الفصل الرابع عشر: الملكية الموحّدة : شاول ، داود ، سليمان

الفصل الرابع عشر
الملكية الموحّدة : شاول ، داود ، سليمان

نتوقّف في هذا الفصل عند خمسة مقاطع. الأوّل: الملك في الشرق القديم. الثاني: شاول الملك. الثالث: داود حوالي السنة 1000 ق. م. الرابع: سليمان حوالي السنة 950 ق. م. الخامس: الحضارة السليمانية.

أ- الملك في الشرق القديم
ما هي المملكة في ذلك الزمان (في العبرية ملكوت، مملكة، كما في العربية)؟ المملكة هي دولة مهما كانت مؤسّساتها وخدماتها العامة بدائية. لا شكّ في أنّ رئيس الدولة هو أيضاً رئيس قبيلة كبيرة. وله عاصمة وجيش وإدارة. فالملكية الشرقية تقوم على إيديولجيا يكون فيها الملك أبًا لشعبه وموكّلاً من الله ليؤمّن للشعب حياة سعيدة. وهي تفترض ضرورات تنم الدولة حسب تقنية وثقافة وحكمة، كما كانوا يقولون في ذلك الزمان.

1- الإيديولوجيات الملَكية والتوراة
إذا عدنا إلى التوراة (1 مل 8: 6، 20)، رأينا أنّ بني إسرائيل اقتدوا بالبلدان الغريبة ليدخلوا الملكية إلى حياتهم. وقد دلّت الدراسات الحديثة أنّ هذا النموذج لم يكن فقط نمط حكم، بل كان نظرة إيدولوجية. فالملك هو أب، وهو يحكم باسم الإله الوطني الذي هو أب الملك أو قريبه. ولكنّ الملكيات الشرقية لا تخضع لنموذج واحد. فالفرق ظاهر بين فرعون مصر وملك بلاد الرافدين. وللملك الحثي سمات خاصّة به. والملكيات الصغيرة في فينيقية وكنعان تحاول أن تقتدي بالنماذج الكبرى، فتكيّف هذه النماذج حسب إمكاناتها وبنياتها (مثلاً: المملكة الفينيقية في أوغاريت بسورية). وستبحث الملكية الاسرائيلية عن خطها: ستكون سامية مع شاول، فرعونية مع سليمان، ولكنّها في كلا الحالين ستكون مقدّسة، والشعب يقر بالطابع القدسي للملكية. ونجد صدى لهذا اليقين في كلمات امرأة تقوع: "إنّ سيّدي الملك هو كملاك الله. يسمع (أو يعرف) الخير والشر.. لسيّدي حكمة كحكمة ملاك الله. هو يعرف كل شيء على الأرض" (2 صم 17:14، 20). بسبب هذه النظرة، تردّدت الأوساط النبويّة أمام النظام الملكي. وسيعمل الكتّاب البيبليون على نزع الطابع الأسطوري عن الملكية، كما سيضعون حدًّا للطابع القدسي الذي تربط نفسها به (المرجع اليهوهي في البنتاتوكس، خلافة داود). وسيتبعهم التيّار النبوي، فيحوّل الإيديولوجيا الملكية إلى لاهوت مسيحاني. أمّا البابليون فرأوا في الملك عطية من الله نزل من السماء بعد الطوفان، بعد أن كاد كل شيء يعود إلى العدم: كان الملك عونًا للبشر في الأعمال الشاقة الملقاة عليهم بعد ثورة الآلهة الدنيا على إله الكون.

2- الإدارة الملكية
بدا ملوك إسرائيل أوّلاً كقوّاد حرب، شأنهم شأن "شارو" في بلاد الرافدين. فبعد جدعون، بدأ شاول ملكه حين دعا الشعب إلى الحرب. ولكن ما عتّم أن حلّ محلّ هذا "الشعب " جيش امتهَن مهنة الحرب، وهو غير حرس الملك الشخصي. فله العدّة: هناك المشاة، والرماة بالقوس، والمحاربون على المركبات... ويتطلّب التجنيد إدارة عسكرية وإحصاء للمجنّدين. يَقسم الجنود يمين الولاء باسم الملك ويلتزمون الطاعة بالنسبة اليه. إنّهم نخبة (بحوريم) المحاربين.
لهذا لا يمكن أن تكون ملكية دون إدارة مركزية في العاصمة، دون كتبة يكتبون لوائح الإحصاء ويدوّنون الحسابات. لم يكن من مساعد لشاول إلاّ قائد جيشه أبنير. لا شك في أنّه كان له أصدقاء ومعارف، شأنه شأن سائر ملوك كنعان. وإذ أراد الملك أن يدرّب الكتبة، احتاج إلى مدارس يتعلّمون فيها الكتابة والحساب وتدوين التقارير والأحكام الملكية والرسائل الدبلوماسية. وتدريب الكاتب فن صعب. لهذا يستفيد البلاط الصغير من خبرة تقاليد مصر وبابل. بدأ الكتبة فدوّنوا لوائح جافة باسماء تتكرّر. ولكنهم قدموا فيما بعد أدبًا رفيعًا وصل بعضه إلينا.
وتعلّم الكتبة العدالة. فالعدالة هي أسس الملكيات الشرقية، وإن لم تمارَس إلاّ بطريقة ناقصة. تسلّم الفرعون من أبيه الإله رع عطية "معت" التي هي الحقيقة والاستقامة والعدالة. وتسلّم الملك البابلي (مثلاً: حمورابي) "كيتو" و"ميشارو"، والملك الفينيقي "صدق " و"استقامة" (يسر). نحن لسنا أمام قواعد، بل أمام فضائل بها يؤمّن الملك لعبّاد الإله الوطني أساسًا متينًا لنشاط كل واحد وتسهيلات له في عمله. هذا يتضمّن العدالة، ويتضمّن الازدهار ايضاً. سيحتفظ العالم الاسرائيلي بكلمة "صدق "، ولكنّه يربط العدالة بحكم (مشفط) موسى (تك 19:18؛ 2 صم 15:8). فعلى الملك أن يمارس هذه الفضائل وأن يحلّ القضايا الصعبة كما فعل سلمان حين جاءتاه الوالدتان (1 مل 3: 16- 28). وعليه أن يسلّم هذه المهمّة إلى الكتبة، لأنّ عدالة الشيوخ المحليّين لم تعد تكفي. وإنّ الحكيم المصري فتاح حوتف علّم ابنه كيف يعامل المشتكين بعدالة. وهذا سيكون دور الكتبة في أرض إسرائيل.

3- حكمة الملوك
بعض الكتبة يعملون للمحافظة على القواعد التقليدية أو الاوامر الملكية. وبعمهم الآخر يقدّمون النصح للملك في الحالات المعقّدة ويجدون الحلول: يفاوضون مع الخارج، يهدِّؤون الأفكار في الداخل وسط منازعات القبائل والمهن والمصالح. فالملك هو أكثر من "شارو". عليه أن يكون "ملكًا" (كذا في العبرية. في السريانية المَلك والنصيحة يسيران معًا). إنّه الرجل الذي يحتاج إلى نصيحة. الذي يعرف أن يستمع إلى المستشارين. سيكون بقرب داود احيتوفل وحوشاي اللذان سيلعبان دورًا حاسمًا خلال ثورة أبشالوم على أبيه (2 صم 17). وانّ الملك ينجح لا بالقوّة والحرب، بل بالحكمة فيتبيّن الأمور بفنّ دقيق. يعرف كيف يتصرّف وماذا يقول.
وإنّ هذه الحكمة تتطّلب من الملك معارف واسعة: معرفة الكون وقواه الفاعلة، معرفة حاجات الناس ورغباتهم. وهذا الفن صعب بحيث لا يقدر الإنسان وحده أن يبلغه. هذا الفن هو امتياز القوى الكونية التي هي الآلهة. فالآلهة يقدرون أن ينموا النبات في الأرض ويُخرجوا الينابيع، ويقدرون أيضاً أن يُعطوا الحياة للمواشي والمجموعات البشرية والأمم. ولن يُعترف بالملك ملكًا إلا لأنّه مختار الأله الوطني. فالإله هو الذي خلق هذه الوحدة الحيّة بين الملك وشعبه، وهو الذي يقوّيها. والإله يجعل من الملك عملاقًا مثل شاول (1 صم 23:10)، ويكسبه قوّة حياة تجعله يتّخذ نساء عديدات وينجب بكرًا وأبناء عديدين، كما يمنح لداود مهارة في الضرب بالمقلاع (1 صم 17: 49 ي). وينال الملك من الإله إمكانات سامية من الحكمة والفهم، تلك الحكمة التي هي امتياز الإله الساميّ "إيل " عند الكنعانيين. من هنا هذه الصور الغريبة والمتنوّعة التي بها تعبّر النصوص عن العلاقة الخاصّة بين الملك والإله الوطني: إنّه مختار منذ أقدم الأيّام، وُلد بفعل خاص من الإله في حشا الأمّ الملكة. وتقول فينيقية ومصر وبلاد الرافدين إنّ الإلاهات ترضعن الملك من حليبهن. ويقولون مرارًا إنّ الملك هو"ابن" الإله. ويتنوعّ معنى هذه العبارة بحسب الفكرة التي نتكوّنها عن الإله: قد يكون الإله جسدانيًا مثل مين، أوزيريس، أمون، أو مثل إله ضمير إبراهيم وشريعة موسى. فالطابع المقدّس للملك لا يجعل الملك الهًا في كل الحالات. كان الفرعون يُعتبر الهًا، لا ملك الرافدين. أمّا في أرض إسرائيل، فيبقى الملك خاضعًا لله ولوصاياه. إنّه يتبنّاه يوم يعتلي العرش، ولكنّه يبقى وكيلَه على الأرض. فالملك الحقيقي على شعب الله هو الله بالذات. هذا هو المبدأ الأساسي. ولكنّ الافكار ستتواجه، وما احتفظت به التوراة كان بعيدًا عمّا فكّر به البلاط الملكي.

4- الليتورجيات الملكية
تعبّر الليتورجيا بقوّة عن تطّلعات الشعب إلى هذه الموهبة الملكية التي توفّر له الخلاص والسعادة. فالملك الذي اختاره الإله الوطني وسلّم اليه حياة الشعب، هو أيضاً الكاهن الأعظم. وقد أعطي له هذا اللقب في مصر وبابل وفينيقية وفي مز 110 (أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق). إذًا، يتدخّل الملك في الليتورجيا، ويبني الهيكل ويتعهده ويقوم بإصلاحه وتأمين العبادة فيه. فالليتورجيات الكبرى يكون موضوعها الملك، والليتورجيات الملكية هي أيضاً أعياد وطنية.
وتنصيب الملك هو أوّل عمل ملكي. وسنجد فيه رموزًا عديدة: التنصيب، التتويج، رش الماء، إعطاء اسم جديد. والطقسي الذي يحمل أعمق المعاني هو المسح بالزيت المقدّس. مُسح الملكُ في فينيقية وبابل القديمة ولدى الحثيين، كما مُسح في أشورية ومصر باسم سلطة سامية. هذه السلطة هي سلطة الفرعون المؤلَّه بالنسبة إلى امراء كنعان، وهي سلطة الآلهة في الحالات الأخرى. ففي الألف الثالث، كان ملوك أكاد الساميين "مسحاء أنو" الإله السامي، كما كان ملك إسرائيل "مسيح يهوه " (1 صم 24: 11؛ 26: 9؛ مز 2: 2). حين يعتلي الفرعون العرش، ينال قوّة خاصّة "كا"، ينال لا القوّة المجرّدة بل شخص "الإله القويّ ". صار هو القوّة. وكانت المسحة تمنح ملكَ اسرائيل الروح (كذا في العبرية) المحيي الذي يخصّ الله (تك 3:6)، تمنحه الروح الضروري للحياة ( 1 صم 16: 13؛ رج 10: 6؛ 11: 6). أمّا سفر القضاة فسيمنح الروح لبعض "القضاة" الذين هم رموز ملكية.
ويسمَّى ملك إسرائيل "نجيد" وهو لقب ديني قريب من كلمة "فوقد" التي تعني الراعي. فالملك هو من يختاره الإله الوطني من وراء الغنم من أجل خير شعبه. ويكوّن الملك وحدة مع شعبه. هذا ما سمّي "الشخصية المتضمّنة". وهو يحمل أيضاً قوّة إلهية، قد يخسرها سريعًا. هذا ما حدث لشاول وسليمان. ويشيخ الملك، فيصبح رجل العائلة، لا رجل الدولة، كما كان داود في أواخر أيّامه. وقد تنشب الحرب بين سلالة شاول وسلالة داود، بل بين أعضاء السلالة الواحدة (أبناء داود). وهذه هي تصدّعات الايديولوجيا الملكية التي من خلالها ستبرز المراعات بين القبائل. وستشكّل هذه الصراعات لحمة تاريخ إسرائيل الملكي وموضوع أوّل أسفار التوراة.

ب- شاول
هناك ثلاثة اخبار تعالج وصول شاول إلى الملك. الأوّل (1 صم 9: 26 ي): حين مسحه صموئيل. الثاني (1 صم 7:10 ي): حين اختاره صموئيل بالقرعة في المصفاة. الثالث (1 صم 11: 1- 15): حين انتصر شاول على العمونيين. وهذا الأخير هو أقدم الثلاثة. كان شاول في جبعون حين علم بحصار يابيش جلعاد. فأرسل رسله إلى كل أرض إسرائيل. ولكنّ النصّ لا يورد أسماء القبائل التي دُعيت إلى الحرب. وانتصر شاول، وأسّس الملكية في الجلجال. وستكون منحة هذه الملكية وادي الأردن الوسطى مع جلعاد إلى الشرق وجبل إفرائيم إلى الغرب، ومع أرض بنيامين. وبعد موت شاول، ستكون هذه الوادي محور المملكة (2 صم 2: 8 ي؛ 4: 7). كان انتصار شاول على العمونيين ساحقًا. وسيقاتل حلفاءهم: جماعة بيت رحوب وملك صوبة (1 صم 47:14)، كما سيقاتلهم داود أيضاً.

1- شاول ومعاركه الحربية
وامتدّ عمل شاول البنياميني إلى الجنوب الغربي، إلى منطقة جبع وجبعة. كان الفلسطيون موجودين في مكماش وجبعة المذكورة في لقاء شاول بصموئيل (1 صم 9: 1- 10، 16). فالمدينة التي التقى فيها شاول بصموئيل غير مذكورة في النص، ولكنّها في جبل إفرائيم وفي أرض صوف. ولكنّ الاحتفالات ستتمّ في الجلجال (1 صم 8:10؛ رج 13: 5- 15). وفي الخبر الثالث، المدينة هي المصفاة التي تبعد بضعة كيلومترات إلى الشمال من جبعة. بمَا أنّ جبعة صارت جبعة شاول، هذا يعني أنّ شاول طَرد منها الفلسطيين بعد انتصاره في مكماش التي تبعد 8 كيلومترات إلى الشمال الغربي من جبعة. هذا النصر الذي ينسبه ف 14 إلى شجاعة ابنه يوناتان، حرّر المنطقة حتّى بيت حورون أو ايالون، وهي كلّ المنطقة الجبلية التي تصل إلى مقاطعة جت في الساحل (شافلة أو المنطقة السُفلى).
بعد أن حرّر شاول جبعة (اليوم: تل الفول) التي تبعد 5 كيلومترات إلى الشمال من أورشليم، اصطدم بسلسلة من المدن الكنعانية. لم يهتمّ باورشليم، ولكنّه انشغل بقرية يعاريم (أي بعلة القديمة، يش 15: 60؛ 18: 14) التي يقطنها البنيامينيون. وسيطر شاول على بئيروت، فلجأ اهلها إلى جتائيم في أرض الفلسطيين. وسينتقم اثنان من سكان بئيروت هما ريكاب وبعنة، أبناء رمون البئيروتي، فيقتلان اشبوشت ابن شاول (2 صم 4: 2- 8). ولكن سيسيل الدم في جبعون، وسيتّهم الجبعونيون شاول فيما بعد بأنّه أراد أن يفنيهم (2 صم 21: 5). وفي أي حال، نقض شاول المعاهدة التي قطعها يشوع مع الجبعونيين (يش 9) وسال الدم. وما هو أخطر من هذا، هو أنّ معكة، جدّة شاول من قيش، قد تزوّجت "أبا جبعون " (1 أخ 29:8) وسيدفع نسل شاول ثمن الدم (2 صم 21). ولكن ستظل جبعون في بنيامين "الذئب المفترس" (تك 27:49).
ووسّع شاول حملاته، فدخلت جيوشه مرتين إلى برّية يهوذا: مرّة أولى ضدّ العماليقيين (1 صم 15)، ومرة ثانية حين لاحق داود (1 صم 24 و26). لهذا يتكلّم 2 صم 2:21 عن "غيرة شاول " من أجل إسرائيل ويهوذا. ولكنّ يهوذا كانت بعدُ عبارة جغرافية فيها مدن مثل الكرمل (1 صم 15 : 12 ؛ رج 25 : 12)، وقعيلة (1 صم 1:23، 12)، ومجموعات مثل القينيّين (1 صم 15: 6) الذين قدّروا مساندة شاول لهم ضد العماليقيين أو ضدّ الفلسطيين. في وقت من الأوقات، كان بنو عماليق قد سيطروا على وادي الأردن. أمّا شاول فهاجم العماليقيين في عرينهم الجنوبي ليحمي قاعدته الأساسية التي هي وادي الأردن.
وامتدّ شاول نحو الغرب حتّى جت التي منها جاءت هجمات الفلسطيين إلى منطقة بنيامين. فوصل إلى وادي البطمة (عمق ها ايله)، وواجه جيشًا فلسطيًا تركّز في افس دميم بين سوكو وعزيقة (1 صم 17: 1- 2). في هذه المناسبة، إنخرط بنو يسّى من بيت لحم في جيش شاول. وبمَا أنّ افس دميم هي عينها فس دميم (1 أخ 11 : 13 =2 صم 9:23)، يمكن أن ترتبط معارك داود وأبطاله ضدّ جليات والفلسطين بحملات شاول العسكرية يوم كان داود شابًا. وكنّا قد رأينا أنّ إحدى هجمات الفلسطيين الثلاث توجّهت نحو جنوب بنيامين وهدّدت منطقة لحي (2 صم 23: 11 ؛ رج قض 9:15 ي). وضايق شاول الفلسطيين فتجمعوا في الشمال، في افيق (رأس العين). لم يحاولوا أن يهاجموه وجهًا لوجه في المنطقة الجبليَة، ففضّلوا أن يجتذبوه إلى وادي الأردن العليا (محور الملكية) بإتجاه جبال الجلبوع.
وكانت المعركة حاسمة. قُتل شاول وابنه يوناتان. ولكنّ الملكية ظلّت ثابتة. فبفضل مساندة أبنير قائد جيش شاول وابن عمه (1 صم 14: 50)، ورث اشبعل أباه (2 صم 2: 9). ولكنّ مملكته لم تضمّ كل أرض إسرائيل، بل جلعاد مع محنايم وإفرائيم وبنيامين وأشير (أو أشوريم) ويزرعيل الذي هو يساكر (يش 19: 18). واستعاد أبنير السيطرة على سهل يزرعيل بمساعدة أشير ويساكر، وهاجم أهلُ يابيش بيتَ شان. كانت محنائيم عاصمة إشبعل التي أقام فيها داود أيضاً بعد ثورة ابشالوم. أقام اشبعل في محنائيم لا في جبعة، ودام ملكه سنتين (2 صم 2: 10)، بعد هذا، قتله ريكاب وبعنة (2 صم 4: 5- 12) وجاءا إلى داود بطريق العربة يخبرانه بمَا حدث.

2- شاول وخصومه
لقد كان لشاول خصوم منذ بداية عهده حتّى موته. لا يحدّد لنا النصّ من هم "بنو بليعال " الذين احتقروا شاول منذ البداية (1 صم 27:10؛ 12:11). قد يكونون إفرائيميين كأولئك الذين عارضوا جدعون ويفتاح وثاروا مع شابع ضد داود (2 صم 25: 1 ي)، قبل ان يثوروا مع يربعام ضدّ سليمان (1 مل 11 : 26 ي). هذا يفسّر جزءا من دور صموئيل الإفراتي في صوف (1 صم 1: 1). فهو سيقيم علاقات مع عشيرة إفراتية في بيت لحم (1 صم 16؛ رج قض 19: 1). فبلاد صوف هذه هي أرض بحث فيها شاول عن أتن أبيه، فالتقى بصموئيل في مدينة لا يذكر النصّ اسمها (ستكون المصفاة في الخبر الثالث). إذا عدنا إلى يش 18: 26، عرفنا أنّ المصفاة هي في أرض بنيامين. ولكن يبدو أنّ الأمر لم يكن دومًا هكذا (قض 20: 1). على كلّ حال، لا يتكلّم الخبر الأوّل عن صموئيل إلاّ في إطار استجواب من قبل جماعة شاول (1 صم 11: 12). وفي الخبر الثاني تُعطى المسحة بطريقة سرية ويبدأ الصراع حالاً في الجلجال (1 صم 13: 5). ثم يندلع أيضاً بعد المعركة مع العماليقيين في 1 صم 15: 12. أمّا أصل النزاع فمسائل عبادية، ولكنّنا نستشفّ في الواقع توتّرات بين العشائر والقبائل.
واتّخذ شاول حذره من إفرائيم، وتعامل بصعوبة مع صموئيل في معبد الجلجال ومع سائر الأوساط الدينية. كان قد أبعد من البلاد "السحرة والعرّافين" (1 صم 28: 9)، وها هو يذهب إلى ساحرة عين دور ويتّصل بأبناء الأنبياء. واتّخذ حذره من كهنة نوب، وقد كان هذا المعبد قريبًا من أورشليم التي ما زالت في يد اليبوسيين. كان كهنة نوب قد جاؤوا من شيلو حيث قضى صموئيل أيّام صباه. ولكنّ شاول سيقضي على كهنة نوب حين يظنّ أنّهم تعاملوا مع داود والإفراتيين.
وقد نفهم أعمال شاول إذا عرفنا طبعه المنهك عصبيًا، كما نفهم التوتّرات داخل عائلته نفسه. أوّلاً: لم يخبر شاول عمّه بالمسحة (1 صم 10: 16). وهذا العمّ هو، على ما يبدو، والد أبنير (1 صم 14: 51). وإنّ أبنير تزوج سراري شاول بعد موته فأظهر طموحه إلى العرش (2 صم 7:3؛ رج 16: 20- 22 ؛ 1 مل 22:2). ولم يكن ليعلن إشبعل ملكًا لو لم يضغط عليه الشعب. ولقد كان يهيّئ اتّفاقًا مع داود لو لم يقتله يوآب ليثأر لأخيه.
ولم يكن أبنير واشبعل وحدهما في عائلة شاول. فهناك يوناتان الذي شارك في حروب والده منذ مكماش إلى الجلبوع. فهذا الشاب المندفع تأثّر بداود، محارب بيت لحم، الذي صار صهره حين تزوّج أخته ميكال. كان في يوم من الأيّام يدافع عن داود (1 صم 20: 30) فسبّه شاول وسمّاه "ابن الثائرة الفاسدة، ابن الفاجرة". هل نحن أمام شتيمة معروفة أم أكثر من هذا؟ نحن لا نعرف إلاّ امرأة واحدة لشاول وهي أحينوعم بنت أحيماعص (1 صم 14: 50). لا يرد هذا الاسم إلاّ قليلاً في التوراة، وقد تسمّت به زوجة داود الأولى. لا نعرف اسم والدها، ويبدو انّها من يزرعيل إحدى مدن أرض شاول (تُذكر محلّ يساكر في 1 صم 9:2). إذًا، هناك مسألة احينوعم التي لم تكشف عنها المراجع البيبلية، وقد تكون في صالح شاول أو في صالح داود. ففي هاتين الحالتين، لا يجدر بيوناتان أن يتذّكرها. يبقى أنّ الصهر هرب من بلاط جبعة بانتظار أن يرث حميّه. وُلدت السلالة البنيامينية في النصر، ولكنّها تهدّمت في مشاكل عائلية. وقد كادت مملكة يهوذا أن تزول مثلها، ولكنّ التاريخ سار مسارًا مغايرًا.

ج- داود حوالي السنة 1000
1- القرابة
كان داود ذاك البطل المهيب والجذّاب رغم خطاياه وشيخوخته. وُلد في بيت لحم، وكان والده يسّى من مجموعة (مي 5: 1) افراتة. هذه القرية التي لا ماء فيها والتي تقع بين منطقة حرجية ومنطقة أكثر جفافًا، تسمّت باسم إله الخصب في كنعان، لحمو، الذي تذكره رسائل تلّ العمارنة. نحن نعرف نسب داود من خلال ملخّص كثيف نقرأه في التوراة، فنكتشف تشعّبات أصوله (را 18:4- 22). ترتبط عيلته بعشيرة فارص. وإذا عدنا إلى أسماء الأمكنة قرب أورشليم (بعل فراصيم، فارص عزة)، عرفنا أنّ المسكن الأوّل للعشيرة كان بين أورشليم وبيت شمس. وعَبْرَرام، إرتبط داود بكالب الحبروني ويرحمئيل الجنوبي (1 أخ 2: 25، 42). وعبر عمينداب ونحشون، إرتبط باللاويين القهاتيين (1 أخ 7:6؛ رج خر 23:6)، وعبر راعوت ارتبط بموآب. وصل إلى بيت لحم بفضل جده بوعز السامي الأصل. ولكنّ اسم والده يسّى (إيشاي كما يقول 1 أخ 13:2) يعود بنا إلى أصل فينيقي أو أرامي، وقد يكون ابيشاي، إذا تذكّرنا اسم حفيده إبن صروية أخت داود. ومهما يكن من أمر، فإنّ إسرائيلي الشمال سيحسبونه قريبهم لأنّه إفراتي. قالوا له قبل أن يعلنوه ملكًا: "نحن عظمك ولحمك " (2 صم 2:5) أي نحن من عيلتك وقبيلتك. أمّا اسم داود فيرد قليلاً ويصعب فهم معناه. فقد يعود إلى القرابة (داود: العم والخال)، أو المحبّة (محبوب من الله. رج في العربية الودود) كما في أسماء سامية مثل دودو، داود.
نحن نعرف أسماء إخوة داود (1 أخ 13:2 ي) ولا سيّمَا شمعا أو شمه (1 صم 16: 9، 17، 13) والد المحتال يوناداب الذي أعطى ابن عمّه نصيحة فاعلة ولكنّها قادته إلى الكارثة (2 صم 13: 3). وكان لداود أختان لعب بنوهما دورًا سياسيًا هامًّا. الاولى: صروية وهو اسم أرامي أو موآبي ويرتبط بيهوه. كان لها ثلاثة بنين: أبيشاي الاكبر، يوآب الأعنف، عسائيل الأسرع. نحن نجهل اسم والدهم. ولكنّنا نعرف اسم والد ابيجائيل الأخت الثانية، أو بالأحرى أخته من أمّه، لأنّ والدها ليس ابيشاي (يسى) بل ناحاش (2 صم 17: 25). وقد يكون هذا ناحاش العموني الذي خاصم شاول وارتبط بعلاقات طيّبة مع داود (2 صم 10: 2). تزوّجت إبيجائيل من ياتر الاسماعيلي (1 أخ 17:2، نقرأ في 2 صم 17: 25، يترا الاسرائيلي)، ولكنّه لم يأخذها إلى بيته، بل جاء إلى بيتها، فكان زواجهما كزواج شمشون من ابنة تمنة (قض 14: 1- 5، هذا ما يفترضه تك 2: 24). فوُلد لهما عماسا الذي زاحم يوآب فقتله كما قتل أبنير.

2- داود وشاول
حين بدأ شاول يتوسّع نحو الجنوب والغرب، كان داود أحد الشباب الذين جنّدهم (1صم 14: 52). وبين نخبة المحاربين الذين أحاطوا بداود، كان الكثيرون من رفاق شبابه (2 صم 1 15:2- 22؛ 8:23- 39). لقد اهتمّ شاول بجماعة بيت لحم الإفراتية في حملاته ضدّ العماليقيين والفلسطيين ولا سيّمَا في قعيلة (1 صم 23). وقد جعل داود بقربه على مثال الفرعون الذي يأتي بابناء تابعيه إلى مصر وما عتَّم الشاب داود أن أظهر شجاعته في الحرب. هتفت له النساء: "قتل شاول الألوف، أمّا داود فعشرات الألوف " (1 صم 7:18؛ 21: 12 ؛ 29: 15). وضمّ شاول داود إلى عائلته، فزوّجه إحدى بناته ويبدو أنّها ميراب لا ميكال. كان داود جذّابًا فاشتهر كموسيقي على مدى الأجيال (عا 6: 5)، وقد هدّأت قيثارتُه الملك في أتعس حالاته.
ولكنّ التوتر بين صموئيل الإفراتي وشاول امتدّ على العلاقات بين شاول وبيت لحم إفراتة. ففي يوم من الأيّام، ذهب داود إلى عيد عائلي في بيت لحم (1 صم 20: 24 ي) وأطال إقامته، فحسب شاول أنّه يدبّر له مؤامرة. وتدخّل يوناتان، ولكنّ تدخّله لم يُجدِ نفعًا. ثمّ إنّ دخول داود في العائلة الملكية أثار قلق شاول وحسدَه. فأُجبر داودُ على الهرب، وجعل عائلته في موآب حيث له الأقارب بواسطة راعوت (1 صم 22: 3). واستطاع داود أن يجمع حوله 400 رجل من رعاع القوم (2 صم 2:22). ولاحق شاولُ داودَ، فترك داودُ مدينة قعيلة التي كان قد دافع عنها ضدّ الفلسطيين، ثمّ ترك منطقة حارث الحرجية. بعد هذا، إلتجأ إلى مناطق جنوب يهوذا الجرداء، في زيفه الكرمل. وفي النهاية، طلب حماية أكيش، ملك الفلسطيين في جت. ولكن جت كانت مركز عمليات الفلسطيين الحربية ضدّ بنيامين.

3- داود في صقلاج
وصار داود تابعًا لملك الفلسطيين. غير أنّ اكيش لم يستعمل خدماته ضدّ الملك شاول، بل سلّمه موقعًا بعيدًا عن مسرح العمليات العسكرية. جعله في صقلاج، قرب بئر سبع، وطلب منه أن يراقب قبائل الجنوب التي لا تعرف الهدوء.
كانت الإقامة في صقلاج مهمة. فداود لم يكن فيها وحده. فقد كان معه أبياتر الذي نجا من القتل يوم أمر شاول بقتل العائلة الكهنوتية في نوب، والذي كان الوارث الشرعي لتقاليد هيكل شيلو في إفرائيم. كانت صقلاج في منطقة قبيلة شمعون، وكانت قريبة من معبد بئر سبع حيث أقام إبراهيم وتعبّد لإيل عولام (تك 21: 33، الإله الأزلي). وكانت صقلاج أيضاً قريبة من النقب، وهكذا كانت جماعة داود تصل بعض المرات إلى بئر لحي روئي، بين قادش وبارد (تك 16: 14). هناك أقام إسحق، وإلى هذا المكان المقدس جاء أبناء إسماعيل. وحين وصل داود الإفراتي إلى منطقة صقلاج، وجد عشائر متحضرة أقامت في الماضي في جبل إفرائيم (تك 34) قبل أن تتشتّت. كانت هناك قبيلتا شمعون ولاوي، ولا ننسَ أنّ ابياتر كان لاويًا.
واتصل داود ورجاله بالمدن الواقعة جنوبي حبرون (1 صم 30: 26- 31)، وتعرّف إلى القينيين واليرحمئيليين وكالبيّي حبرون والكرمل (حيث أخذ داود امرأة نابال، أبيجائيل التي صارت زوجته الثانية، رج 1 صم 25). وذهب داود إلى الغرب، فالتقى في النقب الكريتيين والفلاطيين (قريبون من الفلسطيين، 1 صم 30: 14) الذين سيختار منهم حرسه الشخصي.

4- غزوات داود
صار داود ضابطًا لدى أكيش، ملك الفلسطيين، فقام بغزوات عديدة (1 صم 8:27). وأهمّها تلك التي قام بها ضدّ العماليقيين الذين حاربهم شاول في الماضي. صاروا أقوياء في شرقيّ يهوذا فاستفادوا من غياب داود ليغزوا صقلاج ويحرقوها ويحملوا معهم الغنائم. ولكنّ داود استعاد كل شيء. وحارب في الغرب الجشوريين أو الأشوريين الذين هم عنصر من أشير عرفته النصوص المصرية ولم يصعد إلى الشمال. رج عد 24: 24. وأخيرًا حارب الجرزيين الذين لا نعرف شيئًا كثيرًا عنهم. وإذ كان داود يحارب، كان أبياتر يسأل الأفود والأوريم والتوميم، ويجمع التقاليد عن إبراهيم وإسحق، والمعلومات عن موسى. أخذ المعلومات من القينيّين، والكالبيين الذين جاؤوا من قادش برنيع، والقنزيين الذين أقاموا في دبير، واليرحمئيليين الذين كانوا قريبين من أدوم وجبل هور حيث دُفن هارون. وهكذا كفل أبياتر معلوماته عن التقاليد اللاوية في الشمال وتقاليد إفرائيم التي حملها معه يشوع.
دعا أكيش داود إلى أفيق من أجل معركة الجلبوع التي سيموت فيها شاول. ولكنّ القوّاد الفلسطيين استبعدوا داود وخافوا من خيانته لهم. وهكذا لن يكون داود البطل الذي خان بلاده وحارب شعبه. ثمّ إنّه وصل في الوقت المناسب ليحارب بني عماليق ويستعيد ما خسره أبناء يهوذا. وهكذا بدا داود ذلك المحامي عن أهل يهوذا. وترد في 1 صم 27:30- 31 لائحة باثنتي عشرة مدينة أو مجموعة أعاد اليها داود قسمًا من الغنيمة بشكل هدية أو بركة (تك 33: 11). ولهذا، حين مات شاول، مسح رجالُ يهوذا داودَ ملكًا على يهوذا، وذلك بعد حملته السريعة على حبرون (2 صم 2: 1- 4).

5- داود في حبرون
في هذا الوقت تكوّن "بيت يهوذا"، كما قال داود لأهل يابيش في جلعاد (2 صم 7:2). هو لا يزاحم سلالة شاول "سيدكم ". فلكية يهوذا هي ملكية أخرى قرب ملكية إسرائيل وموآب وأدوم. إنها ملكية "باسم الرب"، لأنّ إفراتة عشيرة ترتبط بيهوه مثل إفرائيم. والاسماء التي تتضمّن اسم الله عديدة في زمن داود في محيط داود. والرسالة إلى أهل يابيش تشدّد على هذا الإله (2 صم 2: 5- 6). وتتضمّن ملكية يهوذا عناصر إسرائيلية. تتضمن مستوطنات جاءت من الشمال واجتمعت في عشيرة فارس، كما تتضمّن عناصر لاوية جاءت من الجنوب الشرقي هي عشيرة زارح التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بمدينة تامار، وتتضمّن قبيلة شمعون التي اندمجت بها. ونجد، مع هذه العناصر الاسرائيلية، ثلاث عشائر مذكورة في تك 38، ولكن لم تبق إلاّ عشيرة شيلة. وأخيرًا، إنضمّ إلى هذه الملكية حلفاء داود السياسيون: القينيون، اليرحمئيليون، كالبيّو حبرون، قنزّيو دبير، وسائر الشعوب الغريبة التي اتصلت بداود يوم كان في صقلاج.
كانت ملكية شاول ملكية وطنية تخافها الأقليّات ولا سيّمَا الجبعونيون والبئيروتيون، وتخافها المعابد المحلية مثل نوب. ولهذا فلائحة المدن اللاوية المذكورة في يش 21 لا تعرف إلاّ شكيم في جبل إفرائيم. أمّا ملكية داود فهي ملكية تضمّ الأغراب أيضاً وتحترم التقاليد الدينية المحلية وهي تتطلع إلى وحدة حول الملك وحول إلهه يهوه.
لم يُبدِ الفلسطيون أيّة ردة فعل تجاه تأسيس ملكية يهوذا. وقد يكونون سمعوا نصائح أكيش فاعتبروا أنّ ملكية حبرون هي امتداد لحمايتهم على صقلاج وعلى داود كيلهم. وقد يكونون حسبوا هذه "الدولة" تفتيتًا لمملكة شاول التي هدّدتهم، وتثبيتًا لانتصارهم في الجلبوع. دخل داود أرض بنيامين وبدأت المعارك قرب جبعون، إلى الشمال من جبعة. ولكنّ عبقريّة داود وشخصية أبنير جعلتا الحالة تتّخذ مسارًا جديدًا. أعلن داود مرارًا احترامه وأمانته لشاول: إذا كان الملك عامل صهره بهذه الطريق، فهذا يعود إلى مرضه. ثمّ إنّ داود طالب بامرأته القديمة التي استعادها شاول وزوّجها لأحد قوّاده، فلطي بن لائيش (1 صم 25: 44). قَبل أبنير بهذا الموقف وأعاد إلى داود ابنة شاول، ميكال، ولكنّه اختلف مع إشبعل بسبب سرية لشاول. وفهم أبنير أن داود وحده يقدر أن يلجم خطر الفلسطيين (2 صم 3: 8). فهيّأ شيوخ إسرائيل للاعتراف بداود الذي عُرف بشجاعته وهو ضابط صغير. وكان أبنير من الحنكة بحيث جعل "كل بيت بنيامين" يأخذون بفكرته. فجاء إلى حبرون، إلى داود، وتمّ الصلح. ولكنّ يوآب قتل أبنير ليثأر لأخيه عسائيل (2 صم 3: 27)، فكاد يهدّد هذه المصالحة. غير أنّ داود برَأ ساحته بجنازة مهيبة، وظهر أنّه ضعيف أمام يوآب كما كان إشبعل ضعيفًا أمام أبنير. وفهم إسرائيل أنّه خسر قائدًا قديرًا. ولكنّ الناس تهيّأت لقبول المحادثات بين داود وشيوخ إسرائيل حتّى بعد مقتل اشبعل على يد بعنة وريكاب من بئيروت. وهكذا جاء شيوخ إسرائيل وأعلنوا أمام الرب أنّهم يخضعون له، ثمّ مسحوه ملكًا (2 صم 3:5).

6- داود ملك إسرائيل في أورشليم
سمع الفلسطيون بالخبر، فتحرّكوا وهاجموا داود في وادي رفائيم، في وصلة المملكتين اللتين اتحدتا اتّحادًا وثيقًا فشكّلتا خطرًا عليهم. وحسبوا أنّ اليبوسيين سيتحرّكون بعد أن رأوا أورشليم مدينتهم في شبه حصار. ولكنّ داود حطّم هجوم الفلسطيين. ثمّ جاء إلى أرض بنيامين في شمالي أورشليم وهجم عليهم فردّهم إلى جازر. في هذا الوقت، سقطت أورشليم في يد داود. ستكون "مدينة داود" وعاصمة مملكته الموحّدة.
كان موقع أورشليم هامًّا من الوجهة الستراتيجية، وحياديًا من الوجهة السياسية. فهي لا ترتبط بأي من المملكتين. ثمّ إنّها تؤمّن الاتّصال بين المملكتين، وبين الشرق والغرب. وجعل داود فيها إدارته ونساءه. وقد أظهرت الحفريات الأركيولوجية أنّ المدينة كانت صغيرة جدًّا. وفكّر داود في أن يبني هيكلاً للإله الوطني الذي بارك سلالته، ولكن لم يحُن الوقتُ بعد. فالعبادة لم تنظَّم بعد، كما لم تنتظم الإدارة المدنية. فالعبادة الاسرائيلية كانت تقتصر على حضور تابوت العهد (2 صم 15: 14). تسلَّم هذا "التابوت " كاهنان، أبياتر رفيق داود في هربه إلى صقلاج، وصادوق المتحدّر من ملوك أورشليم القدماء. وحُمل التابوت (أي عرش الله على الكروبيم) باحتفال من قرية يعاريم حيث بقي تحت رقابة الفلسطيين بعد هزيمة ابن عازر (1 صم 4: 4؛ 2 صم 2:6 ؛ 2:80) وجُعل في خيمة (2 صم 17:6). وحين حلّ الوباء، قُدّمت ذبيحة على بيدر أرونا حيث سيُقام الهيكل العتيد (2 صم 24).

7- سياسة داود
هناك لائحتان بالموظّفين الكبار (2 صم 8: 15- 18؛ 20: 23- 26) تشهدان على بعض التنظيم الإداري. كان بقرب داود "سوفر" و"مزكير"، وهما لقبان يقابلان وظائف كنعانية مأخوذة عن المصريين. الأوّل، هو منادٍ يعلن الإرادات الملكية. والثاني، هو أمين سر الدولة وسيكون قرب داود الشيخ "رعة" (في العربية: راعى أي استمع) (حوشاي) أي صديق حميم أو سكرتير خاص، ومشير (أحيتوفل). ولكن لن يكون له وكيل يهتم باملاك المملكة. كانت أحد أهداف الملكية التقليدية إقامة الحق والعدل (مشفط وصدقة). ولكنّ خدمة العدالة لم تكن قد نظّمت بعد. وهذا الوضع سيكون سببًا من أسباب ثورة أبشالوم، ابن معكة (2 صم 15: 2- 6).
في وقت من الأوقات سيطرت الوظائف العسكرية مع يوآب، قائد الجيش (الذي سيحلّ مكانه عماسا بطريقة موقتة قبل أن يُقتل (2 صم 4:20- 13)، وبنايا رئيس الحرس. وظلّ يوآب مدّة طويلة يحتل المكانة الأولى. فإقامة الملكية الموحّدة فرضت على داود أن يتابع عمل شاول ويحمي شرقي الأردن إلى الجنوب وإلى الشمال.
وتثبّتت العلاقات مع الفلسطيين بعد معركة وادي رفائيم (لا ننسَ العلاقات الطيّبة بين داود واكيش ملك جت). وفي بداية عهد سليمان كانت جت بعد مملكة مستقلة (1 مل 2: 39 ي). ولكن أطلت الصعوبات في الشرق. فاندفع الأراميون بقيادة هدد عازر، ملك صولة. وإذ أراد داود أن يوقف هذا المدّ، لم يكتف بأن يتفاهم مع ملك حماة لكي يقطع عليه الطريق من الشمال، بل بسط حمايته على دمشق (2 صم 6:8). ثمّ أرسل يوآب فاحتلّ ربة عاصمة بني عمون. ففرض الجزية على السكّان واعتمر التاج (2 صم 12: 35). كان يوآب قد احتلّ المدينة السفلى وترك للملك أن يحتلّ المدينة العليا فيبقى له فخر الاستيلاء على المدينة.
وتوجّه داود نحو الجنوب. إنتصر على الموآبيين وقاسم بالحبل وقتل واحدًا من كل ثلاثة محاربين (2 صم 8: 2). وهكذا صار الموآبيون يدفعون الجزية. وضمّ داود إلى مملكته الأدوميين وعيّن لهم حكّامًا فكانوا عبيدًا له (2 صم 8: 14) لا تبّاعًا فقط. وهكذا كان لداود مملكة واسعة.

8- شيخوخة داود
وأطلّ الخطر على بني إسرائيل، ولكنّ عون الخدّام الأمناء أعاد الأمور إلى حالها. هرب داود من ابنه أبشالوم، فلجأ إلى محنائيم (التي كانت أيضاً عاصمة اشبعل بعد معركة الجلبوع)، فاهتمّ به برزلاي وغيره. إنطلقت الثورة من حبرون، فكانت واحدة من الأحداث التي أحزنت الملك في شيخوخته. كانت صراعات داخل البلاط وارتبطت بها توتّرات ومعارضات داخل المملكة كلّها. رأى داود دمار عائلة شاول، وضحّى بما تبقى منها للجبعونيين، ما عدا مفيبعل، ابن يوناتان، صديق شبابه. ولكنّه أنهى أيّامه في مشاكل مشابهة. فصوّر كاتبُ أخبار ِخلافةِ داود (2 صم 13- 20؛ 1 مل 1- 2) بوعي وقساوة كيف عمل الحسد والغيرة عند الأبناء والأمّهات مع ضعف الآب. اعتدى أمنون على أخت أبشالوم. قتل أبشالوم أمنون. نفى داودُ أبشالوم. دعا يوآبُ أبشالوم. ثار أبشالوم فقتل يوآب أبشالوم. وحين عاد الملك، إختلف بنو إسرائيل مع بني يهوذا، وثار بنو إسرائيل مع شابع. قتل يوآب شابع ثمّ عماسا، وساعد أدونيا. تغلّب سليمان على أدونيا وصار ملكًا، فقتل يوآب وأنهى المعارضة بعد موت أبيه. حينئذ قال الكتاب: "واستقرّ المُلك في يد سليمان" (1 مل 46:2؛ رج 12:2).
هذا هو تسلسل الأحداث خلال شيخوخة ملك تلاعَب به محيطه. ولكنّ المسائل السياسية لم تتوضّح كلّها. لماذا انطلقت الثورة من حبرون قبل أن تجتذب إسرائيل؟ هل استاء الكالبيون من انتصار داود؟ لماذا بقي برزلاي وبنو جلعاد أمناء للمك؟ هل يكفي أن نقول إنّهم خافوا من الأراميين؟ ما هو واضح، هو أنّ إفرائيم وبينامين لم يقبلا بهذا الملك الهامشي الآتي من الجنوب. فرض داود إرادته (1 مل 2: 5- 9)، فانتقل الملك دون أي تعاهد بين شيوخ إسرائيل ويهوذا، كما كان في أيّام داود (2 صم 5: 1- 3) وكما سيكون بعد موت سلمان (1 مل 12: 1 ي). وأبرزت الملكية أشكال الحكم الفرعوني، وابتعدت عن النموذج السامي. وإنّ عمل شاول وداود مدَّ جذورًا قوّية بحيث إنّه ظلّ ثابتًا في الشمال كما في الجنوب.

د- سليمان حوالي السنة 950
كان داود محاربًا وسيسيطر على شيخوخته محاربٌ معروف هو يوآب ابن عمه. أمّا سلمان فلن يكون قائدًا حربيًا بل ملكًا تسيطر في أيّامه الحكمة في الدبلوماسية والإدارة. ولهذا جعله التقليد الإسرائيلي إمام الحكماء.
1- سليمان على عرش داود
كان سليمان عاشر أبناء داود والرابع الذي ولد له في أورشليم، وقد جاء بعده سبعة إخوة. هو ابن بتشابع التي تكاثرت الأقاويل حول زواجها. لبث في الظلّ يراقب تَصارُعَ الذين هم أكبر منه، فعرف موآمرات كل بلاط. فرضته شخصيتُه، بل تحالفُ مناخِ بين خصوم أدونيا، فصار ملكًا. وقد وصل إلى السلطة وسط خلافات عسكرية (بناياً ضد يوآب) كهنوتية (صادوق ضدّ أبياتر). واستند إلى رجل حازم هو ناتان وإلى امرأتين، أمّه وأبيشاج الشونمية.
وتصرّف بفطنة ليثبّت حكمه فنجح. وانتظر الظروف الموآتية ليزيل عناصر الحزب المعادي: يوآب، أبياتر، والبنياميني شمعي. ونحن لا نعرف ثورة داخلية واحدة في عهد سليمان، ولكنّنا نحسّ في نهاية حياته بالمعارضة الإفرائيمية مع أحيا الشيلوني ويربعام الذي من صريدة (1 مل 26:11). وسيتابع سلمان سياسة أبيه في دمج الشعوب بعد أن نال الحكمة الإلهيّة في ليلة من الصلاة قضاها في جبعون، المدينة الكنعانية المعادية لشاول.

2- إدارة سليمان
كان سليمان رجلاً إداريًا في خط حكمة الشرق السياسية. بدأ فوسّع عاصمة مملكته وطمر بالملّو (من ملأ وردم) الانخفاض الذي يحمي شمال مدينة داود القديمة، وبنى قصرًا واسعًا يتكيّف والحاجات الإدارية. فقصر داود القديم لم يَعُد يكفي. ثم إنه كان محاطاً بالبيوت، بحيث استطاع الملك أن يرى بتشابع امرأة أوريّا تستحم في رواق قريب عند انحدار عوفل (تلّة بين قصر داود والهيكل). أمّا سليمان فعزل قصره عن المدينة. واتبع العادة الشرقية، فجعل الهيكل قرب القصر الملكي لأنّ الملك يقوم مقام الله فيجلس عن يمينه. الملك هو خادم الله، وقصر سليمان هو امتداد لبيت يهوه صباؤوت أي رب الأكوان أو الرب القدير. وكان الملك يجتاز الرواق، وأمامه حرسه، ليحتفل بالأعياد الوطنية الكبرى أمام الرب الجالس على الكروبيم، المستلقي على دبير (مكان) مرتفع في عمق الهيكل. ولقد تعجبّت ملكة سبأ من تنظيم القصر، وهي الآتية من بلد مشهور بالحكمة. لقد رأت "طعام موائده، ومسكن ضبّاطه، وقيام خدّامه ولباسم، وسقاته، والمحرقات التي كان يُصعدها في الهيكل" (1 مل 5:10).
وجعل سليمان في هذه الأبنية الإدارة الملكية (1 مل 4: 1- 6): هناك الآن سكرتيران ملكيان، رئيس على ولاة المقاطعات، كيل يتدبّر أموال التاج، رئيس عمّال السخرة من أجل الأشغال العامّة. ولا ننسَ الوظائف القديمة في عهد داود: رئيس الكهنة، المنادي، قائد الجيش، رئيس الحرس.
ويقوم بنفقات هذه الإدارة المحلية في القصر والهيكل ولاة المقاطعات (1 مل 4: 7-18). هناك اثنا عشر واليًا، يؤمّن كل واحد منهم النفقات مدة شهر من السنة. كانت نواة الولاية القبيلة، ولكن ضمّ سليمان إلى أرض القبيلة كثيرًا من الشعوب الغريبة والمدن الكنعانية (بما فيها أورشليم) التي احتلّها داود. قد يكون الوالي قريبًا من الملك، ولكنّه كان عادة أحدَ الأشراف فتنتقل وظيفته إلى ابنه حسب تقليد قديم.
وفتح سليمان مدارس ليعلّم الولاة الكتابة والحساب وطريقة الكلام. ولهذا سمّي معلم الحكمة في إسرائيل. سبقه أمراء كنعانَ، فتبعهم واستلهم الأساليب التقليدية الآتية من بابل في أيّام السلالة الأمورية، كما استلهم النموذج المصري. وسنجد بعض الأسماء المصرية بين كتبة القصر فنتج عن هذا تقليد في بلاط أورشليم مؤاتٍ لمصر، وهذا ما سيجعل الكاتب اليهوهي في البنتاتوكس يحذّر المؤمنين من هذه الطريقة الجديدة، وسيتبعه الأنبياء.

3- العلاقات الدولية
وكان اتّفاق بين سليمان ومصر الضعيفة مع السلالة الحادية والعشرين، ترسّخ بواسطة زواج كان مهره جازر (1 مل 16:9). لقد تزوّج سلمان ابنة الفرعون سيامون. لا يشير التاريخ إلى تدخّل الفرعون ضدّ الفلسطيين، ولا يقول لنا في أيّة ظروف استولى على جازر قبل أن يقدّمها لسليمان. وقد كان للملكة الآتية من مصر قصر خاص بها (1 مل 9: 24). وقد اتّبع سلمان طريقة فرعون بسياسة الزواجات فتفوّق على أبيه: تزوّج من صيدون وعمون وموآب... وصنع لكلّ امرأة من نسائه الغريبات معبدًا خاصاً بها (1 مل 11: 5- 8). فالعلاقات الطيّبة مشروطة ببناء معبد يكرَّم فيه آلهة هذه الأميرات على جبل الزيتون.
توجَّه سليمان إلى مصر من أجل كتبته، وتوجّه إلى الفينيقين من أجل أبنتيه ولاسيّمَا الهيكل، بل ومن أجل حصونه في حاصور ومجدو وجازر المبنية بناءً مماثلاً. فنتج عن ذلك علاقات تجارية بل شركات للنقل في البحر الأحمر (1 مل 9: 26- 28)، وقد تكون هذه الرحلة إلى أوفير وذهبها قد جلبت معها ملكة سبأ إلى أورشليم. وهكذا بدأ تأثير صور التجاري على إسرائيل، وسيتوسّع في القرن التاسع، ولكنّ نتائجه ستكون وخيمة. كانت البلاد سيّدة جزء من الشاطئ الساحلي وصاحبة حق في الدخول إلى خليج العقبة، فعرفت سنوات من الازدهار بفضل تجارة مربحة (1 مل 10: 5) ولاسيّمَا تجارة الخيل بين كيليكية ومصر (1 مل 27:10- 29). كل هذا الغنى دفع قسمًا من المصاريف الباهظة التي يتطلبها الهيكل والقصر، ولكنّه لم يدفعها كلّها. لهذا لجأ سليمان إلى الأشغال الشاقة، وفرَض السخرة على شعبه (1 مل 27:5، سخر من كل إسرائيل 28:11) وحاول كاتب لاحق أن يصّحح الصورة في 9: 2، فقال: أمّا بنو إسرائيل فلم يجعل منهم سليمان عبيدًا. وزادت ديونه لحيرام ملك صور فأعطاه الضيع في منطقة كابول في الشمال الشرقي من عكّا.

4- إخفاق وفشل
وكانت نهاية مملكة سليمان مخيّبة للآمال. بنى داود مملكة متشعّبة، وها قد بدأت تتفكّك في عهد ابنه. وقف شاول وداود بوجه المدّ الأرامي، أمّا الآن فعادت إليه قوته. كان راصون (حازيون) خاضعًا لهدد عازر ملك صوبة الذي قهره داود. فطرد الحاكم الاسرائيلي وجعل من أرضه مملكة مستقلّة. إنّ هؤلاء الأراميّين الذين تميّزوا بالحيوية والفوضى، أخافوا الأشوريين منذ تجلت فلاسر الأوّل (1100 ق. م.) وسيخيفون بني إسرائيل في القرن العاشر، ولكنّهم لن يتوصّلوا إلى تكوين مملكة موحّدة. ستكون مملكة دمشق أقوى الممالك الأرامية، بحيث تسمّى بكل بساطة مملكة أرام. وقد يكون الكلدانيّون الذي ظهروا في القرن العاشر وسيطروا فيما بعد على بابل، قد يكونون فرعًا أراميًا.
أمّا سبب ضعف سليمان، فجيء السلالة المصرية الثانية والعشرين مع شيشانق الأوّل (حوالي 945- 921)، ونهاية سلالة أقام معها أفضل العلاقات. إنتقلت العاصمة من صوعن (أو تانيس) إلى فيباست (أو بوباستيس)، فابتعدت عن الحدود. وترك الفرعون الجديد سياسة التفاهم والزواج، واستقبل أدوميًّا يحمل في عروقه دمًا ملوكيًا هو هدد الذي كان ضحيّة ما فعله يوآب حين تغلّب على أدوم، وما فعله داود حين ضمّ هذه الأرض إلى مملكته (1 مل 11: 14- 22). فهدد هذا تزوج قريبة فرعون (أخت امرأته) وعاد إلى بلاده ليستعيدها من تسلّط بني إسرائيل.
واستقبل شيشانق فارًا آخر وكان إسرائيليًا. إنّه يربعام الشاب الإفرائيمي الذي فقد والده، وعمل في أعمال ملو. أظهر كفاءته، فجعله سليمان رئيس أعمال السخرة في "بيت يوسف". لماذا أبعده سليمان عن البلاط رغم اشتباهه به؟ أما كان من الأفضل أن يبقيه معه ويراقبه؟ مهما يكن من أمر، فالنص الكتابي والتقليد الإفرائيمي يعتبر أنّه موسى آخر (رج خر 2: 25). وما قام يربعام بثورة إلاّ بعد أن تحرّك إفرائيمي آخر هو النبي أحيا الشيلوني. إذًا، عاد يربعام إلى بلاده فوجد تحفظّات في محيط صموئيل ضدّ الملكية وذكريات ثورة شابع. فانتقل إلى المعارضة، ولكنّه أجبر على الهرب إلى مصر وسيعود منها فيؤلّف سلالةً اسرائيل الثالثة بعد موت سليمان.

هـ- المدّنية السليمانية
1- العاصمة والمقاطعات
وتوسّعت مدينة داود ببناء القصر والهيكل وردم ملو. وهكذا صارت أورشليم عاصمة حقة. ولكن لا نضخّم الأمور. فهناك مدن مثل حاصور وشكيم وجازر لا تقلّ عنها أهمّية. وسوف نرى منذ موت الملك أنّ بلاط أورشليم بلاط صغير. وإذا قابلنا هيكل أورشليم بهياكل مصر وفينيقية، بدا بناءً صغيرًا. كان في أورشليم كتبة يتعلّمون قراءة الأبجدية السامية، ولكنّ هناك كتبة منذ القرن الثاني عشر في أماكن أخرى مثل قادش برنيع، وهذا ما تشهد عليه الأبجديات التي اكتُشفت في الحفريات. وكانت الإدارة في بدايتها، وقد سارت على النموذج المصري، تستعمل علاماته العددية وطرائق الحكمة فيه. لقد جاءت أورشليم متأخرة، فلم تستطع أن تسيطر من الوجهة الحضارية على المدن التي سبقتها إلى الوجود.
ولم تجتمع هذه الحضارة في أورشليم بل تشتّتت في كل البلاد. وأكبر شاهد على ذلك هو أنّ إدارة المقاطعات تخصّ العائلات العائشة خارج أورشليم. لا شكّ في أنّ التجارة ازدهرت في أيّام سليمان، ولكنّ أورشليم لم تكن مركزًا تجاريًا. أمّا المدن التي تُخزَن فيها الخيرات فهي حاصور، مجدو، جازر، لأنّها أقرب إلى الطرق التي تربط أرض إسرائيل بكيليكية والعقبة ومصر لقد احتفظ الملك بتجارة الخيل يشتريها في كيليكية ويبيعها للمصريين والأراميين (1 مل 10: 28- 30). وأخذ الذهب والفضة يردان إلى أورشليم (1 مل 10: 14- 21) ومعهما سائر الخيرات. ودفعت المقاطعات الضرائب عينًا من أجل نفقات القصر والهيكل. وكما في أوغاريت، كذلك في أورشليم، فالمصادرة أمر طبيعي في مُلكيّات ذلك الزمان. وحقّ الملِك (1 صم 10: 25) الذي نسمعه قولاً نبويًا بلسان صموئيل (1 صم 8: 11- 17: يأخذ بنيكم... بناتكم... عبيدكم... ماشيتكم) أبرز بقوة امكانية المصادرة: الرجال من أجل الحرب وأعمال الزراعة، النساء كعطّارات وطبّاخات وخبّازات، الحقول والبساتين ثمّ عشور كل شيء. وهكذا يصبح الأمير ورجاله عبيدًا وخدّامًا للملك. وسيسمّي التقليد الاشتراعي هذا النمط من المجتمع المكون حسب النموذج الفرعوني، "بيت عبودية".

2- الأعمال الفنية
وازدهرت أعمال الخشب وأعمال الحديد من أجل بناء الهيكل والقصور في أورشليم. استوردوا الخشب من فينيقية، واستخرجوا الحديد من وادي الأردن بين سرتان وسكوت (1 مل 46:7)، والنحاس من خليفة وتمنة عند خليج العقبة. وهناك كانت تُصب المعادن، ثمّ تُحمل إلى أورشليم من أجل الرماح والمشبكات والإبر وكان حي الصنّاع خارج المدينة عند ملتقى وادي قدرون ووادي جهنم. وسيكون العمّال المختصّون عنصرًا هامًّا بين السكان، فيأخذهم المحتلّ إلى أرضه ليعملوا عنده. وازدهرت صناعة الزجاج (الذي لم يكن بعد شفافًا) والجواهر والفخار. لا شكّ في أنّ أشغال الفخار في زمن الحديد الأوّل هذا، نقصتها ألوان العصر السابق وصُوَر العصافير والأسماك التي عرفتها الحقبة الفلسطية. ولكنّها كانت مطبوخة طبخًا جيّدًا، فبدت جميلة الشكل. نحن نجد سرجًا وجرارًا في الأنفاق التي تقود إلى نبع جيحون، وهي التي حُفرت في هذا العصر أو في الذي سبقه.
ورغم ظهور التجارة على نطاق واسع كما في فينيقية، لا نقدر أن نقول إنّ مجتمع سليمان صار مجتمعًا متحضّرًا. فالتوتّر ظاهر بين البلاط والريف أو المقاطعات. فشعب ألارض يؤلّف وحدة من الملاّك والعبيد. كلّهم يقيمون معًا في بيوت واسعة أو ضيّقة. يذهبون إلى العمل في الحقول. ولكنّهم يحسّون كلّهم بثقل الإدارة المركزية ومتطّباتها. لهذا، بدأت المعارضة تترجم تململها ثورةً في القبائل. وحين سترفض الخضوع لأورشليم بعد موت سلمان، لن تُحَل المشكلة، لأنّ يساكر سيثور على أورشليم في أيّام خليفة يربعام المباشر (1 مل 27:15-28).

3- عالم الفكر اللاهوتي
وبدأ تجميع التقاليد القبلية والمحلية القديمة. فأمام هذه البنية الجديدة في الدولة التي تبدو حديثة بالنسبة إلى القبائل والمعاهدات فيما بينها، أحسّ الناس بالحاجة للاطّلاع على ما حصل في الماضي. قد يكون العمل بدأ يوم اقام أبياتر (الذي من قبيلة لاوي) مع داود في صقلاج وفي أرض شمعون، ويوم نزل أيضاً إلى حبرون وممرا. ولكن لمّا جعلت إدارةُ داود أورشليم، عاصمةَ المقاطعات الاثنتي عشرة، وجب الأخذ بعين الاعتبار تقاليد الشمال، ولاسيّمَا تقاليد موسى، (كان أبناوءه في لاييش دان وفي بيت ايل) وتقاليد يشوع الافرائيمي وجدعون المنسّاوي... وكانت كتابات أخرى قديمة مثل الكتابة ضدّ عماليق (خر 17: 14- 15) ونصوص أخرى.
وكانت هناك أيضاً كل التقاليد الدينية المحليّة التي لا نستطيع أن نلغيها بشطبة قلم. اعترف داود بماله واحد مثل موسى، إنّه إله إبراهيم. ولكن هل هذا يعني إلغاء شعائر العبادة في لحي روئي وفي بئر لحي روئي حيث يقيم نسل إسحق وإسماعيل. ثمّ إنّ إبراهيم زرع شجرة اثل باسم إيل عولام في بئر سبع. فكل هذه الأمكنة المقدّسة التي تغذّت فيها التقوى الشعبية لا تدمّر لأنّ الآباء مرّوا فيها. ولكنّ فكرًا لاهوتيًا فرض نفسَه فطبع بطابع فريد إله إسرائيل، الملك الوحيد، الذي يبدو ملك يهوذا مرسلَه الوحيد. لهذا، لا تُحسب العبادات المحلية إلاّ عبادة "ملائكة الرب" الخاضعة له ورسله في الظهورات التقليدية. فإاله القبائل الحربي هو إلإله الوطني وحده، وعرشه هو الآن في هيكل أورشليم. وهكذا ارتسم لاهوت غنيّ يحترم القوى الدينية التقليدية، ولكنّه يظهر متطلّبات من أجل وحدة الإله الوطني الذي يكفل وحدة البلاد السياسية.

4- الكتابات
لقد بدأ المفكّرون في أورشليم يتأمّلون في هذه المسائل، ووجد الكتبة أنفسهم معنيّين بها، لأنّ القضية قضية شرعية السلالة والملك الذي يرتبط بهذه السلالة. ووجد الكتبة نماذجهم في مصر.
وازدهرت أقصوصات ظريفة تعالج بلطافة أخطر مشاكل البلاط: كيف تستطيع الزوجة (مثل رفقة أو بتشابع) أن تنقل الإرث إلى الابن الذي تحبّه (تك 27)؟ كيف يكون الزواج حسب إرادة الله رغم سريّته (تك 24)؟ كيف تفشل الملكية (قض)؟ كيف تظهر حكمة الملك (1 مل 3)؟ ففنّ بناء مشهد سيكولوجي ودراماتيكي هو معطية تاريخية تؤلّف جزءاً من حكمة هؤلاء الكتبة المبنيّة على الخبرة. ولكن إن عرف الكاتب أن يرسم عبر الحوار مشهدًا سياسيًا، فهذا لا يعني أن لا اساس تاريخيًّا لخبره. فحكمة ذلك الزمان تقوم بأن نفتح عيوننا (تك 7:3)، ونحتفظ بتذكّر ونتأمّل فيه، ونرويه بطريقة شيّقة متجنْبين عرض المسائل البشرية عرضاً متحجرًا.
إنّ رسم وجه، وتنظيم حوار، وتقديم أقصوصة، ترجع إلى أساليب البلاغة التي تعلّمها الكتبة في المدارس على خطى كتبة مصر وبلاد الرافدين. وقد بقي لنا من كل هذا الشيء الكثير في التوراة. ثمّ إنّه منذ عهد سليمان، تكوّنت أقوال مأثورة بشكل درفتين متوازيتين كما في المجموعات السومرية والاكادية والحثية والفينيقية. وكانت لوحات صغيرة تعلِّم الوزير العتيد كيف يقدّر الأوضاع. ولا ننسَ أنّ الكهنة كانوا جزءاً من الإدارة (2 صم 8: 17 – 18؛ 25: 25- 26؛ 1 مل 4: 4). هم خدّام الشعائر الموسوية والسليمانية فتعاملوا مع تشعبات وتعقيدات بلاط داود وسليمان. وجدوا أنفسهم بين لوحي الوصايا الموضوعين في الهيكل ومؤامرات بلاط ملكي لا يعرف إلاّ الاضطراب. فكيف سيتصرّفون؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM