الفصل الثاني عشر: اللفائف الخمس
 

الفصل الثاني عشر
اللفائف الخمس

اللفائف أو "مجلوت " هي خمس: راعوت، نشيد الأناشيد، الجامعة، المراثي، أستير. هي كتيّبات صغيرة تقرأ في ليتورجية المجمع بمناسبة بعض الأعياد. جمعت في فصل واحد لأنّها قصيرة، ولكنّ هذا الجمع لا يعني شيئًا بالنسبة إلى تفسير كل واحدةً منها.
وهي تتميّز بعضها عن بعض من جهة زمن التأليف والفنّ الأدبي واللاهوت. فنشيد الأناشيد وسفر الجامعة يرتبطان بتيّار حكمي واحد، ولكنّهما يختلفان اختلافًا عميقًا في الموضوع المطروق، في نظرتهما إلى العالم (متفائلة في النشيد، نقد لاذع في جامعة). هناك تقارب بين راعوت وأستير وكلاهما رواية تذكر امرأة من النساء بالخير، ولكنّ لاهوت راعوت هو على نقيض لاهوت أستير. يجعلنا سفر راعوت في إطار مسكوني شامل. (ارتباط داود بقبيلة موآبية). اما سفر أستير فيجعلنا ففي إطار وطني ضيّق (انغلاق اليهود على نفوسهم). أمّا سفر المراثي فهو يختلف عن سائر اللفائف بفنّه الأدبي (مرثاة في جنّاز) وعودته إلى التاريخ المرتبط بسقوط أورشليم سنة 587 ق م.
ترتيب الكتب في النسخة العبرية هو الذي نجده في مخطوط لنينغراد (سنة 1008) الذي يقدّم الكتيّبات الخمسة حسب ترتيب كرونولوجي. يرد أوّلاً را لأنّ الخبر الذي يورده يرتبط بزمن القضاة ويصل بنا إلى نسب داود. ثمّ نجد نش وجا وقد اعتبرا من زمن سليمان وتأليفه. ثمّ يأتي مرا الذي يرتبط بصورة خاصّة بإرميا وبصورة عامّة بالمنفى. أخيرًا، يرد أس الذي تتم "أحداثه " في الحقبة الفارسية. أمّا التقليد اليهودي الحديث فجمع هذه اللفائف حسب قراءتها خلال السنة الليتورجية، أي حسب تسلسل الأعياد. نش هو الأوّل لأنّه يقرأ في عيد الفصح. را هو الثاني لأنّه يُقرأ في عيد الأسابيع. ثمّ مرا في 9 آب (تذكار دمار الهيكل). الرابع هو جا في عيد المظالّ (أو الأكواخ). ويُقرأ اس في عيد الفوريم. ويختلف هذا التقليد عن التقليد اليهودي القديم الذي يُقحم اللفائف في مجموعة الكتابات وحسب ترتيب كرونولوجي عامّ.
هناك ترجمات حديثة تتبع التقليد الذي نجده في مخطوط لنينيغراد. وهناك ترجمات أخرى تتبع السبعينية فتجعل را بعد القضاة، اس بين الكتب التاريخية (بعد يهوديت)، مرا بعد إرميا، نش وجا بين الأسفار الحكمية.

I- اللفيفة الأولى: راعوت
يدهشنا هذا الكتيّب الصغير المؤلف من 85 آية موزّعة على أربعة فصول: فنّ أدبي رفيع، فكر لاهوتي متحرّر. هل نحن أمام قصّة حبّ تريد أن تُدخل في القلوب القيم التقليدية من تضامن بين الأفراد وولاء للعائلة؟ هل نحن أمام خبر "تاريخي " يعطينا مزيدًا من المعلومات عن أصل داود؟ هل نحن أمام كتاب يهاجم موقفًا متصلّبًا هو إصلاح عزرا أو السلطة التيوقراطية في أورشليم؟

أ- مسيرة الرواية
يبدأ الخبر بطريقين مسدودين أمام نعمى (زوجة أليملك) المرأة التي من بيت لحم، وأمام كنّتيها، عرفة وراعوت، اللتين من موآب. من جهة، يسيطر الجوع على أرض موآب، ومن جهة أخرى وجدت نعمى نفسها أرملة مع كنّتيها اللتين ترمّلتا ولم يكن لهما ولد. قرّرت نعمى أن تعود إلى موطنها الأصيل لأنّها سمعت، وهي في حقول موآب، أنّ الرب اهتمّ بشعبه ورزقه طعامًا (6:1). غير أنّها توسلّت إلى كنّتيها أن تبقيا في أرضهما في بلاد موآب. ذهبت عرفة إلى شعبها وآلهتها (1: 15) أمّا راعوت فظلّت على ولائها لعائلة زوجها، ففضّلت أن تذهب مع نعمى: "حيث تذهبين أذهب، حيث تبيتين أبيت. شعبك يكون شعبي وإلهك يكون إلهي. حيث تموتين أموت وهناك أدفن " (1: 16- 17).
حلّت العودة إلى بيت لحم العقدة الأولى، وفتحت الطريق المسدود. وصلت نعمى في بداية حصاد الشعير (1: 22). فاستطاعت راعوت أن تلتقط الحبّ وراء الحصّادين في حقل بوعز الذي من عشيرة اليملك (3:2)، وأن يكون لها الخبز الذي يشبعها هي وحماتها (ف 2). وبيقى الطريق المسدود الثاني: من المستحيل أن يكون نسل لراعوت ونعمى. حينئذ تخيّلت الحماة حيلة تستطع بها رِاعوت أن تقضي الليلة مع بوعز وتدعوه لأن يستعمل حقّ الافتداء فيتزوّجها ويقيم لها نسلاً (ف 3). ولكن برزت صعوبة أخرى. هناك قريب أقرب من بوعز إلى زوج راعوت وله حقّ الافتداء قبل بوعز. دعاه بوعز إلى أن يمارس حقّ الافتداء فيسترد الأرض التي كانت لأليملك. قبل الرجل بأن يمارس حقّه، ولكن لمّا أعلمه بوعز أنّ عليه أن يتزوّج براعوت أيضًا، تراجع. حينئذ استطاع بوعز أن يتزوج براعوت بطريقة شرعية. أعطاها ابنًا هو عوبيد الذي سيكون والد يسّى وجد داود. انحلّت العقدتان فدعت نساء بيت لحم نعمي لتفرح وتبتهج: "تبارك الرب الذي لم يُعدمك مفتديًا يُذكر اسمه في إسرائيل " (4: 14).

ب- الوجهة الأدبية
نحن أمام خبر قصير بشكل رواية. يرويه الكاتب في لغة نثرية تكاد تكون شعرًا. أمّا الوحدة الأدبية فلا تطرح مشكلاً. يحدّد الفصلَ الأوّل تضمين (آ 1- 2 وآ 21- 22) يذكر اسم بيت لحم وحقول موآب واسم نعمي، في حركة تذهب من بيت لحم إلى موآب، ثمّ من موآب إلى بيت لحم. وهكذا نقول عن ف 2 حيث آ 1 و 23 تدلاّن على رابطة القرابة بين نعمي وبوعز. امّا ف 3 فيبدأ وينتهي بتعليمة أعطتها نعمي لحماتها. والتعليمة الأخيرة أوصلتنا إلى ف 4 الذي يقودنا إلى ساحة المدينة (4: 1) ويصل بنا إلى النهاية مع زواج راعوت وبوعز وولادة عوبيد.
ويأتي النسب الأخير كملحق. يبدأ بعبارة نقرأها هنا كما نقرأها في سيرة الآباء: "وهذه مواليد" (توليدوت). هذا النسب ليس ضروريًا للخبر وقد قيل ما يجب أن يقال في آ 17. وما يدهشنا هو أنّ النصّ يذكر بوعز ويغفل اسم راعوت والنسل الشرعي الآتي من أليملك.

ج- متى ألّف سفر راعوت
هناك خلاف. قال بعضهم: بعد المنفى، فنحن أمام خبر تقوي بل هدّام. وقال آخرون. قبل المنفى: فالخبر قريب بأسلوبه من أخبار الآباء وكتاب صموئيل. وعاد الشرّاح إلى مضمونه، فشدّدوا على قدم شريعة الافتداء ومسؤوليّة الأخ تجاه أخيه المتوفّي.
يرتبط واجب الافتداء (يتزوّج الأخ بأرملة أخيه ويسترد أرضه) بالحقّ العائلي القديم.
قال التشريع القديم: إذا توفّي رجل ولم يترك لامرأته عقبًا، وجب على أحد إخوته أن يتزوّج الأرملة ويعطي نسلاً يذكر أخاه المائت (تث 25: 5-10). ولكنّ را أعطى معنى جديدًا لهذا الواجب. لقد تهرّب القريب الأقرب، فحلّ محلّه بوعز. ثمّ إنّ الشخص المهم (الذي يجب ان نذكره) ليس محلون، زوج راعوت، بل نعمي (17:4). وأخيرًا، لم تعد ضرورة تأمين النسل المنظورَ الوحيد. فهذه الضرورة جاءت في الدرجة الثانية بعد سعادة الأرملة: "يا ابنتي، إنّي أطلب لك حالة تكونين فيها سعيدة" (3: 1). وفي المعنى ذاته، ستبتهج نساء بيت لحم لما يمثل الولد، كما سيبتهجن للفرحة التي قدّمتها راعوت لنعمي: "سينعش قلبك ويؤمّن شيخوختك، لأنّ كنّتك التي أحبّتك قد ولدته. وهي خير لك من سبعة بنين " (15:4).
وأهميّة المباركات (2: 4 ؛ 2: 19- 20؛ 3: 10؛ 4: 14) هي عامل يوجّهنا إلى القول إنّ را دوّن في زمن قديم، لا بعد الجلاء: فشكل الصلاة هذا الذي انتشر في التوراة هو عتيق جدًّا ونجده في. سيرة الآباء.
ولكنّ هذا الجوّ العتيق قد يكون خلقه الكاتب. فالمقدّمة تحيلنا إلى زمن قديم قد مضى: "كان في أيّام القضاة مجاعة في البلاد" (1: 1). وعلى الكاتب أن يفسّر لقرّائه التقاليد القديمة التي يعود اليها: "وكانت العادة قديمًا في إسرائيل... أن يخلع الرجل نعله ويعطيها لصاحبه. كذا كانت صورة الشهادة في إسرائيل " (4: 7). وهناك عبارات متأخّرة. كل هذا يوجّهنا نحو فترة لاحقة لزمن المنفى. والأمر معقول، لاسيمّا وأنّ را وُضع بين سائر الكتابات وقدّم لنا نظرة شاملة لا ضيقة. هذا ما جعل الشرّاح يقولون إنّ هذا الكتيب دوّن في القرن 5 ق م أو في الزمن الذي تبع حالاً إصلاح عزرا بشأن الزوجات المُختلطة.
د- الخلفيّة البيبلية
يبدو خبر راعوت قريبًا من خبر تامار المذكور في تك 38. والتلميح إلى تامار واضح في 4: 12. وليس من قبيل الصدف أن يبدأ النسب الصغير المدوّن في خاتمة الكتاب، بفارص ابن تامار. فراعوت هي أرملة لا ولد لها، مثل تامار، وعليها أن تلجأ إلى الحيلة ليكون لها ابن. وفي الخبرين نجد تلميحًا إلى شريعة الافتداء. وفي الحالتين سيُعطى نسلّ خارج الطرق القانونية. وبفضل هذين النسبين تضمّن نسلُ داود بعدًا مجانيًّا يعطينا فكرة عجيبة عن حرّية الله المُطلقة.

هـ- التعليم في سفر راعوت
1- الأمانة ينبوع بركة
التعليم الأوّل في هذا- الكتاب التقوي: التشديد على الصفات العائليّة من عطف وحنان وأمانة. لهذا تخيّل الكاتب انقلاب الوضع لنعمي وراعوت وبوعز الذينِ أظهروا عطفًا وأمانة للآخرين. فمن علاقات مطبوعة بالأمانة (حسد في العبرية وتعني أيضَا المحبّة. رج 1 :8؛ 2: 20 ؛ 3: 10) لا ينتج إلاّ البركة والسعادة. والأمثولة الرئيسيّة هي التي استخلصها بوعز خلال لقائه الأوّل مع راعوت: "أخبروني بصنيعك مع حماتك بعد وفاة زوجك... جازاك الرب على صنعك، وليكن أجرك كاملاً من لدن الرب " (2: 11- 12). وتصرّف بوعز بدوره بأمانة ومحبّة تجاه راعوت. وهكذا ستعود السعادة إلى بيت نعمي. إذًا نحن أمام خبر تقوي تبرزمنه "حسد" (التي هي الصفة الأولى في العلاقات بين الله وشعبه) في العلاقات اليوميّة والعائليّة. وهكذا يكون را رواية لاهوتية صارت فيها العلاقات الإنسانيّة والبيتيّة والعائليّة الموضع الأوّل للبركة.

2- خبر نموذجي
إنّ أسماء الأشخاص تدعونا إلى قراءة الخبر قراءة جماعية. فلا اسم (ما عدا الأسماء المذكورة في 4: 17- 22 والتي تنتمي إلى الملحق النهائي) يذكر في سائر التاريخ التوراتي. إذًا، نستطيع أن نقرأ الخبر انطلاقًا من الأسماء التي أعطيت لكل من الأشخاص. اليملك: إلهي ملك. نعمي: أي نعمتي. محلون: المرض. كليون: الضعف. هذان الاسمان الأخيران يدلاّن على الموت القريب لابنَيْ نعمي. عرفة هي الرقبة التي نديرها لنعود أدراجنا. هذا ما فعلت عرفة كنّة نعمي الأولى. راعوت هي الرفيقة الصديقة وهي المعزيّة. ستبقى في رِفقَة حماتها وتعزّيها. بوعز هو القويّ الذي يعيد الأمل، ومُرّة هي المرأة التي لا تَعرف إلاّ الضيق. عوبيد هو الخادم والعابد للرب.
ونتوقّف عند شخص رئيسي في هذا الخبر. إنّها نعمي التي تقدم معنى رمزيًا جديدًا لاسمها: "لا تدعوني نعمي، بل ادعوني مُرّة، لأنّ القدير جعل حياتي مُرّة جدًّا" (1: 20). هل نحن هنا أمام مرارة المنفى (رج مر11: 4)؟
ونرى الأشخاص يقاسون شعبهم المصير المشترك. هُجِّرت نعمي، فاختبرت الجوع والمرارة وموت الزوج والولدين. هذه هي قصّة شعب إسرائيل الذي نزل إلى مصر بعد أن ذاق الجوع في أرضه. هذا في الماضي. وفي الزمن الحاضر، تألم الشعب وبكى وذاق مرارة المنفى. فمن خلال كل هذه المحن، اختبرت راعوت ونعمي (كما أختبر شعب إسرائيل) افتقاد الله الذي تحنّن على شعبه. فالله هو الذي يفتدي شعبه (رج أش 42: 1؛ 44: 22). كما افتدى بوعز راعوت وأعطاها نسلاً وأعاد الفرح إلى قلبها وإلى قلب حماتها.

3- الشمولية
لم ينحصر تعليم را في إطار عائلي ضيّق، في إطار بيت لحم، بل تضمّن نفحة الشمولية: فراعوت هي غريبة، بل هي موآبية ونحن نعرف احتقار العبرانيين للموآبين. ويعود النصّ سبع مرّات (1: 4: 22؛ 2:2،6، 21؛ 5:4، 10) مشدّدًا على أهل راعوت الموآبية. وستدهش راعوت نفسها حين تُستقبَل مثل هذا الاستقبال وهي الغريبة: "كيف نلت حظوة في عينيك حتّى تهتمّ بي (تتعرّف إليّ) وأنا غريبة" (10:2)؟ وهذه الغريبة التي هي مقبولة وموضوع إعجاب في قلب شعب الله ، قد خرجت من موآب العدوّ الكبير لشعب إسرائيل. وقد كان التشريع الاشتراعي قاسيًا جدًّا بالنسبة إلى موآب الذي لا يحقّ له كما يحقّ لأدوم ومصر أن يشاركا في الاحتفالات الطقسيّة إن توافرت فيهما بعض الشروط. فالموآبيّون مرذولون دومًا (تث 23: 5- 7: لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب... إلى الأبد) بسبب عدائهم لبني إسرائيل في أيّام الملك بالاق (عد 23:22). حينئذ بدت راعوت الموآبية المهتدية النموذجية. هذا ما قالته التعاليم اليهودية الرئيسية وأعلنه تيودوريتس القورشي الذي رأى في راعوت مثال الأمم الوثنية الراجعة إلى الله. ما اكتفت بأن تختار شعب نعمي بتعابير تشبه تعابير العهد الكلاسيكية: "شعي يكون شعبك، وإلهي يكون إلهك " (رج ار 31: 33). بل، إنّ أمانتها (حسد: محبّتها) أدهشت أهل بيت لحم فدُعيت لأن تلعب دورًا أوليًا في سلالة المسيح الداودي. إذا كانت جدّة داود موآبية، لا إسرائيلية، فهذا يعني أنّ الله يحبّ الغريب ويحامي عنه. وهذه هي العبرة التي أخذها متّى والاجيال المسيحية الأولى فأدخلوا اسم راعوت في سلسلة نسب يسوع (مت 1: 5).


4- الله في قلب التاريخ
إنّ مسيرة الأحداث لا تتمّ من دون تدخّل الله. هذا ما أختبرناه في را وسنختبره في أس. لا يُذكر الله مرارًا كثيرة، وإنّ قراء ة سريعة تدلّ على توسّع يوجّهه "الحظ " (2: 13) أو مبادرات نعمي وراعوت وبوعز المتعاقبة. ولكنّ القارئ يحسّ سريعًا أنّ الله هو الذي يقود مسيرة التاريخ من أجل الأشخاص الرئيسيين الثلاثة. وثقت نعمى أنّها ستجد خبزًا في أرض يهوذا لأنّها سمعت أنّ الرب اهتمّ بشعبه (6:1) وفهمت أنّه المسؤول الأخير عن مصيرها (1: 21- 22، 2: 20). ونقول القول عينه عن راعوت (7:1) حين اختارت أن ترافق حماتها إلى أرض يهوذا. وسيفسّر بوعز بدوره سعادة لقائه براعوت كبركة جاءته من السماء (12:2- 20؛ 3: 10). وأخيرًا، حيّتِ نساء أورشليم النهاية السعيدة للخبر بمباركة وجّهتها إلى الله: "تبارك الربّ الذي لم يعدمك اليوم مفتديًا" (4: 14). حضور الله حضور صامت وخفيّ ولكنّه حضور فاعل وعطوف وهو يجعل الأشخاص يتجرّأون على العمل بعد أن ملأهم ثقة بحبّ الله.

5- دور النساء
في عالم الأنساب الذي لا يتضمّن إلاّ اسم رجال، تبدو صورة راعوت حلقة مهمّة. ونحن نكتشف الدور الذي لعبته راعوت ونعمي، ليس فقط في تواصل السلسلة الداودية، بل في التعبير عن إيمان شعب إسرائيل. وهذا ما دفع بعض الشرّاح إلى التحدّث عن "إنجيل المرأة" في معرض حديثه عن سفر راعوت. فالنساء هنّ سيّدات المسرح: يتخذنّ المبادرة، يفسّرنّ الأحداث. وإن ارتبطن بأجداد داود الرجال، فلهنّ استقلالهنّ. وإنّ النصّ يشدّد بصورة مدهشة على سعادتهنّ الشخصيّة.

II- اللفيفة الثانية: نشيد الأناشيد
1- المقدّمة
هذا الكتاب هو موضوع جدال. نشيد حبّ (أو أناشيد) يحتلّ مكانته بين أسفار التوراة. نشيد غرامي يتوقّف فقط عند جمال الجسد ولا يتحدّث عن الله ولا عن مضمونه أو السبب الذي من أجله وُضع هذا السفر بين أسفار العهد القديم.
إنّه نشيد الأناشيد اي أفضل الأناشيد. نجده في التوراة العبرية بين سائر الكتب، لاسيمّا بين المدارج (اللفائف) الخمسة. إنه الثاني بعد راعوت، ويسبق الجامعة والمراثي وأستير. ناقش الرابّانيون قانونيته، ثمّ اتّفقوا على إدخاله في اللائحة القانونية للأسفار المقدّسة في مجمع يمنية الذي عقد سنة 90- 100 ب م. لولا الرجوع إلى التفسير الرمزي، لما صار هذا السفر أحد الأسفار المقدّسة.
أمّا السبعينية فجعلت نشيد الأناشيد بين الكتب التعليمية أو الكتب الحكمية، ووضعته بين الجامعة وأيّوب. أمّا الشعبية اللاتينية فجعلته بين الجامعة والحكمة. أمّا في السريانية فنشيد الأناشيد هو بين راعوت وأستير.
ونذكر أنّ هذا السفر وجد مكانته في الليتورجيا اليهودية فتلته الجماعة (قبل بداية القرن الخامس ب م) في اليوم الأوّل من عيد الفصح لأنّه يشير إلى أولى علاقات الحبّ بين الله وشعبه.

2- من كتب سفر النشيد ومتى كتب
نُسب إلى سليمان (1: 1)، كما نُسبت إليه سائر الأسفار الحكمية. أمّا السريانية البسيطة فتعنونه: حكمة الحكمات التي لسليمان. ولقد حاول البعض أن يُرجع زمن تأليف هذا السفر إلى أيّام سليمان بسبب ما نجد فيه من تقليد قديم وكلمات مهجورة. ولكنّ اللغة والأسلوب يقوداننا إلى القرن الخامس وربّما إلى القرن الثالث ق م.
عاد الكاتب الأورشليمي إلى عناصر قديمة (3: 6- 11؛ 6: 4) وإلى قصائد أنشدها شعب لبنان وأمانة وسنير وحرمون وترصة وجلعاد (4: 1 ؛ 6: 5) في احتفالاتهم بالزواج، فقدّم لنا هذه التحفة الشعرية.
ذكرنا الشاعر بسليمان في ثلاثة نصوص. في 1: 5 شبّه لنا الحبيبة بسرادق سليمان. وفي 7:3 ؛ 9: 11 اسمعنا نشيد حبّ عن سليمان في يوم فرحه كيف توّجته أمّه. وفي 8: 11- 12 يُشير الكاتب إلى أنّ الملك الحقيقي ليس سليمان كما يعرفه التاريخ. أخذ الحبيبُ حبيبته التي يمثّلها الكرم، وترك لسليمان غناه الذي يرمز إليه ألف الفضّة.

3- تفاسير نشيد الأناشيد
اختلف دارسو الكتاب المقدّس على طريقة تفسير سفر النشيد.
هناك التفسير الرمزي الذي يعود أقلّه إلى القرن الأوّل ب م. تشكّك الناس من هذا الشعر الغرامي فقدّموا هذا التفسير. هناك أعراس تاريخيّة تدلّ على ارتباط قبائل الشمال مع حزقيال في أواخر القرن الثامن ق م. ولكن ظهرت عداوة أبناء يهوذا. أو تدلّ على ارتباط شعب إسرائيل بالشعوب الوثنية. وهناك اعراس صوفيّة سمّاها التلمود والترجوم أعراس الرب مع شعبه. هي أعراس في وقت محدد. مثلاً الرجوع من الجلاء، أو هي أعراس تمتدّ إلى كل حياة بني إسرائيل وبالتالي إلى تاريخ الكنيسة.
والتفسير الروحي يفتح أمامنا طريقين. الطريق الجماعي الذي يتعلّق بزواج الله بشعب إسرائيل. بزواج المسيح بالكنيسة (أوريجانس، أيرونيموس). بزواج المسيح بالبشرية. والطريق الفردي الذي يربط الله أو المسيح بنفس الإنسان، أو الروح القدس بمريم العذراء، (القدّيس برنردس)، أو سليمان بالحكمة. وتوسّع الشرّاح في هذا التفسير الروحي، فدلّوا على صعود الإنسان إلى الله ، أوعلى جواب الإيمان بالنسبة إلى الله الذي اقترب من الإنسان.
لن نتوقّف عند التفسير العبادي الذي يعتبر النشيد ترجمة لليتورجيا وثنية إكرامًا لإله يموت، فيذهب إلى الجحيم يبحث عن حبيبته، ولا عند التفسير الدراماتيكي الذي يشدّد على الأمانة الزوجيّة (لا يتخلّى الراعي عن راعيته رغم محاولات سليمان). ونشير إلى التفسير الطبيعي الذي يرى في هذا السفر مجموعة أناشيد حبّ جاءت من مصر أو من الشرق الأدنى، والذي ينفي أيّ معنى ديني.
وهناك أخيرًا التفسير النمطي. هذا التفسير يحافظ على المعنى الحرفي، ولكنّه يصل إلى المعنى الكامل. فحبّ سليمان لامرأته يمثّل اتحّادًا سرّيًا بين يهوه وشعب إسرائيل، بين المسيح والكنيسة. حبّ سليمان هو خير في حدّ ذاته، ولكنّه يشير إلى حبّ آخر. نذكر هنا أنّ التوراة تشدّد على جمال بعض النساء، على سارة (تك 12: 11- 14) ورفقة (تك 26: 7؛ 16) وراحيل (تك 29: 7) وأبيجائيل (1 صم 25: 3) وبتشابع (2 صم 11: 2) والشونمية (1 مل 1 :3 ي) وأستير (أس 7:2، 15) ويهوديت (يه 19:10). وتتحدّث عن جمال بعض الرجال مثل يوسف (تك 6:39) وموسى (خر 2: 2؛ أع 7: 20) وشاول (1 حم 9: 2) وداود (1 صم 16: 12؛ 17: 42) وأبشالوم (2 صم 25:14؛ رج نش 7:4) وأدونيا (1 مل 1 :6) والفتيان الثلاثة (دا 1 : 4).
ولا ننسى نصّ سفر التكوين (33:2- 24) الذي يتحدّث عن أوّل حفلة زواج في الكون حيث يترك الرجل أباه وأمّه ويلتصق بامرأته فيصير الاثنان جسدًا واحدًا. من أجل هذه الوحدة، يبحث الحبيب عن حبيبته. ومن أجل هذه الوحدة يبحث الله عن شعبه، والمسيح عن كنيسته.

III- اللفيفة الثالثة: سفر الجامعة
أ- الوجه الأدبي
تجادل علماء اليهود قبل أن يُدخلوا سفر الجامعة في لائحة الأسفار القانونية، وما زال الشرّاح يختلفون اليوم على كيفية فهمه، معتبرينه كتابًا صعبًا محيّرًا لا يليق بالمؤمن، كتابًا متشائمًا يدفعنا إلى القلق. فكيف نفسّره؟
انعكست الشكوك حول قانونيته في الملحق (12: 9- 14) الذي تركه المدّون الأخير فسعى إلى تبرير أقوال الحكيم في سفر الجامعة. لا يرد أيّ نصّ واضح من جا في أسفار العهد الجديد (ما عدا 7: 20 في روم 3: 10- 12 و 11: 5 في يو 8:3)، والرابّانيون تجادلوا فانقسموا حول وضعه القانوني. لم يدخل جا بعد في الليتورجيا المقدّسة، ولا في قلب المسيحيين. كل هذا يبيّن تشعّبًا في أقوال جا. ولكنّ هذا التشعّب يتيح للمؤمنين أن يجدوا نفوسهم في تساؤلاته، في بحثهم عن الله وعن معنى الحياة.
يحمل إلينا جا شيئًا حديثًا في لهجته واسلوبه. إنّه في خطّ الوجودييّن المعاصرين حين يشدّد على الاختبار المُشترك بين البشر. نجد عنده الصدق والنحافة وعددًا من الاختبارات البشرية: السعادة سريعةِ العطب، عودة الأشياء كما في دولاب، لا خلاص من تهديد الموت، سرّ الزمن، مخاطر العمل وتوالي الأجيال، محنة الشيخوخة والموت.
صدقه الكبير وبحثه عن المطلق دفعاه إلى رفض النظريات "الحلوة" واليقينات التي "تطمئننا". قال عن عدد من المغامرات والاختبارات البشرية: هذا باطل، هذا قبض ريح. إنّه ينتقد اللاهوت باسم الحكمة (مثل أيّوب)، فيفرض علينا أن نواجه النظريّات مع معطيات الاختبار.
أخيرًا، إنّ محاولة جا تلتقي وتساؤلات الإنسان حول مصيره. إنّ هذا "الحكيم " يعيش إيمانه بشكل تساؤلات. ففي الفصول العشرة الأولى لا نجد أقلّ من 26 سؤالاً: أيّة فائدة؟ ماذا يبقى؟ لماذا؟ ايّ فرق (1: 3 ؛ 2: 12، 19، 22، 25؛ 3: 9، 21، 22؛ 4: 11؛ 5:5، 10، 15؛ 6:6، 8، 12 ؛ 7: 10، 13، 16، 17، 24؛ 8: 1، 4؛ 14:10)؟
متى دوّن جا؟ هو كتاب متأخّر، وقد دوّن حوالي سنة 250 ق م. فني لغته كلمات تنتمي إلى العبرانية المتأخّرة او إلى الأرامية. ثمّ إنّ ابن سيراخ قد عرف جا وحاول الردّ عليه. قابل 12:3 ؛ 14:7 ؛ 9: 10؛ 9:11 مع سي 14: 11-19؛ 15:2-16؛ 41: 11- 13 (حسب العبري). وقد عرفه أيضا حك، فعكس ف 2 و5 مواقف جا واتّخذ موقفًا معارضًا له. وُجدت أجزاء من جا في قمران، تعود إلى سنة 150 ق م.
أمّا من حيث البنية الأدبية، فلقد قال الشرّاح مرارًا إنّ جا يتألّف من أقوال متقطعّة غير متماسكة وغير مرتبطة بأيّ رباط منطقي. لا شكّ في أنّ الكاتب يجيد استعمال المفارقة والقول الشعبي، ولا يهمّه الترتيب المنطقي في خطّ واحد. ولكن يبقى أنّ هذه الاعتبارات جُمعت في كتيّب بدأ بمقدّمة (1: 2) وانتهى بخاتمة (8:12) تشكّلان تضمينًا واحتواء. أمّا الملاحظة الأخيرة التي دوّنها الناشر (12: 9- 14) فهي تقدّم لنا قهلت (أو الجامعة) مثل حكيم يعيد النظر في اقوال الحكماء.
كان العلماء يعتبرون البحث عن بنية إجمالية محاولة خطرة. ولكن جاء من يدرس وحدات متمايزة. وقد تصل بنا هذه الدراسات إلى التشديد على بعض المواضيع ولاسيمّا الفرح أو أهميّة الحاضر في حياة الإنسان.


ب- التعليم
1- معنى محاولته اللاهوتية
محاولة "الحكيم " اللاهوتية محاولة رائد يستكشف الحياة، محاولة اختبار وتجريب. نجد عنده تلميحات إلى منهجه المؤسَّس على الملاحظة والخبرة. رأى (37 مرّة: رأيت كل الأعمال التي تعمل تحت الشمس. رج 1: 14)، عرف (17:1: اهتممت بأن أعرف الحكمة وأعرف الجهالة. فعرفت أنّ هذا أيضًا هو قبض ربح). طلب وبحث (13:1: فوجّهت قلبي ليطلب ويبحث بالحكمة عن كل ما صُنع تحت السماء)، فكّر، وجّه قلبه، امتحن (2: 1: هلمّ فأمتحنك بالفرح)، وجد (8:7: طلبت فما وجدت)، إلتفت (2: 12: التفتُ لأنظر في الحكمة والجنون والحماقة)، حاول أن يعرف... لإنّ "الحكيم " هو باحث يريد أن يفهم وأن يجد معنى للواقع البشري.
يريد أن يكون بحثه جذريًا، وهو يتوّجه إلى الواقع كلّه. نلاحظ عنده تواتر لفظة "كلّ " (13:1؛ 3:2، 3: 1)، وقت لكلّ شيء (2:3-8). هو لا يستيعد شيئًا، بل يهتمّ بكل ما يكّون الحياة.
وأخيرًا، إنّ بحث "الحكيم " يقوده إلى الإحساس بضعف الإنسان. إنّه سريع العطب. إنّه باطل (نجد الكلمة 38 مرّة في جا و 35 مرّة في كل التوارة). قليلة هي الأمور التي تفلت من الحُكم الذي يصدره الحكيم على بطلانها. كل شيء باطل: الأعمال التي تصنع (1: 14)، خبرة السعادة (2: ا)، عمل الأيدي (2: 11)، الحكمة (2: 15)، توالي الأيّام والليالي (2: 23)، المال والترف (5: 9)، كثرة الكلام (6: 11)، ضحك الأحمق (7: 6)، العدالة (8: 14)، الشيخوخة (11: 8)، الشباب (11: 10).

2- الجامعة وسرّ الوقت (3: 1- 12)
يتميّز هذا المقطع بعمقه وهو أكبر توسيع نجده في التوراة حول سرّ الوقت والزمان. إنّ بنية 3: 2- 8 تبدو في سلسلة من التناقضات (سلي، إيجابي). تبدأ القصيدة (آ 2) وتنتهي (آ 8) في جوّ إيجابي. ويظهر تشعّب الوقت وغناه على مستوى الألفاظ. يستعمل الكاتب هنا ثلاث كلمات: زمان (كذا في العبرية) وهو يدلّ على كمّية الوقت، الوقت الذي نستطيع أن نعدّه ونقيسه. "عت " (نجد هذه الكلمة 30 مرّة في هذا المقطع و 10 مرّات في سائر الكتاب). يدلّ على الزمن النوعي أو الكيفي. من هنا التشديد على الفصل، على الزمن المؤاتي، على الظرف. وتذكر القصيدة كلمة عولام (رج في السريانية: الابد) فتحيلنا إلى وجهة أخرى من الوقت تعود إلى الله. "عولام " هو الزمن الكامل، المدى الأبدي، زمان الله.
ما هو معنى هذه السلسلة من التعارضات وتنوعّ الألفاظ التي تتحدّث عن الوقت؟ هل يجب أن نقرأ سلسلة التعارضات بطريقة متتابعة؟ حينئذ يكون الكاتب قد لاحظ أنّ الحياة مركّبة، أنّها تتابعُ عناصر ونشاطات متعارضة يُلغي الواحد الآخر. هل يجب أن نقرأ هذه السلسلة قراءة جبرية؟ حينئذ يوافق الحكيم على القول إنّنا، مهما فعلنا، لا نقدر أن نمنع وجود المضادّات. هل يجب أن نقرأ هذه السلسلة قراءة حصرية؟ حينئذ نجعل الكاتب يدافع عن موقفه فيختار هذه الإمكانية (أو تلك) التي يقدّمها الوقت.
يمكننا القول إنّ القصيدة تبيّن سرّ الوقت والالتباس المحيط به. إنّه نعمة (عطيّة الله) ومناسبة حرّية (فيه يقرّر الإنسان عملاً ما). يتألّف الوقت من ظروف عديدة: ما يجب على الإنسان أن يعمله هو أن يُدخل الظرف العابر في سرّ عميق ودائم هو سرّ وقت الله.

3- إيمان قهلت أي الحكيم
يصل الحكيم في تساؤلاته وقلقه إلى النهاية، ولكنّه يبقى رغم كل ذلك مؤمنًا كبيرًا. فإيمانه يستند إلى القول بأنّ خليقة الله صالحة وثابتة. قال: "أعرف أنّ كلّ ما يصنعه الله يدوم إلى الأبد، لا يزاد عليه ولا ينقص منه " (3: 14). هذا ما قاله سائر الحكماء. واقتدى الحكيم بالأنبياء فرفض شعائر عبادة "وثنية" (17:4- 5: 26) تتغلّب فيها كثرة الكلام على سماع لكلمة الله وعلى احترام لسرّه. وإنّ أقوال قهلت عن الموت يرافقها رجاء مملوء بالشجاعة. هو لا يؤمن بعد بالقيامة، ولكنّه يعلم أنّ الإنسان ينطلق إلى دار أبديّته (12: 5) وأنّ "النفَس يعود إلى الله الذي وهبه " (7:12). نحن هنا أمام شعور هادئ ونبيل لدى الإنسان الذي جهل ما يقوله الإنجيل عن الحياة الأخرى.

4- كل شيء باطل أوكل شيء نعمة
ما يدهشنا في هذا الكتاب المشهور بتشاؤمه، هو أنّه يزرع اعتباراته بأقوال على السعادة. ففي داخل المقاطع التي تندِّد ببطلان الواقع البشري، نجد سبع اعتبارات حول السعادة: "لا خير للإنسان إلاّ أن يأكل ويشرب ويذيق نفسه الهناء، بتعبه " (2: 24) "فعلمت أن لا خير للإنسان سوى أن يفرح وتطيب نفسه في حياته " (3: 12). "فرأيت أن لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله " (3: 22؛ رج 17:5؛ 8: 15؛ 7:9- 9؛ 7:11- 9). في كل مرّة يقدّم الكاتب حكمه (طوب: خير)، وفي أربع مرّات يكون كلامه مطلقًا: لا شيء خير (24:2؛ 12:3- 22 ؛ 15:8). وفي كلِ مرّة، يعود الكاتب إلى الفرح أو التنعّم فيدعو تلاميذه إلى تذوّق السعادة. ونلاحظ أيضَا تدرجًا في طلب الفرح: ينتقل الكاتب من الملاحظة البسيطة (2: 24) إلى مديح غير مشروط للفرح: "فمدحت الفرح لأنّه ليس للإنسان خير تحت الشمسي غير أن يأكل ويشرب ويفرح " (8: 15؛ رج 7:9- 9 ؛ 7:11- 9). إذن، نلاحظ مع "ناشر" الكتاب الناحية المتفائلة في محاولة "الحكيم " اللاهوتية. "جدّ الحكيمُ (قهلت) في طلب أقوال تُعجب " (10:12).
إذا أردنا أن نكون عادلين في حكمنا على جا، يجب أن نتجاوز الشعور الأوّل الذي نحس به أمام الردّة المتُكرّرة: كل شيء باطل. لأنّ الحكيم أدرك بقوّة وشعورِ دقيق أنّ كل شيء باطل. ولكنّه ظلّ ذلك المتعطّش إلى المُطلق والباحث عن السعادة بحثَا دائمًا، ظلّ ذلك العارف أنّ الأفراح البسيطة اليومية هي عطايا حقيقية من الرب.

IV- اللفيفة الرابعة: المراثي
إنّ سفر المراثي هو إحدى تحف الشعر الغنائي في أرض إسرائيل، وهو قريب جدًّا من مزامير التوسّل، ومن سفر ايّوب. يعالج هذا السفر بجرأة وواقعيّة المأساة التي عاشتها جماعة يهوذا خلال أحداث سنة 597- 587، وهي أعمق مأساة في كل تاريخ بني إسرائيل. تتساءل الجماعة عن إيمانها، عن تصرّف الله تجاهها بعد الساعات الرهيبة التي طبعت بطابعها سقوط أورشليم والإقامة في المنفى.

أ- المجموعة
يتألّف مرا من 5 فصول، ويتألّف كل فصل من 22 آية. وهو يبدو بشكل مجموعة قصائد موحّدة تدور حول أحداث سنة 597- 0587 القصائد الأربع الأولى هي أبجدية، بمعنى أنّ البيت الأوّل يبدأ بالحرف الأوّل (ألف) والبيت الثاني بحرف الباء... أمّا الفنّ الأدبي العامّ فهو فنّ الرثاء. تبدأ كل قصيدة بسؤال يعبّر عن ضياع شعب لا يفهم ما يحصل له ولا يفقه تصرّف الله تجاهه. "كيف؟ " "كيف جلست وحدها المدينة الآهلة بالشعب " (1: 1)؟ "كيف أحّل الرب الظلمة على صهيون الجميلة" (2: 1)؟ "كيف كدر الذهب وتغيّر النضار الخالص وتبعثرت الحجارة المقدّسة (اي سكان أورشليم) في رأس كل شارع؟ كيف حُسب بنو صهيون آنية من فخار" (4: 1- 2؛ رج 2 صم 1: 19، 25، 27؛ إر 18:9؛ 50: 23 ؛ 51: 41 ؛ حز 17:26؛ صف 5:2 1)؟ يتميّز ف 5 عن سائر الفصول: فهو أقصر منها، وليس أبجديًّا. يبدو بشكل صلاة (تسمّيه اللاتينية الشعبية: صلاة النبي إرميا) ويشبه صلوات التوسّل الوطني (رج مز 74).
ونتوّقف عند كل مرثاة من المراثي.

1- المرثاة الأولى (ف 1)
يدعو الكاتب القارئ لكي يتأمّل في مشهد صهيون الحزين، صهيون التي سكنها شعب كثير (1: 1) والتي صارت الآن أرملة باكية، أرملة حرمت من أولادها. خانها ملكها فذلّت، وما عادت تكفيها تعزية "في أيِّام بؤسها وشقائها" (7:1). يُقسم الفصل إلى جزئين متميّزين. الأوّل (آ 1- 12) هو رثاء على أورشليم. في الثاني (آ 13: 22) تتكلّم أورشليم فتعبّر عن ألمها: تضايق قلبها (1: 20) وصارت سقيمة (1: 22). ويكشف الفصل كلّه عن ينبوع هذا الضيق العميق. وأكثر ما يؤلم أورشليم هو بُعد الله وغيابه: "لا معزّي لها" (1: 2، 9، 16، 17، 21). كم نحن بعيدون عن لهجة أشعيا الثاني المليئة بالتفاؤل: "عزّوا، عزّوا شعبي " (أش 1:40).

2- المرثاة الثانية (ف 2)
يتوسّع الاطار في هذه المرثاة. لم نَعد فقط أمام أورشليم (صهيون) ويهوذا، بل أمام "جميع مساكن (مراعي) يعقوب " (2: 2)، أمام كلّ قوّة (قرن) إسرائيل (2: 3). يصوّر الكاتب الذين أصابتهم المأساة أي كل الشعب: الملك والكاهن (2: 6)، الملك والأمراء (2: 9)، الأنبياء (2: 9، 14) والشيوخ (2: 10)، الأمّهات (2: 12)، الطفل والرضيع (2: 11) والصبايا (العذارى: 2: 10). ويتعمّق الكاتب في تحليله للأزمة. أمّا الموضوع الرئيسي فهو غضب الله. هكذا تبدأ المرثاة (2: 1: بغضبه)، وهكذا تنتهي (2: 22: يوم غضب الرب). يبدو أنّ الله جهل العهد جهلاً تامًّا وداسه، وأنّه نسي أن يتصرّف كإله العهد: "لا يتذكرّ موطئ قدميه " (2: 1)، "لا يمدّ يده على العدو" (3:2). "يتصرّف كعدو" (2: 5). أبعد مذبحه وقرف من معبده " (7:2). وخلاصة الكلام، ترك العنان لحدّة غضبه (2: 6). ونجد في هذا الكلام بداية إقرار بالمسؤولية (2: 14) ترافقها حركات توبة (2: 10) ودعوة إلى الصلاة (19:2).

3- المرثاة الثالثة (ف 3)
هي أشهر المراثي الخمس. إنّها متعدّدة العناصر، وهي تتميّز عن غيرها: هي أبجدية في الأشطار الثلاثة التي تشكّل كل آية من آياتها: أني (في العبرية أنا)، أوتي (أتى بي). أك (نعم). يتكلّم رجل باسم الشعب وفي صيغة المتكلّم المفرد (أنا): قد يكون النبيّ. ويتمّ الانتقال من الرثاء الفردي (آ 1- 18، 52- 66) إلى الرثاء الجماعي (آ 40- 51) مع ذكر صلوات واثقة (آ 22- 27، 55- 60). هذه المرثاة قريبة من أناشيد عبد الله التي نقرأها في أشعيا، ومن اختبار إرميا النبي (ق 3: 14 وإر 7:20؛ 3: 48- 51 وإر 17:14). تشكّل آ 33 قلب الفصل وقد تساعدنا على فهم الكتاب كلّه: لم يرذل الله شعبه بصورة نهائية (آ 31): لا يريد الرب بكل قلبه أن يصل الذلّ والألم إلى البشر

4- المرثاة الرابعة (ف 4)
تشبه المرثاتين الأولى والثانية باللغة والأسلوب، وتستعيد مواضيعهما الرئيسية. يصوّر الكاتب بلغة مؤثّرة الجوع المسيطر (آ 1- 2) ويذكر أنّ غضب الله وصل إلى أقصى حدوده (آ 11). أمّا المسؤولون عن الكارثة فهم الأنبياء والكهنة: "بسبب خطايا أنبيائها وآثام كهنتها" (13:4).

5- المرثاة الخامسة (ف 5)
أقصر الفصول الخمسة. تتضمّن هذه المرثاة 22 آية ولكنّها ليست أبجدية. دوّنت على شكل صلوات التوسّل الوطنية. تتضمّن آ 1 نداء مؤثّرًا الى الله: "أذكريا رب ما حلّ بنا، انظر وعاين عارنا" (كيف يعيّروننا). يبدأ المصلّي فيصوّر الحالة (آ 2- 15) ويقدّم اعتبارًا (آ 16- 18) حول أسباب ستكون منطلقًا لنداء جديد يوجّه إلى الله. وهذا النداء هو أجرأ ما في هذا الكتاب: "لماذا تنسانا على الدوام وتخذلنا طول الأيّام " (آ 20)؟ ويتوقّف الكتاب بطريقة مفاجئة ودراماتيكية: ما يكون جواب الله على تساؤلات المؤمن، وما يكون موقف المؤمنين والحالة على ما هي من الضياع؟

ب- متى دوّن سفر المراثي
دوّن بعد أحداث سنة 597- 587 فتشرّب من اختبار مرير عاشه المؤمنون بعد سقوط أورشليم والاقامة في المنفى. نجد إشارات دائمة عن العدوّ، عن أضرار الحرب، عن عزلة صهيون وحزنها، عن الآم المنفى وضياع الشعب. ثمّ إنّ اللهجة المأسوية التي تطبع كلّ الكتاب تدعونا إلى القول إنّ هذا الكتيّب دوّن قبل التحرير الذي تم سنة 538 والعودة إلى أورشليم التي رافقتهَا هتافات الفرح. هنا نستطيع أن نتذكّر مز 126: "حين ردّ الرب أسى صهيون، كنّا كالحالمين. حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكًا وألسنتنا تهليلاً".

ج- المراثي وإرميا
نُسبت المراثي إلى إرميا، ولكن هذه النسبة ليست في الأصل. ثمّ إنّ النصّ العبري الماسوري جعل مرا بين سائر الكتب، فلم يجعله قريبًا من النبي. كانت السبعينية أوّل من نسب مرا إلى نبيّ عناتوت في مقدّمة الترجمة. قالت: "بعد أن ذهب بنو إسائيل إلى الأسر ودمّرت أورشليم، بكى النبي إرميا وأطلق على أورشليم هذه المرثاة". الأمر معقول وإرميا قد أنشد بعض المراثي، ولاسيمّا حين سقط يوشيا الملك في ساحة الوغى في معبر مجدو (2 أخ 35: 25). ثمّ إنّ اللهجة المؤثرة في المراثي قريبة من لهجة "اعترافات " إرميا (إر 11: 18- 23 ؛ 12: 1-6 ؛ 15: 10- 21؛ 17 : 12-18؛ 18-23 ؛ 20 : 7 - 18). هذا ما يفسّر موقف التقليد المسيحي الأولاني والتقليد اليهودي (ترجوم، تلمود) اللذين ربطا مرا بالنبي إرميا.
ولكنّ النقد الحديث يعارض نسبة مرا إلى إرميا. فهناك حكم قاس على الأنبياء، وتجاهل لدور حزقيال وإرميا: "حتّى أنبياؤها لا ينالون رؤيا من عند الرب " ((9:2). ونُلاحظ أيضًا أختلافًا في النظرة بين النبي وصاحب المراثي حول الأزمة: كيف يُبدي دهشة دراماتيكية من دمار أحسّ به مسبّقًا وأعلنه؟ كيف يستطيع ذلك الذي كتب الى المنفيين رسالة (إر 29) يشجّعهم فيها، أن يرسم لوحة مظلمة عن الوضع؟ وأخيرًا، إن حكم مرا الإيجابي على حزقيا (4: 20: "فسحة نفوسنا، مسيح الرب ") لا يتوافق مع علاقات إرميا بالملك وحاشيته (إر 37: 2). من جهة ثانية، لا نستطيع أن ننكر التقارب بين مرا واعترافات إرميا، حين كان الحديث عن ألم الشعب وضياعه. ولا نستطيع أيضًا أن ننسى التقارب بين مرا وحزقيال (ق 2: 1ي مع حز 18:10- 11: 25)، وأشعيا الثاني (ق 3: 1ي مع أناشيد عبد الله)، وأيّوب (عداوة الله. مرا 2 ؛ ق أي 7 و 10).

د- التعليم
1- ألم الشعب
"تأمّلوا وانظروا. هل من ألم كألمي " (1: 12؛ رج 1: 18)! مرا هو أوّلاً شهادة عن ألم الشعب. فكما كان أيّوب شاهدًا على ألم فرد من البشر، سيقدّم لنا مرا الأزمة التي عاشها الشعب. فقبل كل نظرية أو محاولة تفسير، يعرض الكتاب الألم والعذاب، ويتحدّث عن ضياع الشعب وتساؤلاته. وهو بهذا يقترب من مزامير التوسّل الوطني التي تبرع في عرض أزمة الإيمان والرجاء التي يحسّ بها شعب إسرائيل في أحلك ساعات وجوده.

2- محنة الإيمان
ولكنّ هذا العرض لا يقدّم المديح لشعب إسرائيل، بل هو يتطلعّ في وجهة أخرى. إنّه يتطلعّ إلى هذا الإله الذي خبر المؤمن مراحمه ورأفته وأمانته (3: 22- 32). ولكنّ هذا الإله لم يكن فقط بعيدًا، بل صار عدوًّا: "صار الرب كعدوّ" (2: 5). هذا الوضع كان أقسى امتحان لإيمان إسرائيل. أجل، لم يعرف الشعب أزمة إيمان مثل هذه: لم تكن تذمّرات البريّة والخيانات المُتكررة في أيّام القضاة والأنبياء، لم تكن شيئًا تجاه ما يحدث الآن. لقد تزعزعت أسس العهد: فالله المشهور بالرحمة والعطف والأناة (خر 34: 5) قد أطلق العنان لغضبه، فما عاد يقدر أن يغفر (3: 42). وهكذا تحوّل اليقين الإيماني إلى عدم وباطل عند بني إسرائيل. كانت مأساة المنفى مأساة سياسية واجتماعية، فزيدت عليها مأساة أهول ألا وهي ظلمة الإيمان.

3- طريق التوبة والارتداد
نظر شعب إسرائيل إلى الله نظرة غير صافية، ولكنّ هذه النظرة دفعته إلى التساؤل عن مسؤولياته الخاصّة. لقد استحقّ الشعب هذه المحنة لانه خان العهد. ويندّد الشاعر بمسؤولين (ملوك، كهنة، أنبياء) تخلّوا عن مسؤوليتهم فلم يفعلوا شيئًا. ولكنّه عرف أيضًا أنّ الشعب كلّه خان الله وداس العهد على مستويات عديدة، وهنا يكمن شقاء إسرائيل الكبير. وبعد أن يُبرز الكاتب الألم في الشعب وعداء الله له، يلقي الضوء على الخطيئة: يتألم إسرائيل بسبب خطيئته التي هي معصية وذنب ونجاسة وفساد (5:1، 8، ؛22،9 14:2 ؛ 3: 42؛ 6:4- 13، 22؛ 5: 16). لا بدّ من المرور عبر هذا الوعي ليظهر شعاع أمل في الأفق: فالارتداد العميق وحده (5: 20) يستطيع أن يردّ الشعب إلى طرق السعادة.
لم يفقد الكاتب الرجاء وهو الذي تحدّث عن بداية ارتداد إلى الله: "لنفحص طرقنا ونختبرها. لنرجع إلى الرب " (3: 40). ويعبّر الشعب عن هذا الارتداد بأعمال توبة (ذروا التراب على الرؤوس، إلبسوا المسح: 2: 10)، وبالصلاة التي لا تنقطع: بسطت صهيونُ أيديها للصلاة (1: 17)، صرخت، ذرفت الدمع وهتفت (2: 18- 19). قال النبي: "لنرفع قلوبنا مع أيدينا إلى الله الذي في السماوات " (3: 41). وأعلنت صهيون: "دعوت باسمك يا رب من أعماق الهاوية. دعت صوتي فلا تصمّ أذنك عن صلاتي واستغاثتي " (3: 55- 56). ففي قلب المحنة تطلعّ أيّوب إلى الرب، وفي أعماق الشقاء صرخ الشعب إلى ذلك الذي يختبره لينقّيه كالذهب المصفّى.

3- اللفيفة الخامسة: أستير
يمتدح سفر استير، شأنه شأن سفر راعوت، امرأة من النساء. ولكنّ الإطار يختلف بين سفر وآخر. ففي أوّل لفيفة جعلَنا الكاتب الملهم في إطار بيت لحم الريفي وحدّثنا عن عائلة صغيرة. أمّا في سفر أستير فالمسرح هو قصر ملك فارس، والمداخلات تتمّ على المستوى السياسي، والقضيّة هي قضيّة الشعب اليهودي بأكمله. حدّثنا سفر راعوت عن الغريب ففتح العالم اليهودي على الشعوب المجاورة. أمّا سفر أستير فأدخلنا في عالم ضيّق. ما يهمّ الكاتب هو حياة الشعب اليهودي. فلا مساومة مع الغرباء، بل ملاحقتهم حتّى إفنائهم.

أ- الخبر
أقام الملك أحشويرش في قصره بشوش مأدبة دامت أسبوعًا كاملاً. وخلال هذه المأدبة طلب من الملكة وشتي أن تأتي اليه فرفضت. حينئذ طلّق الملكة وطلب من الرؤساء أن يكونوا حازمين مع نسائهم (ف 1). وبعد أن هدأ غضبه، بحث عن رفيقة له بين الأبكار الحسان المنظر (3:2) لتكون ملكة مكان الملكة المعزولة. وحظيت أستير وهي فتاة جميلة جدًّا (3:2)، برضى حارس النساء وحظيت برضى الملك فتسلّمت منه التاج الملكي (ف 2).
وكان نزاع بين هامان وزير الملك الأوّل، وبين مردخاي قريب أستير ومربّيها الذي رفض أن ينحني أمام هامان. غضب هامان من تصرّف مردخاي، فعزم على إيقاع الضرر باليهود. حصل على قرار ملكي بإفناء اليهود (ف 3). أعلم مردخاي أستير بهذا القرار الدنيء الذي أعلنه هامان وطلب منها أن تتدخل لدى الملك من أجل اليهود (ف 4). خاطرت أستير بحياتها وظهرت أمام الملك الذي لم يغضب عليها، بل وعدها بأن يمنحها حتّى نصف مملكته (5: 4). فضّلت أستير أن تعرض طلبها الحقيقي فيما بعد، في وليمة دعت إليها الملك يرافقه هامان. أمّا هامان فأخذ بنصيحة امرأته زارش وعزم على قتل مردخاي. فهيأ الخشبة لإعدامه. في الوقت عينه، تذكّر الملك أنّ لمردخاي دينًا عليه لأنّه أخبره بموآمرة تدّبر عليه. فأجبر هامان على تقديم أكبر إكرام إلى مردخاي عدّوه اللدود (ف 6). وكشفت أستير خلال المأدبة التي هيّأتها ما يحوكه هامان وطلبت العفو عن الشعب اليهودي الذي هو شعبها. لبّى الملك طلب أستير وأرسل هامان ليعلّق على الخشبة التي هيّأها لمردخاي (ف 7). وأعلن قراراً ملكيًّا جديدًا يلغي الإجراءت المعادية لليهود (ف 8) ويسمح لليهود بأن ينتقموا من الذين تسلّطوا عليهم. وأسّس عيد الفوريم للاحتفال بيوم الخلاص هذا (ف 9). وينتهي الكتاب بمديح الملك أحشويرش وبمعاونه مردخاي اليهودي.

ب- نصّ الكتاب
عرف سفر استير تاريخًا معقّدًا لم يعرفه أيّ سفر اخرمن أسفار التوراة. إن 11: 3 من الترجمة اليونانية تقول إنّ الكتاب دخل إلى مصر سنة 114. ثمّ إنّ 2 مك 15: 36 يعرف بوجود "يوم مردخاي " دون الإشارة إلى سفر أستير. إذاً كان خبر أستير معروفًا في ذلك الوقت، وقد يعود الأصل العبري إلى الحقبة المكّابية، بعد اضطهاد أنطيوخس أبيفانيوس بوقت قليل.
يقدّم لنا النصّ الماسوري (العبري) الصيغة الأقصر ولكنّ هذه الصيغة عَرفت بعض التصحيحات والزيادات (9: 20- 10: 3). إنّ 9: 20- 22 الذي ينسب تنظيم الفوريم إلى رسائل بعث بها مردخاي، لا يتوافق مع 9: 19 الذي يفترض أنّ الريفيين يحتفلون بالعيد. ويعُطي 9: 24- 26 أ ملخصًا فيه بعض الفجوات بالنسبة إلى الخبر الذي نقرأه في ف 1- 8: لا يحتفظ النص في الخاتمة (9: 25) إلاّ بمصير هامان. ويقول إنّ قرار إفناء اليهود اتّخذ بدون علم الملك (9: 25)، وأنّ أستير لم تلعب أيّ دور. ثم إنّ 29:9- 32 يردّد ما قاله 9: 20- 22، ويرجعنا 10: 1- 3 إلى حدث مستقل لا علاقة له بالعمل الرئيسي.
وللنصّ اليوناني قصّته الخاصّة. فنص السبعينية معروف في المخطوطات الكبيرة (الفاتيكاني مثلاً). تُرجم عن العبرية ترجمة أدبية ومتحرّرة، ترجمة يغلب عليها الإيجاز. غير أنّ النصّ يتضمّن ستّ زيادات مهمة تظهر طابعًا لاهوتيًا خاصًّا.
غاب اسم الله في النص العبري وظهر ما يقارب 50 مرّة في اليوناني. لعبت الصلاة دورًا حاسمًا في التزام البطلين مردخاي وأستير كما في تبدّل الحالة بالنسبة إلى اليهود. وتميّز النصّ اليوناني أيضًا بتفسير الأحداث على ضوء العناية الإلهية. نجد هذا التفسير في حلم مردخاي في البداية (رأى مردخاي ذلك الحلم). وما قضى الله أن يعمله وفي فك رموزه في النهاية (قال مردخاي: من عند الله كان كل ذلك. فاني أذكر الحلم). وهذه النظرة يشارك فيها الملك أحشويرش في الرسالة التي فيها يعيد الحرية إلى اليهود: لأنّ الله الذي يمارس سلطانه على الكون كلّه... ثم إنّ النص اليوناني الغى 9: 5 التي تقول: "وضرب اليهود جميع أعدائهم ضربة سيف وقتل واهلاك، وفعلوا بمبغضيهم ما شاؤوا". الغاها فخفّف من الصورة الدموية والانتقامية التي في النص العبري.
وهناك نص يوناني آخر طويل. إنه يُعتبَر شاهدًا على نص عبراني قديم يختلف عن النص الماسوري الذي بين أيدينا.

ج- استير بين الأسفار القانونية
كان من الصعب أن يدخل اس في لائحة الأسفار القانونية. فلم يكن الاتفاق عليه سريعًا بين اليهود. أما جماعة قمران فلم تعتبره سفرا قانونيًا: فمخطوطات قمران حملت إلينا نصوصاً من كل أسفار التوراة ما عدا أس. وطال الجدال بين الرابانيين حتى القرن الرابع ب م. أما في الجانب المسيحي فقد استصعب عدد من الآباء الشرقيين (مليتون السرديسي، اثناسيوس، غريغوريوس النازيانزي) قبوله. ورفض لوتر قانونية الزيادات، ولكنّه نشرها كنصوص منحولة بين أسفار العهد القديم والعهد الجديد. وعلى كل حال، يتردّد المسيحيون في استعمال كتاب يجهل كل شيء من المتطلبات المسيحية (محبة الأعداء، الغفران)، ويدعو إلى الانتقام حين يبتعد الخطر عن صاحبه.

د- الخلفيّة البيبلية
تذكّر الشرّاح مقاطع عديدة تصلح لأن تكون خلفيّة بيبلية لسفر استير. ونتوقف خاصة عند خبر يوسف (تك 39- 50) ونقابل 1 :3 مع تك 40: 20 ؛ 1: 21 مع تك 41: 37؛ 3: 10 مع تك 41: 42. من جهة الأسلوب. وعلى مستوى مسيرة الأحداث: حظيت استير برضى حارس النساء (9:2) كما حظي يوسف برضى قائد السجن (تك 39: 21- 23). إرتفعت استير إلى مقام ملكي في أرض غريبة فكانت الثانية بعد الملك (ف 2) ورفع الفرعون يوسف فوق كل أهل مصر وصار الثاني بعد الملك (تك 41: 39- 43). كل من استير (ف 4- 8) ويوسف (تك 45- 47) هب لمساعدة شعبه. ثم انّ الخبرين يتضمنان قراءة للأخبار على ضوء حضور العناية الالهية (ق 4: 14 مع تك 7:45-8؛ 20:50).
واعتبر شرّاح آخرون أنّ خر 1- 12 كان مثالاً اقتدى به كاتب اس. وربط آخرون مضمون اس بالتقليد الحكمي: رأى فيه رؤية ترسم بصورة ملموسة مبادئ الحكمة لدى الكتبة ورجال الحاشية.

هـ- تعليم سفر استير
ونندهش أمام اللاهوت الذي يقدمه اس. فهذا السفر لا يذكر اسم الله مرّة واحدة، ولا يكرّس للصلاة المكان الذي تستحقه. ويتوسعّ الكاتب في الحديث عن الولائم الملكية في قصر شوش (ف 1) أوفي حياة الصبايا اللواتي يشكّلن حريم الملك (ف 2). ثمّ اننا لا نكاد نصدّق أن يفرد كاتب ملهم مكانة واسعة للانتقام وطلب الثأر (ف 9)، إلى حدّ أنّ أستير طلبت من الملك يومًا إضافيًا (13:9 يستطيع فيه اليهود أن يفنوا كل أعدائهم. إذا وضعنا هذه التحفّظات جانبًا، نكتشف وجهين لاهوتيين في أس: إنّه خبر خلاص. إنّه يدلّ على تدخّل العناية في حياة أحبّائه.

1- خبر خلاص
نحن أمام رواية خياليّة ومعقّدة. ولكنّ الشيء الوحيد الذي يهتمّ به الكاتب هو النهاية السعيدة لليهود الذين نجوا من الموت فعيّدوا بالفرح والتهليل. ما يصبو اليه الكاتب هو "الفرج والخلاص "كما يقول مردخاي (4: 14)، و"حياة الشعب "كما تقول أستير (3:7). إذًا يروي الكاتب خلاصًا حصل بطريقة عجائبية وغير منتظرة، ساعة بدا كل شيء ذاهبًا إلى الدمار. إنّ سفر أستير هو مدارش حقيقي يصوّر، شأنه شأن سائر الأخبار البيبلية موضوع الخلاص: إنقلبت الأحوال فتحوّل الحزن إلى فرح، والنوح إلى يوم عيد (22:9).

2- العناية الإلهيّة
إنّ مفارقة اس هي أنّه يفترض أنّ الله حاضر في كل حدث من الأحداث. لاسيمّا في حدث الخلاص العجيب الذي تمّ ليهود فارس في الثالث عشر من شهر آذار. هذا ما يلمّح إليه كلام مردخاي: "من يدري؟ لعلّكِ لمثل هذا الوقت وصلتِ الى الملك " (4: 14)! نحن أمام ظرف (جا 3: 1 ي) قدّمه الله للحرية البشرية. وإذا كانت هناك محاولة لقراءة الأحداث على ضوء العناية الإلهية، فهي لا تنفي المسؤولية البشرية. أمّا النتيجة النهائية (انقلاب الوضع) فيرتبط بإلحاح مردخاي، بجرأة أستير، وبالإرادة الطيّبة لدى أحشويرش. كل هذا وقف بوجه مشاريع هامان الشرّيرة. أجل، إنّ العناية الإلهية تعمل في داخل الحرّيات البشرية.

و- خاتمة
بعد أن قُبل اس بين الأسفار القانونية، عرف شعبية خاصّة لدى اليهود الذين اهتمّوا به أكثر من اهتمامهم بالأسفار النبويّة. وقراءة هذا السفر اليوم هي مناسبة احتفالات يعبّرون فيها عن فرحهم الصاخب.
أمّا المسيحيّون فلم يعودوا كثيرًا الى اس لأنّهم اعتبروه كتابًا ضيّق الآفاق، دمويًا، ينظر بعين الرضى إلى أعمال تأباها الأخلاقية المسيحية. ونحن نفهم هذا الانزعاج في التقليد المسيحي بعد ان علّمنا يسوع ان نغفر لأعدائنا ودعانا إلى المُصالحة مع بعضنا بموته على الصليب (يو 12: 32؛ أف 2: 11- 17).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM