على هدفه. يريد أن لا ينقصه شيء. ويردّد النصّ في الآية الواحدة أو في الآيات المتعاقبة: صنعت لنفسي هذا أو ذاك (2: 4- 9). وتتنوّع الأفعال: بنى (2: 4)، غرس (2: 5)، صنع (2: 5). وكدّس (قهلت) الحكمة (1: 16)، والأموال (2: 8 مع الذهب والفضّة). وبكلمة أخرى، لم يَسقط هذا "الكل " من السماء كما يسقط المطر. فقد قام الملك بعمل مضنٍ . تَعِب قهلت، وها هو يفكّر في التعب الذي يتعبه الإنسان "تحت الشمس ".
وما كانت النتيجة؟ حين كان الحكيم يطرح مشروعه، أشار إلى النتيجة: "عرفت أنّ هذا قبض ربح " (17:1). ازداد حكمة وعلمًا فازداد غمًّا وألمًا (18:1). وقال عن الضحك: فيه جنون (2:2). وها هو قهلت يكرّس مقطعًا كاملاً للحديث عن النتيجة (2: 11- 22). ثمّ التفُتّ إلى (فكرت في) جميع أعمال، التفتُّ إلى الحكمة والجنون والحماقة. التفتّ إلى كل أعمال يدي، إلى كل التعب الذي تعبته (2: 11- 12). واستعاد العبارة التي أطلقها في بداية الكتاب (1: 3). يؤكّد الحكيم أنّ كل هذه المشاريع (غرس، بنى) هي نشاط مضنٍ . وتأتي الخلاصة بطريقة قاطعة: "كل شيء باطل وقبض ريح " (2: 11). إنّ عبارة "قبض ربح " تؤكّد ما قلناه عن "الباطل ". هو عابر لا يدوم. إذن، نصل إلى الخاتمة: "لا فائدة من كل هذا تحت الشمس " (2: 11). هذا هو الجواب على السؤال الذي طُرح في بداية الكتاب.
ويبرّر قهلت هذا الجواب ويظهر نسبيّته. حين نقول إنّ هذه المشاريع لا تحمل شيئًا للإنسان العائش تحت الشمس، تصبح موضوع هزء. فالحكمة أفضل من الجنون (13:2). والعمل الذي به نحصل على المال يمنح السعادة وبعض الفرح: هذا هو نصيب الإنسان، هذا هو جزاؤه (2: 10). ولكن تبرز نتيجة سلبيّة على هذه الأرض (تحت الشمس). فمن كثُرت حكمته كثُرت مسؤوليّاته وبالتالي همومه (1: 18). وهذا ما نقوله أيضاً عن الغنى. فالغني لا يقدر أن يرتاح حتّى في الليل (23:2؛ رج 5: 11). هناك الإيجابي وهناك السلبي أيضاً، وفي النهاية يأتي الموت الذي لا يميّز بين حكيم وجاهل، بين غنيّ وفقير (2: 14). ولن نحلم فنقول إنّ الناس سيتذكّروننا: "فليس من ذكر يدوم " (2: 16؛ رج 1: 11). إذن، زالت الحكمة مع الموت، والغنى لا يبقى لنا، لأنّه ينتقل إلى الخلف الذي يفعل به ما يشاء. سيتسلّط هذا الخلف على كل التعب الذي تعبته (العناء الذي عانيته)، على كل العمل الذي عملته بحكمة تحت الشمس. هذا أيضاً باطل. حينئذ يئس قلي (يئست) من كل التعب الذي تعبته تحت الشمس (19:2-20). تسيطرُ في كل هذا القسم كلمة "عمل " (تعب). مشروعنا ليس فقط عملاً بشريًا، بل هو تعب بشري وعناء، هو مجهود متواصل يرافقه القلق. بدأ قهلت تقديره للأمور بقول قاطع: كل الأبحاث المضنية لا تحمل ربحًا. إذن، كل شيء باطل (2: 11). وها هو ينهي تقديره بتضمين آخر يكرّر القول عينه ولكن بشكل سؤال خطابي (يفترض جوابًا سلبيًا): ماذا يبقى للإنسان من جميع تعبه ومجهوده (2: 22)؟ إنّ المشاريع البشرية تمنح فائدة محدودةْ. ولكنّها فائدة لا تدوم (هنا نعود إلى ما قاله آباء الكنيسة). فهل نعجب إن كره الحكيم مثل هذه الحياة (17:2)، مثل هذا العمل المضني (18:2)؟
النتيجة سلبية. إذن، كان المشروع رديئًا. يتواصل هذا البحث القَلق، هذا العناء المضني. أجل، صار العمل مصدر تعب وهموم. نحن هنا أيضاً أمام تضمين. تكلّم قهلت في 1: 13 (بداية القسم الأوّل) عن العناء الرديء الذي أعطاه الله للبشر، وها هو يعود إلى الفكرة عينها في 23:2. وهكذا سبَّق قهلت على استنتاجه. بدأ مشروعه فلاحظ أنّه وصل بنا إلى "لا شيء" إلى الباطل. فلام الله لأنه جعل في قلب الإنسان هذا العناء (13:1، هذه المهمّة، هذا العناء).
وهكذا يبرز القسم الأوّل حسب بنية منطقية:
* مشروع البحث (12:1- 15): عناء وتعب.
* مشروعان: بحث عن القيم الروحية (16:1- 18، الحكمة)، بحث عن القيم المادية (2: 1- 10، الغنى).
* الخاتمة: كل هذا بحث مضن، عناء وتعب (23:2).

ثانيًا: مشاريع نافعة
وجد الكاتب الجواب: لا فائدة من كل التعب. ويمكن الكتاب أن ينتهي هنا. ولكن ما يدهشنا هو أنّ قهلت يتابع البحث في المشاريع البشرية. لقد شجب البحث القلق عن الفائدة للحصول على "أكثر من الآخرين ". لإدراك الأفضل. وسيكون جوابه: "ليس أفضل للإنسان ". ويقدّم نمطاً آخر من المشاريع (2: 24- 26): "ليس أفضل للإنسان من أن يأكل ويشرب ويتذوّق السعادة في عمله. رأيت أنا أنّ هذا أيضاً هو من الله. فقد قال (الله): من يقدر أن يأكل ويشرب (أو ينعم) من دون علمي؟ إنّ (الله) يعطي الإنسان الصالح (الذي يرضى عنه) الحكمة والعلم والفرح. ولكنّه يعطي الخاطئ الاهتمام بالجمع والتكديس، فيعطيه هذا الخاطئ لمن يرضي الله. هذا أيضاً باطل وقبض ربح". (هناك من يقول: لا سعادة للإنسان إلاّ في أن يأكل ويشرب...).
توازي هذه القطعة بين الذي يرضي الله (الرجل الطيّب، طوب في العبرية)، وبين الخاطئ (حوطا في العبرية). أعطي الاثنان أن يعملا (لم يعطهما الرب شيئًا من الأشياء). أعطى الله الإنسان أن يعمل (آ 24)، أن جمل ويشرب (آ 25). إنّ الله يدعو الإنسان إلى العمل. وهذه العطيّة تفترض الكفاءة. فإن عَمِل الإنسان، وجد السعادة في مشروعه، في الأكل والشرب والعمل. هذان هما الحكمة والفرح اللذان ينعم بما من يُرضي الله (آ 26 أ). ومقابل هذا، يتوجّه الله إلى الخاطئ الذي أعطاه مهمّة لا أن يعمل بل أن يجمع ويكدّس. يعود بنا هذان الفعلان إلى اختبار قهلت الشخصي: جمع الحكمة (1: 16)، كدّس الأموال. ولكنّه فهم أنّ كل ما نجمعه ونكدّسه ينتقل في النهاية إلى آخر لا نعرف من أي نوع يكون. إذن، هذا المشروع هو باطل وقبض ربح. هذا هو العمل المُعطى للخاطئ. ظنّ قهلت في خبرته الشخصية أنّه يوجّه نفسه بنفسه، ولكنّه لم يفهم أنّ الله هو الذي يوجّه الفعل البشري. مثل هذا الإنسان هو خاطئ، وعمله لا يصل به إلى شيء. حينئذ يلوم الإنسان الله (1: 13. قال آدم: المرأة التي جعلتها معي، فلام الله تك 3: 12. ويقول الخاطئ هنا: الرب جعل هذه المهمّة للإنسان 1 :13).
يتعارض هنا نمطان من المشاريع البشرية، ويقدَّمان على أنّهما من عطايا الله. يُدعى الإنسان إلى العمل، والحياة البشرية تفترض مجهودًا. هذا يحسب نفسه موجِّه نفسه فيتعب ويعمل ليكدّس الحكمة والأموال، ليحصل على فائدة، ليبقى له شيء. وذاك يتعب ويعمل لا من أجل شيء يبقى، بل ليجيب على نداء الله. يأمل الأوّل أن يجد الحكمة والفرح في "زيادة" تتبع مشروعه. أمّا الثاني فيجد الحكمة والعلم والفرح (آ 26) في مشروعه نفسه (هو يعمل الآن، يحيا الآن). يمتلك معرفة الحياة وفرح الحياة (19) ولا يتعرّف إلى أتعاب الخاطئ الذي يقوم بمهمّته المضنية. فالحياة هي عبء للخاطئ وهي فنّ لمن عرف أن يعيشها جوابًا على نداء الله (أم 1: 5: يكتسب الحكمة دربة وفنّ توجيه حياته).

2- ملاحظات وتوجيات للآخرين (3: 1- 12: 7)
يمكن أن ينتهي الكتاب هنا، ولكنّه ينطلق انطلاقة جديدة. قدّم قهلت خبرته الملوكية الخاصّة كأنّها نموذج ومثال. وإذا كان الملك لم ينجح في الحصول على "زيادة"، فالآخرون لن ينجحوا أيضاً. وكان قد نبّهنا أيضاً أن لا جديد يمكنه أن يُصنعَ أيضاً. غير أنّه يوسّع نظرته على حالات أخرى. وهكذا يكون تعليمه أكثر إقناعًا. سنجد في هذا القسم الثاني المعارضة عينها بين نمطَيْ المشاريع اللذين وجدناهما في القسم الأوّل، وسنجد البراهين عينها.
ويتابع الحكيم برهانه: كل مشروع بشريّ يأمل في أن يصل إلى زيادة، هو مشروع باطل. وينتقد من جديد الذين يطلبون الغنى المادي ولا يضعون حدًّا لطبهم (5: 9: من يحبّ الفضة لا يشبع من الفضّة، ومن يحبّ الثروة لا تعود إليه الثروة). ويتحدّث عن الرغبة في أن يكون الإنسان بارًّا (صدّيقًا) بافراط (7: 16): يطب برّه الخاصّ وكماله وخلاصه كزيادة. ويشجب قهلت دومًا كل "زيادة وإفراط "، كما يشجب "أهل العَجَل والسرعة" (4:4، 8؛ لا تشبع عينه من الغنى، 5: 1: لا يعجّل فمك ولا يسارع قلبك، 7: 9، 16، 17؛ 3:8). نتحقّق أنّ هذا لا ينفع أحدًا (8:4)، وأنّ الزيادة لا تنفع (7:6)، ومع ذلك نتابع أتعاب نفوسنا. ويعود قهلت مرارًا إلى مسألة الفائدة (3: 9؛ 5: 10، 15؛ 8:6، 11). ولكن ماذا يبقى للإنسان (10: 11)؟ "عريانًا خرج من جوف أمّه، وعريانًا يعود إلى الموت " (5: 14؛ 6: 4). كل هذه الإفراطات باطلة ومدعاة للسخرية، ويُطرح بطريقة منتظمة سؤال آخر: من يدري، من يعرف (19:2 ؛ 3: 21؛ 8: 21)؟ فيعيد إلى بساط البحث كل مقتنيات الحكمة.
ويعود موضوع المشاريع النافعة (2: 24- 26) كردّة في القسم الثاني من الكتاب (12:3؛ 22:3 أ؛ 7:5؛ 15:8 أ؛ 7:9-9 أ؛ 7:11-12: 1 أ). وفي كل مرة، نجد عددًا من العناصر المشتركة: لا شيء أفضل، لا خير غير أن يدرك البشر(20). مشروع الأكل والشرب والعمل. هذه المشاريع يقدّمها الله. نجد السعادة في المشروع عينه (دائمًا أهمّية الحاضر يشدد قهلت على فعل عاش لا على الاسم المجرّد: الحياة). كان التفكيرفي المشاريع النافعة يقابل التفكير في المشاريع الباطلة. وحين يقول الحكيم "لا خير غير" فهو يعني أنّه يقابل شيئًا بآخر. نحن هنا في كل مرّة أمام ردّة تشكّل نهاية فكرة يتوسّع فيها الكاتب. وهذا ما يساعدنا على توزيع القسم الثاني (3: 1- 7:12) إلى ست قطعات تقدّم ملاحظات قهلت حول نشاط البشر.
القطعة الاولى (3: 1- 15) تبدأ: لكل أمر أوان ولكل غرض تحت السماء وقت. وتنتهي: فعلمت أنّه لا خير (آ 12). ينظر الكاتب في هذه القطعة إلى مجمل النشاط البشري من الوجهة السلبية والوجهة الإيجابية. "أعرف أن لا خير له إلاّ أن يفرح ويحصل على السعادة في حياته. ثمّ إنّ كلّ من يأكل ويشرب ويتذوّق السعادة في كل عمله، فهذا عطيّة من الله. أعرف أنّ كل ما يعمله الله يدوم مدى الدهر، لا يُزاد عليه شيء ولا يُنقَص منه شيء. وهو يعمل بحيث تكون خشيته أمامهم (أمام البشر). ما كان قبلاً فهو الآن، وما سيكون كان قبلاً، والله يُعيد ما مضى" (12:3- 15).
القطعة الثانية (3: 16- 22). تبدأ: "ورأيت تحت الشمس ". وتنتهي: "رأيت أن لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله، لأنّ هذا هو نصيبه. فمن يقوده ليرى ما سيكون بعده".
القطعة الثالثة (4: 1- 5: 19). تبدأ: "التفتُ ". وتنتهي: "فرأيت أنّ الأحسن والأليق بالإنسان هو أن يأكل ويشرب ويتذوّق السعادة في كل العمل الذي يعمله تحت الشمس مدّة أيّام حياته التي يمنحها الله له. فإنّما هذا نصيبه. ثمّ إنّ كل إنسان رزقه الله غنى كنوزًا أو أباح له (سمح له) أن يأكل منها ويأخذ حظّه ويفرح بعمله، إنّما هذا عطيّة من الله. لا يفكّر بأيّام حياته لأنّ الله يشغل قلبه بالفرح " (17:5- 19).
القطعة الرابعة (6: 1- 8: 15). تبدأ: "شرّ رأيته تحت الشمس ". وتنتهي: "ليس للإنسان خير تحت الشمس غير أن يأكل ويشرب ويفرح. فهذا يرافقه في عمله خلال أيّام حياته التي منحها الله له تحت الشمس " (15:8).
القطعة الخامسة (8: 16- 9: 10). تبدأ: "لمّا وجّهت قلبي " (اعتنيت). وتنتهي: "كل ما تصل إليه يدك من عمل، فاعمله بكلّ قوّتك ".
القطعة السادسة (9: 11- 12: 7). تبدأ: "التفتّ فرأيت ". وتنتهي: "واذكر خالقك... قبل أن يعود التراب إلى الأرض حيث كان، ويعود الروح إلى الله الذي وهبه " (7:12). لم يظهر الإيمان بالقيامة في أيّام قهلت، ومع ذلك فهو لا يستسلم إلى التشاؤم ولا إلى اللامبالاة. يتذرعّ بالشجاعة وينتظر عودة الروح إلى خالقها.
نلاحظ تدرّجًا صاعدًا في طريقة عرض المشاريع النافعة. حين يعلن الحكيم للمرّة الأولى خبرته الشخصية، فهو يقدّمها كإعلان بسيط (2: 24). في المرّتين الثانية والثالثة أسبَقها بعبارة: علمت (3: 12)، رأيت (3: 22)، ليشدّد على قيمتها. ويزيد التشديد في المرّة الرابعة: "إليك ما رأيته أنا" (5: 17). وفي المرّة الخامسة: "فمدحت الفرح " (8: 15 أ). وفي النهاية يقدّم الحكيم نصائحه: بصيغة الأمر: اذهب، كل، اشرب (9: 7- 9). ويقول له: "تنعّم " (11: 9- 12: 1 أ). ونلاحظ أيضاً أنّ الردّة تتكرّر سبع مرّات (مرّة في القسم الأوّل، ستّ مرّات في القسم الثاني). فهذا ليس صدفة والعدد 7 هو عدد الكمال. لقد لعب العدد نفسه دورًا هامًّا في تصوير سعادة أيّوب الكاملة. وأشار قهلت إلى كمال المشاريع النافعة التي يدعو إليها قارئه.

خاتمة
تقع الحياة البشرية بين قطبين يفترض الواحد الآخر هناك أوّلاً نمط المشاريع الباطلة. يبحث الإنسان بكلّ قواه عن الزيادة ولكنّه يكتشف في النهاية أن شيئًا لم يبق. صار الكل باطلاً وقادنا إلى كره الحياة. يسمّي قهلت هذا الشخص: الخاطئ الذي لا يخاف الله (13:8). يوجّه حياته بحياته: "الإنسان هو سيّد الإنسان من أجل شقائه " (8: 9).
ولكنّ هناك نمطاً آخر من المشاريع النافعة. يرى الإنسان القطبين ولكنّه يتوجّه بكل قواه إلى القطب الإيجابي ليجد سعادته لا في الزيادة والإفراط، بل في العمل (حين يعمل) وفي الحياة (حين يعيش). يسمّي قهلت هذا الشخص: البارّ، الذي يُرضي الله، الذي يعرف أنّ الله يوجّه حياته. وهذا يعدّه لقبول قطب الحياة السلبي، لأنّه يعرف أنّه هو في يد الله. أمّا سبب وجود هذين القطبين فيبقى امرًا سرّيًا. قد يكون جزءًا لا يتجزّأ من الإنسان الذي هو رجل وامرأة. كل تصرّف بشري يتأثّر بهذين القطبين: "أليس من بار على الأرض يصنع الخير دون أن يخطأ أبدًا" (7: 20)؟
النمط الأوّل هو الأكثر شيوعًا عند البشر، لهذا انطق منه الحكيم من أجل تفكيره: هل من فائدة؟ وانتهى إلى القول إنّ هذا المشروع باطل كلّه. حينئذ اكتشف المشروع النافع فأوصانا به. أن نقود حياتنا بنفسنا أو أن نقبل حياتنا من الله. أن نوجّه حياتنا أو نترك الله يوجّهها. هذا ما تجمله الآيات الأخيرة: "اتّق الله واحفظ وصاياه، هذا هو الإنسان كلّه " (13:12؛ رج 3: 14 ؛ 6:5؛ 18:7؛ 12:8-13). من يريد أن يوجّه حياته بنفسه يقدّم لنفسه المكافأة عن مشاريعه الخاصّة: إنّه يبحث عن الفائدة. ولكن إذا كان الله هو الذي يوجّه حياتنا، فهو الذي يكافئ: "الله يُحضر إلى الدينونة كل أعمال الإنسان " (14:12؛ رج 17:3؛ 9:11).
ينتمي سفر الجامعة إلى التيّار الحكمي الذي يقدّم لنا لاهوت الخلق. ونحن نجد في هذا الكتاب وضعًا يشبه وضع تك 2- 3. جعل الله البشرية (آدم) في الفردوس وما حصل عليه قهلت يشبه الفردوس (2: 1-. ا). في الفردوس طلب الله من الإنسان أن يعمل (تك 2: 15)، أن يأكل (تك 2: 16). هكذا يجد سعادته وينال العطيّة التي يمنحها الله لمن يرضيه، كما يقول جا. ولكنّ الإنسان طلب "الزيادة"، رغب في شجرة "معرفة الخير والشر"، طلب أن يتسلّط على كل شيء، كما طلب قهلت كل معرفة (16:1)، كل غنى (7:2). طلب أكثر من الآخرين لتكون له "الزيادة". أمّا نتيجة طلبه فكانت عملاً بشريًّا مضنيًا يحرمه من الراحة (تك 17:3- 19). تلك هي العطيّة التي يمنحها الله للخاطئ كما يقول سفر الجامعة.
وفي الختام، يقول لنا الحكيم: لا تتعلّق بالماضي فقد مضى، ولا بالمستقبل، فليس في يديك. عش الزمن الحاضر فهو لك. ويقول: اترك المشاريع الباطلة التي تريد فيها أن تتحدّى الله، تصل إلى الله، كما فعل بناة برج بابل. أمّا المشاريع النافعة فهي التي تجعلك أمام الواقع تتقبّله من الله وتسير فيه في مخافة الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM