الفصل الثاني: الحكمة والحكماء في العهد القديم

الفصل الثاني
الحكمة والحكماء
في العهد القديم

الحكمة تيّار فكري في شعب إسرائيل لا يقتصر وجوده على الأسفار الحكمية ، كسفر أيّوب والجامعة مثلاً، بل يبرز بطرق متعددة في تاريخ شعب الله وبصورة واضحة في زمن ما بعد الجلاء. والحكمة لم تنبت في أرض إسرائيل وحدها ، بل في كل بلدان الشرق الأوسط ، وعلى هذا ارتبطت أقوال الحكماء في شعب الله بما وصل إليهم من أقوال بلاد كنعان ومصر والرافدين ، أخذه الحكماء بعد أن محَّصوه في بوتقة الإيمان بالله الواحد ثمّ أعادوا صياغته بحسب تقاليدهم الدينية وأساليبهم الكتابية.
الحكمة فنّ يساعدنا على تمييز السبل التي تتوافق والحياة من تلك التي تؤدّي إلى الموت. والحكيم حوذي يسوق مركبته فيجنّبها المزالق ، أو بحّار يوجّه سفينته فيوصلها إلى مرفأ الأمان ولا يجعلها تتحطّم على الصخور في العاصفة. الحكيم يسعى إلى حياة سعيدة فيتجنّب الفشل والحزن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولهذا تراه ينظر إلى الواقع فيفرّق بين الحقّ والباطل ، بين المفيد والمضرّ، بين الحياة والموت ، ثمّ يستخلص العبر من اختباراته الشخصية واختبارات الآخرين فيوجّه سلوكه اليومي على ضوء ما يرى ويكتشف.
مثل هذا التمييز في العالم المحيط بنا ، أو في خفايا وجودنا ، يجد موقعه في نظرة دينية وإيمانية. فحكة الخليقة هي انعكاس لحكمة الله ، والإيمان بالته ينير جوانب الحياة وأسرارها. الله حاضر في الكون وإن لم نذكره ذكرًا صريحًا واضحًا ، والبحث عن السعادة لا يمكن أن يتم بمعزل عن الله . هذا ما نكتشفه في سفر طوبيا أو نشيد الأناشيد أو سفر الأمثال حيث يبرز الله حاضرًا في حياتنا اليومية. "ما يُجمع بالشر لا يُعيل العيال ، والصدق يُنقذ من الموت... الحكيم القلب يقبل الوصايا ، والأحمق في كلامه يتهوّر... بركة الرب هي التي تغني ، كثرة الشعب لا تزيد شيئًا". (أم 2:10؛ 22:8).
هذه الحكمة في شعب إسرائيل سنراها ، فنطالع كتبها ونرافق أفكارها ونتبعها فتوصلنا "إلى المسيح الذي صار لنا من الله حكمة وبرًّا وقداسة وفداء" (1 كور 1: 30).

أ- ما هي الحكمة
الحكمة موهبة تؤهّل الإنسان ليوجّه حياته فيكون سعيدًا. الحكمة معرفة وفهم: معرفة تعلّم الإنسان كيف يتصرّف فيفتح أذنيه ليسمع ساعة يجب السماع ، وفمه ليتكلم ساعة يجب التكلّم؛ وفهم يساعد الإنسان على الفصل بين ما هو صالح وما هو سيّء ، بين المفيد والمضر .
الحكمة موهبة أو جملة مواهب تساعد الإنسان على توجيه حياته في العالم. فالتاجر الحكيم هو الذي يفطن للأمور قبل أن تحدث ، والفلاّح الحكيم هو الذي يراقب تعاقب الفصول والأوقات، والملاّح الحكيم هو الذي يقود سفينته بدراية وحكمة. يكون الحدّاد حكيمًا إذا أجاد صنعته (خر 35: 31- 35) وكذلك النقّاش في الحجر والخشب (1 أخ 22: 15) والصائغ والحائك والنجّار (إر 10: 9). الحكمة إلمام بالأمور، تُولدَ مع الإنسان وتنمو مع الزمن بالاختبار الشخصي والتعليم الذي ينتقل من الأب إلى أبنه ومن المعلّم إلى تلميذه: "إسمع يا بنيّ تأديب أبيك ، ولا تنبذ شريعة أمّك " (أم 1 :8).
الحكمة تعني العدل والعلم والحلم والفلسفة والكلام الموافق الحق وصواب الأمر وسداده، والحكيم هو صاحب الحكمة الذي يعرف أن يحكم ويفصل ويبيّن ويوضح. الحكيم هو الرجل المسنّ الذي علّمته التجارب ، فتعلّم أن يسيطر على الأمور وعلى نفسه ، فيمنعها ويردّها فلا تتوجّه إلاّ حيث يريدها أن تتوجّه. وأوّل الحكماء هو الحاكم ، أي القاضي ، الذي يعرف أن يحكم في الأمور على أساس من العدل والحلم وصواب الرأي. إذا كان الحكيم هو من ينظر إلى الأمور ويراقبها ، فسيأتي يوم يستنتج منها العبر له وللذين حوله ، فيعبّر عن خبرته بالكلمة التي تنتقل من الفم إلى الأذن ، قبل أن تدوّن مكتوبة في صيغة القول المتداول بين الناس. قال الناس في سومر (سهل بلاد الرافدين): "الصداقة تدوم يومًا ، أمّا القرابة فتدوم طول الأيّام ". وقالوا في مصر: "المرأة المبذرة تزيد الأمراض على المتاعب في البيت ". وقال حكماء الشرق إجمالاً: "التأنيب يؤثّر في الحكيم أكثر من مئة جلدة في البليد" (رج أم 17: 10)، و"الآباء أكلوا الحصرم ، وأسنان البنين ضرست " (حز 18: 2)، و "سنموت أو نكون كالماء المراق على الأرض " (2 صم 14:14).
نبتت الحكمة في عالم الأرض والطبيعة ، وظلّت مادة شفهية إلى أن جاء الكتّاب منذ عهد سليمان فدوّنوها أمثالاً وأحاديث منقولة. إنطلقوا من حواس الناس فقالوا: "كالحامض للأسنان والغبار للعين ، كذلك البطّال لمن يرسله... فم الصديق ينبت الحكمة ، أمّا لسان الكذب فيُقطع " (أم 10: 26- 32). وقالوا: "الأيدي المجتهدة تسود ، والمرتخية تخدم بالسخرة... نور العيون يُفرح القلب والسمعة الطيّبة تُحيي العظام " (أم 12: 24 ؛ 15: 31). إنطلقوا من حالات خاصة ثمّ جعلوها في أسلوب معمّم فبدأوا كلامهم باسم الموصول. قالوا: "من يسلك بنزاهة يسلك مطمئنًا ، ومن يعوّج طريقه يُفتضح. من يغمز بالعين يثير الغضب ، والأحمق في كلامه يتهوّر" (أم 10: 9- 10). وقالوا: "أن يطلب الخير يلتمس رضى الله ، ومن يطلب السوء يلحقه... من فلح أرضه شبع خيرًا، ومن تبع البطّالين أعوزه الخبز" (أم 27:11؛ 12: 11).
يردّد الحكماء الأقوال المأثورة ، ولكنّ الحكماء في بني إسرائيل يطبعون هذه الحِكَم المتداولة بطابع الإيمان ، فيستفيدون من الأمثال ليحرّضوا الناس على الحياة بحسب مشيئة الله والعمل بوصاياه. يقولون: "الصدّيق لا يلحقه إثم، أمّا الأشرار فكلّهم سوء... السوء يتبع الخاطئين، وبالخير يُجازى الصدّيقون. طرق الشرّير يعيبها الرب ، ويحبّ من يتبع العدل " (أم 12: 21 ؛ 13: 21 ؛ 15: 19). ويقولون مفاضلين بين أمر وأمر: "القليل مع مخافة الله أفضل من كنز عظيم مع الهمّ. أكلة من البقول مع المحبّة أفضل من عجل مسمّن مع البغض... القليل مع العدل ، ولا الرزق الكثير بغير إنصاف " (أم 15: 16- 17؛ 8:16). ويقابلون تصرّف الحكماء بتصرّف البلهاء: "شفاه الحكماء تنشر المعرفة ، وقلوب البلهاء كلّها جهل " (أم 7:15)؛ "المرأة الحكيمة تبني بيتها ، والحمقاء تهدمه بيديها. الجهّال يختارون الحماقة ، والأذكياء يُكثرون المعرفة" (أم 14: 1، 18).
ولكنّ الحكمة الحقّة والسامية لا توجد كاملة إلاّ في الله. يقول سفر الأمثال: "قلب الإنسان يرسم طريقه ، والرب يثبّت خطواته " (26: 9)؛ "في قلب الإنسان نيّات كثيرة ، ونصيحة الرب هي التي تثبت... مخافة الرب تؤدّي إلى الحياة ، وصاحبها يشبع ولا يحلّ به سوء" (أم 19: 21- 23). كان الناس يتحدّثون عن شجرة معرفة الخير والشر (تك 3: 1 ي) فصارت على شفاه الحكماء إمكان التمييز بين الخير والشر (أم 13:3 ي). جمع كتَّاب سليمان الحكيم وحزقيا الملك أقوالاً عن الكذب واعوجاج القلب واستقامته ، فقالت أسفار الحكمة: "إعوجاج القلب يعيبه الرب ، والسيرة الصالحة مرضاة له. من يطب الخير يلتمس رضى الرب ، ومن يطلب السوء فالسوء يلحقه. كلام الكذب يعيبه الرب ، ويرضى عن العاملين بالصدق " (أم 11: 20 ؛ 27: 12- 22).

ب- أسفار الحكمة
هذه الحكمة التي يهبها الله للبشر ولاسيّمَا لأبناء شعبه العائشين بمخافته الملتمسين رضاه ، قد دوّنها الكتّاب الملهمون فوصلت إلينا في أشكال ثلاثة. الأوّل ، القصص الحكمي ، والثاني ، كتب الحكمة الموجودة في المجموعة القانونية الأولى ، والثالث ، كتب الحكمة الموجودة في المجموعة القانونية الثانية.

1- القصص الحكمي
يمكننا القول في بداية الأمر إنّ التيار الحكمي يخترق أسفار التوراة من أوّلها إلى آخرها. ففي خبر الخطيئة الأولى (تك 3: 1 ي) نجد مقابلة بين الحكمة الآتية من عند الله والتي تؤول إلى الحياة ، والحكمة الآتية من عند الحيّة الجهنمية والتي جعلت الإنسان في طريق التعاسة والألم والموت. أمّا قصّة يعقوب بن يوسف (تك 39- 50) فتدلّنا على أنّ من يخاف الله ويعمل بوصاياه تفوق حكمته حكمة المصريين على شهرتها ، ويعرف صاجها أن يفسّر الأحلام ويحدّث الملوك وينظّم حياة الأفراد في زمن الوفر كما في زمن الجوع.
حكمة الله في مصر أنقذت يوسف ورفعته من العبودية والسجن إلى المقام الثاني بعد فرعون ، وحكمته في بابل سترافق دانيال ورفاقه فتنجّيهم من الصعوبات التي رافقت الذاهبين إلى المنفى ، وترفعهم في عيون الملك الذي يطلب إلى شعبه أن يعبدوا "يهوه " لأنّه هو الإله الحي القيوم إلى الأبد (دا 6: 26). والحكمة الحقّة الكائنة في العيش بحسب وصايا الله ، جعلت كلآ من داود وسليمان وحزقيا ويوشيا ملوكًا بحسب كلام الله كما نقرأ في السفرين الأوّل والثاني من أخبار الأيّام.
من القصص الحكمي نذكر سفر طوبيا (الذي دُوِّن في الأرامية ووصلنا في اليونانية في القرن الثاني ق م) وهو قصة تقوية يتوسّلها المؤلّف لينقل حكمة الآباء إلى الأبناء ، ويدخل حكمة الشعوب (حكمة احيقار الأرامي في القرن الثامن ق م) في تراث شعب الله . ونذكر سفر يهوديت (وصلنا في اليونانية في القرن الثاني ق م) الذي يصوّر لنا حكمة هذه الأرملة التي توصّلت بتقواها واتكالها على ربّها أن تخلّص بيت فلوى مدينتها من شر البابليين ، فأبانت للشعب أنّ الله ينجِّي المؤمنين به ويفني أعداء شعبه. ونذكر قصّة راعوت (دُوّنت في القرن الخاسر ق م) الموآبية التي استطاعت بحكمة من لدن الرب أن تدخل شعب الله وتصير جدّة الملك داود ، وبالتالي جدّة يسوع المسيح (مت 1: 5).
هذه الحكمة نراها حاضرة في تصرّف تامار التي جعلت يهوذا بن يعقوب يتزوّجها (تك 38: 1 ي). وهي التي وجّهت أهود بن جيرا البنياميني (قض 3: 12- 30) فنجّى شعبه من ملك موآب ، وشجّعت باراق على سيسرا (قض 4: 5) وداود الضعيف على جليات الجبار (1 صم 17: 1 ي).

2- الكتب الحكمية الأولى
إعتاد الشرّاح بعد القرن السادس عشر ب م أن يميّزوا بين الكتب القانونية الأولى التي كتبت قديمًا في اللغة العبرانية ، والكتب القانونية الثانية التي كتبت في زمن متأخّر ووصلت إلينا في اللغة اليونانية. أمّا الأسفار القانونية الأولى التي تعالج موضوع الحكمة فهي سفر أيّوب ، والأمثال ، والجامعة ، ونشيد الأناشيد. وأمّا الأسفار القانونية الثانية فهي سفر الحكمة، وباروك، ويشوع بن سيراخ.



أوّلاً: سفر الأمثال
هو أقدم تراث حكي في أرض إسرائيل ، بدأ الكتّاب بتدوينه منذ عهد سليمان غارفين من هذا المعين الشرقي (السومري والأشوري والبابلي والمصري...)، وتابعوا عملهم في عهد حزقيا، ولم ينتهوا منه قبل الجلاء. وهكذا جاء السفر في مقدّمة طويلة (ف 1- 9)، وسبعة أقسام تسمّى "الأعمدة السبعة" (9: 1) هي مجموعة سليمان الأولى (10: ا- 22: 16)، ومجموعة الحكماء الأولى (17:22- 22:24)، ومجموعة الحكماء الثانية (23:24- 34)، ومجموعة سليمان الثانية كما نقلها رجال حزقيا الملك (25: 1- 27:29)، وكلمات أجور السبائي (30: 1- 14) وأمثلة عددية (30: 15- 33)، وكلمات لموئيل (31: 1- 9). نقرأ هذا السفر فنتعلّم أنّ الحكمة الحقة تبنى على مخافة الله ، وأنّ على الإنسان أن يختار بين الطريق التي تقود إلى الحياة وتلك التي تقود إلى الموت.

ثانيًا: سفر أيّوب
يحاول الإنسان العائش في ضياع أن يحدّد موقعه من الله القدّوس والكلّي القدرة. وهذه المحاولة تبرز من خلال الألم الذي يصيب أيّوب البار، والشر الذي ينتشر في العالم فلا يفلت منه أحد. كُتب هذا السفر شعرًا، وجُعلت له مقدّمة وخاتمة نثريتان تعرضان مشكلة الثواب والعقاب في إطار تقليدي: إنّ البار سيُجازى في النهاية خيرًا. أمّا الفصول الشعرية (ف 3: 1- 42: 6) ففيها مواجهة الإنسان لعبث الوجود المنتهي بالموت ، وصورة عن المؤمن الذي يثور على ربه فتصل به الثورة إلى حد "التجديف " قبل أن يعود إليه ملتمسًا حضوره رغم الصمت الذي يلفّ هذا الحضور. وبعد أن يُفرغ أيّوب ما في قلبه ، يحضر الرب عبر الخليقة ويكلّم عبده فيُفهمه أنّ قدرة الله عجيبة وأنّ السجود الصامت هو الجواب لعمل الله في الكون وفي حياة الإنسان. دوّن هذا السفر بعد الجلاء ، فجاء بشكل مثل يصوّر عبر شخص أيّوب حالة الشعب الذاهب إلى المنفى المتسائل عن عدالة الله وصدق مواعيده. أمّا الجواب: إنّي عالم بأنّ فاديَّ حيّ وأنّه سيقوم فتكون له الكلمة الأخيرة ، ولو نُزع جلدي عن لحمي فسوف أعاين الله.

ثالثًا: سفر الجامعة
إنطلق كاتبه من اختبار ملوكي عاشه سليمان (1: 1 ي) أو ملك غيره ، فدوَّنه في زمن ما بعد الجلاء. رأى أنّ كل محاولات الإنسان وأتعابه ليتخلّص من وضعه البشري تبوء بالفشل مهما كان مستوى سعادته... فبعد السرور والعزّة يبقى في الفم طعم المرارة: باطل الأباطيل وكل شيء تحت الشمس باطل ولا فائدة منه.
رابعًا: سفر نشيد الأناشيد
هو قصيدة شعرية طويلة تصوّر في مثل من الأمثال حب الله لشعبه. إنطق الشاعر من رباط العريس بعروسه ، ومن علاقة الله بشعبه ، علاقة زواجية كما رسمها الأنبياء ، فبيّن لنا أنّ كل حب على الأرض ينبع من قلب الله.
أسفار اربعة تحدّثنا فيما تحدّثنا عن الموت والحياة ، والشر والألم والسعادة ، والحب الذي هو أقوى من الموت.

3- الكتب الحكمية الثانية
أوّلاً: سفر الحكمة
دَوّن سفر الحكمة حوالي السنة 50 ق م في الاسكندرية شاعر ومعلّم روحي تشرّب الأسفار المقدّسة في ترجمتها اليونانية ، فجاء كتابه تنبيهًا إلى شعبه لكي لا يتركوا إيمانهم مهما قست الاضطهادات وقويت التجارب ، ونداء إلى الوثنيين ليقتننعوا بهذه الديانة التي تظهر فيها حكمة الله منذ بداية الخلق إلى الآن.
يطرح هذا السفر مسألة مَصير الإنسان والموت والحياة الأخرى. يقول: النفوس خالدة، وسيكون لنفوس الأشرار العقاب الذي يستحقون ، ولنفوس الأبرار النور والسعادة التي ينتظرون. أجل ، إن نفوس الصدّيقين هي بيد الله وهو يحميها فلا يمسّها عذاب.

ثانيًا: سفر باروك
وصلنا باللغة اليونانية مدوّنًا بشكله النهائي في القرن الثاني ق م. يحتوي صلاة توبة (1: 15- 8:3) وكلامًا يشجّع فيه مدينة أورشليم ويعزّيها (4: 5- 5: 9). وبين هذين القسمين يتضمّن تأمّلاً في الحكمة يقول فيه: إذا كان الشعب قد ضلّ وتاه فوصلت به طريقه إلى الموت ، فهذا عائد إلى أنّه ترك ينبوع الحكمة. الحكمة هي كتاب وصايا الله . من تمسّك بها فله الحياة ، ومن أهملها يموت.

ثالثًا: سفر يشوع بن سيراخ
دوّنه كاتب من أشراف أورشليم تشرّب حب الشريعة منذ صباه. أراد أن ينقل إلى الشبيبة ثمرة تأمّله واختباره ، فجمع حوله تلاميذ يعلّمهم ما تعلّم خلال أسفاره وما اكتشف في مطالعته للأسفار المقدّسة الموجودة في شريعة موسى (أو التوراة، أي: تك، خر، لا، عد، تث)، وفي الأنبياء (السابقين، أي: يش، قض، 1 و 2 صم، 1 و 2 مل، واللاحقين، أي: اش، إر، حز، والأنبياء الصغار الاثنا عشر). وفي سائر الكتب (أي: مز، أي، أم، جا، نش،...).
دوّن هذا السفر في القرن الثاني ق م يوم أخذت الثقافة اليونانية تنتشر حتى في الأوساط اليهودية حاملة معها مزيجًا أدبيًا ودينيًا لا بدّ أن يؤثّر في إيمان شعب الله ويهدّد وجوده. دوّن ابن سيراخ كتابه فدافع فيه عن تراث اليهود الديني والثقافي ، وبيّن لأبناء شعبه أنّ الشريعة الموحاة هي الحكمة الحقيقية التي لا تقل أهمية عن فكر اليونان وثقافتهم. دوّنه بشكل كتاب حكمي تأثّر بسفر أيّوب وسفر الأمثال ، فجمع بين الحكمة والشريعة وألّف بين الحكيم المتعلّم والبار الخاضع لشريعة الله.

ج- حكمة الملوك والحكّام
بدت لنا الحكمة تأمّلاً في الكون وتفكيرًا في وجود الإنسان ، بدت لنا فلسفة تتطرّق إلى كل مجالات الحياة ، دوّنها أشخاص كبار أرادوا أن يتركوا لأولادهم نصائح وإرشادات تساعدهم على النجاح في الحياة وعلى تجنّب الصعوبات التي تعترضهم ، فتجري حياتهم بوداعة ويتمتعون بسعادة مبنيّة على السلام والعدالة.
وإذا كان الفرد يحتاج إلى الحكمة ليدبّر أموره ، فكم بالأحرى الملك الذي يدبّر أموره وأمور شعبه. وهذا يعني ان الملك يحتاج إلى الكثير من الحكمة ، أن يكون قريبًا من حكمة الآلهة ليحلّ النظام في ملكه والعدل بين رعاياه. لأجل هذا يحيط نفسه بالمستشارين الذين أمّوا مدارس ذلك الزمان ، ليساعدوه على رسم المخططات وتنفيذ المشاريع الضرورية في البلاد.
هؤلاء المستشارون لهم دورهم ، وكلامهم شبيه بقول الآلهة (رج تك 41: 38- 39 وما قاله فرعون ليوسف). بيدهم العلم ورأيهم لا يُردّ. إن حافظوا على العدل والحقّ وطّدوا أسس المملكة ، وإن سعوا إلى إرضاء الحاكم على حساب شريعة الله وحقّ الأفراد وعملوا للتسلّط على الشعب ، قوّضوا هذه الأسس وقادوا البلاد إلى الدمار.

1- الملك في الشرق القديم
كان الشرق القديم يعتبر الملك مختار الإله ، اصطفاه ليساعد الناس على تحمّل الحياة والصبر عليها. ولكي يحكم الملك بحسب شرائع الآلهة يحتاج إلى حكمة الآلهة وعلمهم ومعرفتهم ، لأنّه وكيلهم على البشر.
ففي مصر، فرعون هو ابن الإله أمون رع الحاكم على أرض مصر بشكل شمس تدور فوق الأرض معبّرة عن قوّة الإله وعطفه على شعبه. يحكم الملك بمعاونة الموظفين والمستشارين الذين اشتهروا في مصر وخارجها ، ونذكر منهم امحتوتيف الذي بنى أوّل هرم في مصر حوالي سنة 2700 ق م ، وفتاحوتيف الذي سجّل حكمة حكمائها حوالي سنة 2300 ق م. ولقد حفظ سفر التكوين شيئًا من هذه الحكمة التي تفوّق عليها يوسف لا بعلمه ، بل بعلم الله ، وهو العائش في مخافة الله (تك 16:41).
وفي بلاد الرافدين ، النظام الملكي هو هدية السماء إلى الأرض. فالملك هو رسول الآلهة على الأرض ، يوفّر باسمهم السعادة لعبيده ويحميهم من ظلم الظالمين. كان داريوس قد حفر على قبره: "جعلت كل إنسان مكانه ، فخاف الجميع من قضائي بحيث لم يعد القوي يقتل الضعيف أو يسيء إليه ". فإذا كان الملك وكيل الآلهة ، فهو يشاركهم في حكتهم ويكون عارفًا ملمًّا بكل شيء ، قويمًا يبغض الكذّاب ويحب الحق ويمارس العدالة. الملك بحسب جلجامش هو الذي رأى كل شيء وعرف أعماق البحار، وعلم كل شيء وتفحّص الأسرار.
وإذا تحدّثنا عن الملوك في فينيقية وأوغاريت وبلاد الحثيين وصلنا إلى النتيجة ذاتها: الملك يحمل سلطة الله على الأرض ، يدير الأمور باسم الآلهة فيشاركهم في الحكمة والمعرفة ليُحلّ على الأرض العدالة ويكون أبًا للأيتام وسندًا للأرامل وعمادًا للمساكين.
ولمّا أخذ بنو إسرائيل بالنظام الملكي ، لاسيّمَا في زمن داود الذي احتلّ مدينة أورشليم وجعلها عاصمة مملكته ، حافظ الملك على الكتّاب الذين كانوا في البلاد وقد مرّوا في مدارس مصر. وكما كانت شعوب الشرق تعتبر الملك متمتّعًا بحكة الآلهة ، سيعتبر شعب إسرائيل أنّ حكمة الرب تحلّ على الملك وتمتدّ إلى كل الساكنين معه (1 مل 8:10).

2- الملك في شعب إسرائيل
نقرأ نصوصاً تذكر داود وسليمان وتتحدّث عن حكمة الملك التي هي مشاركة في حكمة الله. النص الأوّل نقرأه في 2 صم 14: 1 ي. ثار أبشالوم على والده الملك داود ، فأراد يوآب قائد الجيش أن يهيّئ رجوع الابن إلى البيت الوالدي فأرسل من يطب له العفو ، امرأة حكيمة ، فعبّرت بكلماتها عن حاجة الشعب إلى ملك يقوده. قالت: نحن نموت وقد صرنا كالماء المراق على الأرض الذي لا يجمع... سيّدي الملك هو كملاك الله يفهم الخير والشر، والله معه ليميّز بينهما. فعرف داود أنّ يوآب هو الذي أرسلها. حينئذ قالت للملك: إنّ سيدي حكيم ، وحكمته كحكمة ملاك الله ، وهو يعرف كل شيء على الأرض.
النص الثاني نقرأه في 1 مل 3: 4- 5 وهو يحدّثنا عن سليمان الذي طلب الحكمة فحصل عليها. قال الله لسليمان: "أطلب ما تشاء وأنا أعطيك ". فتذكّر سليمان أفضال الله عليه وعلى داود والده ، وعرف أنّه سار باستقامة وصدق لأنّ الله كان أمينًا لمواعيده لداود أبيه. وبرزت أمانة الله هذه بصورة خاصة حين ساعد سليمان على اعتلاء العرش. ولكنّ سليمان أقرَّ في نفسه أنّه ضعيف عاجز، وأنّه لم يزل فتى تنقصه حكمة الشيوخ ودربتهم ، وأنّه لا يملك العلم والفهم الضروريّين ليسود هذا الشعب الكثير الذي هو شعب الله وخاصته. فإن أعطى الرب مليكه الحكمة والمعرفة ، استطاع أن يقوم بعمل محفوظ للشيوخ وهو أن يحكم الشعب ويقضي فيه. والحكمة التي طلبها سليمان هي ة قلب يسمع فيحكم بين أفراد الشعب ويميّز بين الخير والشر. بمثل هذه الموهبة يستطيع سليمان أن يكون الملك العادل (رج 1 مل 16:3 ي وكيف قضى للأم الحقيقية بالإنصاف) الذي يتولّى أمر شعبه ، الملك الحكيم الذي يبني هيكلاً لربه ويوفّر السعادة لشعبه فتصل شهرته إلى أقاصي الأرض.
يقول الكتاب عن سليمان: "سمع جميع بني إسرائيل بقضاء الملك ، فخافوا الملك لأنّهم رأوا حكمة الله فيه " (1 مل 28:3). أمّا الملك الآتي باسم الرب ليجعل "الله معنا "، فهو يعرف أن يرذل الشر ويختار الخير (أش 7: 16). روح الرب عليه فيقضي بالحق ، لا بمَا تراه عيناه وتسمعه أذناه. هو يرى العظماء ، ويسمع كلامهم ، ولكنّه يرى أيضاً شقاء الشعب ويستطيع أن يسمع ظلامته: يعطي المسكين حقه ، ويقضي للبائسين بالإنصاف ، ويضرب المنافقين بكلمته فتفعل فيهم فعل العصا (أش 11: 1 ي).

3- صارت حكمة الملوك جهلاً
حدّثنا أشعيا عن الملك المثالي وهو القريب من الحكم والحاكم ، ولكنّ إرميا (23: 1 ي) سينطلق من واقع الشعب الذي يبدو كقطيع لا راعي له. لم يكن الملك ذلك الراعي الذي انتظره الرب ، ولهذا سيتدخّل الرب فيقيم راعيًا جديدًا يرعى قطيعه فلا يخافون من بعد ولا يفزعون.
هذا الراعي سيكون على مثال داود ملكًا حكيمًا يُجري الحكم والعدل في الأرض ، فيعيش الشعب في أمان. أمّا المشيرون الذين جعلهم الملوك قربه ، فعملوا على إرضاء الملوك (أم 14: 35؛ 20: 1) لا على إرضاء الله. ونسوا واجب تنبيه الملك إلى حاجات الرعية فاستحقّوا العقاب القاسي: يجعلون الشر خيرًا ، والخير شراً ، والمرّ حلوًا ، والحلو مرًّا. هم حكماء بنظرهم. يجرّون الإثم بحبال الباطل... هؤلاء الحكماء سيكون مصيرهم كالقش يأكله لهيب النار وكالحشيش الملتهب يأكله النخر (أش 17:5 ي).
لا، ليس الملك في شعب إسرائيل كما في سائر الشعوب (1 صم 8: 5). هو إنسان كسائر الناس ، وحكمته ترتبط بمخافة الرب وّالخضوع لوصاياه. إن كان قريبًا من الرب رافقته حكمة الرب ، وإلاّ زالت عنه. أليس هذا ما حل بسليمان يوم أحبّ نساء غريبات ، ويوم سار على خطى المصريين والعمونيين والصيدونيين والحثيين ، فخانته الحكمة وانقسمت مملكته بعد موته لأنّ الله قضى بذلك (1 مل 11: 1، 29- 32)؟
في هذا الإطار نقرأ ما يقوله المؤرّخ الاشتراعي: "متى حلّ الملك على عرش ملكه ، فليكتب له نسخة من هذه الشريعة... ولتكن عنده يقرأ فيها كل أيّام حياته ، ليتعلّم كيف يخاف الرب إلهه ، ويحفظ كلام هذه الشريعة ويعمل بها... لئلا يحيد عن الوصية يمينًا أو شمالاً" (تث 18:17-20). أمّا إرميا فسيجابه الحكماء في بلاد يهوذا وينتقد حكتهم فيظهر عيبها. يقول: "تقولون: نحن حكماء ، وشريعة الرب معنا. كيف تجرؤون على هذا القول وقلم الكتبة الكاذب حوّل الشريعة إلى الكذب: رذل الحكماء كلمة الرب ، فماذا فيهم من الحكمة" (إر 8:8- 9)؟ أجل ، الحكمة الحقة هي في مخافة الله ، والحكيم هو من كُتبت شريعة الرب في ضميره وجُعلت في قلبه (إر 31: 33).

د- ما نفع الحكمة أمام الألم
في إحدى الكتابات السومرية نقرأ هذه العبارة حفرها على الصخر رجل حلّت به المحنة:أي شر عملت ليصيبني هذا الشر؟ وهذه العبارة سمعنا مثلها على لسان أيّوب: "سئمت نفسي حياتي، أطلت شكواي وأتكلّم بمرارة" (10: 1). ونقرأ في المزامير: "إلهي إلهي لماذا ابتعدت عنّي وامتنعت عن نجدتي وسماع أنيني؟ إلهي ، في النهار أشكو فلا تعين ، وفي الليل لا تحرّك ساكنًا" (22: 2- 3). وفي سفر الجامعة: "كرهت الحياة لأنّ ما يُعمل تحت الشمس سيّء في نظري ، فهو كلّه باطل وقبض ريح " (3:2). مشكلة الألم هي هي في كل زمان ومكان ، وهي تولّد الحزن واليأس ، فكيف جابهها الحكماء؟

1- الألم في عالم الشرق
قال السومريون العائشون في بلاد الرافدين ، إنّ مصائب الإنسان هي نتيجة خطاياه وأفعاله السيئة ، وإنّ الإنسان لا يمكن أن يعتبر نفسه بريئًا من الذنوب ، فماذا يعجب إنْ تعذّب وتألّم؟ أمّا الوسيلة للتخلّص من الخطيئة والمصائب ، فتمجيد أحد الآلهة علّه يتوسّل إلى مجمع الآلهة فتتحوّل آلام الإنسان أفراحًا وتحلّ قربه قوى الخير محلّ قوى الشر. وإذا لم تتمّ النجاة له ، فما له إلاِّ أن يُصعد الزفرات فيقول: يشرق النهار ضياء على الأرض ، أمّا أنا فالنهار سواد لي بعد أن أقام الحزن واليأس والدمع في أعماقي. إرفع رأسي يا إلهي وخالقي: إلى متى تهملني وتتركني بغير سند ولا عون؟
وقال البابليون: إنّ الشقاء يضرب البار والأثيم على السواء فلا يفرّق بينهما ، وإنّ الإله مردوك غائب في سمائه لا تهمّه أحوال البشر. لهذا اهتمّ الإنسان بأن يجعل حياته تطول، والحياة عطيّة الآلهة ، وِأن يتجنّب الموت لأنّه يضع حدًّا لسعادته. يحاول الإنسان أن يهِرب من الموت ، ولكن عبثاً ، وأن ينجو من الألم والمصائب ، ولكنّه سيقرّ عاجلاً أم آجلاً أنّه إنسان ضعيف رفيقه الألم والمصائب ونهايته الموت.
وبدأ المصريون يقولون: إنّ مصير البار بعد الموت يبشّر بخير عميم ، وإنّ البار يُجازى خبرًا والشرير شرًا. ولكن جاء من يعارض هذا القول الذي يعتبر أنّ الخلود هو نتيجة احتفال مهيب عند الموت. فإذا كان الأمر كذلك ، فهذا يعني أنّ الغني يميّز عن الفقير، فلا يبقى للفقير إلاّ أن يفع حدًا لأيّامه بالانتحار، متحدّيًا ظروف الحياة وأحكامها. لا حاجة إلى القول إنّ مثل هذه الأفكار هي هي لم تتبدّل في عالمنا الحاضر: بعض الناس يثور على الحياة ، وبعضهم الآخر يتقبّلها مستسلمًا خاضعًا. ولكن ما يكون جواب المؤمن؟

2- مشكلة الألم في شعب إسرائيل
عرف شعب إسرائيل الألم في كل تاريخه ، ولكنّه اختبره بعمق يوم سقطت أورشليم (587 ق م) فرافق سقوطها الفظائعُ وأهوالُ الحرب. رأى صدقيا أبناء ه يقتلون أمامه قبل أن تفقأ عيناه، وشاهد الناس أورشليم مدمّرة ونخبة سكّانها يسيرون حفاة وعراة في قوافل طويلة إلى المنفى. لِمَ كلّ هذه المصائب والآلام؟ قال بعض الحكماء والأنبياء والكهنة: إنّ كل هذا وليد إرادة الله الغاضب على شعبه ، وقد استعمل جيش بابل كأداة في يده يؤدّب بها الخاطئين. نقرأ في سفر المراثي: "تعالوا يا عابري الطريق إلى هنا، فتأمّلوا وانظروا. لا وجع كالوجع الذي أصابني (أورشليم تتكلّم)، كالوجع الذي أحلّه بي الرب في يوم اشتداد غضبه. من العلاء أرسل نارًا إلى عظامي فسَرَت فيها. بسط شركًا لرجليّ فردّني إلى الوراء... جعلني في يد أعدائي... بنيّ هلكوا لأنّ العدوّ كان الأقوى" (1: 12 ي).
المصائب تأتي من الرب وهي نصيب البار والخاطئ على السواء ، لأنّ الخطيئة حاضرة في المجتمع أكانت خطيئتنا نحن أم خطيئة آبائنا. قال قانون العهد في ذلك: "أنا إله غيور قوي، أعاقب ذنوب الآباء في البنين إلى الجيل الثالث والرابع " (خر 20: 5)، ولكنّ النبي حزقيال (18: 4) أعلن أنّ النفس التي تخطأ هي التي تموت. فنتج من هذا القول الثاني أنّ نجاح الإنسان على الأرض مرتبط بقداسته ، وأن فشله وأمراضه وليدة خطاياه. بعد هذا ، أحاط الناسُ الأغنياءَ والعظماء بضروب الإكرام ، واستهانوا بالمسكين والمريض والعاقر واليتيم والأرملة.
غير أنّ الاختبار اليومي جاء يعارض هذا المبدأ. فبعد أن رأى المؤمنون سعادة المنافقين ويسارهم ، وشقاء الأبرار وتعاستهم ، رأوا يربعام الثاني ومنسّى يتمتعان بالعمر الطويل والمُلك السعيد وينهيان حياتهما بالهدوء والطمأنينة ، بينما مات يوشيا شابًا على يد نكو، ملك مصر، مع أنّه "لم يكن ملك مثله أقبل إلى الرب بكل قلبه وكل نفسه كل قدرته، ولا قام بعده مثله " (2 مل 23: 25). وفي هذا المجال، قال صاحب المزامير: "قم يا الله وارفع ذراعك ولا تنسَ المساكين. لماذا يستهين الشرير بالله ويقول في قلبه: لا يحاسب " (10: 12-13)؟ وقال أيضاً: "كادت قدماي تزيغان، وخطواتي في سيرها تزل، حين رأيت الأشرار في سلام. فهم لا يشكون من الأوجاع، وأجسامهم سليمة سمينة لا يتعبون كسائر الناس، ولا تصل إليهم المصائب كالبشر. لذلك تقلّدوا الكبرياء ولبسوا لباس العنف وجحظت عيونهم من الشحم، وفاضت قلوبهم بالحماقة" (2:73- 6). وهكذا يقف المؤمن أمام مشكلة الشر فلا يجد لها جوابًا.

3- سفر أيّوب
وطرح أيّوب مسألة الألم الذي لا مبرر له، فعارض، وهو المؤمن الصريح، الموقف التقليدي البسيط الذي يجعل الأخيار يجازون خيرًا والأشرار شرًا. هو يشكو ربه إلى أصحابه، بل يشكو ربه إلى ربه، هذا الرب الذي يترقّب البشر ليمسكهم وهم متلبّسون بالذنب. رفض أيّوب أن يناقش أصحابه الذين يشكّون ببرّه وصلاحه، وجادل الله لأنّه اعتبر أن لا أحد سواه يمكنه أن يدلّ الإنسان على معنى الحياة والموت، ورأى فيه محاورًا يمكنه أن يكلّمه، أن يدعوه ويسأله.
في هذا الكتاب يتّهم أيوب حكمة أصدقائه، بل حكمة الله نفسها، لينقذ حكته من الوقوع في التفكّك والضياع. لم يكن سهلاً مع أصحابه فقال لهم: كثيرًا ما سمعت مثل هذا الكلام. أنتم بأجمعكم معزّون متعبون، وأنت (يا أليفاز) متى ينتهي كلامك الفارغ؟ وما الذي يغريك لمجاوبتي؟ لو كنتم مكاني وأنا مكانكم لاستطعت أن أخاطبكم كما تخاطبونني، للفّقت لكم أقوالاً، ولحركت رأسي شفقة عليكم وشجّعتكم بكلامي (أي 16: 2- 5). ولم يكن أيّوب سهلاً مع ربه يوم قال عنه: الله عنده الحكمة والجبروت، وله المشورة والفطنة: ما هدمه لا يُبنى، ومن أغلق عليه لا يُفتح له. يحبس المياه فتجف، أو يطلقها فتخرب الأرض... يجعل العظماء يمشون حفاة... يحل مناطق الملوك ويجعل مكانها القيود، يقطع لسان المتكلّمين ويسلب الشيوخ الحكمة (13:12 ي).
تساءل أيّوب عن قدرة الله وثار على حكمته، فأراد أصدقاؤه أن يدافعوا عن هذه الحكمة متوسّلين الفكر التقليدي القائل إنّ الأشرار سيعاقبون لا محالة، فاستنتجوا أنّ أيّوب رجل خاطئ لأنّ يد الله قد مسّته.
ولكنّ الرب هو إله، لا إنسان، لا ينظر إلى الأمور كما ينظر إليها الناس، ولا يتصرّف كما يتصرّف الناس. وها هو يدعو أيّوب إلى التأمل في العالم المخلوق، وإلى النظر إلى كل ما يربط الإنسان بالله ، علّه يكتشف نوايا الرب التي تتجاوز الإنسان والتي بدونها لا وجود لحياة على الأرض. أجل ، إنّ فعل الله يمتد أبعد مما يمكن الإنسان أن يدرك ، وحكمته تملك الفطنة والقدرة، وهي تنظّم الكون وترتّبه. وإنّ الأرض والمياه والسماء والبحر والليل والنهار وكل شيء يشهد لحكة إلهية يدرك الإنسان منها شيئًا وتفوته أشياء وأشياء. أمام هذا الكلام اعرف أيّوب بعظمة الله وأقّر بفضله الذي لا يُحدّ، وعرف أنّه يستطيع منذ اليوم أن يثق به ثقة كاملة. "كنت قد سمعت ما يقال عنك، أمّا الآن فقد رأتك عيناي " (أي 42: 5). بهذه الروح ينتهي سفر أيّوب: في الصمت والسجود والتسليم المطلق لإرادة الله . ترى هل فهم الشعب الذاهب إلى المنفى، وسفر أيّوب يتحدّث عنه، انّ الله لا يقهره الشر، وأنّ له الكلمة الأخيرة؟

4- البلوغ إلى حكمة الله
البلوغ إلى حكمة الله أمر صعب، إن لم يكن مستحيلاً. قال الكتاب: الحكمة أين توجد؟ لا وجود لها في أرض الأحياء: الغمر قال: ليست فيّ، والبحر قال: ليست عندي. من أين تأتي الحكمة؟ إنّها محجوبة عن عينَيْ كل حي ومتوارية عن طير السماء... ولكن الله وحده يبصر سبيلها وهو عالم بمكانها، لأنّه يبلغ بطرفه أقاصي الأرض، ويحيط بجميع ما تحت السماوات (أي 28: 12 ي). لو كان للإنسان أن يدرك الكون بنظرة واحدة! ولكنّه إنسان، وعليه أن ينظر إلى الأمور بعين الله ، وأن يقبل بحكمته المتجلّية في عناصر الخلق فيتعلّم أنّ "خشية الرب هي الحكمة واجتناب الشر هو الفطنة".
في هذا الخط عينه نقرأ أنّ الحكيم الذي كتب سفر الجامعة اهتمّ بحكمة البشر، ثمّ أدرك أنّها لا تصل إلى هدفها ولا تفيد شيئًا. فالإنسان لا يعرف ما ينتظره ولا ما تكون ثمرة أعماله. أمّا اليقين الوحيد الذي لا شك فيه فهو الموت الذي يصيب جميع البشر دون تمييز فيعيد كل شيء إلى ماكان عليه. قال: "لا جديد تحت الشمس. الريح تدور وتدور في مسارها وإلى مدارها تعود. الشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى مكانها حيث تشرق. الأنهار كلّها تجري إلى البحر والبحر لا يمتلئ ، كل شيء مملّ ، كل شيء باطل " (جا 1: 5 ي).
أجل لا جواب لمشكلة الألم ، ولن يكون جواب لمسألة الموت ما دمنا ملتصقين بالأرض لا ننظر إلى السماء. وعندما يأتي يسوع إلينا سنرى في صلبه وموته بداية الحل وفي قيامته وصعوده منتهى رجائنا وانتظارنا.

هـ-... وأمام الموت
يمكن الحكمة أن تشمل بنظرتها الكون ، يمكن الحكمة أن تساعد الحاكم على تدبير أمور الجماعة سنوات عديدة، يمكن الحكيم أن لا يعرف لفترة قصيرة المصائب والألم. ولكنّه في النهاية لا يستطيع أن ينجو من الموت الذي يطبع بطابع الفشل كل ما يخطّطه الإنسان في حياته. أمام الموت وقف حكماء الشرق ، وقف حكماء شعب الله.

1- حكماء الشرق
عاشت مصر عهدًا من النظام والعدالة فرأى الناس أنّ الحكمة هي التي تعطي الغنى والسلطة، وتُساعد الحاكم على الحصول على السعادة له ولشعبه. ولكن، لمّا عمّت الفوضى البلاد، إختبر الشعب أن لا حكمة تقف أمام قوى الشر، أمام الموت، وأنّ مصائب الإنسان الآتية هي عديدة، لا تترك له راحة ولا طمأنينة. ومع هذا عليه أن يعيش ويبقى على قيد الحياة رغم الظروف القاسية التي يمكنه أن يعيش فيها. فهناك أيّام حلوة يمكنه أن يتمتع بها، وهناك وسائل يمكنه أن يستفيد منها. لا يجب أن نتطلعّ إلى المستقبل أو نفكّر بالموت، ولا حاجة إلى تعب القلب، إلى يوم ينوح الناس عليك: "إجعل يومك سعيدًا. لقد ذهب الناس وما أخذوا معهم شيئًا، ذهبوا وما عاد منهم أحد".
أمّا في بلاد الرافدين فالحديث عن الموت يبدو بشكل مجابهة بين مشيئة الآلهة الذين يحتفظون لنفوسهم بالخلود، ورغبة الإنسان في النجاة من الموت. نتوقف هنا على ملحمة جلجامش التي موضوعها: الآلهة خالدون فلماذا لا يكون الإنسان خالدًا؟ بطَلُ هذه الحكمة ملك حكيم وقوي ثلثه إنسان وثلثاه إله. ولكي لا ينسى أنّه إنسان جعل له الآلهة مزاحمًا في شخص "انكيدو".
ارتبط جلجامش وانكيدو برباط الصداقة والمحبة وتعاونا على صعوبات الحياة، ولكنّ انكيدو مات ففهم جلجامش أنّ الآلهة جعلوا للإنسان حدودًا. فحاول أن يبدّل مصيره باحثًا عن الخلود في الصحاري والأنهار وعالم الظلمات وأعماق البحار. فوجد شجرة الحياة ثمّ أضاعها، وأخيرًا أيقن أنّ الموت هو حصة الإنسان عندما قيل له: إلى أين تركض يا جلجامش؟ لن تجد الحياة التي تبحث عنها. فالآلهة عندما خلقوا البشر أعطوهم الموت واحتفظوا لذواتهم بالخلود. إنّ الحياة هي ملك الآلهة يعطونها لمن يشاؤون، والحكمة الحقة هي التي تجعل الإنسان يدرك أنّه مائت زائل.
ونقرأ في أوغاريت أناشيد عن الموت: ساعة ننظر إلى الشمس، نحن في الظلمة. كل الناس يرقدون قرب الإهة الموتى، لأنّهم مدعوون لأن يكونوا أبناءها. ونقرأ في أسطورة دانيل أنّ الإلاهة عناة قالت للبطل: سل الحياة فأعطيك، سل الخلود فأرسله إليك. فأجابها جوابًا حكيمًا ولم يسمح لها أن تضلله بوعودها الغرارة: لماذا تضلليني؟ أية آخرة يرجوها الإنسان، وأي مصير ينتظره؟ البشر يموتون وأنا أموت. هم مائتون وأنا مائت أيضاً.

2- العهد القديم أمام الموت
نجد في العهد القديم اعتبارات تقول إنّ الحياة البشرية زائلة عابرة. ففي المزمور 90 نقرأ: "تعيد الناس إلى الغبار وتقول لهم: عودوا يا بني آدم إلى الأرض التي أخذتم منها... الموت يجرف البشر كالسيل كحلم يعودون. كعشب ينبت ويزهر في الصباح وعند المساء يذبل وييبس. تضع يا رب حدًا لحياة البشر فتبدو كهنيهة من الليل ". وفي مز 103: 14 ي نقرأ: "الرب يعرف كيف جبلنا ويذكر أنّنا تراب. الإنسان كالعشب أيّامه وكزهر الحقل إزهاره. تعبر روح فلا يكون، ولا يعرف موضعه من بعد". أجل، الإنسان كعشب الأرض وكظلّ يعبر فلا يعود (أي 14: 2)، أو كنفحة ريح (مز 62: 10). ويقول مز 39: 6- 7: "جعلت أيّامي أشبارًا، وبقائي كلا شيء أمامك. فما الإنسان سوى نفخة ريح، وكالظل يروح ويجيء".
نقرأ المزمور 49 فنجد فيه أفكارًا وتعابير قريبة من تلك التي وجدناها في قصيدة جلجامش. فبعد مقدّمة حكمية (آ 2- 5) يدعو فيها المرتّل جميع الشعوب وأهل الدنيا ليصغوا إلى الأمثال والحكمة والكلام المبين، نسمعه يقول إنّ الموت لا يوفّر أحدًا: الحكماء يموتون، والحمقى والجهال أيضاً يبيدون تاركين ما عندهم للآخرين (آ 11). ولكنّ هناك أناسًا لا يريدون أن يُعملوا الفكر، فيرضون بحالهم ويُقنعون نفوسَهم بنفوسهم. ومع ذلك يُساقون كالغنم إلى القبور، ويكون الموت راعيهم. ينزلون توًا إلى القبر وصورتهم تصير إلى البلاء وتكون القبور مسكنًا لهم. إن اغتنى الإنسان أوكثرت حكمته فهو عند موته لا يأخذ معه شيئًا.
إنّ عظمة الإنسان لا تخلّده، وهو مائت كالبهائم. ويقرعّ المزمور 82 قضاة الأرض وحكّامها الذين يعتبرون نفوسهم آلهة بسبب حكمتهم فيقول لهم: مثل سائر البشر تموتون، ومثل أي عظيم تسقطون.

3- شجرة الحياة وشجرة المعرفة
نقرأ في سفر التكوين (ف 2- 3) ما دوّنه الكاتب اليهوهي عن العلاقة بين الحكمة والحياة والموت. إنطلق من الأفكار التي وجدناها في جلجامش، وأعاد صياغتها على ضوء إيمانه بالله الواحد، ومنها النظرة إلى أنّ الحياة الخالدة هي امتياز الألوهة، وإلى أنّ الإنسان لا يستطيع أن يستولي على المعرفة فيمتلكها. وبيّن الكتاب المقدّس أنّ مثل هذه المعرفة لا تؤول بالإنسان إلى ملء الحياة، بل إلى أتعس ما في الحياة. بعد أن "أكل " الإنسان من شجرة المعرفة عرف أنّه وامرأته عريانان، عرف أنّه سيأكل خبزه بعرق جبينه ليبقى على قيد الحياة، وعرفت المرأة أنّها ستلد بالأوجاع لتعطي الحياة. عرف الإنسان أنّه سيموت، أمّا الحياة السعيدة التي يعيشها في انسجام مع محيطه، التي لا خوف فيها ولا خجل، لا قلق ولا تعب، الحياة التي لا يسيء فيها الواحد إلى الآخر، فهي عطيّة من الله يتقبّلها الإنسان بالأمانة لوصايا الله وعرفان الجميل له.
أجل، إنّ الحكمة مبدأ حياة نشبّهها بينبوع ماء (أم 18: 4) أو شجرة حياة (أم 18:3)، وهي تبقى كذلك إن رافقتها مخافة الله. وهنا نفهم لماذا جعل الكاتب الملهم شجرة الحياة قرب شجرة معرفة الخير والشر (تك 2: 9)، قبل أن يجعل شجرة المعرفة (تك 17:2؛ 3:3 ؛ 5: 11- 17) تحلّ محلّ شجرة الحياة. فالإنسان لم يهتم بالحياة، بل بالوسيلة التي يحصل عليها: تكونون كآلهة، تعرفون الخير والشر، تمتلكون حياة، الحياة الخالدة (رج 1 مل 8:3 ي عن سليمان. رج حز 28: 2- 19 عن ملك صور الذي طمح قلبه فقال إنه إله).
حكمة الناس مخيّبة للآمال، لم تجعل الرجل والمرأة كآلهة، ولم توصلهما إلى الحياة، ولم تعطهما المعرفة والفهم، بل جعلتهما ينحطّان وينخفضان ويعود ان إلى التراب. هذا ما صار إليه الإنسان الذي أراد أن يجلس على عرش الله ، فوجد نفسه منعزلاً أمام ضعفه ووهنه وأمام صعوبات وضعه ككائن مائت. مثل هذا الشعور يقود إلى الحكمة الحقة لأنّه يفتح عيون الإنسان (تك 7:3) فيعرف أنّه عريان، مجرّد من كل شيء، معرّض للقلق والخطر. مثل هذه الحكمة تُفهمِ الإنسان أنّ محاولته ليصير إلهًا جهل وحماقة، وأنّ علم الإنسان وقدرته، وإن كان ملكَا، لا يشبَّهان بحكمة الله. أمّا التسلّط على القوى المعادية (ومنها الموت) فليس وليد معرفة من النوع السحري (صورة الحية، رج خر 3:4؛ 7: 9- 12). فالإنسان لا يستطيع أن يستعمل مخلوقات الله فيجعلها رمزًا للخلود وشبيهة بالله ، ولا يقدر أن يتّخذها وسيلة للاستيلاء على ما هو خاص بالله ، لأنّ الله أرفع من السماوات فكيف بالأرض وما عليها من خلائق!
بعد كل هذا تبدو حكمة الله قاعدة حياة نتقبّل بها ما يعطينا من مواهب وما يأمرنا به من وصايا. أمّا الحياة والموت فهما بيد الله ، وهو الذي نقل أخنوخ وإيليا إليه ، وهو الذي يفتدي نفوس أحبّائه من يد الجحيم (مز 49: 16)، فيهديها ويأخذها إلى المجد (مز 27:73) لتكون معه كل حين. في هذا الإطار، سيحدّثنا سفر دانيال (12: 2 ي) عن خلود الإنسان وسعادته بعد الموت ، ويقول سفر الحكمة إنّ "نفوس الصدّيقين هي بيد الله فلا يمسّها عذاب ". امتحنهم الله فوجدهم أهلاً له ، وهم في يوم الافتقاد يتلألأون ويملكون مع ربهم إلى الأبد (حك 3: 1 ي).

و- الحكمة صورة الله كلمته
لمّا دُمّرت أورشليم، ذاق الشعبُ الاختبارَ المرير: لم يُعد لهم مدينة ولا هيكل، لم يعد لهم كاهن ولا نبي ولا حكيم ولا رئيس، لأنّهم لم يأخذوا الحكمة الآتية من عند الرب. ثمّ إنّ الحكمة كانت وقفًا على الملوك والعظماء دون سائر الشعب الذين صاروا بفعل الجلاء قطيعًا لا راعي له. فإذا أرادوا أن يعودوا إلى أرض الرب، عليهم أن يأخذوا بحبال الحكمة صغارًا وكبارًا، أغنياء وفقراء، ويقبلوا كلّهم تأديب الرب. فالحكة تصرخ في الشوارع والساحات داعية جميع العابرين إلى مائدتها لتطعمهم كلام الله وتسقيهم وصاياه وتشربهم مخافته.
ولكنّ الإنسان شرّير في أعماق قلبه، ينقض اليوم عهدًا قطعه بالأمس، ويترك ربه تابعًا آلهة أخرى، ويأخذ بحكمة تعده بأن يصير إلهًا يعرف الخير والشر (ويقرر ما هو خير وما هو شر)، إلهًا يحصل على شجرة الحياة (فيكون له الخلود) فلا يعود يموت من بعد. بمثل هذه الروح حاول الإنسان أن يبلغ إلى الحكمة فبقي بعيدًا عنها، فكانت النتيجة نكبة أورشليم التي جعلت مخطط الله يبدو وكأنّه قد فشل.
من أجل هذا جعل الرب الحكمة قريبة من الإنسان ، فما عادت صفة يهبها له بل صورة الله قرب الإنسان. في هذه الحالة ستتخذ الحكمة "جسدًا " فتصبح شخصاً يحدّث الإنسان وينبّهه ويؤدّبه، وتكون الوسيط بين الله والإنسان، تأتي من الله لأنّها تخرج من فمه وتصل إلى الإنسان فتنقل إليه شيئًا من الله. ليست الحكمة الله ، وهي مخلوقة، ولكنّها صورة الله مجسّمة، وكلمة الله حاضرة كشخص (مثل الأنبياء) يكلّم الإنسان ويدعوه إلى التخلّي عن الشر والتمسّك بمخافة الله لتكون له بها الحياة.
كل هذا نقرأه في القسم الأوّل من سفر الأمثال ، وفي يشوع بن سيراخ ، وحكمة سليمان.

1- الحكمة في سفر الأمثال
"إسمع الحكة تنادي جهارًا وترفع صوتها، من على رؤوس القمم، وفي الدروب ومفارق الطرقات، وبجانب الأبواب عند مداخل المدينة، وفي النوافذ ها هي تصيح: أنا أناديكم، أيها الناس وأقول لكم، يا بني آدم " (أم 8: 1- 4). أجل، هي الحكمة تتحدّث إلى الناس كما يتحدّث إليهم نبي من الأنبياء فتُوصل إليهم كلمة الله ، كلمة المعرفة والمشورة والحكمة والعقل وحسن التدبير (رج أم 8: 5- 11). ثمّ تقدّم نفسها كمشيرة للملوك والرؤساء والحكام فتقول: "أنا الحكمة أسكن مع رجاحة العقل والمعرفة وحسن التدبير، بي الملوك يملكون والحكام يحكون بالعدل " (أم 8: 12- 21).
ولكنّ الحكمة أكثر من مشيرة ومؤدّبة، فهي شخص حاضر قرب الله الذي خلقها أوّل ما خلق وصنعها من البدء، وقبل أن كانت الأرض. وهكذا صارت علاقة الحكمة بالله كعلاقة الابن بأبيه إذا قربّنا كلمة "قنا" العبرانية من اللغة الأوغاريتية (قنا تعني ولد، أنجب)، أو كعلاقة الزوج بزوجته إذا عنى فعل "قنا" اتخذه لنفسه فلزمه، أو علاقة المخلوق بخالقه إذا عنى فعل "قنا" خلق. ومهما يكن من أمر، فالعلاقة وثيقة بين الله والحكمة التي ترجع إلى الله وتعمل عمل الله في البشر. إنها تشبه كلمة الله النازلة على البشر، كالمطر لا تعود إليه إلاّ بعد أن تتمّم مشيئته (أش 55: 10- 11).
الحكمة حاضرة قرب الله منذ البدء وهي رفيقته عندما يخلق الكون ويصوّر الجبال ويجعل المياه في الينابيع ويُرسي أساسات الأرض. لم يقل الكتاب إنّ الله خلق بحكمته كما خلق بكلمته (تك 1: 1 ي)، ولكنّه قال إنّ حكمة الله تحفظ هذا النظام العجيب منذ القدم فلا يتغيّر. وكما أنّ كلمة الله هي الوسيط بين الله والكون ، كذلك حكمته هي الوسيط بين الله والكون بما فيه الإنسان. هي الساكنة في العلاء ونعيمها أن تكون مع بني البشر (أم 31:8).
بعد ذلك تدعو الحكمة الناس إلى التمسّك بها على مثال تمسّكهم بالله : "هنيئًا لمن يستمع إليّ ساهرًا عند بابي كل يوم، ناطرًا بجانب مدخل داري. من وجدني وجد الحياة ونال رضى من الرب، ومن أخطأني أضرّ بنفسه، ومن أبغضني أحبّ الموت " (أم 8: 32- 36). مع الحكمة، مع الرب، الحياة والخير والسعادة، وبعيدًا عن الحكمة، بعيدًا عن الرب، الموت والشر والشقاء. هذا ما قاله سفر التثنية: "إن أحببت الرب وسرت في طريقه وحفظت وصاياه نلت الحياة، وإن زاغ قلبك ولم تسمع للرب وملت بنظرك عنه يكون لك الهلاك " (30: 15 ي).

2- يشوع بن سيراخ
إلى الحياة تدعو الحكمة الناس، إلى وليمة يأكلون فيها من طعامها ويشربون الخمر التي مزجته لهم. أمّا طعامها فكلام الله ، والإنسان لا يحيا بالخبز وحده ، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (تث 3:8). بعد الجلاء ، بعد أن أحسّ الشعب ببُعد كلمة الله عنهم، أحسّوا بجوع لا إلى الخبز، وبعطش لا إلى الماء ، بل بجوع وعطش إلى سماع كلمة الله (عا 8: 11)، فجاء كلام أشعيا يقول لهم: "يا جميع العطاش هلمّوا إلى المياه ، يا من لا فضة لهم هلمّوا واكسروا الخبز وكلوا، واكسروا الخبز بغير فضة، وخذوا الخمر واللبن بلا ثمن. إذا سمعتم لي تأكلون الطيّب وتتلذّذ نفوسكم بالدسم. أميلوا مسامعكم اليّ، ادعوا فتحيوا" (55: 1 -3).
وما ورد في سفر يشوع بن سيراخ هو امتداد لما قرأناه في سفر الأمثال: "لإنّي خرجت من فم العلي، وكسوت الأرض كالسحاب، جعلت خبائي في الأعالي وعرشي في عمود الغمام، أنا وحدي جلت في دائرة السماء، وسلكت في عمق الغمار، ومشيت على أمواج البحر" (سي 24: 1- 5). الحكمة تشبه كلمة الله. فهي لا تخلق، ولكنّها تعطي الخصب والحياة كالسحاب والندى (سي 43: 22). مسكنها في الأعالي مع الله وهي تسود على المخلوقات، وتسكن خاصة في أرض يعقوب، في ميراث بني إسرائيل. خُلقت منذ البدء، وإلى الدهر لا تزول. جعلت مقرّها في المدينة المحبوبة، في أورشليم، ومن هناك امتدّت أغصانها كالأرز في لبنان، كالسرو في حرمون، كالنخل وغراس الورد في أريحا.
وهكذا، وبعد أن جعلت الحكمة سلطانها في أورشليم، أولمت وليمتها ودعت إليها جميع الناس: "تعالوا، أيّها الراغبون فيّ، واشبعوا من ثماري. ذكري أحلى من العسل، وميراثي ألذ من شهد العسل. من أكلني عاد إليّ جائعًا، ومن شربني عاد ظامئًا. من سمع لي فلا يخزى، ومن عمل بإرشادي فلا يخطأ" (سي 19:24- 22).
هذه هي الحكمة التي يحدّثنا عنها يشوعِ بن سيراخ وهي تتجسّد في كتاب الله العلي والشريعة (التوراة) التي جعلها موسى ميراثا لآل يعقوب (22:24؛ رج تث 33: 4). هذه الحكمة هي ملخّص الوحي الآتي من الله والمعطى لشعبه (با 32: 4 ي)، وقد انطقت من هيكل أورشليم، موضع حضور الله وسط شعبه، فانتشرت في كل الأرض المقدّسة.

3- سفر الحكمة
يحدّثنا هذا السفر الذي كُتب على عتبة العهد المسيحي ، عن الحكمة على طريقة اليونان، فيرسل مديحًا للحكمة التي تبدو شخصاً يتّحد به سليمان كما يتّحد العريس بعروسه. نقرأ في الفصول7- 9 عن سليمان الذي هو إنسان مائت كسائر الناس ، والذي لم تُعطَ له الحكمة بالولادة (7: ا- 6). غير أنّه عرف قيمتها ففضّلها على الصولجان والعرش، وطلبها لأنّها أصل كل خير على الأرض (78:7- 12) فأعطاه الرب إيّاها وأعطاه معها سائر الخيرات، لأن من جاءته الحكمة جاءه معها كل خير (13:7- 21). للحكمة مزايا عديدة: تأتي من الله وتدبّر العالم وتنشئ لله أحبّاء وقدّيسين ، والله لا يحبّ إلاّ من يصادقها (7: 22 ي). عرف سليمان ما هي الحكمة فاتّخذها له عروسًا (2:8- 9) وصار بفضلها ملكًا عظيمًا (8: 10- 16). حينئذ صلّى إلى الرب وقال: "هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك ، ولا ترذلني من عداد بنيك ، فإنّي أنا إنسان ضعيف حياته قصيرة وفهمه ناقص ، وليس في البشر إنسان كامل، وإن لم تكن معه الحكمة التي منك فهو لا يحسب شيئًا" (4:9-6).

خاتمة
انتقلت الحكمة من العهد القديم إلى العهد الجديد، فبدا يسوع ذلك المعلّم الذي يحدّث الناس على طريقة الحكماء بالأمثال فيعتبر الناس كلامه كلام الحكمة ويتعجّبون ويتساءلون: من أين له هذه الحكمة وتلك المعجزات؟ أما هو ابن النجّار (مت 13: 54)؟ وبدا يسوع ذلك الحكيم الذي يتفوّق على سليمان بحكمة ينقلها إلى تلاميذه. يقول متى: "وقال له بعض معلمي الشريعة والفريّسيين: يا معلّم ، نريد أن نرى منك آية. فأجابهم: جيل شرير فاسق... ملكة الجنوب ستقوم يوم الحساب مع هذا الجيل وتحكم عليه ، لأنّها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وهنا الآن أعظم من سليمان " (38:12 – 42؛ رج لو 11: 29- 32). ويقول لوقا بلسان يسوع محدّثًا تلاميذه: لا تهتمّوا كيف تدافعون عن أنفسكم ، لأنّي سأعطيكم من الكلام والحكمة ما يعجز جميع خصومكم عن ردّه أو نقضه (21: 14- 15). مع يسوع انتقلت الحكمة من الحكماء والفهماء وأعطيت للبسطاء والأطفال (مت 25:11؛ لو 21:10)
أمّا العلاقة بين الحكمة ويسوع المسيح فيلمّح إليها القدّيس بولس في رسالته إلى أهل كولسي (1: 15- 20): الحكمة صورة جودة الله (حك 7: 26) ويسوع صورة الله الذي لا يُرى. الحكمة هي منذ البدء وقد مُسحت في البداية وقبل أن كانت الأرض (أم 8: 24 - 26 ؛ سي 9:24 ؛ حك 9:9)، والمسيح كان قبل كل شيء. الحكمة هي وسيط الخلق (ام 8: 3؛ حك 7: 21؛ 9: 1- 2)، وفي المسيح تكوَّن كل شيء. أجل إنّ الحكمة ترمز إلى المسيح وقد قال القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى الكورنثيين: "فالمسيح أرسلني لا لأعمّد ، بل لأعلن البشارة غير متّكل على حكمة الكلام لئلاّ يبطل صليب المسيح... فالكتاب يقول: سأمحو حكمة الحكماء... أما جعل الله حكمة العالم حماقة؟... تذكّروا أيّها الإخوة كيف كنتم حين دعاكم الله، فما كان فيكم كثير من الحكماء بحكة البشر... وأمّا أنتم فاختاركم الله في المسيح يسوع الذي صار لنا من قبل الله حكمة وبرًّا وقداسة" (17:1 ي).
تكلّم الله فتجسّدت كلمته في يسوع المسيح الذي هو الكلمة ، ومنح حكمته فتجسّدت في يسوع المسيح الذي صار لنا الحكمة التي حملت الخلاص إلى المؤمنين بحماقة البشارة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM