الفصل الثالث: سفر أيّوب
 

الفصل الثالث
سفر أيّوب

المقدّمة
اعترف العالم اليهودي والمسيحي، بل اعترف العالم كلّه بسفر أيّوب إنّه من أعظم النصوص الروحية التي عرفتها البشرية بفكره اللاهوتي وقربه من مشاكل الإنسان العميقة. فهذا السفر يشكّل نقطة يلتقي فيها تأثير الأنبياء والمزامير والتساؤلات الجديدة التي طرحها عالم الحكمة في الحقبة التي ما بعد المنفى.
وإنّ مصير أيّوب الفريد والحوارات المُتعدّدة التي تفسّرها، تطرح على بساط البحث إيمان ورجاء إنسان بارّ يُصارع ألمًا لم يستحقّه. هي مشكلة خاصّة، ولكنّنا لا نعتّم أن نُدرك سريعًا بُعدها الشامل. وهكذا لن تستطيع أن تقرأ سفر أيّوب قراءة صادقة دون أن تتأثّر به لأنّه يفتح لك الباب أمام المسائل الكبرى التي تواجه المؤمن: الشرّ والألم، لا كمشاكل عقلية نطرحها ونفلسفها، بل كسرّ نغوص فيه. اللقاء مع الرب حتّى في فشل كل محاولة بشرية. العلاقة بين أمانة الإنسان وبرّ الله الخلاصي وعدالته. صعوبة الحوار مع إنسان يتألّم. معنى الحياة التي لا تستطيع أن تتحرّر من النظر إلى الموت.
إذا حلّلنا هذا الكتاب تحليلاً أدبيًا اكتشفنا فيه المجموعات التالية:
مقدّمة نثرية (ف 1- 2).
مونولوج أوّل يطقه أيّوب (ف 3).
سلسلة الحوارات بين أيّوب وزوّار ثلاثة: اليفاز، بلدد، صوفر (ف 4- 27).
نشيد عن الحكمة البعيدة عنّا (ف 28).
مونولوج ثانٍ يطقه أيّوب (ف 29- 31).
خطب زائر رابع هو اليهو (ف 32- 37).
كلام الرب وجواب أيّوب (38: 1- 42: 6).
خاتمة نثرية (7:42-17).

أ- مراحل التأليف
سفر أيّوب هو ثمرة تاريخ أدبي طويل نستطيع أن نكتشف فيه أربع مراحل:

1- الخبر الشعبي الأولاني
نستطيع أن نعيد تركيب الخبر الذي هو أساس الكتاب كلّه، فنجمع المقدّمة إلى الخاتمة، وكلتاهما كُتبتا نثرًا. وإذا دقّقنا في أسماء الأشخاص والأماكن، أدركنا أنّ الخبر وُلد في أدوم أو في حوران. نحن نلتقي باسم البطل (أيّوب) منذ الألف الثاني ق م في الشرق الأوسط القديم وبأشكال متنوّعة: أيابوم، أيا أب، أ يا بى، هي أبن... وهناك إشارات عديدة تحيلنا إلى إطار عتيق: أيّوب نصفه بدو ونصفه حضر فالسبأيون والكلدانيون يعيشون من السلب في الصحراء السورية العربية. أمّا فكرة بلاط سماوي ورموز الأعداد فنجد ما يقابلها في عالم أوغاريت في القرن 14. ولكنّنا لا نستطيع أن نرجع إلى أبعد من سنة 1200 ق م وهو التاريخ المعقول لتدجين الجمل (رج 3:2).
لا نجد أحداث مأساة أيّوب بالتّمام في أيّ من نصوص الشرق الأدنى القديم لا في مصر، ولا في بلاد الرافدين حيث عالج الحكماء موضوع البارّ المتألّم منذ نهاية الحقبة السومرية، أي حوالي سنة 2000 ق م.
دخل الخبر الشعبي إلى أرض إسرائيل فوجد مناخًا مؤاتيًا، فدوِّن على ضوء الإيمان اليهوي (الإيمان بيهوه، الرب). يبدو أيّوب معاصرًا للآباء (لهذا جعلته السريانية بعد سفر التثنية): إنّه كرب عائلة يقدّم الذبائح لله (1: 5 ؛ 8:42، لا الكهنة) وهو يقرّب محرقة عن الخطيئة كما كان يفعل الأقدمون (تك 8: 20؛ 22: 2، 13؛ 31: 54). ثمّ إنّ الراوي يذكّرنا من خلال فنّه، بأقدم الطبقات في البنتاتوكس. وقد يكون من المعقول أنّ خبر أيّوب دوّن (أو تجسّد في خبر شفهي ثابت) يوم دوّنت أوّل نصوص البنتاتوكس وانطبع بالطابع الإسرائيلي. وما عتّم أن دخل في ذاكرة بني إسرائيل الجماعية، فاستطاع حزقيال حوالي سنة 600 أن يلمّح إلى أيّوب كبطل معروف جدًا (حز 14: 12- 23). وفي القرن 6 تقريبًا ستدخل في الخبر بعض عبارات نموذجية من الحكمة الشعبية. مثلاً: العبارتان اللتان تصوّران تقوى أيّوب في 1: 1: كاملاً، مستقيمًا ("تمّ " أي تامًا و"يشر" أي مستقيمًا) (2: 3؛ رج أم 2: 21؛ 28: 10؛ 29: 10؛ مز 25: 21؛ 37: 37)، يخاف (يتقي) الله (الوهيم) ويجانب الشرّ (3:2 ؛ رج أم 3- 7 ؛ 14: 16؛ 16: 6). وهناك معطيات من الخبر النثري تحيلنا إلى بداية الزمن اللاحق للمنفى. نحسّ بالأسلوب الكهنوتي في 16:42- 17 (وعاش أيّوب بعد هذا 140 سنة، ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال. ثمّ مات أيّوب شيخًا كبيرًا قد شبع من الأيّام). ثمّ إنّ وجه الشيطان يبرزكما في مقدّمة زكريّا الأوّل (520- 518) (رج زك 1: 21 ؛ 15:3؛ 10:4؛ 7:6).

2- القصائد الطوال في القرن الخامس
في النصف الأوّل من القرن الخامس ، أخذ شاعر عبراني الخبر الشعبي القديم ونفخ فيه لاهوتًا جديدًا وهدّامًا، لأنّه يعارض أحدى مسلّمات الحكمة السابقة للجلاء وهي: مجازاة الأشرار والأخيار على هذه الأرض. إحتفظ بالخبر بعد أن وضع عليه اللمسات الأخيرة وجعله مقدّمة عمله وخاتمته، وجعل فيه حوارات أيّوب مع زوّار ثلاثة (ف 4- 27). بدأت القصائد بكلام يُطلقه البار (مونولوج) في البداية (ف 3) وفي النهاية (ف 29- ا 3). وأخيرًا جاء حوار الله مع أيّوب خلال ظهور إلهي (38: 1- 42: 6). ظلّ الشاعر قريبًا من الخبر التقليدي، فاكتفى بأن يزيد في نهاية المقدّمة (2: 11- 13) حدث مجيء الزوار الثلاثة.

3- خطب اليهو
لا شكّ في أنّ تدوين خطب هذا الزائر الرابع جاء بعد تدوين حوارات أيّوب مع أصدقائه الثلاثة: فالتأثير الأرامي واضح في لغة هذا القسم (ف 32- 37). ثمّ إنّ هناك مواضيع توسّع فيها اليهو فعكست اهتمامات ملاخي اللاهوتية (ملا 17:2؛ 3: 14- 26). لهذا نستطيع أن نؤرّخ خطب اليهو حوالي سنة 450، زادها الشاعر الرئيسي أو أحد تلاميذه.

4- قصيدة عن الحكمة البعيدة (ف 28)
جاء كاتب أخير في القرن 4 أو 3 فأقحم هذه القصيدة التي تنهي جدالات عقيمة بين أيّوب وأصحابه، وتنقلنا إلى مقلب آخر من المؤلّف: بعد أن احتجّ أيّوب معلنًا براءته، وبعد أن أطلق على الله تحدّيه الأخير (ف 29- 31)، رأى أنّ حكمته هي موضع شكّ وسلطانه لا يتعدّى محيطه الضيّق.
وإذا أردنا أن نجمل الطبقات الأدبية في سفر أيّوب قلنا إنّ المقدّمة (ف 1- 2) والخاتمة (42: 7- 17) تشكّلان الإطار النثري الذي تكوّن (أو دوّن) في القرنين العاشر أو التاسع. أمّا المونولوج الأوّل (ف 3) والحوارات (ف 4- 27) والمونولوج الثاني (ف 29 - 31) والظهور الإلهي (38: 1- 42: 6) فتعود إلى النصف الأوّل من القرن 5. بعد هذا تكوّنت خطب اليهو (ف 32- 37). وسننتظر القرنين 4 أو 3 لتدوّن القصيدة عن الحكمة (ف 28).

ب- معالم تُعيننا على قراءة النصّ
يبدو مجمل سفر أيّوب لأوّل وهلة وكأنّه قطعة واحدة لا شكل لها. ولكنّ دراسة كل وحدة على حدة ، تبرز بناءً محكمًا ودقيقًا.

1- المقدّمة (ف 1- 2)
يبدأ الكاتب في 1: 1- 5 فيقدّم لنا أيّوب البطل مع كماله وسعادته. ثمّ يصوّر ما أصابه من شقاء بشكل درفتين (ديبتيك): دخل الشيطان مرّة أولى (1: 6- 12)، ومرّة ثانية (2: 1- 6). حلّت المصائب بأيّوب مرّة أولى (13:1- 19) ومرّة ثانية (7:2- 9)، فطرحت سؤالين على أيّوب. أجاب في المرّة الأولى (1: 20- 22): "عريانا خرجت من البطن وعريانا أعود إلى هناك (أي إلى الأرض، بطن الأمّ يشبه الأرض). الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا". وأجاب في المرّة الثانية (2: 10): "أنقبل الخير من الله ولا نقبل الشرّ"؟
دخول الشيطان في المرّة الأولى يشبه دخوله في المرّة الثانية. والرسمة التي أرادها الراوي القديم تظهر في استعمال الأعداد (7، 3، 5)، في الردة التي تتكرّر (أفلت أنا وحدي لأخبرك 1: 15- 18)، في تدرّج المصائب التي أحدثتها عوامل الطبيعة (الصاعقة، رياح الصحراء) أو أهل السلب والنهب (السبأيون والكلدانيون). ضربت المصائب البطل. أوّلاً: في خيراته. ثانيًا: في فلذة كبده. وأخيرًا، هاجمت لحمه وعظمه (2: 5).
وبعد جواب أيّوب الثاني، جاء الزوّار، فجلسوا بقربه على الأرض وصمتوا سبعة أيّام وسبع ليالٍ ، فدلّوا رمزيًا على محنة البارّ التي طالت.

2- المونولوج الأول (ف 3)
وناجى أيّوب نفسه فبدا غير رجل الإيمان الصابر على المحنة الخاضع للرب كما قالت المقدّمة. إنّه شخص مرّ اللسان عنيف الكلام. صمت، ولكنّه قطع صمته باللعنة (آ 3- 10): "لا كان نهار وُلدت فيه، ولا ليل قال: قد حُبل برجل. ليكن ذلك النهار ظلامًا... ". تمنّى أيّوب أن لا يُذكر يوم ربط مصيرَه بالشقاء.
وبعد هذا تنطلق التساؤلات (آ 11- 19): لماذا لم أمت في الرحم؟ لماذا صادفت ركبتين تقبلانني وثديين يرضعانني؟ وبعد آ 14 يترك الشاعر وضع أيّوب الفرد، ويجعله يتكلّم باسم البشريّة المُتألّمة. ثمّ يشير أيّوب إلى المسؤول عن كل هذا الشر. "هو يعطي (كذا في العبرية. أمّا اليونانية والسريانية واللاتينية "الأرامية فقالت: "يُعطى" لتبرئ ساحة الرب) الشقي نورًا" (آ 20). فمن هو؟ إنه "الواه " أي الله (آ 23). ويختتم أيّوب مفاجأته بذكر قلقه وخوفه واضطرابه (آ 24- 26)، وهذا الوضع لن يفارقه في كل خطبه.

3- الحوارات (ف 4- 27)
أوّلاً- بنية الدورات الثلاث
تكلّم الزائرون (اليفاز، بلدد، صوفر) ثلاث مرّات حسب الترتيب عينه، فقدّم كل واحد بدوره جوابًا إلى أيّوب. وهكذا كان لنا ثلاث دورات من الخطب. الدورة الأولى: (ف 4- 14)، الدورة الثانية: (ف 22- 27). بُنيت الدورتان الأوليان بطريقة منظّمة ، أمّا الدورة الثالثة فلم تذكر صوفر (ذكرت اليفاز في 22: 1 وأيّوب في 23: 1؛ 26: 1 ؛ 27: 1 وبلدد في 25: 1).
احتفظ بعض العلماء في الدورة الثالثة بخطبة اليفاز وحدها (ف 22) واعتبروا أنّ ف 23- 27 هي قطع متفرّقة أو موادّ نربطها بالدورة الثالثة بأيّوب واليفاز وبلدد. أمّا الحلّ الطبيعي فيقوم بأن نعيد بناء دورة كاملة يشارك فيها صوفر.
تكلّم اليفاز (ف 22) فأجابه أيّوب (ف 23+ 24: 1- 17). تكلّم بلدد (ف 25 + 26: 5- 4 1) فأجابه أيّوب (26: 1- 4+ 27: 1- 12). تكلّم صوفر (27: 13-23+ 24: 18- 25) فأجابه أيّوب في المونولوج الثاني (ف 29- 31). نحن أمام مسألة خارجية أدبية. أمّا نحن فنقرأ النصّ كما هو الآن بين أيدينا.

ثانيا- مواضيع الحوارات
من المفيد بعد هذه القراءة السريعة الأولى أن ندرس مضمون ف 4- 27 لنكشف ونجمع المقاطع المشابهة التي تلعب دورًا مماثلاً في الحوار فتقابل الفنون الأدبية عيها. هذا الأسلوب يساعدنا على قراءة النصّ في العمق واكتشاف ديناميّة الخطب رغم التكرار الذي نجده هنا وهناك وإبراز الأفكار اللاهوتية الثابتة التي طرأ عليها بعض التحوّل.
وها نحن نقدّم لائحة الفنون الأدبية والمواضيع والبراهين.

* براهين الأصدقاء
يتحدّثون عن مصير الأشرار. اليفاز في الدورة الأولى (4: 7- 11، 5: 2- 7) وفي الدورة الثانية (17:15- 35) وفي الدورة الثالثة (22: 15- 18)، وبلدد في 18:8- 19 (الدورة الأولى) و 18: 5- 21 وصوفر في 11: 20؛ 20: 4- 29؛ 27: 13- 23؛ 24: 18- 24. ثمّ يتحدّثون عن سعادة الأبرار: اليفاز (5: 17- 21؛ 22: 21-30)، بلدد (8: 5- 7، 20- 22)، صوفر (11: 15- 19). ويؤكّدون أن ليس أحد بارًّا أمام الله: اليفاز (4: 17- 21؛ 15: 14- 16) وبلدد (25: 4- 6).

* أجوبة أيوب
الإنسان محدود: من هو الإنسان حتّى تحسبه عظيمًا وتلتفت إليه (7: 17، رج 9: 2 – 3؛ 13: 28؛ 24: 12)؟! والخبرة تعلّمنا أنّ ما قاله زوّار أيّوب ليس بصحيح. فهناك الخبرة العامّة: "خيام اللصوص في سلام، والطمأنينة للذين يتحدّون الله ، ويحاولون أن يمسكوه بيدهم " عن طريق السحر (6:12؛ 27:31- 34). وهناك خبرة أيّوب الخاصّة: "وما تعلمون فإنّي أنا أيضاً أعلمه، لا أقصّر عنكم في شيء" (13: 2؛ رج 22:9- 24 ؛ 2:12- 3؛ 2:21- 26 ؛ 24: 1- 17).
وتتوالى المجدلات على لسان اليفاز: "الذي يصنع عظائم لا تُسبر، وعجائب لا تُفحص، الذي يفيض الغيث على وجه الأرض ويُرسل المياه على وجه الحقول... " (5: 9 - 18 ؛ رج 22: 21، 29- 30)، على لسان بلدد: "له السلطان والمخافة، ويُحلّ السلام في الأعالي. هل من عدد لجنوده؟ هل من أحد لا يشرق عليه نوره " (25: 1- 6؛ 26: 5- 14)؟ على لسان صوفر: "ألعلّك تسبر غور الله ، أم تبلغ إلى كمال القدير؟ هو أعلى من السماوات وأعمق من الجحيم. مداه أطول من الأرض وأعرض من البحر... " (7:11-11).
يتكلّم أيّوب عن نفسه: "أبحر أنا أم تنيّن حتّى تجعل حولي حرَسًا... ما الإنسان حتّى تحسبه عظيمًا وتلتفت إليه: إذا خطئت فماذا فعلت لك، يا رقيب البشر" (7: 12، 17، 20 ؛ رج 4:9-13؛ 12:10؛ 7:12- 25)؟ ويتشكّى في صيغة المتكلّم (أنا): لا كان نهار ولدتُ فيه (3: 1 ي). "إنّ سهام القدير فيّ. يمتصّ روحي سمّها وأهوال الله اصطفّت عليّ " (6: 4 ؛ رج 2:9-3، 14- 24، 32- 35؛ 3:13، 7- 11، 3- 19). هذا في الدورة الأولى. وفي الدورة الثانية: 16: 6- 17 (إذا تكلّمت لا يسكن وجعي، وإن سكت لا يبارحني ألمي) ؛ 6:19- 12، 21- 22. وفي الدورة الثالثة: 23: 1- 17 (اليوم أيضاً شكواي مرّة ويدي انقلبت على أنيني. من لي بأن أعلم أين أجده فآتي إلى سكناه وأعرض قضيّتتي أمامه وأملأ فمي حججًا)؛ 24: 1؛ 27: 2- 6).
ويتوجّه بكلامه إلى الله في صيغة الخاطب (أنت): "تذكّر أنّ حياتي هباء وأنّ عيني لن ترى السعادة" (7:7- 21). "تخوّفت من جميع آلامي لعلمي بأنّك لا تبرئني " (28:9- 31؛ رج 10: 1- 22؛ 13: 20- 14- 22). وتخفّ الشكوى في الدورة الثانية. "أغلقت قلوبهم على الفطنة، فلا تقبل بأن ينتصروا" (17: 4- 6). وفي الدورة الثالثة: "إليك أصرخ فما تجيبني. أقف أمامك فتحدق بي. صرت لي جلاّدًا وبقوّة تعذّبني " (35: 20- 23 ؛ 31: 35- 37).
ويطلق أيّوب صرخات الرجاء. أوّلاً بصورة ضمنيّة: "اتركني لأنّ أيّامي تزول... متى تتوقّف عن مراقبتي ، متى تتركني أبلعِ ريقي " (16:7 ب- 19)؟ "هل أيّامي كثيرة؟ فليكف، وليخفّف عني. فأبتسم قليلاً" (10: 20). "إصرف طرفك عنه (عن الإنسان) ليستريح ويتنعّم كالأجير بفيء النهار" (14: 6). "لو كنت تواريني في الشيول، لو كنت تأويني حتّى يجتاز غضبك، لو كنت تحدّد لي وقتًا تتذكّرني فيه. ولكنّ الإنسان الذي يموت، هل يعود إلى الحياة؟ ولكنّي أنتظر كلّ أيّام خدمتي حتّى يحين وقت استبدالي. تدعوني فأجيبك، وتتوق إلى صنع يديك. أنتَ الآن تحصي خطواتي، أمّا فيما بعد فلا ترصد خطاياي " (14: 13- 16).
وهناك النصوص الكبيرة التي تدخلنا في عالم الرجاء خاصّة في الدورة الثانية والدورة الثالثة. "يا أرض، لا تستري دمي ولا يكن لصراخي قرار. لي منذ الآن شاهد في السماء ومحامِ عني في الأعالي. يسخر مني أصدقائي ولكن إلى الله تفيض عيناي. فليدافع عن الإنسَان ضدّ الله، كما يدافع الرجل عن صديقه. إنّ سنوات حياتي معدودة فأسير في طريق لا أعود منه " (18:16- 22). "إلتَزم بقضيّتي، كن كفيلي تجاهك. فمن يقبل أن يضع يده في يدي " (17: 3)؟ "أنا أعرف أنّ فاديّ حيّ وتكون له الكلمة الأخيرة على الأرض. وبعد أن يكون جلدي قد تمزّق أعاين الله في جسدي. أعاينه أنا بنفسي، وعيناي تريانه فلا يكون غريبًا. قلي يحترق في داخلي " (19: 25-27 ؛ رج 3:23؛ 35:31-37).
إذن نلاحظ براهين أصدقاء أيّوب التي ترد في ثلاث عبارات: الله يعاقب الأشرار دومًا، ويجازي البار الأمين دومًا، فلا يبرّر أمامه الإنسان. ويمتدّ موضوع عقاب الأشرار في لوحات واسعة كما في مزامير التوسّل (يتشكّى المرتّل من أصدقائه). أمّا موضوع المجازاة المحفوظة للبارّ فهي معروفة في المزامير وكتب الأنبياء وأسفار الحكمة. قال أصدقاء أيّوب: الأمانة لله والتوبة تحميان البار من الشر، وتؤمّنان له الوفر الماديّ وتوسُّعَ العائلة وحياةً حميمة مع الله. ويستعمل زوّار أيّوب موضوع حقارة الإنسان وضعفه لا ليذكرونا برحمة الله وحنانه، بل ليحاربوا به أيّوب ويحطّموه.
وتأتي أجوبة أيّرب مباشرة إلى كل من زوّاره. يُقرّ أيّوب بحقارة الإنسان أمام الله ، ولكنه يردّ مطوّلاً على ادّعاءات أصدقائه عن العقاب الذي يصيب الأشرار فلا يفلتون منه. هناك نظريّة جامدة ورثها الحكماء من زمن ما بعد المنفى، فيقابلها أيّوب بخبرته الخاصّة وبحكمة تعلّمها من الأجيال السابقة. هو يرفض أن يفسّر ألمه انطلاقًا من خطأ مفترض. يتحدّث أصدقاؤه عن تجاوز للشريعة، أمّا هو فيرى في ألمه هجومًا من الله عليه.
لا يتضمّن سفر أيّوب أيّ نشيد عن مراحم الله وصلاحه (حسد في العبرية). ولكنّ القصائد الموجودة تشير إلى سيادة الله على الكون وسلطته على التاريخ، وتستلهم الصور التقليدية التي نجدها في سائر المدائح. غير أنّ "مجدلات " أيّوب تختلف عن مدائح المزامير في نقطتين أساسيتين.
الأولى: إنّ التاريخ الذي تتحدّث عنه أناشيد أيّوب ليس تاريخ إسرائيل بل وجود الإنسان اليومي.
الثانية: الموادّ هي موادّ المدائح ولكنّ هدفها غير هدف المزامير. فكل مجدلات سفر أيّوب انحرفت عن خطّها الاصلي: إهتمّ أصدقاء أيّوب بالمبدأ الأخلاقي وأرادوا أن يحاربوا أيّوب، وهذا ما لا نجده في المزامير. وجعل أيّوب من المجدلات صدى لتشكّيه. إحتفظ بالمواضيع التي تشير إلى قدرة الله وألبس حججه صورًا مدائحية ليجعلها جارحة وقاطعة. وإذ أراد أيّوب أن يصوّر موقف الله تجاهه، كدّس الصور التي تتحدّث عن القساوة والظلم. وتطرّف في كلامه فاتّهم الله بأنّه يفرح حين يرى يأس الأبرار (23:9). إنْ عملَ الله أو لم يعمل، فموقفه موقف من يرغب في الشر. لهذا يكون جواب أيّوب الهجوم العنيف والعدوان. ما يقلقه ليس فقط الخوف من آلام جديدة (9: 34)، بل أن لا يعرف ذاته في الصورة التي يرسمها الله عنه. في الواقع ، إنّ هذه الصورة هي من نسيج خيال أيّوب، لأنّه لم ترد كلمة من الله توضح المعنى الذي أعطاه أيّوب لألمه. فغياب الله في هذه الأفكار يبدو حسب مقولات المكان والمدى: يتخيّل أيّوب أنّ هناك مسافة تجعل الله بعيدًا عن الإدراك. هو لا يقدر أن يُلغي هذه المسافة ولا يقدر أن يكفّ عن البحث.
ويتوجّه أيّوب بشكواه إلى الله بطريقة مباشرة. شكاواه كثيرة في الدورة الأولى، قليلة في الدورة الثانية (17: 4- 6) ومعدومة في الدورة الثالثة. ولكنّ أيّوب سيعود إلى التشكّي في المونولوج الكبير: "صرتَ قاسيًا لي " (30: 20- 23).
ويكفي أن نورد المواضيع التي عالجها أيّوب في تشكّياته لنتعرّف إلى ما فيها من سخرية قويّة ورفض معارض. في 7: 7- 21: "اتركني، لأنّ أيّامي نسمة". تذكّر (آ 7- 11)، أتركني (آ 12- 16)، يا رقيب الإنسان (آ 17- 21). في 9: 27- 31 و 10: 1- 22: أعلمني على ماذا توبّخني. لماذا أتعب باطلاً (9: 27- 31)؟ هل من الخير أن تكون عنيفًا (10: 1- 22)؟ يتصرّف الله كإنسان (آ 3- 7)، يحبّ ويدمّر (آ 8- 12). ماذا أخفيت في قلبك (آ 13- 17)؟ من البطن إلى القبر (آ 18- 22). في 13: 20- 14: 22: أين هو الانسان الذي يموت؟ تمنّيان اثنان (13: 20-22). الإنسان ورقة في مهبّ الريح (23:13- 27)، ظلّ يمضي (14: 1- 6)، تحيا الشجرة والبحر والسماء أكثر منه (7:14- 12). من يقدر أن يختبئ في الجحيم (13:14- 17)؟ أنت تُهلك رجاء الإنسان (18:14- 22).
وهنا نصل إلى النصوص التي تتحدّث عن الرجاء. هي تلد من التشكّي الذي ينغلق عليها. وإذا أردنا أن نفهم قوّة هذه الأويقات من الرجاء، نتذكّر أنّ فكرة القيامة الجسدية لم تبرز في التوراة قبل القرن 2 ق م. أمّا بالنسبة إلى صاحب حوارات أيّوب، فالموت يصل بنا إلى الشيول الذي هو موضع العزلة والذل (7: 9؛ 10: 21؛ 10: 21؛ 14: 1-12 ؛ 22:16). ونصوص الرجاء الأكثر وضوحًا تنظر فقط إلى تدخّل الله من أجل أيّوب وهو بَعدُ حيّ على الأرض: الله شاهدي (18:16- 22). الله كفيلي (17: 3). الله فادي (جائل). "سيقوم وتكون له الكلمة الأخيرة على الأرض. ولو مزّقوا جلدي فأنا سأرى الله بجسدي " (19: 25- 27، وقد أعطاه إيرونيموس في اللاتينية الشعبية معنى القيامة).
وهناك نصوص تتضمّن الرجاء، ولكنّها تدلّ على جرأة أيّوب (7:7- 8، 21). ويبقى شيء ما من علاقة المؤمن بإلهه بعد الموت، وهذا الرباط السري سيكون من القوّة بحيث يولّد في قلب الله أسفًا لأنّه أضاع صديقًا له.

4- القصيدة عن الحكمة (ف 28)
يمتاز ف 28 عن الحوارات التي سبقته بفنّه الأدبي التصويري واللاشخصاني فيبدو بشكل قصيدة مستقلّة. هناك سؤال واحد يتكرّر في آ 12 (الحكمة أين توجد، والفطنة أين مقرّها؟) وفي آ 20 (من أين تأتي الحكمة والفطنة أين مقرّها؟)، وهذا ما يجعلنا نقسم الفصل إلى ثلاث وحدات.
في آ 1- 11: نشيد لمجد الإنسان الصانع الذي يستخرج من الأرض ما تحويه من المعادن.
في آ 12- 19: يتداخل موضوعان. الأوّل: بحث عن الحكمة في كل نطاقات الكون، ولكنّه بحث لا يؤتي ثمرًا (13 ب- 14). الثاني: لا شيء يضاهي الحكمة (آ 13 أ-15، 19).
في آ 20- 27: الحكمة لا يُدركها الإنسان ، أكان من الأحياء (آ 21) أم في عالم الموتى (آ 22). ولكنّ الله عرفها وقت الخلق (آ 24- 26)، فطنَ إلى طريقها (آ 23)، رآها، أخبر بها، ثبّتها، سبرها (آ 27). إنّها سرّ عقل وحبّ يلازمان الخليقة. ستبقى حكمة الله بعيدة عن متناول الإنسان. ولكنّ هناك حكمة متواضعة يصل إليها الجميع وقد كشف الرب عنها (آ 28).

5- الحوار الكبير (ف 29- 31)
تشكّل ف 29- 31 مونولوجًا طويلاً يناجي فيه البار نفسه. إنّه يضع حدًّا للجدال العقيم بين أيّوب وزوّاره، كما يفتح الباب باتجاه الغائب الكبير الذي هو الله. وانتهى الحوار بتحدّ نقرأه في 31: 35- 37: "أتقدّم منه كرئيس ". والجواب يكون ، بعد خطب اليهو (ف 32- 37) في ظهور الله وأقواله (38: 1- 42: 6).
جمع أيّوب مرّة أخيرة كلّ قواه ليواجه الإله الصامت. وهذا يتحقّق على ثلاثة مستويات: يتذكّر أيّوب سعادته الماضية (ف 29)، ويتشكّى من الألم والعزلة اللذين يشعر بهما الآن (ف 30)، ويحاول في تبرّؤ طويل أن ينفي التّهم عن نفسه (ف 31).

6- خطب اليهو
تَفصل خطبُ أليهو بين نداء أيّوب الأخير (1 3: 35- 37) وجواب الله (38: 1). أُلّفت هذه الخطب على أساس الحوارات الموجودة، فأوردت أقوال أيّوب وحاولت أن تردّ عليها ببراهين جديدة. وهذا الانتقال من النصّ والجواب عليه، ربط أقوال اليهو بأقوال الاصدقاء الثلاثة. وتبرز البنية الأدبية لهذه الفصول الثلاثة كما يلي:
32: 1- 6 أ: تقديم شخص اليهو.
32: 6 ب- 22: توطئة في ثلاثة مواضيع: أريد أن أتكلّم (آ 6 ب- 10)، أقدر أن أتكلّم (آ 11- 14)، عليّ أن أتكلّم (آ 15- 22).
ف 33- 35: ثلاث خطبات متشابهة في بنيتها. الحلم والملاك (ف 33)، القوّة والحق (ف 34)، تسامي الله وعنايته (ف 35).
36: ا- 37: 13: الخطبة الرابعة. تبدو بشكل مديح فتتحدّث عن الله المربّي وعن إله الكون. فبعد المقدّمة (36: 2- 4) يتوسّع الشاعر في موضوعين: عمل الله في تاريخ الأبرار والأشرار (36: 5- 23). قوّة الله العاملة في الخلق (36: 24- 37: 13)
37: 14- 24: انتقال إلى الظهور (تيوفانيا): استعادة المواضيع الكونية (وتشديد على جهل الإنسان) (آ 14- 20)، إعلان عن تجلّي النور (آ 21- 22)، ملخّص ليقينات اليهو (آ 23- 24).
أمّا أقوال أيّوب التي يوردها أليهو لينتقدها فتتصل بثلاثة مواضيع: أيوب على حقّ تجاه تصرّف الله الاعتباطي، صمت الله وغيابه، الفائدة من أن يكون الإنسان أمينًا. في خطب ف 33- 35 تتماسك مواضيع أيّوب وأجوبة اليهو بدقّة ومرونة.
يشدّد الشرّاح على ضعف أليهو في تقديم شهادته وبراهينه. واجه سرّ ألم البارّ، وإفلاس الأقوال التقليدية حول المجازاة (شأنه شأن الأصدقاء الثلاثة)، فانطق من مسلّمة تعتبر أيّوب خاطئًا. ظنّ أنّه قدّم حلاً حين تخيّل تدخّل وسيط سماوي (الملاك المفسّر في 23:33)، وضخمّ أهميّة الإيحاءات الباطنية (18:32- 22). تكلّم وكأنّه نبي، ولكنّه لم يعطِ دليلاً على صدق كلامه. وفي النهاية، ترك الحوار، وحاول أن ينتصر لا أن يقنع. إنطلق برهانه لا من الضيق الذي يصيب إنسانًا تزعرع في إيمانه، بل من أقوال أيّوب بعد أن عزلها عن قرينتها. ثمّ إنّه لم يترك مكانًا لتشفعّ الإنسان من أجل قريبه.
ولكن تميّز اليهو بالتشديد على تسامي الله وعلى عنايته الفاعلة في حياة البشر (34: 18-20؛ 35: 5- 16)، كما في الكون المادي (36: 24- 37: 13). وتميّز اليهو خاصّة بانفتاحه على سرّ تربية الله ، فقدّم غنى شخصيًا ودائمًا للاهوت الألم.

7- الظهور الإلهي (38: 1- 42: 6)
إنّ الخبر الإطاري الذي أقحم فيه شاعر القرن 5 حواراته، تضمّن ولا شكّ أقوال الرب لأيّوب. فهذا ما تفرضه الخاتمة مع 42: 7 (وبعد أن كلّم الرب أيّوب بهذا الكلام). إلاّ أنّ الشاعر توسّع فيها بحريّة في خطبتين واسعتين جدًّا (38: 1- 42: 6) تنتهي كل منهما بجواب أيوب (40: 3- 5؛ 42: 1- 6).
أمّا مجمل النصّ فبنيّ على الشكل التالي:
* خطبة يهوه الأولى (38: 1- 40: 2)
38: 1: المقدّمة.
38: 2: السؤال: من هذا الذي يسوّد مخطّطي بكلمات لا معنى لها؟
3:38: أمرُ الله: شدّ وسطك وكن رجلاً. أريد أن أسألك وأنت تُعلمني.
38: 4- 39: 0 3: الخطبة بحصر المعنى مع أربعة مواضيع متتالية. الأوّل: خلق العالم ومعرفته (38: 4- 21). الثاني: تدبير العالم (38: 22- 38). الثالث: الاهتمام بالحيوانات وصغارها (38: 39- 39: 4). الرابع: ستة حيوانات (39: 5- 30).
40: 1- 2: وتنتهي الخطبة بسؤال: هل اقتنع ذلك الذي يخاصم شداي (القدير)؟ أي جواب يقدّمه من ينتقد الواه (الله)؟
* جواب أيّوب الأوّل (40: 3- 5). لقد تخلّى عن الإجابة: تكلّمت بطيش فبماذا أجيبك! إنّي أجعل يدي على فمي. قد تكلّمت مرّة فلا أجيب، ومرّتين فلا أزيد.
* خطبة يهوه الثانية (40: 6- 26:41).
40: 6: مقدّمة ثانية.
40: 7: أمرٌ كذلك الذي قرأناه في 3:38: شدّ وسطك كن رجلاً.
8:40- 9: أربعة أسئلة: هل ستكسر حكمي؟ هل تحكم عليّ لتبرّر نفسك؟ هل لك ذراع مثل ذراع الله؟ هل لك صوت كصوته يشبه الرعد؟
40: 10- 14: تحدَّى أيّوب يهوه أن يحلّ محلّه (في تاريخ البشر) من أجل عمل المجازاة: صُبّ غضبك، أخفض كلّ متكبّر، إسحق الأشرار... حينئذ أقدّم لك الإكرام لأنّ يمينك حملت اليك الغلبة.
40: 15- 24: أوّل وحش، بهيموت أو البهيمة أو وحيد القرن على النيل.
40: 25- 41: 26: ثاني وحش، لايوتان أو الملتوي أو التمساح.
* جواب أيّوب الثاني (42: 1- 6): كنت قد سمعتك الأذن. أمّا الآن فعيني قد رأتك. لذلك أرجع عن كلامي وأندم في التراب والرماد (علامة التوبة).

8- الخاتمة (42: 7- 17)
وصل الله إلى هدفه وربح الشرط بفضل إيمان أيّوب، فوضع حدًّا للمحنة وأعاد إلى أيّوب سعادته وكرامته التي كاد يخسرها أمام زوّاره. ظهرت حرية الله في عمله كمجازٍ ومكافئ، وها هو صلاحه يبرز واضحًا ولا خوف من لاهوت أصدقاء أيّوب المبني على المنفعة. تخلّى أيّوب عن كل شيء، ولكنّ الله استجابه وأعطاه أن يرى وجهه، فنال بنعمة فريدة ما لم يتجاسر على طلبه.
نلاحظ في الخاتمة النثرية قسمين. الأوّل، يشير إلى الحوارات ويتحدّث عن حكم الله على أصدقاء أيّوب (آ 7- 9). ورضى الله يفترض ذبيحة من قبلهم وتشفعّ من قبل أيّوب، والتشفعّ ضروري لقبول الذبيحة. الثاني يصوّر سعادة أيّوب (آ 10- 17). هو أسعد من يوسف (تك 23:50). رأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال. ثمّ لحق بإبراهيم (تك 8:25) وإسحق (تك 35: 25) فرقد "شيخًا كبيرًا شبع من الأيّام ".

ج- لمحة لاهوتيّة
الإنسان هو مولود المرأة، يعيش أيّامًا قليلة يسيطر عليها القلق. إنّه كزهرة تتفتّح وتذبل، يهرب كالظلّ ولا يتوقّف. فلماذا يعطي الله البائس نورًا، ولأصحاب النفوس المرّة الحياة (14: 2؛ 3: 20)؟
لماذا؟ سؤال أساسي يطرحه أيّوب على من يقدر وحده أن يجيب إليه. لماذا أخرجتني من البطن؟ لو لم تحزجني لكنت متّ دون أن تراني عين (10: 18). تلك هي أسئلة إنسان مؤمن. لا شكّ أنّ رنتها تدلّ على الثورة. ولكنّها تبقى في إطار حواربين الإنسان والله. إنّها اعتراضات وتساؤلات إنسان يعاشر الله ، إنسان ظنّ أنّه يعرف الله ويريد أن يفهمه ليتعلّم كيف يعيش وكيف يموت.
لم نجد في التوراة تشكّيًا جزئيًا من الله كتشكّي أيّوب. قد يكون وُجد أيّوب وقد يكون هناك بعض الأساس لخبره، أمّا الباقي فأبدعه الشاعر. ولكن تشكيات أيّوب الوجودية هي حقيقية، ولهذا يصبح قريبًا من المؤمن الذي يصيبه الألم الساحق الذي لم يستحقّه.

1- إيمان مباشر (المقدّمة ف 1- 2)
المحنة جذرية بالنسبة إلى بطل الله. هذا ما تشدّد عليه المقدّمة برهة بسيطة: يُحرم "عبد" الله من خيراته، يُضرب في أبنائه وبناته، يُصاب في جسده. لوحة كاملة من الشقاء. وكل واحد يستطيع أن يرى نفسه كما في مرآة، في ذلك الإنسان المشوّه "الذي ضربه قرح خبيث من أخمص قدمه إلى قمّة رأسه " فجلس على الرماد. لم يبقَ لأيّوب شيء، بل صار جرحًا ولا غير. غير أنّ إيمانه سليم كامل، وهو يظهر بطريقة مباشرة في جوابيه: "حينئذ قام أيّوب وشقّ رداءه وحلق شعر رأسه وارتمى على الأرض وسجد. وقال: عريانًا خرجت من بطن أمّي وعريانًا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ. فليكن إلى الرب مباركًا. في هذا كلّه لم يخطأ أيّوب ولم يقل في الله غباوة" (1: 20- 22). "أنقبل الخير من الله ولا نقبل الشر أيضاً؟ في هذا كلّه لم يخطأ أيّوب " (2: 10).
كانت أمانة أيّوب حتىِّ ذلك الوقت أمانة إنسان سعيد سخت عليه الأيّام وكرّمه الناس. مضت السعادة فبقي المؤمن على ما كان عليه ووصل إلى مستوى من الحرّية لم يصل إليه أحد. هو عريان الآن، أما هكذا كان يوم ولد؟ هو سريع العطب ومهدّد، هذا ما سيكونه عندما يعود إلى الأرض- الأمّ التي تستقبله في بطنها وكأنّها تحبل به حبلاً جديدًا وسرّيًا. فما امتلكه في الماضي كان لباسًا لا فائدة منه، فاكتشف أيّوب أنّ الحياة هي أكثر من هذا اللباس. بعد أن زالت مكوّنات السعادة العادية، خسر أيّوب أبعاده كما يقيسها العالم، أبعاد السلطة والمعرفة والكرامة. وجد نفسه مجرّدًا من كل شيء، محتاجًا إلى كل إنسان، سرج العطب. ولكنّه اكتشف نفسه رجلاً بكل معنى الكلمة لأنّه تحرّر من عبوديّة الأشياء.
ولكنّ أمانته ليست جمودًا أو تصلّبًا كما عند الرواقيين. فهي تتجذّر في ثقته بالله. وعلاقته بالرب تقوّت بطريقة واعية على مستوى عريه، فأعلن حريّته وفي الوقت ذاته أعلن حرّية الله. الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا. بارك، أي اعلن الخير. أعلن خيرًا صنعه الله ، وهذا ما نسمّيه الشكر. أو أعلن خيرًا سيصنعه الله ، وهذا ما نسمّيه صلاة الطلب والتوسّل. وهكذا، حين بارك أيّوب الله وربّ العهد، أقرّأنّ هذا الإله أراد خيره. وإن تناوب العطاء والأخذ ليس من قبل الله علامة التخلّي بل علامة الثقة. إنّ الله يتابع عمله الإيجابي والمتماسك حتّى في وجود إنسان متألّم. أمّا الإنسان فينتقل من السعادة إلى الشقاء إلى درجة يحس فيها بالدوار. ولكن لا تقلّب ولا استرجاع في مشروع الله.
إذا، الأمانة أمر مفروغ منه من قِبل الله. وحين سجد أيّوب، اعلن أنّه لا يشكّ بهذه الأمانة. ولكنّه أجاب في الوقت ذاته بفعل إيمانه هذا، ودون علم منه، على سؤال طرحه الخصم في السماء حول أمانة الإنسان: "أمجّانًا يتّقي أيّوب الله "؟ قد يُخفي تعلّقُ الإنسان بالله الفَ حساب وحساب. وبحث الشيطان عن جواب لسؤاله على الأرض، فاستعمل الألم ليكشف البواعث الحقيقية في قلب الإنسان. إذا نظرنا من الخارج، رأينا أنّ الشيطان صاحب المبادرة: شكّ في أمر أيّوب فأعتبر أنّ باستطاعته أن يجعل الإنسان يشكّ بالله والله يشكّ بالإنسان. في الواقع، نعرف أنّ الله يريد أن يكشف عمق حبّه الحاضر في قلب الإنسان، وأنّه هو الذي فتح الباب أمام المحنة: "هل أملت بالك إلى عبدي أيّوب "؟ لقد دخل شرّ الشيطان مسبّقًا في مخطّط الله. والحبّ أحاط مسبّقًا بمحاولة الشر. وإذا بدا الله وكأنّه يخاطر بمجده فيراهن على الإنسان، فهو يعمل ليكون اسمه مباركًا. أمّا أيّوب فيجهل كل شيء من هذا الحوار السماوي الذي يشرف على مصيره. وقبوله المباشر بما قسمه له الرب يدمّر بضربة واحدة تشكيك الخصم. لقد خسر الشيطان رهانه. فهناك على الأرض بارّ لا يربط إيمانه بخيرات منظورة.
وتتوقّف الدراما عند هذا الحدّ على مستوى الخبر القديم. ثمّ ينتقل الراوي مطمئنًا إلى الخاتمة التي فيها يعيد الله لأيّوب كل خيراته. وهكذا تنغلق الدائرة اللاهوتية بعد أن انفتحت: الله أعطى الله أخذ، الله أعطى من جديد. ونجت النظرية الكلاسيكية التي بموجبها تتمّ مجازاة الأبرار والأشرار على هذه الأرض. ولكنّ هذه النظرة الميكانيكية إلى المجازاة ستتحطّم بعد المنفى بفعل ضغط الواقع اليومي. لقد كذّب الاختبارُ هذه النظرية. فإذا أراد أيّوب أن يصدّقه الناس، فعليه أن يا بمظهر الضعف والمحدودية. هذا ما أدركه شاعر القرن ه ، وهو رجل خبرة وثقافة كبيرة، رجل اعتاد لغة المحاكم وتشرّب أسلوب المزامير الشعري ، أعاد تكوين شخص أيّوب فصار شبيهًا بنا.

2- الإيمان الصعب
أوّلاً: خدعة وخيبة أمل
بعد أن وصل الزوّار الثلاثة، غمر الاسوداد كل شيء، وأطلق أيّوب العنان ليأسه. فكل الرباطات التي تقرّبه من أشياء مرغوبة وأشخاص محبوبين، قد مرّت الواحد بعد الآخر. فبدأ يحس بالوقت وكأنّه خدعة وسراب (7: 3- 4). فرغ الماضي من معناه بعد أن بدا الله وكأنّه ينكره. وماذا يقدر الحاضر أن يفعل أمام هذا الانحطاط والسقوط؟ وانغلق أفق المستقبل من دون رحمة (7: 6). صار أيّوب عاجزًا بعد أن حُرم من كلّ عمل، من كلّ مشروع، فأحسّ أنّه قارَبٌ تتلاطمه الأمواج. وهذا الهرب الذي لا ينتهي، يصل به إلى الشيول "أرض السواد والظلال " التي لا يعود منها أحد. لقد مات أيّوب بما أنّ عليه أن يموت. فالولادة والموت يتسابقان فيمحوان في عبورهما ذكريات الفرح والحماس التي صارت كاذبة وغير مفيدة لأنّ الله تخلّى عنها.

ثانيًا: أين هي الصداقة
الله وحده يستطيع أن يوقف هذا الانحدار إلى عالم العبث. يكفي أن يتذكّر (13:14 ي). ولكنّ الله بعيد. والتفت أيّوب لحظة إلى زائريه ليستجدي منهم شفقة حرمَه الله منها: "ارحموني، يا أصدقائي، لأنّ يد الله ضربتني " (19: ا 2). ولكنّهم لم يقدروا أن يذهبوا إلى لقاء أيّوب في ما يكوّن ألمه. بدأوا يقدّمون الحجج لإقناع أيّوب، فبرز الفشل في صداقتهم. فألم أيّوب يعود في نظرهم إلى القاعدة العامّة وهو يرتبط بشريعة المجازاة. إذا كان أيّوب يتألّم فلأنّه خطئ. إذا كان الشقاء يصيبه، فهذا يعني أنّ الله يعاقبه. إذا كانت المحنة تطاله، فهذا يعني أنّه حُكم عليه بالهلاك. فليتُب، وحينئذ يعود كل شيء إلى مكانه. صرخ أيّوب وأعلن أنّه مظلوم، ولكنّ خبرته الشخصية لم تقدر على شيء أمام تماسك نظرة الحكماء.
لم يقف الزوّار مع أيّوب أمام الله ، ولم يدخلوا في ألمه كما يحسّ به ويعيشه، بل جعلوا نفوسهم قرب الله وادّعوا بحقّ التكلّم باسمه (13: 4- 5، 12). كانت أمامهم مغامرة روحية: أن يسيروا مع أيّوب حتّى حافة التمرّد، أن يقبلوا بمشاركته في ما يقلقه! ولكنّهم يمتلكون الحقيقة امتلاكًا، فلماذا يخاطرون بعد في البحث عنها؟ وهكذا تخلّى أيّوب عن سراب صداقتهم (6: 15).

ثالثًا: الألم البشري ووجه الله
حين أقام الألم في حياة أيّوب صارت علاقته بالله علاقة صراع ونزاع. خاب أمله فخسر صبره، فوصلت به الحالة إلى اليأس. وحاول أيّوب بكل الوسائل أن يَخرج من الليل والظلمة، أن يفهم موقف الله ويستشفّ نواياه، فبرزت أمامه ثلاثة إمكانات: أو أنّ الله نساه، وفي هذه الحالة، عليه أن يسرع، فإن تأخّر الله سيبحث عبثًا عن صديق تركه يختفي: "تكون عيناك عليّ ولكنّي لن أكون " (8:7)، أو أنّ الله سئم أيّوب ورأى فيه شيئًا ثقيلاً يربكه (7: 20). ولكن جاء افتراض ثالث معذِّب وهدّام. لقد تبدلّ الله ، صار إنسانًا قاسيًا (30: 21). وإذ أراد أيّوب أن يصوّر هذا التبدّل المُفاجئ عند الله ، إذ أراد أن يعبّر عن غثيانه وقرفه، عاد إلى صور مكدّسة في لا وعي البشر: الله أذاني، لفّ عليّ شبكته، سدّ عليّ الطريق لئلاّ أمرّ، أرسل عليّ الغزاة (6:19- 8، 12 ؛ رج 7: 12؛ 16:10 ؛ 16: 9). وتحدّث عن غضب رجل يحارب (13:16 ي) أو عنف رجل يعامل "البار" بقساوة مجّانية (17:9 ؛ 16: 12).
وتخلّى أيّوب لحظة عن صور القوّة الغاشمة ليعود إلى صور الظلم والجور: الله يشكّ، يبحث، يتحرّى، يراقب. يلاحظ آثار قدمَيْ أيّوب، يحاسبه في كل وقت، ينسب إليه خطايا اقترفها في صباه، كتبَ ضدّه أقوالاً مرّة مع أنّه عالم ببراءته (26:13). في النهاية، تخيّل أيّوب الله شخصاً يعذّب الناس هازئًا منهم، يقتلع الرجاء من قلوبهم (19: 10)، ويسجنهم في إطار الشعور بالذنب والخطيئة (3:9 ي).
كيف نتعرّف بعد هذا الكلام إلى صورة الله. رفض أيّوب صلاح الله وحكمته وقداسته، فطرح بطريقة جذرية مسألة برّ الله ، وبالتالي مسألة برّ الإنسان. فني لاهوت العهد القديم، يبدو برّ الله (وإن عاقب وجرحَ كما يفعل الطبيب) أساساً لاستمرار الله في عمله الخلاصي. أمّا برّ الإنسان فيرتبط ببرّ الله وعليه أن يتكيّف دائمًا مع إرادة الله الخلاصية. حين جمع أيّوب كل هذه الاحساسات السلبية، حصل على صورة تُعارض صورة الله. وطلب هذا الإله "المسخ " وظلّ ينتظره. ولهذا انطبعت ردّات الفعل عنده بالالتباس عينه الذي رآه في موقف الله. تارة تخاله يتخلّى عن إيجاد "إله خريفه " (أي بداية الخصب والغلّة 29: 4). يقول له: أتركني، أفلتني، أبعد عني عينيك. وطورًا يحاول أن يحاجج الله (8:10). وفي مكان ثالث يبدو هازئًا: "إذا خطئتُ، ماذا صنعت لك يا رقيب البشر" (7: 20)؟ ويستعمل كلمات المدائح التي نستعملها في المزامير ليهاجم بها الله. وفي النهاية يتحدّى الله: "قل لي: على أيّ شيء تخاصمني (10: 20)؟ ولكنّ هذا التحدّي هو الوجه الآخر لأمانة لا تريد أن تتراجع، لإيمان لا يقبل أن تخسر الحياةُ معناها.


3- الرجاء
فأيّوب ليس مخدوعًا بما يغالي به من أقوال (6: 26). وهناك علامات تبيّن أنّه يسير باتّجاه هذا الإله الذي يتركه يتألّم. ما نلاحظه هو أنّ أيّوب لا يُنكر الماضي، لا يُنكر سنوات السعادة التي فيها كان القدير معه. وهذه الأمانة في التذكّر تضاعف ألمه: لقد ظنّ أنّ الله نسيه. ولكن تأتي لمعات رجاء فيفتح الأفق أمامه. لمعات عابرة لا ننتظرها وهي تنبع من الشكوى ساعة يفتح التواضع ثغرة في جدار القلق والاضطراب. حينئذ يعرف أيّوب أنّ الله هو الصديق الوحيد الذي نستطيع أدن نبكي أمامه ولا نستحي (16: 20)، فيعلن يقينه أنّ صراخه سيُسمع: "لي منذ الآن شاهد في السماء، ومحام عنّي في الأعالي " (19:16). لن يكون الله فقط الحَكَم في نزاعه مع أيّوب، بل يقبل أن يكون كفيله. "اجعل لديك كفالة عنّي " (3:17). لقد فهم أيّوب أنّ صعوبة الحوار تأتي من غياب الوسيط: "ليس بيننا حكم يضع يده علينا" (33:9). ويحسّ أيّوب أنّ الله سيكون وسيط هذا اللقاء وأنّه سيأخذ على عاتقه مجموع القضايا. ولمّا تولَّد عنده هذا الشعور، صار الرجاء ممكنًا. سيتدخّل الله من أجل أيّوب وهو حيّ لكي يبرّره: "سيقوم على الأرض وتكون له الكلمة الأخيرة" (25:19-27). ومع ذلك، لا يعرف أيّوب ما سيفعل به الموت لأنّ الشيول لا يعيد الموتى إلى الحياة. ولكن يهمه أمر واحد وهو أنّ حياة الإنسان محفوظة في حياة الله.

4- القبول والرضى
وجاءت الشكوى بعد الشكوى، فزال الغبار عن صورة الله في قلب المتألّم. ولكن على أيّوب أن ينتظر ظهور الله في العاصفة وكلامه، ليدخل كلّيًا في مقاصد الله.
بدأ الله فطرح عليه السؤال: "من هذا الذي يجعل مخططاتي غامضة لكلمات يعوزها العلم؟ شدّ وسطك وكن رجلاً: أنا أسألك وأنت تُجيبني " (28: 2- 3). إنّ مخطط الله (أو تدبيره) يدلّ على عمله في التاريخ (لا في الخليقة). وإليه ذهبت اتّهامات أيّوب. ولكن عكس كل انتظار، تجاهل الرب ضيق أيّوب ودعاه إلى نزهة في بستان العالم. ودلّه في كل مكان على علامات قدرته الخلاّقة، وعلى شفقته على الحيوان. وتوالت الأسئلة واضحة وهادئة، ترافقها سخرية أبوية: "أين كنت لمّا أسّست الأرض؟ هل أعطيت أوامر للصباح؟ هل قيّدت النجوم برباطات؟ من يهيّئ للغراب زاده؟ هل تعدّ شهور الغزلان وهل تعرف متى تضع جراء"؟ هو لا يقسو على أيّوب، ولكنّه يبيّن له جدّية الحياة ورصانة الأمور. فيهوه يظنّ أنّ للكون كلمته حين يتساءل الإنسان عن مصيره.
وأجاب الرب على اتّهامات أيّوب (40: 8- 14) بأقواله تمتزج فيها الرصانة بالنكتة. أسرع أيّوب، فأصدر حكمه على الله (8:40). فهل يقدر أن يكمّل عمله ويؤمّن على المستوى العالمي (40: 11 أ، 12 ب) المجازاة العادلة التي يطالب بها؟
بعد هذا، يصوّر يهوه مطوّلاً بهيموت أي البهيمة العظمى، وحيد القرن، ولاويتان (أي التمساح) اللذين لا يفيدان الإنسان بل يخيفانه، اللذين جعلهما السيّد في صدارة العالم الحيواني. وهكذا أكّد الله على حرّيته وقدرته: إنّه يخلق ما يريد ويعرف لماذا يخلق. هل يتحدّى الإنسان خالقه وهو الذي يرتجف أمام تمساح (41: 2 ي)؟
غير أنّ هذه الخطبة الطويلة عن الكون أذابت قلق أيّوب. وما عتّم شاهد الله أن وجد نقط استدلال بالنسبة إلى الكون وبالنسبة إلى الله. لقد قاده الرب إلى حدوده فلا يصطدم بها بل يتصالح معها. وفهم أيّوب أخيرًا أنّ عمل الله قوّة وحنان، وأنّ حبّه للحياة يكفل مخطّطه الخلاصي، وأنّ الإنسان لا يمكنه أن يكون الكائن الوحيد الذي لا يحبّه الله.

5- التجاوز والتفوّق على الذات
لم يستطع أيّوب أن يستعيد الحرية في الإيمان قبل أن ينقّي صورة الله. ولكنّه بعد هذا، سيسير نحو السلام عبر تجاوزات أربعة.
أوّلاً: تخلّى عن نيّته في أن يجعل الله مخطئًا. حاكم الله وأطال محاكمته، ولكنّ عمله قاده إلى العبث. إتّهم الله بأنّه يبحث عن مذنب ينسب إليه خطايا مختلفة ليبرّر عنفه. وفي الوقت نفسه حاول أيّوب أن يلقي التهمة على الله. ولكن إن لم يكن الله ذلك القدّوس فلم يعد موضوع رغبتنا. وأحسّ أيّوب إحساسًا غامضاً أنّه حين شوّه الله دمّر مبرّر حياته.
ثانيّا: تخلّى عن إدخال الله في الثنائية أو التناقض: جعل الله يناقض الله ، جعل إله الماضي ضدّ إله الحاضر، الإله الخالق ضدّ الله القاسي، الإله الصَديق ضدّ الإله المحارب، إله الغفران ضدّ الإله الديّان، إله الإنسان الواقف العزيز ضدّ إله الإنسان المرتمي على الأرض. كيف يستطيع هذا الإله أن يجنّد كل قدرته ضدّ قشّة من التبن (13: 25)؟ كيف يستطيع القدّوس أن يجلس مُشرِق الوجه في جماعة الأشرار (3:10)؟ كيف أحبّ في الماضي ويريد اليوم أن يدمّر (8:10)؟ كيف يقدر الإله الذي كشف عن نفسه أن يقتلع الرجاء (19: 10)؟ صدّ أيّوب التعارضات، فحاول أن يجعل الوجهين يتطابقان وهو الراغب في إعادة الحوار. وتنتصر هذه الرغبة لأنّها أساسيّة في حرّية البارّ المتألّم وتلبّي حاجات قلبه. حاولت أيّوب أن يُخرج الله من صمته، ولهذا كانت حدّة كلامه بعيدة عن التجديف. أمّا الآن فأنهى تحرّكه نحو الحقيقة وامتنع عن محاولة الاستيلاء على السرّ بالقوّة. سلّم إلى الله الصورتين اللتين رسمهما عن الله ، وترك الله يُظهر وجهه الحقيقي.
ثالثًا: في منطق هذا القبول، إفترض تحرّر أيّوب تجاوزًا لكل الصور المطمئنة السلبية التي كوّنها عن الله يوم كان سعيدًا ويوم ضربته التجربة. وبما أنّه مؤمن ويريد أن يبقى مؤمنًا، دُفع إلى الاختيار بين تصوّراته وكلمة الله ، بين ما أراه إيّاه قلقه وما أسمعه إيّاه الله. فوجه الله الحقيقي لا يُرسم إلاّ بالكلام، والله وحده يقدر أن يطبعه على قلب الإنسان. والخلاص يقوم بالنسبة إلى أيّوب المتمرّد يتقبّل مبادرة الله. أمّا عظمة إيمانه فتكمن في أنّه تيقّن أنّ الله يمكنه أن يختبئ لا أن يصمت ويُلازم الصمت دائمًا.
رابعًا: قَبِل أيّوب أخيرًا أن يتجاوز كلّ سؤال: "أعرف أنّك تقدر على كل شيء فلا يستحيل عليك مراد. تحدّثت، من غير أن أدرك، عن عجائب تفوقني وما كنت أعرفها. سمعت عنك الأذن ، أمّا الآن فعيني قد رأتك. لهذا أرجع عن كلامي وأندم في التراب والرماد" (42: 2- 6).
عرف أيّوب ، بعد عاصفة تساؤلاته ، أن يسمع سؤالات الله. جوابه الأخير لا يقلّ عظمة عمّا قاله في المقدّمة، ولكنّه زاد عليه ثقل دراما إنسانيّة حقّة. ووصل إلى الصمت، وهذا الصمت هو قبول نهائي بسرّ إله حرّ. إنّ أيّوب يعرف الآن أنّه لا يعرف، ويقرّأنّ الله يقدر على كل شيء، وأنّه ما زال لديه الكثير من المعجزات والعجائب. صرخ أيّوب في قلب محنته: سأرى الله (26:19) والآن ، ها هو قد رآه ما وراء كل صورة. وفهم أنّه لا يقدر أن يحكم على قلب الله انطلاقًا من تبدّلات قلب الإنسان ولا من مآزق ضميره. فالله هو في الإنسان، وهو أبعد من الإنسان.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM