الفصل الأول: سفر المزامير

الفصل الأول
سفر المزامير

صلوات غريبة وُلدت منذ أكثر من ألفَيْ سنة على شفاه شعب صغير، وما فتئت تتردّد في صمت الأديار، في حياة المؤمن اليومية، وفي تجمّعات المصلّين.
أجل سفر المزامير هو كتاب صلاة، وهو وحده كتاب صلاة في الكتاب المقدّس. لا شكّ في أنّنا نجد هنا وهناك صلوات يمكننا أن نتلوها. أمّا المزامير فقد ألّفت مباشرة لتكون صلاة الجماعة.
المزامير صلاة الجماعة، تنطق من حياة المؤمنين اليومية، من آمالهم وخطاياهم، من صعوباتهم ومحبّتهم. تنطلق من عقليّتهم وطريقة التعبير عندهم. المزامير ليست خبرًا وشريعة، المزامير ليست نبوءة وتعليمًا، إنّها صلاة تحاول أن تُدخلنا في العلاقة بين الله والبشر من أجل هذا المركز الفريد لسفر المزامير أردنا أن نفرد له فصلاً خاصًّا في هذا المدخل. نتعرّف إليه اوّلاً، ثمّ ندرسه في إطاره الأدبي وفي إطاره اللاهوتي قبل أن نكتشف مكانته في التقليد المسيحي.

أ- ملاحظات عامّة
1- النص الأصليّ والترجمات
دوّن سفر المزامير في العبرية. أمّا مخطوطاته فتعود إلى القرن التاسع. ثبّت النصّ الماسوريون (أو رجال التقليد) بعد القرن السادس ب م، ووضعوا الحركات، ولهذا يسمّى النصّ الماسوري. نشير إلى أنّ اكتشافات قمران منذ سنة 1947 قدّمت لنا 27 نصًّا للمزامير وأربعة تفاسير تعود إلى القرن الأوّل ق م.
منذ القرن الرابع ق م، بدا النص العبري صعبًا للشعب المشتّت خارج أرض فلسطين. فكانت الترجمة الأرامية التي نقلت النصّ وعلّقت عليه فسمّيت ترجوم المزامير. وبدأت منذ القرن الثالث ق م ترجمة المزامير إلى اليونانية فكانت الترجمة السبعينية التي قام بها سبعون رجلاً كما يقول الخبر الأسطوري. ونُقلت المزامير إلى السريانية في القرن الثاني ب م فكانت الترجمة البسيطة، وإلى اللاتينية في القرن الرابع ب م فكانت الفولغاتا أو الشعبية.
كل هذه النصوص تساعدنا على فهم النصّ الأصلي والولوج إلى معانيه.

2- أقسام سفر المزامير
يتضمّن سفر المزامير 150 مزمورًا، وهذا رقم رمزي. فالمزموران 9 و 10 يؤلّفان في الواقع مزمرًا واحدًا. وكذا نقول عن المزمورين 42 و 43. والمزمور 53 هو تكرار لما قرأناه في مز 14، والمزمور 108 يجمع عناصر من المزمورين 57 و 60.
ترقيم المزامير في العبرية يختلف عن الترقيم في اليونانية واللاتينية وفي قسم من السريانية.
أمّا نحن فنأخذ بالترقيم العبري تاركين للقارئ أن يكتشف المعادلة، لاسيمّا وأنّنا نجد الترقيم اليوناني واللاتيني في النصوص الليتورجية وفي ترجمة الآباء اليسوعيين القديمة.
تُقسم المزامير إلى خمسة كتب، وينتهي كل كتاب بمجدلة. أمّا مز 150 فيشكّل مجدلة الكتاب الخامس وسفر المزامير كلّه. الكتاب الأوّل: مز 1- 41، الكتاب الثاني: مز 42 - 72، الكتاب الثالث: مز 73- 89، الكتاب الرابع: مز 90- 106، الكتاب الخاسر: مز 157- 150.
ويمكننا أن نكتشف في سفر المزامير مجموعة يهوهية ومجموعة ألوهيمية. فالكتاب الأوّل والكتاب الرابع والكتاب الخامس تكاد لا تستعمل إلاّ اسم يهوه، والكتاب الثاني والثالث أسم الوهيم.
وإذا نظرنا إلى نسبة المزامير، نميّز مجموعات خاصّة بداود (الكتاب الأوّل، مز 51- 70، 138- 144) وغيرها بأبناء قورح (مز 42-49، 84-85، 87-88) وأساف (مز 50، 73- 83).
ونلاحظ أخيرًا أن 15 مزمورًا هي مزامير المراقي (مز 120- 134)، لأن الحجّاج كانوا ينشدونها وهم يرتقون (يصعدون) الدرجات التي توصلهم إلى الهيكل. وهناك مزامير التهليل (مز 105- 107، 111- 118، 135- 136، 146- 150).

3- من كتب المزامير ومتى كتبت
لا نعرف من كَتب المزامير، ولكن 73 منها نُسبت إلى داود. عير أنّ وجود تلميحات إلى الهيكل، إلى المنفى فيْ بابل، إلى إعادة بناء أسوار أورشليم تمنعنا من أن ننسب المزامير كلّها إلى داود. من الممكن أن يرتبط بعض المزامير بداود الذي خلق تيّارًا امتدّ حتّى ما بعد الجلاء، سنة 587 ق م. وعلى هذا الأساس نسب التقليدُ المزاميرَ إلى داود، والكتب الحكميّة إلى سليمان، وكتبَ الشريعة إلى موسى، فأراد بذلك أن يكرّم هؤلاء الاشخاص الذين لعبوا دورًا هامًّا في تاريخ شعب إسرائيل الأدبي.
وهناك مزامير نُسبت إلى بني قورح وأساف، ومزموران (72، 127) نُسبا إلى سليمان، ومزمور (90) نسب إلى موسى. أمّا عناوين المزامير فوضعت في ما بعد ولا يشملها الإلهام. متى كُتبت المزامير؟ هذا ما لا نستطيع تحديده. لا شكّ في أنّ داود (القرن العاشر ق م) ألّف بعضاً منها، ولكنّها لم تُحفَظ لنا في نصّها الأصلي. وما يبدو معقولاً هو أنّ المزامير نُظّمت وجُمعت بين القرن الثامن والقرن الثاني ق م، حين ترتّبت الحياة الطقسية وحلّ المغنّون محلّ الأنبياء. أمّا الصيغة النهائية للمزامير فتعود أقلّه إلى ما بعد الرجوع من الجلاء سنة 538 ق م.

ب- الإطار الأدبيّ للمزامير
سنطلعّ على المزامير من خلال البنية، فنكتشف الفنّ الأدبي الذي ينتمي إليه كل مزمور. ولقد حدّد العلماء الفنون الأدبية التالية: مزامير التوسّل والثقة، مزامير الحمد أو المدائح، مزامير الشكر، المزامير الملوكية، مزامير المراقي، مزامير العهد، مزامير ضدّ الأشرار، مزامير الحياة مع الله.

1- مزامير التوسّل أو الثقة
أكثر المزامير هي من هذا النوع، وإليك أرقامها: 6، 7، 13، 17، 25، 26، 35، 38، 39، 2 4، 43، 4 4، 51، 55، 69، 70، 71، 74، 77، 79، 80، 86، 88، 90، 102، 109، 119، 130، 137، 140، 141، 142، 143. اما موضوعها العام فهو: تعال يا ربّ إلى معونتي.
ما معنى التوسّل؟ هو محاولة التقرّب إلى الله تعالى. ولكن يمكن أن نتوقّف عند فكرة الطب الملحّ دون أن نتحقّق ماكان عليه المتوسّل. في القديم، كان المتوسّل يضع نفسه تحت حماية من هو أقوى منه لينجو من كل خطر، حتّى ذلك الآتي من الشخص الذي نتوسّل إليه. ويلجأ المتوسّل إلى حركات رمزيّة فيدلّ على أنّه سلَّم نفسه كلّيًا إلى الشخص الذي يتضرعّ إليه. إنّه يرتبط به إرتباطاً وثيقًا. من توسّل إلى الله تقدّم إليه خاضعًا: يرفع عينيه، يمدّ يديه، يركع ويسجد، يلتجيء إلى الله.
كيف تبدو بنية مزامير التوسّل؟
أوّلاً: استهلال يتضمّن دعوة أو نداء إلى الرب باسمه. إذا أردنا أن نكلّم أحدًا، نبدأ فنناديه. هذه ضرورة نفسانية لنقمت أمام الله ونجعل من حياتنا حوارًا معه، وهي فعل إيمان وتأكيد أنّ لإسم الله قدرة خلاصية.
وبعد الدعوة، هناك طلبات خاصّة: استجبني، إرحمني وتحنّن علي، خلّصني... وهناك تقديم الذات. هذه صفة المتضرّع والمبتهل إلى الله والمقدّم له ضعفه وذلّه.
ثانيًا: التوسّل نفسه. ويتضمّن هذا القسم ثلاثة أمور. طلبات خاصة: اشفني، اغفر لي، احكم لي، نجنّي من أعدائي... ثمّ عرض الحالة التي نتخبّط فيها: مرض خطير، ملاحقة الأعداء الأشرار... وأخيرًا عرض الأسباب التي تُقنع الله بأن يتدخّل من أجل عبده: أنا عبدك، أنا واثق بك. أو: لا تنسَ حبّك وأمانتك، اهتمّ بمجدك... إن أنت تركتني أذهب إلى الجحيم فن يا ترى يمدحك؟
ثالثًا: خاتمة النشيد. هنا تمتزج العناصر فلا نعود نميّزها: اليقين أنّ الله يستجيب لي، والثقة بأنّه سيتدخّل، وعرفان الجميل لمَا نحصل عليه من استجابة، والشكر المسبّق للخلاص الذي نتاكّد منه أنّه سيحصل، والوعد بتقديم ذبيحة شكر إيفاء لنذر.
ونتوقّف عند أنواع التوسّل. فهناك التوسّلات الفردية والتوسّلات الوطنية أو الجماعية. في الواقع، التوسّلات الفردية هي قليلة. وإن قرأنا بعض الصلوات في صيغة المتكلّم المفرد (أنا)، فهي تعبّر عن عواطف شعب إسرائيل كلّه.
وهناك وضع الذي يصلي: يكون خاطئًا أو مريضاً أو مضطهَدًا بريئًا. ولكنّ الواقع هو أكثر تشعّبًا. فالمرتّل يحسّ بأنّ كل شرّهو عقاب. ولهذا، لا نقدر أن نميّز هل المتوسّل خاطئ أو مضطهد لأنّه مريض أو هل هو مريض لأنّه مضطهَد.
يبدو الأمر بسيطاً في مز 51 حيث يطلب المؤمن المغفرة عن خطاياه. ولكنّ المرتّل يمكن
أن يكون مريضاً أيضاً، لأنّه يحتاج إلى الزوفى التي تطهّر البرص.
من يكون المتوسّل؟ هو لا يعرض حالته مرّات عديدة، ولهذا لا نستطيع التعرّف إليه. ولكن في مز 25، 80، 119 نفهم أنّنا أمام أناس يريدون أن يعيشوا العهد: هم لا يقولون شيئًا عن وضعهم الشخصي.
ونجد حالة واضحة، حالة التوسّل لدى متّهم بريء (مز 7، 17، 26). نجد إنسانًا متّهمًا اتّهامًا كاذبًا ولا يقدر أن يبرهن على براءته. وقع في الفخّ، جابهه شهود زور وقضاة مرتشون، فسلّم نفسه إلى حكم الله: أنت احكم لي فأنا إليك ألتجيء.
مع التوسّل نقرأ التشكّي من الحالة التي نتخبّط فيها (مز 88) والبهلة (صلاة نبتهل فيها إلى الله ليعاقب عدوّنا) كما في مز 109. ولكن أين الحدود بين التوسّل والبهلة، بين التوسّل الممزوج بالتشكّي والبهلة؟
وفي إطار التوسّل، هناك ثلاثة مزامير (25، 86، 119) موضوعها تحقيق العهد. أمّا مز 80، 90 ففيهما طلب لتأتي الأزمنة المسيحانية.
ما هو الإطار الليتورجي لمزامير التوسّل؟ كان ولا شكّ في أيّام عيد المظالّ يومُ توبة يسبق تجديد الالتزام بالعهد. وكان الشعب يتوب عن كل جهالات السنة الماضية قبل أن يُلزم نفسه من جديد.



2- مزامير الحمد أو المدائح
المدائح أناشيد نحمد فيها الله ونسبّحه، وهي تتلخّص في هذه الطلبة: أ يها الربّ ربّنا، ما أعظم اسمك في كلّ الأرض. وإليك أرقامها 8، 19، 33، 65، 92، 104، 113 ، 117 ،138، 146، 147 ، 148، 149، 150.
بنية هذه المزامير بسيطة:
أوّلاً: دعوة اللاويين إلى الجماعة: سبّحوا يا عبيد الرب.
ثانيًا: طلب المديح: سبّحوا الرب لأنّه صنع المعجزات، صنع السماء، بسط الأرض
على المياه.
ثالثا: خاتمة تستعيد المقدّمة: أ يها الربّ ربّنا ما أعظم اسمك (مز 8). وقد يستغني المزمور عن الخاتمة.
لا نجد هذه العناصر في المزامير دومًا. فقد تحلّ محلِّ الدعوة إلى الجماعة دعوة المرتّل إلى نفسه: باركي يا نفسي الرب (مز 104؛ رج مز 33، 113، 117، 146، 147، 148، 149، 150) أو إظهار أهمّية المديح (مز 65، 92).
تتوجّه الدعوة إلى الشعب، ولهذا يتكلّم الداعي عن الله في صيغة الغائب (هو)، ولكنّ الشواذات عديدة (مز 8، 19: 13- 15؛ 33: 22؛ 65؛ 104؛ 138)، أمّا الكلمات المستعملة فهي: سبّحوا، هلّلوا، ا هتفوا، أنشدوا، أخبروا، عظّموا، ابتهجوا...
ما هو مضمون هذه المزامير؟ لماذا نمدح الله؟ من أجل عمل الخلق، ومن أجل معجزاته في التاريخ. يمكن أن تنقص الوجهة الكونيّة في مز 117، حيث أعمال القدرة تدلّ على تدخّل الله في التاريخ، كما يمكن أن تأخذ الوجهة الكونيّة المزمور كلّه كما في مز 104، ولكن ترتبط مظاهر قدرة الله (الخلق) بمظاهر حبّه وورحمته، بحيث لا نستطيع أن نميّز المدائح الكونيّة من المدائح التاريخيّة.
متى كانوا يتلون هذه المزامير؟ في الأعياد الكبرى بلا شكّ.

3- مزامير الشكر
أغدق الله خيراته على كلّ واحد منّا، فكان من الطبيعي أن نشكره. ولكنّ مزامير الشكر ليست صرخة امتنان تتدفّق تدفّقًا طوعيًّا خارجًا عن الإطار العبادي. هذه المزامير ترتبط بذبائح الشكر.
وإليك لائحة بهذه المزامير: 18، 22، 30، 32، 34، 40، 41، 66، 103، 107، 116، 118.
كيف تبدو بنية هذه المزامير؟
وَجد إنسان نفسه في خطر، فنذر لله نذرًا: إذا استجيبتَ لي، قدّمت لك ذبيحة شكر. وينتظر المؤمن طويلاً قبل أن يقدّم ذبيحته. يستفيد من العيد ليصعد إلى أورشليم، لأنّ الذبائح لا تقدّم إلاّ في هيكل أورشليم.
ويأتي يوم الذبيحة. فلنتخيّل كيف يمكن أن تكون مسيرة الاحتفال. يتقدّم المؤمن من المذبح، حيث الكهنة والذبائح، يحيط به جمهور من الأهل والأصدقاء ومساكين الرب الآتين ليشاركوا في الوليمة الذبائحية. وحين يصل إلى المذبح، يتوجّه إلى المؤمنين فيدعوهم ليشاركوه في فعل شكره. ثمّ يروي ما حصل له: حلّ به الضيق، صرخ إلى الله (ويمكن أن تكون صرخته صلاة طويلة، مز 2:22- 22)، استجاب له الله (مز 22:22: كلمة واحد تكفي). ويستخلص العبرة من الحدث: إذا كان الله قد خلّصني أنا الخاطئ الذي كان في الضيق، فكم تفعل قدرته وكم تتدخّل رحمته!
إذاً عناصر ثلاثة في مزامير الشكر.
أوّلاً: دعوة بشكل نشيد: أعظّمك يا رب، أبارك الرب في كل حين، طوبى لمن غُفرت معصيته...
ثانياً: خبر التدخّل الإلهي. يروي المرتّل ما حدث له، وكيف صرخ إلى الله فاستجاب له الله، ومن جميع الأهوال أنقذه.
ثالثاً: استنتاج العبرة: اتقّوا الرب، يا قدّيسيه، فإنّ متّقيه لا عوزلهم. نلاحظ في مز 34 أنّ الخبر قصير جدًّا (آ 5- 7) والعبرة طويلة.
وبعد أن ينتهي المرتّل من شكره، يدعو المؤمنين إلى الوليمة. "لتحيَ قلوبُكم إلى الأبد" (27:22). أي أهلاً وسلاً وعلى صحّتكم. وهكذا يعبّر المؤمن عن فرحه وامتنانه.
ونتساءل عن مضمون مزامير الشكر.
أوّلاً: نقرّ بعظمة الرب وتساميه. إنّه فوق جميع الآلهة.
ثانياً: نقرّ بأنّ كلّ خير يأتينا منه. هذه هي عاطفة الشكر والامتنان.
ثالثًا: نقرّ بخطايانا وجهالاتنا، فنعلن أنّنا خطأة أمام القدّوس.
نقرأ في 32: 5: أعترف للرب بمعاصي. وفي 44: 9: لاسمك نعترف إلى الأبد. وفي 18:45: لذلك يعترف لك الشعوب (رج 19:49؛ 88: 11؛ 6:89؛ 3:99؛ 109 : 30؛ 111: 1؛ 119 : 7 ؛ 138 : 1، 2، 4).
كل خبر شكر يخضع للتوازن بين الموت والحياة. فالذي جاء يشكر قد أفلت من خطر الموت. لقد اقترب منه الموت بحيث أحسّ وكأنّه قد مات (مز 22: 16): لهذا بدا تدخّل الله وكأنّه رجوع إلى الحياة وقيامة من الموت (أش 28: 9- 20، صلاة حزقيا).
هذا الرجوع من الموت إلى الحياة يدلّ على عبور من الخطيئة إلى المغفرة، ومن العقاب إلى الخلاص. وهكذا من خلال صلاة المؤمن الفرد، نكتشف صلاة جماعة تشكر للرب إنعامه الدائم.

4- المزامير الملوكية
نتوقّف هنا عند أربعة أنواع: المزامير المركّزة على قول يسمعه الملك في الهيكل، مزامير تنصيب الملك، المزامير التي تعلن أنّ الله ملك، مزامير صهيون.
النوع الأوّل: يدعوني وأنا أستجيب له (91: 15). هذه العبارة تدل على فئة من المزامير تركّز على قول يسمعه الملك في الهيكل. جاء يسأل الرب، فأجابه الرب. أمّا مزامير هذا النوع فهي: 3، 20، 54، 56، 57، 60، 85، 158.
تتضمّن بنية هذه المزامير: السؤال، والطب، ثمّ قول الله (مز 60، 85، 108)، أو أقلّه كلمة تدلّ على أنّ القول سُمع (7:20: الآن علمت؛ 54: 6: ها ان الله؛ 56: 10: وأنا أعلم أنّ الله معي). وأخيرًا ردّة الفعل: يا رب خلّص الملك واستجب لنا يوم ندعوك (10:20).
النوع الثاني: تنصيب الملك. نقرأ مز 2، 21، 45، 72، 89، 101، 110، فنحسّ وكأنّنا نحتفل بعيد ملوكي.
أخذ شعب إسرائيل من الشعوب المجاورة النظامَ الملكي والإيدولوجيا الملكية، إلاّ أنّه لم يؤلّه الملك. يدعو الملكَ ابن الله، كما يفعل المصريون، ويحسبه قائم مقام الله، وينبوع البركات، والموكّل على الحروب المقدّسة، والمحامي عن المساكين وراعي شعبه. وحين يُنصّب ملكًا يصبح شخصاً جديدًا. يوم تنصيبه هو يوم ولادته.
ولهذا يُنبئون الملك بمُلك يدوم إلى الأبد، وبسلطان يشمل الكون كلّه. نقرأ في 2: 5: سلني فأعطيك الأمم ميراثًا وأقاصي الأرض ملكًا.
إنّ التنصيب أو الجلوس على العرش، حفلة أخذها بنو إسرائيل عن الشعوب المجاورة. ولقد وصلتنا نصوص عنها من مصر وأشور وبابل، كما وصلنا نصّان من العهد القديم: واحد عن سليمان (1 مل 1: 1 ي) وآخر عن يوآش (2 مل 11: 1 ي).
التنصيب عمل ديني وسياسي يتضمّن مرحلتين. الأولى دينية والثانية سياسية. كان الملك يكرَّس في الهيكل (هكذا كرَّس صادوق سليمان)، ثمّ تقدّم إليه وثيقة ملوكية تتضمّن أسماءه الجديدة والمهمة الموكولة إليه من قِبل الله. حينئذ يهتف الشعب: ليحي الملك (2 مل 11: 12). وينطق الملك من الهيكل إلى القصر يرافقه تصفيق الجماهير والموسيقى. وحين يصل إلى قاعة العرش، تسلَّم إليه شارات الملك (الصولجان، السيف)، ويمرّ أمامه جيشه (كانوا يكتفون ببعض القوّاد) مقدّمًا له خضوعه. ثمّ يأتي عظماء المملكة يقدّمون له ولاءهم، وسفراء الممالك المجاورة. وبعد أن يلقي الملك كلمة، يُعلن أحد الأنبياء بشكل صلاة تمّنياته للملك الجديد.
لا تقدّم لنا المزامير كل مسيرة الاحتفال، بل هذا القسم أو ذاك. فالمز 2، 101 هما خطبة العرش، المز 21 يقابل استقبال الكاهن للملك حين يصل إلى الهيكل. المز 45، 110 يتمّان في قاعة العرش (مكان للملكة التي تؤمّن دوام السلالة الملكية). والمز 72 هو صلاة بشكل قول نبوي. والمز 89 يصوّر لنا موكب الملك من الهيكل إلى القصر .
النوع الثالث: تنصيب الله ملكًا. فالمزامير 24، 29، 47، 68، 93، 96، 97، 98، 99 تعلن أنّ الله ملك في شعبه.
حين كان اليهود في منفى بابل (587- 538 ق م)، شاهدوا احتفالات تكرّم مردوك، إله بابل الوطني، فتأثّروا بها. ولكنّ الفرق كبير بين تنصيب مردوك وتنصيب يهوه: كانت الملكية تُمنح للإله البابلي بعد صراع طقسي ينتصر فيه على تيامات التنّين. ولكن لا أحد يمنح يهوه مُلكًا يمتلكه منذ البدء (2:93: عرشك ثابت منذ البدء). أخذ العبرانيون من هذه الاحتفالات كل ما يشدّد على مجد يهوه: الموكب الملكي (الذي صار طوافًا) يرافق يهوه (يفترضون وجود تابوت العهد حتّى بعد زواله سنة 587 ق م) إلى القصر أي إلى الهيكل وإلى قاعة العرش التي هي قدس الأقداس. يُنصَّب الله الملك أي يُوضَع تابوت العهد في قدس الأقداس وفوقه يجلس الله بطريقة خفيّة. وموكب الله كالمواكب الملكية، يرافقه الهتاف (الله قد ملك) والتصفيق وصراخ الفرح وصوت البوق والصور. ويأتي مشهد تقديم الإكرام للملك الجالس وسط حاشيته المتجلبب بالعظمة والبهاء.
وترك بنو إسرائيل كل ما يتنافى وتسامي يهوه الرب. تركوا المسحة الملكية وتقديم الشارات والعرض العسكري . أجل ما حسب بنو إسرائيل أنّهم يمنحون المُلك ليهوه، بل اعتبروا نفوسهم أمام تنصيب رمزي يستحضر مُلك الله الأزلي ويؤوّنه.
المز 24، 47، 68، 98 تشير إلى الموكب (والطواف) الذي يرافق الملك في مدينته وفي قصره. المز 29، 93، 97، 99 تركّز على حفلة التكريم. المز 96 يجمع حفلة التكريم (آ 1- 9) واستقبال الملك الآتي (آ 10- 13).
يهوه هو ملك إسرائيل، يهوه هو ملك كل الأمم. وإنّه أيضاً ملك هذا الكون الذي يهتف له. إنّه المنتصر بانتصارات شعبه، بانتصاره في البدء (تهوم أي الفوضى الأولى هو تيامات، التنين البابلي) وبانتصاره الآتي في نهاية الأزمنة.
النوع الرابع: عيد صهيون. هناك خمسة مزامير تنشد صهيون وهي: 46، 48، 76، 87، 132. كانت تُنشَد في عيد المظالّ فتحتفل باختيار مدينة داود وتفوّق هيكل أورشليمِ. تضمّن هذا العيد طوافًا (مع تابوت العهد) هو مسيرة حب واحتلال مسالم يصوّر مسبقاً صعود كل الشعب إلى الجبل المقدّس في نهاية الأزمنة.
بنية هذه المزامير هي بنية المدائح وهي تُبرز النقاط الآتية.
أوّلاً: هناك موضوع اختيار صهيون التي هي سرّ حضور الله وسط شعبه، والمكان المميّز الذي فيه يعرّف بنفسه. من هنا التشديد على المكان. مز 76: يهوذا، إسرائيل، شليم، صهيون؛ مز 3:87: فيك، آ 5: فيها، آ 6: وُلد فيها، آ 7: فيك؛ مز 13:132: صهيون، آ 14: ههنا، آ 17: هناك.
ثانيًا: بُعد تاريخي. صهيون هي قلب التاريخ وهي مركز المدى الروحي. من هنا وجود عبارة "إله يعقوب " وتذكير بمآثر الله (الخروج، مُلك داود، سنحاريب).
ثالثًا: بُعد اسكاتولوجي. يرى المرتل من خلاله أورشليم الحالية، أورشليم المسيحانية التي إليها يتوافد جميع الشعوب في نهاية الأزمنة (رج أش 60: 1 ي؛ 66: 10- 16؛ رؤ 21: 1 ي).

5- مزامير المراقي ومزامير الحجّاج ومزامير البركة
النوع الأوّل: مزامير المراقي هي 15 مزمورًا تتوالى في سفر المزامير (مز 120- 134) فترسم مراحل الصعود إلى أورشليم منذ إعلان الحجّ (مز 120) إلى الوداع قبل الرجوع (مز 134).
إذا أردنا أن نفهم هذه المزامير، ننظر إلى مكانتها في المجموعة، ونلاحظ مستويات الصعود الأربعة التي يلعب النصّ عليها: الحج الحاضر وفيه ما فيه من صعود إلى أورشليم، الصعود من مصر وامتداده في الاحتلال مع يشوع، الصعود من بابل بعد الرجوع من المنفى، الصعود الاسكاتولوجي وتوافد الأمم إلى أورشليم في الأزمنة المسيحانية. كل هذه المزامير تذكر الهيكل الذي بُني بعد الجلاء وكلّف بناؤه الصعوباتِ العديدة. هذا الوضع يفسّر التعارض بين مز 123 ومز 124، أو بين قسمي مز 124.
واليك مسيرة هذه المزامير.
مز 120: يعلن المنادي أنّ الحجّ يُهيّأ. فيرى المرتّل في هذا النداء جوابًا من الله على قلقه.
مز 121: الجماعة المحلّية تودع الذاهبين إلى الحجّ.
مز 122: وصول الحجّاج إلى أبواب أورشليم. كرازة على الباب وصلاة.
مز 123: صلاة تصوّر حالة أورشليم الزريّة بعد الرجوع من المنفى.
مز 124: فعل شكر من أجل الرجوع الذي تمّ رغم الصعوبات.
مز 125: بين الوصول وبداية الاحتفال: يتأمّل الحجّاج ويصلّون.
مز 126: احتفال بالتقادم يذكّرنا بطواف الرجوع المصوَّر بطريقة مثالية. موضوع البركات مع صورة الحصاد الوافر.
مز 127: تأمَلُ صهيون لا بخصب الأرض وحسب، بل بمنح الشعب الأبناء العديدين.
مز 128: بركة الكهنة.
مز 129: الخزي لأعداء صهيون وبالتالي لأعداء الله.
مز 130: صلاة وذبيحة توبة للخيانات ضدّ العهد.
مز 131: تجديد الالتزامات تجاه العهد.
مز 132: بعد هذا، يحتفل بنو إسرائيل بعيد صهيون في الفرح.
مز 133: نظرة إلى العيد الذي مضى: لقد كان بركة على الحجّاج.
134: وداع اللاويين والبركة الأخيرة.
النوع الثاني: "مزامير الحجّاج". تُنشد هذه المزامير (15، 84، 90، 122) فرحة الحجّاج الذين وصلوا أخيرًا إلى أبواب الهيكل. وإليك بنية هذه المزامير:
أوّلاً: هتاف فرح وإعجاب وحبّ (مز 84، 90، 122).
ثانيًا: تبادل التحية بين الحجّاج واللاويين أو الكهنة (84: 5- 6)، نظرة إلى المراحل التي قطعها الحجّاج (7:84- 8 ؛ 3:90- 7 ؛ 122: 1).
ثالثاً: كرازة على الأبواب. فالآتون من البعيد تنجّسوا باتّصالهم بالعالم الوثني أو جهلوا ما ينتظر الله منهم. لهذا وجب عليهم أن يسمعوا عظة قبل أن يدخلوا. هذا ما نقرأه في مز 15. يسأل الحجّاج (آ 1) فيصل إليهم جوابُ الكهنة (آ 2- 5) مذكّرًا إيّاهم بالوصايا العشر. ونجد عناصر هذه الكرازة في 84: 12 ؛ 3:90- 8 ؛ 122: 4- 5.
رابعًا: صلاة الحجّاج من أجل المدينة التي تستقبلهم (84: 9- 0 1؛ 122: 6- 9) .
خامسًا: كلمة استقبال يوجّهها أهل أورشليم توافق ما قاله الكهنة (15: 5 ؛ 13:84؛ 90: 10- 13).
النوع الثالث: طلب البركة. هناك مزموران (67، 144) يتوسّعان في العبارة الطقسية التي نقرأها في عد 6: 24- 26: ليكن اسم الرب على بني إسرائيل وليباركهم. المز 144 يتألّف من قسمين: الأوّل مأخوذ من مزامير أخرى، والقسم الثاني من نص نجهله. ونرى ملكًا يطلب بركة الله ليعطي بني إسرائيل النجاح في الحرب والخصب والازدهار، ومن خلال كل هذا يطب النصر في نهاية الأزمنة.

6- مزامير العهد
لقد قطع إسرائيل عهدًا مع الله ، وها هو يجدّد هذا العهد سنة بعد سنة. من هنا كانت المزامير التي تتكلّم عن طقوس العهد فتذكّر المؤمن بالبركات والبهلات (مز 1، 37، 112) وبنود العهد (مز 50) والتزام الشعب (مز 115) والخطبة التذكارية (مز 78، 105، 114، 136) ومراحل الحفلة (مز 8، 111، 135، 145) وذبيحة التكفير (مز 95، 100،106).
ولنذكر بعض الأمور الضرورية لفهم هذه المزامير. العهد هو المُعطَى الأساسي في الوحي اليهودي: عهد مع نوح وإبراهيم قبل أن يصبح عهد سيناء. ولكنّ العهد ليس معطى جامدًا لا يتحرّك، إنّه كائن حيّ نما بنمو الشعب في الحياة الروحية. وإذا أردنا أن نفهم كلمة العهد، نتذكّر العلاقات بين ملك منتصر وملك مهزوم أو خاضع. فعبّر بنو إسرائيل انطلاقًا من هذه الصورة عمّا تجرأ القدير وفعله معهم: إرتبط بشعبه مدفوعًا بعاطفة الحب. هذا ما نجده في سفر التثنية وفي نصوص أخرى (خر 19: 24؛ 34: 1- 25 ؛ يش 8: 30- 35؛ 24: 1-28؛ 2 مل 23: 1- 3؛ 2 أخ 9:15- 16؛ نح 8- 10 ؛ حز 20: 5- 44) جمع فارق بسيط وهو أنّنا لسنا أمام معاهدة، بل خبر واحتفال ليتورجي. وهذا ما يفسّرأن يتضمّن المدخل دعوة إلى التجمّع أو ظهور لله أو عظة نبوية ودعوة إلى الانتباه والإصغاء: إسمع يا إسرائيل. ونشير إلى التزام الشعب بالعهد المقدّم إليه. وهذا ما لا نجده في المعاهدة.
كان هناك تجديد الالتزامات بالعهد في أوقات متفرّقة أو على مفترق هامّ من تاريخ شعب إسرائيل. مثلاً على ذلك: دخوله أرض كنعان (يش 8: 30- 35)، تجمّع شكيم (يش 24: 10- 28). بعد زمن من نسيان الرب وخيانته ، جدّد يوشيا العهد (2 مل 23: ا- 3) ودخل عيدُ تجديد العهد في الدورة الليتورجية ورافق عيد المظالّ. هذا ما كانت تفعله جماعة قمران. ومن أجل هذا الاحتفال أنشدت مزامير العهد وعددها 16 مزمورًا.
لا نجد بنية واحدة لهذه المزامير. ولكنّ مز 81، 111، 135، 145 تقدّم لنا مجمل المراحل. مز 50 يقدّم لنا بنود العهد، مز 105، 114، 136 تقدّم العظة. ومز 1، 37، 112 بهلات العهد (أو اللعنات). مز 95، 104، 106 تُعدّنا لتجديد التزامات العهد.

7- مزامير ضدّ الاشرار
هذه المزامير (9- 10، 11، 12، 14، 28، 52، 53، 58، 59، 62، 64، 75، 82، 83، 94) تعكس واقعًا تعرّفنا به التوراة: يقف نبيّ خلال إحدى اجتماعات الشعب، فيهاجم الأشرار وينبّه الجماعة إلى الخطر الذي يشكّلون عليها (إر 7: 1 ي؛ 10: 1 ي ؛ حز 13: 1 ي ؛14: 1-22؛ 28: 1 ي).
من هم هؤلاء الأشرار؟ يمكن أن يكونوا وثنيين (9- 10، 59. 75، 83)، أو جاحدين وأعداء الرب، أو مجدّفين وظالمين للمساكين (مز 11، 12، 28، 52، 62، 64) أو قضاة (مز 58، 94) أو أمراء ظالمين ، أكانوا وثنيين أم لا (مز 82).
تُتلى هذه المزامير صلاةً"إلى الله ليضع حدًّا لأعمال الأشرار (مز 11، 12، 28، 59، 64، 83، 94) أو كلامًا يوجّهه المرتّل إلى الأشرار (52، 58، 62، 75) أو نصًّا مركّبًا يجمع التوسّل والشكر (مز 9- 10، 94).
لا شكّ أنّ لهذه المزامير ارتباطاً بالتوسّل والشكر، ولكنّها تتميز بالذّم والنقد اللاذع. لا يصلّي المرتّل من أجل حاجاته الخاصّة ، بل يرسم صورة عن الأشرار. ونجد في هذه المزامير:
أوّلاً: ظهور الله أو أقوال الله (مز 9- 10، 12، 14 و53، 64، 75، 82).
ثانيًا: تصوير الدينونة ينبئ بها المرتّل أو يطلبها (مز 9- 10، 11، 14 و 53، 28، 52، 58، 59، 64، 75، 82، 83، 94).
ثالثًا: تصوير الأشرار (مز 9- 10، 11، 12، 14 و 52، 53، 58، 59، 62، 64، 83، 94).

8- مزامير الحياة مع الله
نقرأ 12 مزمورًا (4، 5، 16، 23، 27، 31، 36، 49، 61، 63، 73، 139) تحدّد شروط اللقاء بين المؤمن والرب: من يحقّ له أن يكون ضيف الله وجاره؟
يتوسّل شعب إسرائيل من خلال لاوي (مز 5، 6، 23، 36، 63، 73) أو ملك (مز 27، 31، 61) أو نبيّ (4، 49، 139). قلقَ من وضعه، وضاق بالمهمّة الملقاة عليه، أو أحسّ بتجربة الكفر والجحود ، فجاء يسأل الرب ماذا يفعل. ويجعله الرب يكتشف أن وضعه الفريد يدلّ على اختيار، وأنّ نصيبه هو أفضل نصيب ، لأنّه حياة حميمة مع الله الذي يفتح له بيته ويستقبله في سرّه كضيف عزيز على قلبه.
يشير النص إلى الطريقة التي بها يسأل المؤمن الله. أمّا الجواب فيصل بشكل ظهور أو قول أو شعور خاصّ يحسّ به المؤمن. أمّا العنصر المشترك لهذه المزامير فهو أن نكون مع الله في الوحدة (4: 9). أكون معك (23: 4) ، أكون ضيفك (مز 15) ، الرب أمامي (16: 8)، أسكن بيته (23: 6) ، به أعتصم (31: 1) ، إليه وحده أطمئن (1 6: 2) ، الله يأخذني (مز 49) وفي ظلّ جناحيه أسلك (63: 8).

ج- الإطار اللاهوتي للمزامير
من الصعوبة جدًّا أن نُدخل في إطار لاهوتي واحد 150 مزمورًا دوّنت في أوقات مختلفة وفي محيطات متنوّعة. فمنذ المزامير التي كتبت في أوّل عهد الملكية الداودية إلى مزامير الأتقياء التي دوّنت بعد الجلاء ، تطورت التقوى في أرض إسرائيل.
كيف نتخيّل داود يتلو المزمور 51 (ارحمني يا الله) أو أيّوب يحلم بمسيح محارب كما في مز 2 و 110. تطوّر المنظور اللاهوتي مع الزمن ، وتأثّر بالمحيطات التي وُلدت فيها المزامير: البلاط الملكي ، كهنة الهيكل ، حلقة الأنبياء والحكماء ، جماعة المساكين. ولكنّ كل هذا ذاب في صلاة عمرها ألف سنة ، صلاة تتجاوز المكان والزمان لتصبح صلاة شعب إسرائيل. وهذه الصلاة تتوجّه إلى إله صديق بادر إلى الحوار، فاختار شعبه ودفعه إلى طرق الحياة. اسم هذا الصديق برنامج عهد ، ونداء إلى من سيخلّص ويقتبل في حياته الحميمة.

1- إله العهد
لا يتوجّه المرتّل إلى الله بل إلى إلهه. يقول إلهي (45 مرّة) ، إلهنا (30 مرّة) ، إله خلاصي (18: 47؛ 24: 5؛ 25: 5؛ 27: 9 الخ) ، إله برّي (4: 2) وإله تسبحتي (109: 1). يدعوه لأنّه إله إسرائيل وإله يعقوب (8:46، 12؛ 75: 10؛ 7:76 ؛ 81: 5؛ 84: 9) ورب الجنود (أو الرب القدير) أي رب تابوت العهد (8:46، 12؛ 9:48؛ 8:80،8:80،15 ؛84: 1 ي؛ 9:89).
ويُسمّى الله "إيل " (64 مرّة) وعليون (أو العلي، 22 مرّة) والواه (4 مرّات) وشدّاي (مرّتين). ويُسمّى بالأخصّ يهوه (الرب الذي هو) وهو إله الخروج وسيناء. في الكتاب الأوّل من سفر المزامير (1- 41) يرد اسم يهوه 273 مرّة (15 مرّة الوهيم). في الكتاب الثاني (42- 72) تنقلب الأرقام لصالح الوهيم.
ويسمّي إسرائيل نفسَه شعب الله ، شعبه (أكثر من 50 مرّة) والشعب الذي اختاره (33: 12) وميراثه (28: 9؛ 33: 12 ؛ 74: 2؛ 78: 62، 71؛ 79: 1؛ 94: 5، 14؛ 106: 5، 40) ورعيته (74: 1؛ 77: 21؛ 78: 52 ؛ 79: 13؛ 80: 2؛ 7:95؛ 3:100). أعضاء الجماعة هم عبيده (40 مرّة) وبؤساؤه (15 مرّة) ومساكينه (72: 2؛ 74: 19).
اهتمّ الله بمصير شعبه ، فعرف الشعب قدرة القه وعمله القويّ.

أوّلاً: الله يحدّده عمله
لا يماثل إسرائيل إلهَه بأيّ قوّة كونيّة ، ولا يحدّده بإحدى الصفات الماورائية. لا تنشد المزامير ما هو الله ، بل ما الذي عمل. هي لا تعرف إلاّ مآثره (105: 1؛ 8:156 ؛ 145: 12) وطرقه (5: 4؛ 67: 3؛ 95: 10؛ 103: 7) وقدرته (87: 15) وخلاصه (98: 2) وأحكامه (9: 10). وبما أنّ هذا العمل يرتبط بواقع إسرائيل ، فلا يقدر أحد أكثر من هذا الشعب أن يعرف الرب ويعرّف الناس به: الله معروف في يهوذا (2:76؛ رج 48: 4).
لا شكّ في أنّ إله التوراة يفعل في الطبيعة وفي عالم البشر ولكن عندما ينشد المرتّل أعمال الله ، فهو يفكر أوّلاً في التاريخ. هناك "فعل " الذي يدلّ على عمل الله في التاريخ، و "عسه " الذي يدلّ على الوجهة الكونية و "اوت " التي تدلّ على الخلق (65: 9).
يحتلّ الخلق مكانًا صغيرًا في فكر بني إسرائيل. فالرب يأمر في إسرائيل ، لأنّه المخلّص لا الخالق ، وله الحق أن يطاع لأنّه انتشلهم من عبودية مصر (7:81- 9). ولكن لا تعارض بين الوجهة الكونية والوجهة التاريخية ، فالواحدة تكمّل الأخرى. فحين يقول المرتّل: كلمة الرب مستقيمة وجميع صنعه أمانة (4:33)، فهو يفكّر من جهة في الحكمة التي بسطت السماء وكوّنت الأرض (33: 6- 9)، ومن جهة أخرى في القصد الأزلي الذي يعدم حسابات الأمم (33: 10- 12). غير أنّ مجمل العمل يتركّز حول العمل التاريخي الذي يشكّل له العمل الكوني مقدّمة: ولادة الأرض (86: 4- 9) إعلان مسبق لولادة إسرائيل (86: 10- 15).
الخلق هو أوّل انتصارات يهوه على قوى الشر (74: 12- 17؛ 89: 10- 15 ؛ 93: 1 ي ؛ 104: 5- 9 الخ). تُصوّر التوراةُ هذا الانتصار مستلهمة نصوص الشرق القديم (مردوك وتيامات ، بعل ويم). ولكنّ هذه الصورة تخسر في إسرائيل طابعها الدوري (يتكرّر مرّة كلّ سنة) وتتّخذ طابعًا واحدًا لا يعود أدراجه. انتصار الله ليس في التاريخ ، بل في خارج التاريخ.
وقد قابل الكتاب انتصار الرب على الوحوش البحرية بانتصاره على فرعون بحيث سمّيت مصر رهب (87: 4). فحرب الرب على الغمار (77 : 17- 20) تذكر المؤمن بعبور البحر الأحمر (77: 16، 21؛ رج أش 51: 9- 10).
فبداية الكون وبداية شعب إسرائيل تدشّنان عجائب (نفلأوت في العبرية) الله (136: 4؛ رج 78: 4، 11، 32 ؛ 106: 22) التي تدلّ على قداسة طرقه (77: 14) والتي يُنشدها شعبه (2:9 ؛ 40 : 6 ؛ 71 : 17 ؛ 2:75؛ 86 : 10؛ 98: 1؛ 105 : 2؛ 107 : 8، 15، 21، 31؛ 111: 4 ؛ 119 : 27؛ 145 : 5). فالخلق (9:65) والتحرّر من مصر (43:78؛ 105: 27؛ 135: 9) وخلاص هذا أو ذاك من المؤمنين (7:86) تشكّل علامات مميّزة وآيات ساطعة عن اهتمامات إله العهد.
لا تتكلّم المزامير كثيرًا عن العهد (25: 10، 14؛ 18:44؛ 50: 5؛ 74: 20؛ 78: 10، 37 ؛ 103 : 18؛ 105: 10؛ 106: 45؛ 111: 4، 9)، ولكنّها تذكر تعلّق يهوه بمختاريه وأتقيائه (حسيديم). تعود كلمة "حسد" (الرحمة، المحبّة) ما يقارب المئة مرّة في المزامير، وباسمها نطلب من الرب أن يتدخّل: خلّصني برحمتك (17:31؛ رج 143: 12). ولأجلها نسبّحه ونباركه: "لأنّ إلى الأبد رحمته " (5:100؛ 106: 1؛ 107: 1 ؛ 118: 1 ،2 ، 4 ، 29 ؛ 136: 1 ي).

ثانيًا: عمل الله القدير
لا شيء يحدّ قدرة إله العهد حين يتدخّل في الطبيعة وفي عالم البشر. فالتوراة سمّت الله الملك منذ القديم ، ونحن نقرأ هذا اللقب في المزامير 30 مرّة تقريبًا (ملك أو مشل أي المتسلّط). هو يجلس (14 مرّة) على عرشه (8 مرّات) ويتجلبب بالبهاء والجلالة (13 مرّة) ويسود الكون بعظمته (جدل، 20 مرّة). إنّه ملك المجد (7:24- 10؛ 29: 1، 3، 9؛ 96: 3، 7، 8، 97: 6) وهو يسود الكون الذي يعتبره خاصّته: لك السماوات ولك الأرض. أنت أسّست الكون وما يحتويه (مز 89: 12؛ رج 74: 16- 17).
يرتبط مُلك الله بعمل الخلق كما في العالم الشرقيّ ، والإله مردوك لن يعلن ملكًا قبل أن ينتصر على وحوش البحر. غير أنّ التوراة لا تعرف وقتًا لم يكن فيه الله ملكًا، وقتًا سلّم فيه العالم إلى الفوضى. فالأخبار عن الصراع الأوّلى تبدأ بسجود السماوات للإله المنتصر (29: 1ي؛ 89: 6- 15) بحيث إنّ يهوه كان ملكًا منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد (93: 2).
وقدرة الله الملك لا تعرف حدودًا في الزمان كما لا تعرف حدودًا في المكان. من مثلك (32:18؛ 35: 10؛ 40 : 6 ؛ 71 : 19؛ 7:89)؟ هذا يعني أنّ سائر الآلهة هي عدم (96: 5)، وأنّها لا ترى ولا تسمع ولا تشمّ ولا تتكلّم ، مع أنّ لها عيونًا وآذانًا وأنوفًا وأفواهًا (115: 4- 8؛ 135: 15- 18).
وممارسة السلطة الملكية تفترض وجود قصر أمّا قصر الرب فهو في السماء (11: 4؛ 7:18 ؛ 48: 10؛ 68: 30) أو على الأرض في أورشليم (8:5؛ 27: 4؛ 48: 10 ؛ 68:.3). هناك رباط بين معبد السماء ومعبد الأرض. الله يقيم في حصنه (8: 2-3) في السماء ، ومن هناك يراقب كل شيء ، ويوجّه التاريخ دون أن يؤثّر فيه أحد. "إنّ إلهنا في السماء كل ما شاء صنع " (115 : 3 ؛ رج 4:2؛ 14 : 2؛ 18: 14؛ 20 : 7؛ 3:33 1؛ 9:76؛ 80: 15 ؛ 102 : 20 ؛ 123 : 1).
يعرف (يدع أكثر من 60 مرّة) قوّتَه ومجدَه الغرباءُ (28:22؛ 2:29؛ 66: 4 ؛ 86: 9 ؛ 96: 9؛ 9:96؛ 97: 7) والمؤمنون (95: 6؛ 132: 7 ؛ 138: 2) فيسجدون برعبة (8:5) أمام يهوه الملك. وتشكّل هذه المخافة للأمم (65: 9؛ 8:67 ؛ 76: 9) علامة خضوعهم، وللشعب المختار (40: 4 ؛ 52: 8) علامة إخلاصهم الحرّ والكامل. هناك خوف يقود إلى الرب ، وهناك خوف يقود إلى الطاعة والاستسلام بين يدي الله. هذه المخافة لا تولّد القلق ، بل تحرّرنا منه ، لأنّ مخافة الله تزيل أيّ خوف آخر (23: 4؛ 27: 1 ؛ 3:46؛ 5:56، 12؛ 5:91؛ 6:118).
2- اسم الله
عندما يُذكر اسم الله فهو ينير بأنواره أحزان الحاضر، ويبعث الأمل في مستقبل يتطّلب التزامًا ، ويمنح القلوب حماسًا واندفاعًا.

أوّلاً: المستقبل
كان الأقدمون يقدّمون التحيّة لظهور إلههم مع شروق الشمس في الأفق ومع التطواف بتمثال الله . أمّا إسرائيل فكان يهتف أمام الرب هتاف الحرب والنصر (تروعه ، مز 27: 6؛ 3:33 ؛ 2:47 ، 6؛ 66: 1 ؛ 81 : 2 ؛ 89: 16؛ 95: 1، 2؛ 98: 4، 6؛ 100 : 1) لأنّ لقاء الرب يعني النجاح التامّ.
فإله العهد ينفّذ قصدًا عظيمًا تتجاوز أبعاده العقل البشري (6:40؛ 92: 6) ولا يرهقه الزمن (33: 11). فالحكمة نفسها التي بنت الكون وعمّرته وما زالت تُنعشه (104: 1 ي)، ستبني وتعمّر وتنعش صهيون (147: 1 ي). وهكذا يذوق المرتّل بين يدي الله (31: 6) الفرح ، لأنّ الرب يهديه بإرادة قوّية ، ولأنّه يحسّ بمشورة الرب تنصحه ليلاً ونهارًا (7:16؛ 73: 24).
فالطريق الذي مهدّته مآثرُ الله (67: 3؛ 77: 14 ؛ 103: 7؛ 138: 5؛ 145: 17) صار لإسرائيل طريق المستقبل المستقيم (5: 9) والكامل (18: 31).
والمستقبل الذي يهيّئه الله ليس نسخة عن الماضي. فملكوت الله يوقظ عند الأقدمين أملاً بإعادة الخليقة إلى نقاوتها الأصلية. والحدث المنتظر يمتزج بالحدث الأوّل الذي يتجدّد بين الفترة والأخرى. ويعتبر المرتّل مُلك الله حقيقة لا رجوع عنها (2: 4؛ 11: 4 ؛ 7:24- 10؛ 29: 10؛ 3:47، 7، 9؛ 3:48) وحدثًا آتيًا يبقى موضوع أمل (9: 5، 8؛ 10: 16؛ 22: 29؛ 96: 10؛ 97: 1- 2 ؛ 98: 6).
ويميّز المرتّل زمنين في ملكوت الله ، زمنًا يبدأ فيه التاريخ ، وزمنًا ينتهي فيه. يهوه هو ملك منذ نَصْره على البحار (12:74)، ومن هذا المنطق يمسك بيده مصير الشعوب (145: 11 ؛ 146: 10). ولكنّه لا يكون ملكًا حقًّا إلاّ حين يُنهي عمله بالدينونة: "نادوا في الأمم: الرب قد ملك. يثبّت الأرض فلا تتزعزع ، يدين الشعوب بالاستقامة" (مز 96: 10).
بدايةْ القصّة ونهايتها هما تحقيقان لملكه. تتميّزان ولكنّهما تبقيان في رباط وثيق. فالواحدة تكمّل ما وعدت به الأولى. ولكنّ العبور من الصورة التقريبية إلى التحفة الأخيرة يفترض مبادرة جديدة من قِبل الله الذي يأتي ليُنشَد له نشيد جديد (3:33؛ 40: 4 ؛ 96: 1؛ 98: 1 ؛ 9:144 ؛ 149: 1). ولكي يصل الرب إلى هدفه ، فلا بدّ له من أن يتذكّر (30 مرة) رحمته (3:118)، يتذكّر عهده (8:105 ؛ 12:115) والكلمة التي أعطاها لأخصّائه (105: 42؛ 119: 49).
الرب أعطى كلمته التي تُشرف على عمله في الكون كما في التاريخ (33: 4، 6- 9؛ 107: 20؛ 15:147، 18؛ 8:148) والتي لا يستطيع أحد أن يؤثّر فيها لتعجّل أو تتأخّر. والمرتّل متيقّن من كلمة الله. يعرف أنّها حقيقيّة ومختبَرة وأمينة (7:12 ؛ 118: 31 ؛ 119: 140). وإذا كان إسرائيل لم يزل موجودًا ، فلأنّ الله تحدّى كل الحواجز فكان أمينًا للعهد الذي قطعه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب (8:105 ؛ 42:19). ولهذا يستند شعب الله إلى رحمته (33: 22؛ 52: 10 ؛ 147: 11) وإلى كلمته (130: 5؛ 119: "15 مرة"). لماذا يُوقف ما بدأ به بحريّته ، لماذا يتوقّف عن تحقيق ما عزم عليه (44: 4)؟ في الساعات المظلمة قال شعب إسرائيل: "لم تَعُد يمين العلي كما كانت في الماضي " (77: 11). ولكنّ هذا لا يعني أنّ الله لم يَعُد الله (77: 9، أما عاد الله الصالح لنا، أليس له بعد شيء يقوله لنا؟).

ثانيًا: تمنيّات التاريخ
كانت أعياد السنة الجديدة تقدّم مناسبة للمؤمنين ليعبّروا عن أحلامهم: إعادة النظام السياسي والاجتماعي ، ولادة الخليقة ولادة جديدة في نقاوتها الأولى. ويعود إلى الكون توازنه فتسود العدالة ويزهر السلام الدائم. هذا هو برنامج يهوه الملك: الدينونة، العدالة، السلام.
الدينونة عمل الملوك أكانوا آلهة أم بشرًا. عرشهم عرش الديّان (8:7؛ 8:9؛ 89: 15 ؛ 122: 5). والدينونة تتضمّن استعمال قوّة ضاغطة وسامية (3:54). يستيقظ الديّان ويقوم ليُصور حُكمًا مستقيمًا، حُكمًا لا يحابي فيه أحدًا ولا يقف بوجهه أحد (9:9؛ 58: 2؛ 67: 5 ؛ 3:75؛ 96: 10؛ 98: 9 ؛ 99: 4). فالهدف من الدينونة هو تحطيم مقاومة الشرّير (رشع في العبرية)، ذلك الخصم المرعب ذلك الشخص الذي يملأ بحضوره مزامير عديدة (7، 9، 10، 11، 12، 17، 26، 36، 37، 58. 65، 82، 94، 97، 144، 145). أمّا نجاح الشرّير فهو ثمرة العنف الذي يمارسه ضدّ الوضعاء (140: 2- 6) الذين يجدون الخلاص في دينونة الله (3:82، 4) ومسيحه (72: 2، 4، 12- 14).
وعندما تمتلئ الأرض من تجاوزات الأشرار (74: 5) يتزعزع نظام الخليقة: تهتزّ الأرض من أساساتها ، وتنحدر في ظلمة السديم الأوّل (82: 5). ولكنّ القاضي السامي يعيد تثبيت عواميد الأرض (75: 4) فيعيد النور (37: 6) والحياة (36: 6- 10 ؛ 67: 5- 7) إلى نفوس الأبرار الذين يملأ نداؤهم القَلِق كلّ المزامير (7: 9- 11؛ 11: 2- 3 ؛ 34 : 16، 20 ؛ 37: 11- 12، 16- 17 إلخ...)
الدينونة في الكتاب المقدّس هي تدخّل السلطة ضدّ الشرّير ومن أجل الصدّيق ، والمرتّل يعتبر نفسه صدّيقًا. فيطلب إلى الله أن يقف معه ضد مضايقيه: أحكم لي ، يا رب (9:7؛ 26: 1؛ 24:35؛ 43: 1). وما نقوله على مستوى الفرد ، نقوله على مستوى الشعب. فالربّ آلى على نفسه أن يدافع عن شعبه. ولهذا تبدو عدالته محصورة في أبناء العهد (103: 17). وديّان الأرض (94: 2) الذي لا يتخلّى عن ميراثه ، يقوم على الشرّير، عدوّ الأرملة واليتيم ، وسط عالم لا يعرف الرحمة.
والسلام (شلوم في العبرية) هو تفتّح قوى الحياة بفضل تدخّل الله ومسيحه. وهكذا تفتَح العدالةُ الطريق إلى السلام: "لتنبت في أيّامه العدالة والسلام العظيم إلى آخر الأيّام " (7:72). فإقامة عهد من العدالة والسلام (85: 11) يتضمّن حضور الله في قلب البلاد ، في هيكل أعيد بناؤه وتطهّر (5:65؛ 6:68، 17، 25، 29؛ 8:74 ؛ 93: 5)، في مدينة مقدّسة تقاوم هجمات العدوّ (46: 1 ي ؛ 48: 1 ي؛ 76: 1 ي). وإليها يأتي أبناء إسرائيل (122: 1 ي) لينعموا بالحياة والبركة (87: 1 ي؛ 132: 14- 156؛ 133: 1 ي). وهذا يفترض أيضاً الانتصار على عدوّ مسيح الله (20، 21، 110، 144) الذي يحطّم كلّ مقاومة ويعمل عمل الديّان (45: 2- 8؛ 72: 12- 14 ؛ 101: 1 ي).
هذا الحلم وُلد في ليتورجية عيد السنة الجديدة أو تتويج ملوك أورشليم ، وقد تحوّل إلى رجاء واثق تؤكّده كلمة الرب. ولهذا بعد أن زالت النظم والبنى السياسية ، ظلّ رجاء ملك العدالة والسلام ينمو ويتعمّق. أمّا تحقيقه فيكون في نهاية الأزمنة ، في اليوم الذي ينهي فيه الله التاريخ. هذا اليوم لا يعرف سرّه إلاّ الرب لأنّه يوم الرب.
حين برز سفر المزامير في شكله النهائي والقانوني ، كان المُلك قد زال من إسرائيل ، فصار مسيح الرب شخصاً مستقبليًّا يحمل الرجاء النبوي (أش 11: 1 ي ؛ إر 23: 5- 6)، وبه يمارس الرب قدرته وملكه العادل والمزدهر، ويُزيل المضايقين. أمّا المقاطع التي تنشد أعمال وحياة الملك (تتويجه، انطلاقه إلى الحرب ، زواجه ، ملكه) فقد اغتنت بالرجاء والسلام اللذين يحملهما ابن يسّى الآتي ومَلِكه المسيحاني.

ثالثًا: الإنسان
إنّ المستقبل الذي يهيّئه الله للإنسان ، يتطّلب مشاركته ويلزمه بالعمل. وإنّ اسم يهوه يولّد الأمل ويفرض متطلّبات. كانت كلمته وعدًا فصارت شريعة (119: 1 ي ؛ 19:147) وستكون طريقًا لا بدّ من اتّباعه (4:17؛ 50: 17)
طريق الرب هو الطريق الذي يتّخذه هو (77: 20) والطريق الذي يدعونا إلى اتّخاذه (5:17؛ 19:44؛ 81: 14؛ 19 3:1 ؛ 128: 1). طريق نطلب منه أن يعلّمنا إيّاه (4:25، 8، 18 ؛ 27: 11؛ 8:32 ؛ 51 : 15؛ 86: 11) لنعرفه (95 : 10) ونحفظه (22:18).
إذا كان قصد الله يفرض متطّلبات، فهذه المتطلّبات توحّدنا بقصد الله. فمن خضع لهذا القصد، تذكّر الأعمال الماضية. والتعليم الذي نقله جيل الآباء الأوَل إلى أولادهم ، يتضمّن خبر مآثر الله وإعلان الوصايا والشريعة (78: 4- 5). إذن ، ما يُطلب من الأبناء هو أن لا ينسوا أعمال الله ، ويحفظوا أحكامه ، لئلاّ يتشبّهوا بآبائهم الذين خانتهم الذاكرة فلم يعرفوا الطاعة (78: 10- 11).
إنّ الرب لا يشرّع كخالق بل كمخلّص. وحين يطب أن يطاع ، فهو يذكر عمله الخلاصي (7:81- 8). فعلى إسرائيل أن يسمع ذلك الذي أصعده من أرض مصر (11:81).
والعبارات التي تدلّ على الشريعة في مز 119 تذكّرنا بالطريقة التي بها التزم الله حيال شعبه. تفقّد (فقد في العبرية، مز 8: 5 ؛ 80: 5) إسرائيل وأخذه على عاتقه فترك له أحكامًا وتعليمات (فقديم). ودلّه بالشريعة على الطريق الواجب اتّباعه (25: 4، 8، 12 ؛ 32: 8 ؛ 86: 11).
هذه الشريعة هي شهادة (عدوت) وحكم وكلمة ووصيّة ، وبنو إسرائيل يعتبرون شريعة سيناء قانونًا مميّزًا (حق في العبرية) يكوّنهم كشعب الرب (81: 5). وحين يطلب سيّد التاريخ من أخصّائه أن يسمعوه ، فهو لا يطلب منهم أن ينفّذوا أوامر محدّدة ، بل أن يلتزموا بالسير على خطاه دون تردّد ، أن يرتبطوا بقصده بقلبِ ثابت (8:78، 37). إذا ً، ليست القضيّة فقط أن نتمّ متطّلبات الشريعة ، وإنَ فعلنا كنّا كمن يتخلّص منها. بل يجب أن نختار (119: 30) الشريعة ونحبّها (119 : 47) ونرغب فيها (119 : 20، 40) ونتنعّم بها (119 : 47) ونصونها مثل كنز ثمين (119: 11). ويجب خصوصاً أن نحفظها (30 مرّة) كما يحفظ الله نعمة عهده (89: 29، 32). فالله الذي هو رجاء إسرائيل يريد منه أن يُنصت بعقله وقلبه: اسمع ، يا إسرائيل (7:50؛ 78: 1؛ 81: 9؛ 95: 7). فالاستعداد يشكّل الشرط الأساسي للخلاص . وكل تصلّب (95: 8) يطوي الإنسان على نفسه ، يقطعه في الوقت نفسه عن إلهه (12:81- 13).

رابعًا: برنامج ينشده شعب إسرائيل
الماضي والمستقبل (المرتبطان باسم الرب) هما دعوة إلى الإنشاد ونداء إلى العمل. وهكذا ينشد المرتّل رحمة إلهه (30 مرّة): اعترفوا للرب لأنّ إلى الأبد رحمته (106: 1؛ 107: 1). وسيهتف الشعب أمام الحدث الذي يتوّج هذه المرحلة ، عنيت به تحقيق دينونته وعدالته (32:22 ؛ 28:35؛ 40: 10؛ 48: 11؛ 50: 6؛ 16:51 ؛ 15:71، 16، 19، 24 ؛ 13:88 ؛ 17:89؛ 13:96؛ 6:97؛ 119 : 164 ؛ 132: 9 ؛ 145: 7).
فعلى المؤمن أن يشكر الله على نعمة حصل عليها. وما هو خاصّ بالتوراة ، هو أنّ على كل واحد أن يسجّل النعم التي حصل عليها في مخطط الرب العظيم من أجل شعبه. وينطلق مز 40 من سخاء الله نحو أحد مساكين الجماعة (آ 2- 4) ليعظّم اهتمام الرب بكل إسرائيل (آ 6). ويبدأ مز 66 بانشاد مآثر إله العهد (آ 1- 7) ، ثمّ يروي كيف نجّى الله شعبه من خطر مميت (آ 8- 12) : بعد هذا (آ 13- 25) يترك المؤمن يتقدّم ليقرّب ذبيحته ، ذبيحة الشكر.
وهكذا يجعل الإسرائيليّ قط لته داخل تاريخ شعبه ، فيوقف مثلاً مرثاته الشخصية ليفكّر في بناء صهيون (112 : 14-23 ؛ رج 36:69-37) ، وينتهي فعل شكره بنشيد إسكاتولوجي (22: 28- 32) ، يذكّره بمُلك الله وانتصاره الذي هو عيد لشعبه إسرائيل. فالجائع الذي يطعمه الله ، والسجين الذي يحرّره ، والمريض الذي يشفيه ، والملاّح الذي ينجّيه من العاصفة ، هم شهادة حيّة على اهتمام الله الذي وعد أن يُطعم شعبه ويشفيه ويحرّره وينجّيه.
لا يكتفي المرتّل بأن يشكر، بل يهتف هتاف إعجاب فيدخل في مخطّط الله الذي ينكشف أمام عينيه. ويعود بالذكرى إليه (28:22؛ 18:45؛ 16:71) ليبارك الله الذي ينعم عليه ، ليعترف بالله الذي أفحم عبده بقدرته ورحمته فارتبك وما عاد يعرف ماذا يقول (6:145- 7). حينئذ يصبح نشيده انخطافًا ، فيخرج من ذاته حين يرى عملاً يتجاوز كل ما رأى في حياته: ارتفعت رحمتك كارتفاع السماوات وأمانتك كالغيوم (11:57).
ولا يهتف المرتّل للرب كمشاهد غريب على مسرح. فالشعب متّحد بربه بوجه عالم ينظر إليه: فمجد الرب مجده . فإن أنشد ، فلأنّه يحسّ أنّه يحقّ له الافتخار (3:34؛ 64: 11 ؛ 13:105) وأنّه يجد في ذاته مبعث فرح. هذا الفرح هو فرح الانتصار والنجاح (30: 2؛ 19:35 ؛ 58: 11؛ 43:89؛ 107 : 42) وهو يعارض خجل الهزيمة وخيبة الأمل (35: 26؛ 09 28:1).
مجد الرب هو مجد شعبه ، ومجد الشعب هو مجد إلهه. فحين يعيد الرب أمجاد صهيون ستهتف الأمم : ظهر الربّ عظيمًا حين عمل من أجلهم ما فعل (3:126). والعالم كلّه سينشد إن حملت أرضُ الموعد ثمارًا هي طرق الرب ، إله العدل (67: 1 ي). أمّا إذا انهزم إسرائيل فسيسمع من يقول له : أين إلهك (4:42؛ 79: 10 ؛ 2:115)؟ إنّ شعب إسرائيل يحلم بازدهار مادّي ، بنجاح في الحرب أو السياسة. ولكنّه مقتنع أنّ نجاحه يحافظ على كرامة اسم الرب.
السموات تنشد عمل الله (19: 2- 4؛ 89: 6). أمّا الناس فينشدون ما عمله من أجل شعبه في التاريخ. إنّهم يقدرون أن يباركوا البنّاء الحكيم لعالم يتأمّلون في جمالاته (104: ا)، ولكنّهم سيباركون حتمًا البنّاء الذي سيعيد في النهاية بناء صهيون (147: 1).
قلنا سابقًا إنّ عمل الخلق مقدّمة لعمل الفداء ، فخلاص إسرائيل يُتمّ عمل الخلق. ولهذا، فالشهادة على عبقريّة المهندس الأعظم لا يعطيها بهاء النجوم، بل شعب الله الذي أعيدت إليه أحجاره. فكل كائنات الخليقة تدخل ، حسب الترتيب الذي فيه خُلقت، في جوقة يرتفع نشيدها إلى أن ينتصب في رأس البناء "قرن إسرائيل " (148: 14).
يتعجّب المرتّل ممّا فعله الخالق في الكون، بل يدعو هذا الكون ليهتف للربّ مخلّص شعب إسرائيل (96: 11- 13؛ 98: 7- 8).

3- اسم الربّ نداء
يرنّ اسم الرب مثل نداء في آذان بني إسرائيل. فالرب هو المخلّص الذي يبتهل إليه المرتّل، والمحرّر الذي يضع شروطه ويغفر، ثمّ يستقبل في بيته. يهوه هو الذي يقود شعبه من العبودية إلى العبادة.
أوّلاً: دعوة إلى المخلّص
إنّ صرخات الضيق التي تتوزع في سفر المزامير، تُشبه إلى حد بعيد ما كان يفعله أهل سومر وأكاد (في العراق): يبكون، يصلّون، يبتهلون إلى الله بحرارة لكي يسمعهم، يدعونه تائبين وعارضين عليه حالهم.
ولكنّ بني إسرائيل يبرزون وضعهم بطريقة جذرية. فالصعوبة التي تنتابهم، تتّخذ شكل صراع مع قوى الشر. ويبدو الربّ حينئذ كالدواء الفريد لدائهم ، كالنور الوحيد الذي يقدر أن ينير ظلمتهم.
إنّ المرتّل لا يعطينا تفاصيل عن أصل ألمه أو طبيعته، بل يستعمل صورًا غامضة وعبارات عمومية. وحين يشير إلى هزيمة وطنية (44: 1 ي) أو إلى دمار الهيكل (74: 1 ي ؛ 79: 1 ي)، فهولا يقول ما يكفي ليتعرّف المؤرّخ إلى الهزيمة. وحتّى مز 74 فهولا يضعنا أمام حدث تاريخي بل أمام دراما ليتورجية.
فالضيق الذي يجعل المساكين يصرخون (7:18؛ 8:80؛ 107: 6، 13، 19، 28 ؛ 120: 1) هو ضيق الملاّحين الذين تقذفهم العاصفة (107: 25- 30) والقوافل التي يهاجمها اللصوص (118: 10- 15) والجائعين التائهين في البرّية (107: 4- 9). المتشكّي لا يعرف إلاّ السجن (107: 10- 16) والمرض (107: 17- 22؛ 118: 17 - 22) يعبّر بها عن حالته.
ولكن مهما يكن سبب ألم المتشكّي، فهو يعلن عن نفسه أنّه ضحية ألسنة ماكرة تنشر كلام افتراء أو عبارات سحر (5: 10 ؛ 10: 7؛ 12: 4- 5؛ 27: 12؛ 31: 21؛ 35: 11، 16؛ 36: 4؛ 13:38؛ 41: 8؛ 52: 4؛ 55: 22؛ 57: 5 ؛ 8:59 ؛ 4:64؛ 109 : 3؛ 3:120 ؛ 4:140). ويصوّر نفسه محاطاً بأعداء أقوياء وكثيرين (3: 2؛ 25: 19؛ 38: 20 ؛ 69: 5) يحاولون أن يسقطوه (20 مرّة).
ويعبّر المرتّل عن هذه الدراما الغامضة والعامّة بصور تقليدية: الحرب (27: 3؛ 35: 1؛ 55: 22 ؛ 56: 2- 3 ؛ 109: 3؛ 120: 6 ؛ 3:140) والسيف (13:17؛ 22: 21؛ 3:35 ؛ 37 : 14؛ 5:57؛ 8:59 ؛ 63: 11 ؛ 4:64؛ 144: 10) والقوس والسهام (7: 14 ؛ 11: 2؛ 37: 14- 15؛ 3:38؛ 57: 5 ؛ 64: 4، 8؛ 91: 5؛ 120: 4؛ 144: 6) والشباك المصوّبة والفخاخ (7: 16؛ 9: 16 ؛ 10: 9؛ 15:25؛ 5:21؛ 7:35- 8؛ 7:57؛ 6:64؛ 3:91؛ 85:119؛ 7:124؛ 140: 6؛ 141: 9- 10؛ 142: 4) والأسد المختبئ في الأدغال (7: 3؛ 10: 9؛ 12:17؛ 14:22؛ 17:35؛ 5:57؛ 7:58 ؛ 13:91). وما يخافه المرتّل فوق كل شيء هو غمر المياه العظيمة (17:18؛ 6:32؛ 4:46؛ 12:66؛ 2:69- 3، 16؛ 71: 20 ؛ 7:88- 8، 18 ؛ 107: 23 ؛ 124: 4- 5؛ 130: 1 ؛ 7:144) والسقوط المريع في الهاوية (16: 10؛ 28: 1 ؛ 4:30- 10؛ 40: 3؛ 49: 10؛ 24:55؛ 3:69؛ 5:88؛ 13:94 ؛ 103: 4؛ 143: 7).
نحن أمام صراع تبدو فيه الحياة في خطر (30 مرّة). أمّا الخصم فلا يطلب إلاّ أن يسيء إلى المرتّل فيلاحقه (20 مرّة) ببغض لا يلين (15 مرّة). هذا العدوّ هو صانع الخراب، وهو في خدمة قوّة تدمير. أمّا المرتّل فينتظر النجاح والنصر هكذا يجب أن نترجم كلمة "يشوعه " (الخلاص). يجب أن ينقلب الوضع، فيقف الضعيف في وجه الذين ينظرون إليه من علو (40: 10- 11) ويرفع قرنه (أي: رأسه. يبدو قوّيًا، 75: 5- 6؛ 89: 18- 25؛ 92: 11؛ 12 1: 9؛ 132: 17؛ 148: 14) فوق عالم متجبّر سيغطّيه العار (35: 25- 27؛ 14: 15- 17 الخ). أمّا الصراع فمبارزة بين اثنين سيزول واحد منهما .
وحين يطلب المرتّل من الله أن يسرع إلى معونته وأن ينتزعه من يد مضايقيه، فهو في الواقع يطلب الله نفسه (24: 6؛ 8:27؛ 5:34؛ 40: 17 ؛ 7:69 ؛ 70: 5 ؛ 23:77؛ 78: 34؛ 105: 3). فإليه ترتفع الأنظار القلقة (25: 5 ؛ 123: 1- 2؛ 8:141) لا إلى خير نستطيع أن نحصل عليه بواسطته. وإيّاه ننتظر حتّى تخور قوانا (64: 4؛ 3:84؛ 119: 81). وإليه نشتاق كما يشتاق الإنسان إلى الصبح (63: 2 ؛ 78: 34).
ما يطلبه المرتّل من الله ليس الخلاص بل خلاصه (119: 81، 123)، ليس النور بل نوره (3:43). فيهوه نفسه هو الخلاص (42: 6 ؛ 62: 2- 3، 7) والنور (27: 1) والترس (3: 4؛ 7: 11؛ 3:18؛ 21: 36؛ 7:28؛ 33: 20 ؛ 59: 12 ؛ 84: 10 ، 12؛ 115: 9؛ 119: 114 ؛ 144: 2) والصخرة والحصن والسور (9: 10؛ 3:18؛27: 1؛ 31: 4 ؛ 37: 39؛ 46: 8؛ 12؛ 59: 10؛ 3:62؛ 3:71؛ 144: 2). وهو الحياة (9:42) ولا لذّة في الحياة إلاّ معه (56: 14؛ 116: 9؛ 6:142).
ونرى يهوه على أنّه الواقي من الشر، والمحارب للشرّ. عندما يجتاح القلق الإنسان حتّى يخنق فيه قوى الحياة، نقول إنّ الله غائب وإنّه يستر وجهه (7:4؛ 10: 11؛ 13: 2 ؛ 22: 25؛24: 6 ؛ 8:27- 9؛ 8:30؛ 17:31 ؛ 44: 4، 25؛ 67: 2 ؛ 18:69؛ 4:80، 8، 20؛ 88: 15 ؛ 16:89؛ 102: 3 ؛ 104: 29 ؛ 119: 135 ؛ 7:143). نقول إنّ الله بعيد (رج عن بعد الله أو قربه، 10: 1 ؛ 22: 2، 12، 20؛ 34: 19؛ 35: 22؛ 38: 22 ؛ 65: 5؛ 69: 19؛ 71: 12؛ 119: 151؛ 18:145؛ 148: 14). ويكني أن يتنازل الله ويقترب (85: 10)، فيعمّ النور قلب المؤمن.
وإنّ إسرائيل لا يجد خلاصه إلاّ إذا ارتمى بين يدَي إلهه. فخلّصه هو الولّي (10 مرّات) والفادي (فده 13 مرّة) الذي يطالب بأخصائه وينتزعهم من يد عالم يحكم عليهم. ويردّد المرتّل أن لا أحد يأتي إلى معونتهم إلاّ الله (22: 12؛ 17:94؛ 107: 12 ؛ 124: 1- 5). وإذ يتحرّرون بواسطة الرب فلسوف يُعنى هو بهم وهم سيرتبطون به.

ثانيًا: في خدمة الرب
ليس إله التوراة قوّة خلاص يستعملها الإنسان حسب نزواته. إنّه السيّد الذي لا بدّ من خدمته. فهو يضع شروطه على المؤمنين الذين يطلبون منه أن يتدخّل. إنّ الربّ لا يمكنه أن يجاري شرّ الإنسان. "هذا ما تصنعه. أيجب عليّ أن اسكت؟ هل ستحسبني شبيهًا بك " (50: 21)؟ وهو لا يقبل أن يخلّص أيًّا كان، بل يحفظ عونه للذين يحفظون عهده وشرائعه (5 2: 0 1) للذين يخافونه ويرجون رحمته وحبّه (33: 18؛ رج 36: 11؛ 103: 7-8 ؛ 12:145-20؛ 147: 10-11).
فإله التوراة يرتبط بأناس يعلنون أنّهم يكرهون الشر (97: 10). لهذا فلا مكان للشرّير في دياره. أمّا المؤمن فيجب أن يطرح على نفسه السؤال: من يحقّ له أن يقيم على جبل الرب (15: 1 ي، 3:24- 6)؟ إنّ الله لا يُحقّ حقّ المخطئ، ولهذا يعلن المرتّل أنّه بريء (7: 4- 6؛ 17: 2- 5؛ 18: 21- 28 ؛ 26: 1- 6)، وأن الآخرين هاجموه من دون سبب (7:35؛ 59: 4- 5 ؛ 69: 5 ؛ 109: 3؛ 120: 6). ولهذا يطلب لهم الشرّ لا الخير (35: 12- 14؛ 38: 21؛ 109: 4). ولا ينال حقّه إلاّ المستقيمُ (30 مرّة) والصدّيق (50 مرّة).
فالاستقامة والبرارة اللتان يطلبهما المؤمن من الله القاضي ليتدخّل من أجل أخصّائه، تتعلّقان بطريقة التصرّف مع الله ومع القريب. فالأمران لا يفترقان. فالشرّ يبتهج في الكذب وفي الظلم، لأنّه لا يستند إلى معونة الرب (52: 9)، وأعداء المرتّل أناس "لم يجعلوا الله أمامهم " (54: 5)، أناس يقولون: إنّ الله لا يتدخّل في أمورنا (10: 11؛ 73: 11؛ 7:94) أولا إله (53: 1؛ رج 10: 4). فلا ننتظرنّ صلاحًا ولا رحمة ممّن لا يطلب الرب ولا يخافه (14: 2؛ 2:36- 3).
أمّا المرتّل فيبحث عن ملجأ عند الله (حسه، 25 مرّة) ويتوكّل عليه توكّلاً كاملاً (بطح، 35 مرّة) ويعتبره قسمته ونصيبه (16: 5؛ 142: 6) بحيث لا يحقّ لأحد غيره أن يتدخّل في حياته. وفي أيّ حال لن يأتي أحد غيره يدافع عنه (73: 25 ؛ 16:94). ولهذا فكل عون يبدو كاذبًا، أجاء من الآلهة أم من البشر. فخارجًا عن السند الذي يقدّمه يهوه لأحبّائه، فكل تأكيد هو كذب، وكل اطمئنان هو عدم (33: 16- 17؛49: 6- 12؛ 9:52؛ 13:60 ؛ 62: 11؛ 118: 8- 9؛127: 1-2؛ 3:146-4).
الله يحمي أخصّاءه ويريد أن يكون لهم المحامي الوحيد. ولهذا يستجيب لجميع حاجاتهم. ففيه سرّ الموت والحياة (13:34) والنجاح والخصب (28: 1 ي)، فيكون تقيّه كشجرة مزروعة قرب المياه تُعطي ثمرَها في أوانه (1: 1 ي؛ 52؛10؛ 13:92-15). ويُحسب المؤمن سعيدًا (20 مرّة)، ويُعلن أنّ الله صالح (15 مرّة) وأنّه يعطي السعادة (10 مرّات) فيهتف: صالح الاعتراف للرب والإشادة لاسمك أيّها العلي (92: 2؛ رج 147: 1)، لأنّك ستملأني فرحًا (15: 11).
إذا كنا ندعو الرب، فلا بد من وضع ثقتنا كاملة فيه. فهو الذي يضع يده على الإنسان ويوجّهه. وقبل أن يلتزم يمتحن ذلك الذي يريد أن يتبنّاه (7: 10 ؛ 11: 4- 5؛ 17: 3؛ 26: 2؛ 66: 10؛ 81: 8؛ 139: 1، 23). السيّد "يجرّب " العبد، والعبد لا يجرّب السيّد. فمن جرّب الله كان وكأنّه يريد أن يستخدمه لا أن يخدمه. إنّها لخطيئة كبيرة أن نجرّب الله (78: 18، 41، 56 ؛ 95: 9؛ 106: 14). لاشكّ في أنّ الرب مستعدّ لأن يحقّق رغبات أخصّائه "الشرعيّة" (10: 17؛ 21: 3؛ 38: 10)، ولكنّه لا يقبل أن تُفرض عليه الأمور فرضاً. إله سيناء هو الإله الذي يسمع، ولكنّه لا يتراجع. حاور شعبه، ولكنّه بقي سيّد قراره. يغطيّه السحاب (7:99) فيحافظ على المسافة بينه وبين شعبه، ويبقى حرًّا في تحرّكاته: كلّمتك من مخبأي في صوت الرعد (8:81).
فالإنسان الذي يسلّم إلى الرب مصيره، يكون دومًا في خدمته. وعليه أن ينتظر البادرة التي يُرسلها الله في وقتها. حين يرى المؤمن نجاح الشرّير (73: 2- 12) عليه أن يحافظ على صبره (37: 1، 2، 7- 8؛ 39: 2- 4؛ 73: 21) وينتظر ساعة تدخّل الله في صمت واستسلام كامل (4: 5؛ 37: 7؛ 62: 2، 6؛ 131: 1 ي). أجل لقد عرف المرتّل تلك الليلة المظلمة، ليلة الإيمان التي يبدو فيها اختيارنا لله عبثًا (13:73- 14) ففهم أنّه لم يبقَ له إلاّ الصلاة (3:141- 4) ليحصل على وحي الله الذي ينير وحده كل شيء (73: 17).

ثالثا: الغفران الإلهي
قلنا إنّ الله لا يشارك في الشرّ، ولا يتراجع عن متطّلباته. ولكنّ هذا لا يمنعه من أن يكون الإله الذي يغفر (8:99)، الإله الذي يثق بالساقطين الذين يمكن أن ينهضوا إن ارادوا، الإله الذي يحسب حساب ضعف عبيده (78: 39؛ 103: 14).
عندما يتحدّث سفر المزامير عن الخطيئة، يتصوّرها انقطاع صلة بين الله والمؤمنين، ويؤكّد أنّ المسؤولية تعود إلى الإنسان وإليه وحده. فحين يقرّ المرتّل: "أخطأت " (32: 5 ؛ 38: 19؛ 41: 5؛ 51: 6؛ 106: 6)، فهو يعترف أنّه صاحب الخطأ وأنّه لا يقدر أن يحمّل الله مسؤوليّة الشرّ الذي يحصل له. أمّا إذا قال: ما أخطأت، فهو يعترض اعتراضاً غير مبرّر (5:59).
لا يشدّد سفر المزامير على طبيعة العمل الذي قطع العلاقة بيننا وبين الله . وإنّنا لا نجد إلاّ في مز 106، اعترافًا بلائحة الخطايا مع طلب رأفة الله (آ 8، 23، 30، 45، 46) او الإعلان عن رجاء اليهودي الوحيد في أعماق منفاه (آ 47). فإذا كان سفر المزامير لا يشدّد إلاّ قليلاً على فعل الخطيئة ، فهو يبرز نتائحها المؤلمة: أرض جدباء (85: 1 ي) ، هزيمة عسكرية (60: 1-6؛ 79: 1 ي ؛ 80: 1 ي ؛ 39:89-46)، مرض (3:6؛ 0 3:3؛ 32: 1 ي ؛ 38: 1 ي؛ 41: 1ي؛ 88: 1ي؛ 103: 3-4 ؛ 107: 17- 22؛ 118: 17- 22؛ 130: 1 ي). عزلة تامّة (12:31- 14؛ 12:32- 15؛ 41: 8- 10؛ 69: 0 2- 22؛ 88: 9، 19؛ 102: 7- 9). وبسبب الانقطاع عن الله ، تذبل كل حياة (18:107) وتفنى (102 : 4)، فيصعد صراخ التائب من أعماق الهاوية (130: 1).
هذه الحالة المزرية تعود إلى عداوة إله (32: 4؛ 88: 7- 9) يستر وجهه (13: 2؛ 15:88). لا يقول المرتّل إنّ تلك هي دينونة الله. ولكنّه يجد نفسه على حافة القبر، فيدرك أنّ الله يرفضه ويرذله بغضب (95: 11)، يحرقه كنار لا تنطفئ (2:6 ؛ 6:30؛ 38: 2؛ 59: 25؛ 74: 1؛ 77: 10؛ 78: 21، 31؛ 85: 4، 6؛ 86: 15؛ 88: 17 ؛ 90: 7 ؛ 102: 11؛ 103: 8 ؛ 106: 40؛ 145: 8).
نحن لسنا أمام عقاب بالمعنى الحصري، فالانفصال عن الله يحمل نتائجه في ذاته، وتظهر الخطيئة كثقل مرهق (38: 5؛ 65: 4). وحين يعاقب الرب الخاطئ ، فهولا يزيد عنصرًا جديدًا على الحالة المؤلمة ، بل يكتفي أن يتصرّف مع أصدقائه بالأمس حسب ما تفرضه خطيئتهم (103: 10). هو يتذكّر فقط (25: 7؛ 109: 14) ويُظهر سخطه (9: 8 -9).
إنّ الغفران الإلهي ليس تنازلاً. إنّه بالحري انتصار، انتصار حبّ أقوى من الإساءة (103: 11- 12). لا يعود الرب يتذكّر الخطيئة، فيميل بوجهه عنها (51: 11) ويرفعها (نسأ في العبرية، 18:25، 5:32، 3:85 ؛ 8:99) ويمحوها (3:51) ويغطّيها (32: 5 ؛ 3:85) كما يغطّي إنسان بالتراب الدم فلا يعود يصرخ طالبًا الانتقام. حينئذ يتوقّف الخطر الذي تمثّله الخطيئة (رج كفر في العبرية وفي العربية، 65: 4، 38:78، 9:79) ولا يعود الوباء يتقدّم (106: 8، 30) ولا مياه الغمر العظيم تجتاح (6:32). كان المريض في البارحة على حافة القبر، فانفتحت أمامه اليوم أبواب البر والحياة (118: 19- 25). لقد وجد مرّة ثانية ريعان الشباب (103: 3- 5) فتحوّل الندب إلى رقص والحزن إلى سرور (30: 12).
وتفتح المصالحة مع الله عهدًا من الحبّ والأمانة ، من العدالة والسلام (85: 11- 14). فبعد أن اغتسل التائب وتنقّى (51: 5)، أحسّ بقلبه ثابتًا (51: 12) ، وتوشّح بروح الله ، ورُفع إلى درجة عبد الله (13:51- 14). هولا يحقّ له بالغفران ، ولكنّه يقرّ بخطيئته ويستسلم إلى رأفة الذي أذنب إليه (38: 16؛ 39: 8). لا يتحدّث سفر المزامير عن ذبيحة تكفير ولا عن طقوس تطهير، فالله نفسه يغسل الخاطئ ، فلا يبقى للتائب إلاّ أن يطلب الرحمة (6:25؛ 40: 12؛ 51: 3؛ 17:69؛ 77: 10؛ 8:79؛ 102: 14؛ 103: 13؛ 116: 5؛ 119: 77، 156 ؛ 145: 9). يحاول أن يثير الشفقة عند الرب فيذكر له أيّامه القصيرة (48:89؛ 0 9: 10؛ 03 15:1- 16) ويقول له إن لا نفع من موته. يتساءل إلى متى (4:6 ؛ 23:13؛ 5:79؛ 8: 5؛ 47:89؛ 0 13:9) ، فيعبّر تساؤله عن رغبة حارة في صداقة الله المستعادة بعد جهالة الأمس.
ويرافع (تفلة: 6: 10؛ 32: 6 ؛ 39: 13؛ 65: 3 ؛ 80: 5) الخاطئ ويقدّم براهينه: ليرضَ الرب عن أخصّائه ، إن لم يكن لبرّهم فلأجل اسمه (3:23؛ 11:25؛31: 4؛ 9:79؛ 8:106؛ 109: 21). وذلّ صفيّ الله يصيب مجدَ الله (79: 10). فالعمل الذي بدأه يُصاب بالكسوف فيخسر كل معناه. لماذا يتعب الله في زرع كرمة إذا كان سيتخلّى عنها في ما بعد (80: 9- 15)؟ فماذا أراد الله أن يبني مع الناس بناء يدوم، يجب أن يحسب حساب ضعفهم. فأين يجد عابدين له إذا أرسل إلى الموت أبناءه العاصين (6:6؛ 30: 10 ؛ 88: 11؛ 115: 17)؟
إنّ التائب لا يطلب أن يُعفى من عقاب استحقّته له خطيئته. لقد حصل على العقاب الحقيقي الذي هو غياب الله . فما يريده الآن هو أن ينسى الله خبرة فاشلة ، ويجعله في خدمته من جديد على مثال الابن الذي عاد إلى أبيه (لو 15: 22 ي).

رابعًا: الله يستقبل شعبه
لا يحرّر الله الإنسانَ إلاّ ليجتذبه إليه. والحياة التي ننتظرها منه (42: 2، 9) نتنعّم بها عنده (8:36- 10). فالشجرة تحمل ثمارها إذا زُرعت في هيكل الله (53: 10؛ 13:92- 15).
كان شعب إسرائيل ينتظر، بفضل العهد ، أن يقيم الرب معه (23: 4). ولكنّ الرب هو الذي يؤمّن مكانًا لشعبه (47: 4 ؛ 78: 54- 55). فالله لا يطلب ضيافة ، بل يستضيف شعبه، ويدعوه إلى أن يصعد إلى جبله المقدّس (5: 5؛ 15: 1؛ 23: 6 ؛ 3:24 ؛ 8:26 ؛27: 5 ؛ 31: 21؛ 8:36-9؛ 3:43 ؛ 10:52؛ 61: 5؛ 3:63؛ 5:65؛ 84: 5 ؛ 91: 1؛ 92: 14 ؛ 133: 1 ي).
كان القاتل يهرب من وليّ الدم فيلجأ إلى هيكل الإله. وهكذا يفعل الإسرائيلي: يطلب أن يختبئ تحت جناحي الرب (8:17) ، فيستطيع باطمئنان أن يترك الخطر يعبر (2:57). يعرف أنّه هنا بأمان (5:27، 61: 4- 5). وهذا يكفيه.
اختار الرب وسط شعبه فسحة مكرّسة ليدلّ على قدرته الخيرة (65: 6) ويمنح الأرض المطر والبركات (65: 10، 14؛ 118: 26 ؛ 128: 5 ؛ 132: 15- 18؛ 134: 3). واختار مكانًا ليستقبل أصفياءه ويُشبعهم من خيرات بيته (65: 5). هنا يحسّ شعب إسرائيل بأنّه في بيته كالعصفور في عشّه (84: 4).
وعد إله العهد أن يدافع عن شعبه ويقوته (15:81- 17). وهذا ما يفعله بطريقة ساطعة حين يستقبل عنده أخصّاءه. ففي المعبد الإلهي ، يكون الأمان كاملاً، ولا يصيب الشرّ الذين يظّلهم الله بظلّه ويجلببهم بستره (3:91- 6). إذا كان المؤمن يرى العدوّ (8:91)، إلاّ أنّ العدوّ لا يراه.
مثل هذا الملجأ ليس سجنًا. فالحياة المحمية على هذه الصورة تتفتح وتنتصر فيدوس المؤمن بقدم ثابتة الوحوش والأفاعي والتنّين ، عدوّ الله (91: 12- 13). وإذ يستقبل الله الملك في هيكله ، يعده بنصرتامِّ على أعدائه (21: 9- 13) ويقلّده قوّته (21: 1- 2).
إنّ ظلّ جناحي الرب يخبئ مائدة عامرة (36: 9) تفيض عليها الخمر من الكؤوس ويُصبّ الزيت (أو الطيّب) بغزارة (23: 5). إنّ الله لا يترك ضيوفه جائعين ، بل يطعمهم (16: 11 ؛ 27:22؛ 37: 19؛ 6:63؛ 5:65؛ 25:78، 29؛ 81: 17 ؛
90: 14؛ 91: 16؛ 103: 5 ؛ 104: 28؛ 105: 40؛ 107: 9 ؛ 15:132؛ 147: 14). وبعد أن يشبع القلب ينطلق في نشيد شكر (4:63 ؛ 84: 5) لا يوقفه خوف من أن تزول هذه السعادة: فحين يدخل المؤمن إلى بيت الله ، يكون هناك إلى الأبد (21: 7؛ 23: 6؛ 7:61).

د- سفر المزامير في العهد الجديد
عندما تُطرحَ معضلة العلاقات بين العهد القديم والعهد الجديد ، فهي تُطرح من جهة إيراد نصوص العهد القديم في أسفار العهد الجديد. هل كان ذلك نصًا صريحًا أم تلميحًا أم تذكيرًا مبعثرًا؟ وإذا أردنا أن نتوقّف على لغة الأرقام نعرف أنّ هناك ما يقارب 300 إيراد من العهد القديم دخلت في العهد الجديد ، وأنّ ثلثها أو نصفها يعود إلى سفر المزامير. ثمّ إنّ المزامير ترد على لسان المسيح في مجادلاته مع اليهود وفي آلامه ولاسيّمَا مز 22: "إلهي إلهي لماذا تركتني ".
فقطع الإزائيين الذي فيه يردّ المسيح على مجادليه بلغز اختاره ، هو مأخوذ من مز 110: قال الربّ لربّي (مت 22: 4؛ مر 36:13 ؛ لو 15: 42- 44). فني كل العهد الجديد يعود هذا المزمور ما يقارب العشرين مرّة ، ويعود خمس مرّات في الرسالة إلى العبرانيين وحدها، حتّى قيل إنّ هذا المزمور 110 يسيطر على الرسالة.
وفي القدّيس متّى وبعد دخول يسوع المسيحاني وطرد الباعة من الهيكل (مت 21: ا ي)، يورد يسوع مز 8: 2 ليسكت خصومه ويبرّر حماس الأولاد الذين هتفوا له. قال: أما قرأتم هذا؟ من فم الأطفال والرضّع أخرجت مديحًا كاملاً (مت 21: 16). ورد نصّ المزمور كما في السبعينية ، وكذلك 110: 1. فهذا ما يدهشنا ولاسيّمَا عندما نعرف أنّ محادثي يسوع هم يهود. فالنصّ يحسب حساب قرّاء الإنجيل وسامعيه الآتين من العالم اليوناني الوثني ، ويترك محادثي يسوع الذين عرفوا النصّ العبري القائل: إنّ المديح في فم الأطفال حصن يضعف تجاهه أعداء الله ومسيحه. ويرد مز 8 في 1 كور 27:15 مع مز 110 وفي أف 1 :22 وفي عب 6:2-8.
وفي إطار إنجيليّ يتوافق فيه الإزائيون ، يذكر المسيح خصومه الذين حرموا من الكرمة التي سلّمت إليهم فيورد مز 118: 22: الحجر الذي رذله البنّاؤون صار رأس الزاوية. هذا هو عمل الله وهو عجيب في عيوننا (مت 42:21؛ مر 12: 10، لو 20: 17:20). يرد هذا النص أيضاً في أع 4: 11 (خطبة مار بطرس) وفي 1 بط 7:2. ويظهر في أمكنة أخرى من العهد الجديد. يربطه بولس بمقاطع أخرى عن "الحجر" فيورده في 1 كور 10: 4 ويقدّم لنا به عنصرَّا خاصًّا من عناصر الخطبة الكتابية.
وهناك ثلاثة مقاطع من المزامير يوردها يسوع نفسه نقرأها في إنجيل يوحنا. يرد المقطع الأوّل وكأنّه آت من الشريعة: "أما كتب في شريعتكم " (يو 34:10)؟ ولكنّ النص مأخوذ من مز 82: 6. زاد يسوع: إنّ الكتاب لا يمكن أن يُنقَض ، فأكّد في الوقت ذاته صدق هذا المقطع وسلطة الكتب المقدّسة. والمقطع الثاني الذي يورده المسيح نجده في مز 69: 5 وكأنّه آت من الشريعة أيضاً: "كتب في شريعتهم " (يو 15: 25). هاتان العبارتان "شريعتكم " و "وشريعتهم " لهما طابعهما الخاصّ. فإذ يشدّد يوحنّا على مسؤولية اليهود الذين يستندون بصورة خاصّة إلى العهد القديم ، لا ينكر سلطة القديم ، بل يفترضها من أوّل كتابه إلى آخره. لقد أعلن يسوع (يو 5 :39) قال: "الكتب تشهد لي ". وفي يو 5 :46: "كتب موسى فأخبر عنّي ". ويبدأ المقطع الثالث (يو 18:13) بعبارة عامّة: ليتمّ الكتاب. ولكنّ النصّ يرجع إلى مز 41: 10.
أمّا مز 22 فهو يتميّز بأهمّية خاصّة: تلميحات كلامية: تذكير واضح ، إيراد آيات في الأناجيل الأربعة. وإذ نتحدّث عن أخبار الآلام في الأناجيل نشير إلى وجود مز 2: 12 و 31: 14، في مت 3:26، ومز 41: 10، في مر 18:14، ومز 69: 4 (أبغضوني مجّانًا) في يو 13: 18 ؛ 15: 25؛ ومز 42 :6، في مت 38:26، ومز 14: 34 ومز 110: 1 (جالس عن يمين) في مت 64:26 ؛ مر 64:14 ؛ لو 69:22؛ ومز 22:69 (المرّ) في مت 34:27، 48 ؛ مر 15 :36 ؛ يو 19: 28، ومز 2:34 (لا يكسر له عظم) في يو 19: 36 ومز 38: 12 (وقف أخلاّئي بعيدًا عنّي) في لو 23: 49 ومز 6:31 (في يديك) في لو 46:23. أما مز 22 فترد آ 8 (هز الرؤوس) في مت 27: 39؛ مر 15: 29. وترد بالنسبة إلى الهزء في لو 23: 35. وترد آ 9 (إتّكل على الله) في مت 43:27 وآ 16 (عن العطش) في يو 28:19، وآ 19 (اقتسام الثياب) في مت 35:27 ؛ مر 24:15 ؛ لو 23: 34؛ يو 19: 24 أمّا بداية المزمور (إلهي إلهي لماذا تركتني) فقد وردت على لسان يسوع نفسه فدلّ على أنّه تلا المزمور كلّه في تلك الساعة الرهيبة.
ونجد 15 مقطعًا مأخوذًا من المزامير ترد في خطب أعمال الرسل فتشدّد على شخص المسيح وعمله في سرّ الخلاص. ونجد أيضاً في الرسائل البولسية إيرادات أو تلميحات عديدة إلى المزامير، ولا سيمّا في الرسائل الكبرى (روم، 1 كور، 2 كور، غل، أف). ونشير إلى أنّ الرسالة إلى العبرانيين تبقى النصّ الذي يرد فيه بتواتر العهد القديم ولاسيمّا المزامير. ذكرنا أعلاه دور مز 110. أمّا في الرسالة إلى رومة فنجد في ف 3 إيرادات من مز 143، 51، 14، 5، 140، 10، 36، 39...

خاتمة: المزامير صلاتنا
المزامير صلاتنا لأنّها صلاة شعب العهد ، الشعب المسيحاني ، وهي صلاتنا لأنّ الله منحنا إيّاها لنستفيد منها كما يحلو لنا. نحن نستعمل المزامير في حريّة الروح عالمين أنّها مرّت في مراحل قبل أن تصل إلينا. فإذا أردنا أن نفهم مزمورًا، نعود إلى هدف الكاتب ، ونطلعّ على الفنّ الأدبي... كل هذا يؤثّر في صلاتنا التي تخرج من ذاتها فتصبح أكثر وضعيّة وأكثر جماعيّة وأكثر طقسيّة وأكثر إسكاتولوجيّة وأكثر مسيحانيّة . بعد هذا ، نعود إلى ذاتنا ونصلّي هذه المزامير بروح الله الذي يصرخ فينا بأنّات لا تُوصف. وهكذا تمرّ المزامير في حياتنا، وتسيل حياتنا في سفر المزامير فتلاقي هدف الكنيسة حين جعلت هذه الصلوات صلاتها الرسمية وقرأتها على ضوء حياة المسيح ولا تزال تقرأها مستنيرة بتعاليم الآباء لتجد فيها النور الذي يضيء ظلمات حياتنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM