الفصل الخامس عشر: الملكية المقسّمة : إسرائيل ويهوذا
 

الفصل الخامس عشر
الملكية المقسّمة : إسرائيل ويهوذا

المقدّمة:
نتطرّق في هذا الفصل إلى المملكتين في أرض كنعان: مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها ترصة ثمّ السامرة، ومملكة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم. ونتوقّف عند حمس محطّات: الأولى: مملكة إسرائيل ومصير يهوذا. الثانية: الحرب الأرامية الإفرائيمية وسقوط السامرة. الثالثة: حزقيا، ملك يهوذا، وخلفاؤه. الرابعة: يوشيا. الخامسة: نهاية المملكة الداودية.
هذه الحقبة هي أغنى الحقبات بالمُعطيات التي نجدها خارجًا عن التوراة: الحوليّات الأشورية، المعطيات الابيغرافية (كتابة منقوشة على مبنى أو تمثال) والأركيولوجية التي اكتشفت في أرض يهوذا وإسرائيل. ولا ننسى أنّ المملكة الحقّة وحضارة بني إسرائيل الأولى هي مملكة إسرائيل، مملكة الشمال، وسترث غناها أورشليم بعد سقوط السامرة سنة 721. ومرّت حقبة سبقت السامرةُ أورشليمَ التي ستُعتبر ضالّة في أيّام عثليا حين كان الملك ياهو ينقّي السامرة ويقوّم مسيرتها. ولكنّنا نستشفّ منذ البداية العلامات السابقة لتقلبات المستقبل. فسلالة يهوذا أكثر ثباتًا من سلالات السامرة، والشعب (شعب الأرض) متعلّق بها. أمّا الشمال فقسّم بين قبائل تعلن كل واحدة منها سلالتها الخاصة. عرفت مملكة الشمال الحرب مع أرام دمشق، قريبتها، ثمّ تأثير فينيقيّي صيدون وصور. وتجاوزت ما فعله سليمان، فدخلت في لعبة المعاهدات والتجارة دون أن تتمتعّ بالسهولة التي يقدّمها البحر المتوسط. وتضاعفت الأزمات السياسية وانضمّت إليها أزمة اجتماعية فكانت السلطة الأدبية في يد الأنبياء لا في يد الملوك.

أ- مملكة إسرائيل ومصير يهوذا
1- ورفضت إسرائيل ملك يهوذا
عرفنا أنّه كان لسلمان نساء عديدات، ولكنّنا لم نعرف الشيء الكثير عن أولاده: بل نحن لا نعرف إلاّ رحبعام ابن نعمة العموّنية (1 مل 14: 31) التي أدخلتها الدبلوماسية إلى بلاط يهوذا. وكان رحبعام ابن 45 سنة حين اعتلى العرش. هذا يعني أنّه وُلد في أيّام داود الأخيرة. قد يكون البكر، ولكن من الممكن أن يكون هناك أبناء آخرون وُلدوا من أمّهات أُخَر وطالبوا بالحكم. وجاء اجتماع شكيم فطلب رحبعام من قبائل الشمال أن يمسحوه ملكًا، وقد أراد من هذا العمل أن يعتمد على وفاق القبائل الواسع فيجدّد ما فعله داود مع شيوخ إسرائيل (2 صم 5: 3) في مكان مرّ فيه إبراهيم ويعقوب (أو إسرائيل) ويشوع. تلك كانت نصيحة مستشاري أبيه الخيّرين.
كنّا نودّ أن نحصل على معلومات أكثر عن هذا الاجتماع، ولكنّ حالة النص (1 مل 12: 2) لا تسمح لنا أن نعرف متى عاد يربعام من منفاه. هل دعته المعارضة، أم هل عاد إلى البلاد حين انفصلت قبائل الشمال عن رحبعام؟ الفرضيّة الثانية أكثر معقولية. ومن الأكيد أنّ الشعب تأخّر في إعلان رحبعام ملكًا، وطلبوا مسبقًا تخفيف الضرائب وأعمال السخرة: تفاجأ الملك بهذا الطلب وطلب مهلة للتفكير. حينذاك تواجهت المدرسة الجديدة (ترك مشورة الشيوخ وتبع مشورة الفتيان) مع المستشارين القدماء. لقد تمثّلت المدرسة الجديدة برفاق الملك في صباه وهم الذين تربّوا في مدارس الكتبة المشدّدة على الايديولوجية الملكية التي تقول: ما يقرّره الملوك هو قول "إلهي" لا يقبل الجدل (رج أم 16: 10: في شفتي الملك كلام وحي). إتّبع رحبعام مشورة الفتيان فكانت الكارثة. ودوّى من جديد صوت ثورة شابع: "لا نصيب لنا مع داود، لا ميراث لنا مع ابن يسّى (ايشاي). إلى خيامكم يا بني إسرائيل. والآن، فانظر لبيتك يا داود" (أي: إهتم بأمور مملكتك) (1 مل 12: 16). وصارت مملكة يهوذا معزولة، وهرب رحبعام إلى أورشليم. ثمّ أرسل أدورام الموّلى على السخرة، فرجموه بالحجارة. وحاول رحبعام أن يعيد القبائل إليه بقوّة السلاح، فواجهته كلمات النبي شمعيا. وأحسّ الملك أن لا قدرة له على ذلك، لاسيّمَا وأنّ يربعام متفق مع شيشانق. ولهذا قرّر الدفاع عن نفسه فبنى سلسلة من الحصون (2 أخ 11: 5- 10) اكتُشفت اليوم بعضُ آثارها.

2- يربعام الإفرائيمي (حوالي 930- 910 ق. م.)
وصار يربعام ملكًا. فكما كان لكل من بنيامين (شاول) ويهوذا (داود، سليمان، رحبعام) سلالة ملكية، هكذا سيكون لإفرائيم. وتصوّر يربعام حكمه على مثال حكم سليمان الذي عرفه حين بنى ملّو. وهذا النموذج السليماني هو نسخة مطابقة للنموذج المصري الذي عرفه يربعام أيضاً يوم كان منفيًا في مصر حافظ على هذه الإيديولوجيا وبنى هياكل ملكية (دان، بيت إيل. رج 1 مل 12: 26- 33؛ عا 13:7) وعيَّن كهنة. وجعل عاصمته في شكيم قبل أن ينقلها إلى ترصة ليكون قريبًا من جلعاد حيث يضايقه المدّ الأرامي.
ومرّ قرنان من الزمن كانت مملكة الشمال الوارث السياسي الحقيقي لمملكة داود، بعد أن ضمّت أقلّه عشر قبائل وقسمًا من بنيامين. وكان أوّل من شعر بالخطر شيشانق الأوّل الذي أرسل حملة على أرض إسرائيل في السنة الخامسة لرحبعام وقبل أن يموت حوالي سنة 925. ونقرأ مسيرة حملته في لائحة الكرنك: عبر أرض إسرائيل طولاً وعرضاً، ولكنّه عفا عن أورشليم مكتفيًا بجزية ثقيلة. كيف نفسّر هذا الأمر؟ أحسّ رحبعام بالتهديد يأتيه من مملكتي موآب وإسرائيل فخضع لشيشانق. إستفاد شيشانق من الوضع الحاضر ليدجّن ملك إسرائيل. ولكن مصر لن تعود في الوقت القريب إلى إسرائيل، بعد أن حكمها الليبيون فضعفت جدًّا.
3- بعشا اليساكري وآسا اليهوذاوي (حوالي 910- 870)
ومات يربعام ورحبعام، الواحد بعد الآخر. ولكنّ ناداب بن يربعام لم يستطع أن يحتفظ بالعرش. قُتل سنة 909 تقريبًا حين كان يقاتل الفلسطيين ويحاصر جبَّتون (1 مل 27:15). وطالت الحرب بين مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا (1 مل 15: 6، 16)، بعد أن اتفَّق الجنوب (مصر، فلسطية، يهوذا) ضدّ الشمال. وظلّت المعارضة حاضرة في أيّام بعشا، قاتل ناداب. مع بعشا جاءت قبيلة يساكر (يزرعيل) واستولت على الحكم في ترصة. وإذ أراد بعشا أن يكون حرا في تحرّكاته، حصّن الرامة التي تقع بين جبعة والمصفاة وتبعد كيلومترين إلى الشمال من أورشليم. وكان ملك يهوذا في ذلك الوقت آسا. فدشّن سياسة سيتبعها خلفاؤه. أراد أن يحرّر حدوده من ضغط مملكة إسرائيل، فدفع جزية لملك دمشق، وطلب منه أن يتدخّل. وكان ملك دمشق في ذلك الوقت طوب رمون، فاحتلّ المدن الحدودية في مملكة إسرائيل: عيون، دان، آبل بيت معكة، ثمّ اجتاز كلّ أرض نفتالي ووصل إلى بحيرة كناروت (1 مل 15: 20). يبدو أنّ بعشا ردّ الملك الأرامي على أعقابه، لأنّ نفتالى ستكون إسرائيلية حوالي سنة 740. وقي هذا الوقت عاد آسا إلى نظام دفاعه، فحصّن جبعة والمصفاة بالحجارة التي كان ملك إسرائيل قد هيّأها من أجل الرامة.

4- بيت عمري
لم تكن سلالة يساكر أطول عمرًا من سلالة إفرائيم. فقام زمري قائد المركبات وقتل ابن بعشا خلال حفلة سكر عند كيل أملاك البلاط. هنا ظهرت اختلافات جديدة. أوّلاً في الجيش: فالجنود الذين يخيّمون حول جبَّتون هتفوا لعمري واستعادوا ترصة فانتحر زمري في ترصة. ثانيًا: وانقسم الشعب قسمين، وقهر عمري تبني ابن جينت الذي لا نعرف عنه شيئًا آخر وكان قسم من البلاد بأكثرية إسرائيلية حول يزرعيل، وقسم آخر بأكثرية كنعانية حول السامرة. واختار عمري القسم الثاني وأسّس عاصمة ثانية هي السامرة بعد أن ملك في ترصة ستّ سنوات. أجل، كانت السامرة في منطقة كنعانية فاندمجت مؤخّرًا مع قبيلة منسى.
كان عمري ملكًا عظيمًا، وقد أسّس سلالة لها اعتبارها في الخارج. وبعد سقوط سلالته ظل الكتبة الأشوريون يسمّون بلاده "بيت عمري". وسيسمّي هؤلاء الكتبة أنفسُهم ابنه أحاب "الاسرائيلي " (سيرئيلايا). وكان أحاب قد دخل في حلف مع الملوك ليواجه شلمنصر الثالث في قرقر سنة 853- 852. وبدأت مملكة إسرائيل مع عمري وأحاب سياسة ناشطة في أرام وفينيقية. تزوّج أحاب إيزابيل بنت اتبعل ملك صور وارتسم اتّفاق وثيق مع صور سيجعل التأثير الفينيقي الديني والتجاري يسيطر على مملكة إسرائيل. نعجب حين لا نرى اسم صيدون وصور في حلف قرقر، بينما نرى أحاب بجانب أرحولاني ملك حماة، ومتان بعل ملك أرواد وهدد عازر ملك دمشق. ولكن لا ننسى أن ملكَيْ صور وصيدا هما بين الملوك الاثني عشر المقيمين على الساحل والذين لم يُذكر أسماؤهم. ونشير أيضاً إلى نشاط عمري وابنه (مسلّة ميشع) في الجنوب: احتلاّ ميدبا وأعادا بناء ياهص، شرقيّ البحر الميّت.
في هذا الوقت أحسّت مملكة يهوذا بالتهديد يأتيها من الشمال والشرق، فدخلت في فلك مملكة إسرائيل. تزوّج يوشافاط (حوالي 870- 848) ابن آسا عثليا أخت يورام (852- 841) وحفيده عمري. تحالف مع مملكتي إسرائيل وأدوم، وقام الثلاثة بحملة على ميشع، ملك موآب الثائر (2 مل 3: 4-27). ولكنّ الحملة رافقها الفشل. وهذا ما أتاح لمملكة أدوم أن تتحرّر من سلطة ملك يهوذا، يورام (848- 841) اليهوذاوي إبن يوشافاط.

5- حزائيل ملك دمشق
وتطوّر الوضع في الشمال، فشكّل خطرًا على مملكة إسرائيل. اعتلى عرش دمشق ملك جديد فبلبل العلاقات الدولية. كان هدّد عازر (هدديري) حليف أحاب في قرقر مع بعض الوحدات العربية: ولكن بين السنة الرابعة عشرة والسنة الثامنة عشرة من عهد شلمنصّر (844- 840) قُتل هدّد عازر (أو ابنه) على يد حزائيل. فقلق شلمنصّر من هذا المغتصب، وأقام الحصار حول دمشق، ولكنّه لم يأخذها، بل تابع طريقه إلى حوران فوصل إلى البحر أجل، لم يتغلّب شلمنصّر على حزائيل. وإذا كان قد امتد إلى حوران، فلكي يضع حدّاً لتوسّعات حزائيل الذي اجتاح شرقيّ الأردن واحتلّ راموت جلعاد. أراد يورام، ملك إسرائيل، أن يستعيد راموت فهُزم وجُرح. وتهدّدت مواقع إسرائيل في شرقي الأردن، وتضايق السكّان كثيرًا (2 مل 12:8 ؛ عا 1 :3). وعمّ الاستياء في صفوف الجيش، فقام القائد ياهو بانقلاب: وصل بسرعة إلى يزرعيل، فقتل هناك يورام وأمّه ايزابيل، كما قتل أحزيا ملك يهوذا وابن عثليا الذي جاء يفتقد قريبه. ثمّ قتل ياهو من تبقّى من العائلة الملكية في السامرة، ولكنّه لم يستطع أن يزيح عثليا عن عرش أورشليم. إلاّ أنّ هذا الانقلاب لم يُعِد الأمور إلى نصابها.
وفي السنة الثامنة عشرة لحكم شلمنصّر (840)، قام الملك الأشوري بحملة على حزائيل، وتسلّم الجزية من صور وصيدون وياهو المسمّى خطأ "ابن عمري". وحاول ياهو أن يهاجم مؤخّرة جيش حزائيل، ولكن حزائيل تغلّب عليه وقع المدّ الأشوري. فعاد شلمنصّر بعد ثلاث سنوات (837)، ولكنّه لم ينحج (لا يذكر النص جزية ياهو). ولن يعود الملك الأشوري فيما بعد، لأنّ عليه أن يحارب في الشمال، ولأنّ الحروب الأهلية أثقلت نهاية ملكه. إذًا صار حزائيل حرا، فاجتاح كل الأرض الواقعة شرقي الأردن (2 مل 10: 33). ولم تتحسّن الحالة في إسرائيل في أيّام يوآحاز (814- 798). هزم حزائيل يوآحاز وحاصر السامرة، وانتهى الحصار بمعاهدة تحدّد القوى الاسرائيلية بخمسين فارسًا وعشر مركبات وعشرة آلاف من المشاة (2 مل 7:13). وتضمّنت المعاهدة التخلّي عن بعض المدن وامتيازات تجارية في السامرة عينها.

6- يوآش ملك إسرائيل وبربعام الثاني
وتحسَّن الوضع في أيّام يوآش ملك إسرائيل. قلق هدد نيراري الثالث (815- 783) ابن عورمات (عيراميس) من تقدّم حزائيل ومن طموحات ابنه بن هدد (مسلة زكور)، فعاد يتدخّل في سورية. وقد رأى فيه بعضهم المحرّر الذي لم يُذكَر اسمه في 2 مل 13: 5. هجم بن هدّد على مملكة اسرائيل، وحاصر السامرة مرّة ثانية، ولكنّه فشل، بل انهزم في أفيق (2 مل 17:13 ؛ رج 1 مل 26:20): تدخّل هدد نيراري، فهرب الملك الأرامي، ولكنّ يوآش ملك إسرائيل أجبر على دفع الجزية لملك أشور. استعاد يوآش المدن التي تخلّى عنها يوآحاز، وحصل من دمشق على امتيازات تجارية تقابل تلك التي قدّمها يوآحاز لحزائيل في السامرة (2 مل 13: 25؛ رج 1 مل 20: 34). وعم الاستياء الحزب النبوي الذي كان روح المقاومة الوطنية مع اليشاع، تلميذ إيليّا. وقف أليشاع بقرب ملك ضعيف، ولكنّ يوآش لم يُنهِ ضرب أرام. فقد أحسّ بالخطر الأشوري، كما أحسّ به أحاب قبله. ووجب على يوآش أن يواجه ما يحصل في الجنوب. إستفادت مملكة يهوذا من مصائب مملكة إسرائيل، فتخلّصت من تسلّطها. وخلال السبع سنوات التي فيها حكمت عثليا في أورشليم بعد مقتل عائلتها على يد ياهو، فتُرت العلاقات بين السامرة وأورشليم. ولكن ستُقتل عثليا، وقد تكون مملكة إسرائيل لعبت دورًا في مقتلها. واعتلى ابنها يوآش العرش بفضل تفاهم بين العسكر والكهنة في أورشليم (2 مل 11). وحين اجتاح حزائيل السامرة ونصب خيامه أمام جت، خضع يوآش ودفع جزية أخذها من بيت الرب في أورشليم. فتوتّرت العلاقات بين يوآش كهنة أورشليم (2 أخ 17:24- 22)، انتهى بمقتل الملك على يد وزيريه (2 مل 12: 21- 22) يوزاكار ابن شمعت ويوزاباد ابن شومير. فخلفه ابنه أمصيا الذي تغلّب على الأدوميين فثأر لهزيمة جده يورام (2 مل 7:14؛ رج 8: 20)، وتحدّى يوآش ملك إسرائيل. لقد اتفق مع بن هددكما اتّفق آسا مع بنهدد الأوّل ضدّ بعشا ملك إسرائيل. ولكن قُهر أمصيا وأُسر في بيت شمس (حوالي 790). وأُخذت أورشليم وهُدمت أسوارها (2 مل 14 : 13 ؛ رج عا 9: 11).
وسيطرت السامرة على المنطقة نصف قرن، منذ نهاية عهد يوآش وخلال الزمن الطويل الذي فيه ملك يربعام الثاني. إستعاد يربعام الأراضي التي خسرها آباؤه من ليبو حماة إلى بحر العربة أو البحر الميت (2 مل 14: 25؛ رج عا 6: 14) حيث واجهته هجومات موآبية (2 مل 13: 20). وبعد أن أخضع مملكة يهوذا، تركها تعيد بناء إيلات على حساب أدوم (2 مل 14: 22)، ومنحها، على ما يبدو، بعض التعويضات على حساب دمشق (2 مل 28:14). كل هذا جعل العلاقات تتحسّن بين يهوذا (عزري ياهو) وملك اشور بعد سنة 745.

7- إنحطاط مملكة إسرائيل
عرفت مملكة إسرائيل توسّعًا حقيقيًا، ولكنّ الجراح التي سبّبتها الحروب الأرامية لم تلتئم تمامًا. ثمّ إنّ تأثير صور وتجارتها وأساليب الحكم فيها، أثّرت في الإدارة تأثيرًا سلبيًا. فقد قام إيليّا التشبي (الذي من شرق الأردن) على إيزابيل وتأثير صور في السامرة. لقد تحوّلت المؤسّسة النبوية، فلم يعد النبي ذلك الذي يُعطي الملوك قول وحي في هذا الظرف أو ذاك، كما يفعل الأنبياء مع ملوك ماري، ومع زكير بعل في جبيل في القرن الحادي عشر، ومع زكور في حماة في القرن التاسع، ومع ملك إسرائيل الذي يقود حملة على راموت جلعاد (1 مل 22). فهناك أنبياء جسّدوا آمال الأمّة وتقاليدها على حساب الملك. وإنّ أليشاع، تلميذ إيليّا، هو نبيّ سلالة ياهو. إنّه بقربه في الريف أو في البلاط، وهو يجترح معجزات يتعرّف إليها الشعب. ويشارك اليشاع في الضيق الذي حلّ بالبلاد في أيّام يوآحاز، كما كان رسول النصر على دمشق في أيّام يوآش، ملك إسرائيل. الناس يستعدون ليسمعوا النبي الذي يعطي كلمة الله. إنّه يلعب دور الوسيط، ساعة يتخلّى الملك عن لعب دوره.
وغاب الملك، وسيكون النبي هوشع الشاهد على هذا الغياب. منذ موت يربعام الثاني، توالت موآمرات كان الملوك ضحيّتها. قال هوشع (7: 4- 7) في هذا المجال: "يسلّون الملك بحيلتهم والأمراء بكذبهم. يُشعلون النار كتنور تحميه يدُ الخبّاز حين تنام المدينة، ويُعجن الدقيق إلى أن يختمر في الصباح. جعل الأمراءُ ملكنَا مريضاً من سورة الخمر، كارس السلطةَ الساخرون. صدرهم مثل تنور وقلبهم مليء بالفخاخ. يَرقد غضبُهم طوال الليل وفي الصباح يتأجّج كنار ملتهبة. كلّهم قد حموا كالتنّور وأكلوا قضاتهم ؛ جميع ملوكهم سقطوا". وهكذا ستزول الملكية كما قال الرب بلسان نبيّه: "أعطيتك ملكًا في غضي، وها أنا أستعيده في غيظي " (هو 13: 11).
صار الملك ضعيفًا (هو 10: 7؛ 13: 10) في الداخل وفي الخارج. في الداخل التجار غشّاشون (عا 8: 4- 6)، والقضاة فاسدون (عا 2: 6- 7)، ونساؤهم تدفعهم إلى ذلك. الكهنة يُباعون (هو 4: 4- 10) والذين وجب عليهم أن يمُارسوا العدل والاستقامة يحوّلون الحق إلى سمّ والعدالة إلى علقم (عا 6: 12؛ رج هو 10: 12). وليست الحالة في الجنوب أفضل منها في الشمال (مي 3: 9- 11؛ أش 8:5). فالتعارض ظاهر بين الأغنياء والفقراء، والطبقات الموسرة ليست مريضة من جرح يوسف (عا 6:6). يتنعّم الأغنياء (عا 6: 4)، ويستغلّون الفقراء (عا 2: 6، 8: 4). كيف تحطّم المجتمع الاسرائيلي الذي عرف الوحدة في أيّام أليشاع والقوّة في زمن حزائيل؟ تأثير التجارة مع أرباحها جرّت السامرة إلى هذه الحالة. قد تكون هذه خطيئة صور، ولكنّها ليست خطيئتها وحدها (عا 1 : 9 ) .
وعرف عاموس الوضع الخارجي والدولي، فحكم باسم الرب على جيران إسرائيل، كما حكم على مملكة إسرائيل نفسها. وحين مات يربعام الثاني، كانت المنصة كلّها في أزمة. وإذ أرادت أشورية أن توقف مدَّ جيرانها في الشمال (اورارتو، المادايون)، اجتاحت سورية وضمّت إليها مدنها، فاضطرب التوازن السياسي في المنطقة.

ب- الحرب الأرامية الإفرائيمية وسقوط السامرة
كانت هذه الحرب حدثًا هامًا في اللعبة الدبلوماسية في الشرق الأوسط. ولكنّ شخصية ملك أشورية تجلت فلاسر الذي اعتلى العرش سنة 745 ق. م.، ستجعلها تنتج نتائج غير منتظرة. وحين ينتهي أمر مملكة دمشق، تكون خارطة جديدة قد ارتسمت. تبع هذه النهاية دمارُ مملكة إسرائيل، فطرح هذا الدمار أسئلة لاهوتية جديدة على الضمير الديني في إسرائيل، وأبرز اتجاهًا جديدًا في الشعب كلّه. إنّ النصوص الأشورية (حوليّات تجلت فلاسر الثالث، لائحة باسماء المدن) تعطينا إطارًا دقيقًا يتيح لنا أن نحدّد موقع الأحداث التي تفترضها أسفار الأنبياء (عاموس، هوشع، أشعيا) والملوك والاخبار.

1- تجلت فلاسر الثالث في سورية
في سنة 743، ظهر تجلت فلاسر في سورية وقام بحملة على أرفاد وفي منطقة حماة (عا 2:6؛ رج اش 9:10). ثم وضع يده على مدن "عزرياهو في يهوذي " الذي هو عزريا ملك يهوذا والذي يسمّى أيضاً عزيّا. بعد هذه الأحداث، مات يربعام الثاني وعزيا (أو عزريا). وبعد موت يربعام، قُتِل ابنه. أمّا شلّوم قاتله، فقُتل بعد شهر بيد مناحيم الذي صار ملكًا. واعتلى مناحيم العرش سنة 732، أي حين اخذت كولاني (كلنة في العبرية. رج عا 2:6 ؛ أش 9:10). ولكنّ سلطته بدت مترجرجة، ولهذا سيدفع الجزية لتجلت فلاسر الثالث (2 مل 15: 19) مع راصون ملك دمشق وحيرام ملك صور. وسيثبّت مناحيم سلطته، وسيبقى حيًّا حين يخلف طوبائيل حيرام على عرش صور سنة 736. سيموت بعد ذلك الوقت بقليل، ويخلفه ابنه فقحيا الذي سيقتله فاقح. حين بدأ فاقح ملكَه، قطعَ العلاقات مع أشورية، ودشّن سياسة تفاهم وثيق مع راصون ملك دمشق، ليجابه المدّ الاشوري. هذا ما فعله أحاب وهدد عازر ضدّ شلمنصر وتكوّن حلف بمساندة الفينيقين والفلسطين، ولكن ملك يهوذا رفض الدخول فيه. فقد كان يوتام ابن عزيا الوصي على العرش لأنّ والده أصيب بالبرص. وسيُصبح الملكَ وحده بعد سنة 736، وكان والده قد مات بعد فقحيا (2 مل 27:15).
لماذا هذه المقاومة؟ لسنا أمام مسألة أخلاقية، ومملكة يهوذا لا تقيم اعتبارًا للعدالة الاجتماعية أكثر من مملكة إسرائيل. ولسنا أمام صداقات تقليدية بين كتبة أورشليم وكتبة مصر، لأنّ مصر قلقة من الامتداد الأشوري، والسامرة تتأرجح بين الحماية الأشورية (مناحيم) وبين الحماية المصرية (هو 13:5؛ 7: 11). نحن أمام تقليد سياسي في يهوذا يحاول أن يلعب دور التوازن مع إسرائيل. لهذا دعت مملكة يهوذا قوى الشمال إلى نجدتها. أجل، لقد انتهى التوتّربين تجلت فلاسر وعزريا حين قدّم عزريا خضوعه للملك الأشوري. وهنا نفهم موقع كرازة عاموس التقوعي الذي جاء يحذّر مملكة إسرائيل من الخطر الآتي من الشمال (عا 5: 27) ومن سرعة التدخّل الأشوري.

2- نهاية مملكة إسرائيل
منذ سنة 734، كان تجلت فلاص في فلسطية (لائحة بأسماء أشورية. رج عا 6: 2). لقد كانت جيوش السامرة قد اجتاحت أرض يهوذا (مي 1: 6، 10- 15)، واستعاد الأدوميون إيلات بمعاونة ملك دمشق (2 مل 16: 6). ها هو أدوم يلاحق أخاه (عا 1: 11)، وصارت أورشليم مدينة محاصرة (أش 7: 1- 2). أراد المتحالفون أن يضعوا حدًّا لسلالة داود المعاندة والتي خسرت شعبيتها، ويضعوا على العرش أحد أبناء طابئيل الصوري (اش 7: 6). ولكنّ صور خضعت للأشوريين منذ مجيء تجلت فلاسر فلم تعد خصمًا في النصوص الأشورية. ثمّ إنّ حيرام جديدًا حلّ محلّ طابئيل.
حين احتلّ الملك الأشوري الساحل، غيّر المعطيات، ولكنّه لم يحلّ المشكلة. وهو سيحتاج إلى حملتين (سنة 733 وسنة 732) ليتغلّب على دمشق ويستولي على غزّة ضدّ ملكها حنون، ويقسم مملكة إسرائيل. كانت مملكة يهوذا الضحيّة فصارت متعدّية: بدلّت الحدود مع السامرة لمصلحتها (هو 5: 10). ومنذ سنة 732 بل منذ سنة 733، خسرت مملكة السامرة ثلاث مقاطعات: الجليل، جلعاد، الساحل في جنوب الكرمل (أش 8: 32؛ رج 2 مل 15: 29). وصارت هذه المقاطعات أقاليم أشورية. وكانت ثورة في قصر السامرة. قُتل فاقح، وحلّ محلّه هوشع الذي عاد إلى سياسة موالية للأشوريين. وبعد سقوط دمشق (2 مل 16: 10) جاء أحاز بدوره فقدم خضوعه للملك الأشوري الذي سيموت سنة 727 ق. م..
وفي تلك الأثناء، أي في السنة الثالثة لهوشع ملك إسرائيل (2 مل 18: 1، 9)، أشرك أحاز حزقيا في العرش، وقد أشار أش 9: 5- 6 إلى هذا الاحتفال. ولكنّ الوضع ما زال يبعث على القلق. فالفلسطيون يشعرون بقوة العهد المقطوع بين يهوذا وأشورية، لاسيّمَا وأنّ تجلت فلاسر سلّم إلى رجل عربي (اديبي ايلو) حدود يهوذا مع مصر (نحل مصر). واستعدّت دمشق للثورة، واحتفظ هوشع بمكانته في بلد لم يقبل بهزيمته وتقسيم أرضه (أش 2: 6 ي؛ 9: 7- 9). وخافت مملكة يهوذا أن يحيط بها أعداؤها، لأنّ الملك المصري تفنخت تحرّر من النوبي الذي وصل إلى الدلتا. كان اسم هذا الفرعون سوء (2 مل 17: 4) أو سيئا أو سيئجب (سيبا أو سيفا في النصوص الأشورية). تآمر مع هوشع الذي استمع إلى رسله وبعث إليه برسله.
بدت الجزية ثقيلة في بلد دمّره الاجتياح. لهذا رفض هوشع أن يدفعها عند موت تجلت فلاسر فجاء شلمنصر الخامس (727- 722) فأسر وأخذه إلى المنفى في أشوريا. منذ سنة 725، حُرمت السامرة من ملكها (هو 3:10، يقولون: ليس لنا ملك)، ولكنّها قاومت حتّى كانون الأوّل سنة 722 ولم تتلقّ مساعدة من أورشليم. فالملك أحاز اتّبع سياسة موالية لأشور على خطى عزيا ويوتام حتى موته سنة 716- 715.

ج- حزقيا، ملك يهوذا، وخلفاؤه
كمان حزقيا ابن أحاز (2 مل 18: 1)0 اعتلى العرش في السنة الثالثة لهوشع، ملك إسرائيل، أي حوالي سنة 729. في ذلك الوقت أشرك أحاز ابنه في الملك في أوقات صعبة تعيشها المملكة. لهذا أعلن أشعيا أنّ سلالة داود هي نور خلاص للمقاطعات الثلاث التي ضمّها الحاكم الأشوري (أش 8: 23؛ 9: 5- 6). وحين ثارت السامرة على سرجون سنة 721 وانتهت ثورتها بإجلاء السكّان، لم يتحرّك ملك يهوذا. وكان في عمله هذا فطنًا، لأنّ سرجون أقام في فلسطية بعد أن ردّ هجوم ملك مصر شلكاني أو اوزوكون الرابع أو بوطوريس ابن تفنخت. وجعل سرجون في مدينة لابان (قرب نهر مصر) "شيخا" (نسيكو)، فأحسّت فلسطية بقبضة أشورية وحليفها يهوذا. وصارت غزة ورفية مدينتين محتلّتين.

1- حزقيا يملك وحده
وحين مات أحاز تبدّلت المعطيات (أش 14: 28- 32). فدشّن حزقيا سياسة جديدة ستفرح فلسطية. استقبل اللاجئين الآتين من مملكة الشمال (اش 14: 32) الذين لا يريدون أن يخضعوا لأشورية وآلهتها. وتكوّن حيّ جديد عند منحدر تلّ الهيكل: هي "ابنة صهيون". وكان يحمي هذا الحي الجديد سور. وأمل اللاجئون أن يخرجوا من هناك منتصرين وينضمّوا إلى الملك البابلي مروداك بلادان (مي 4: 10). هذا الحي الجديد هو المكتيش الذي يذكره صف 1: 11، والمشنة (أي الحيّ الجديد أو القسم الثاني) الذي يذكره 2 مل 14:22. وقام حزقيا بإصلاح كبير (2 مل 45:18). سيكون ميخا نبيّه المسموع (ار 96: 12)، وهو الذي كان قد ندّد بالحكم في السامرة وأورشليم (مي 3: 9-12).
أمّا أشعيا فبدا متردّدًا، وهو العارف بضعف مصر المقسّمة (1 ش 18: 19) والتي يحاول بيانخي أن يستعيد السلطة فيها انطلاقًا من الجنوب. لهذا تحالف معِ الأشوريين ضدّ سائيس: أمّا سرجون فكان منشغلاً في الشمال، ولهذا لم يتجاوب معه حالاً، غير أنّه كانت له القوّة التي تسمح له بأن يضع يده على أشدود منذ سنة 713 ويخلع ملكها عزوري ويحلّ محلّه أخاه أحيميتي الذي يوحي بالثقة. ولكنّ الأشدوديين طردوا أحيميتي وأحلّوا محلّه يماني. كان سرجون منشغلاً في بابل، فلم يأتِ بنفسه (اش 21: 1- 10). فأرسل قائد جيشه (ترتان، رج اش 20: 1) لينهي أيّام حلف يضم يهوذا وأدوم وموآب وملك الدلتا المصري "الذي لا يستطع أن يخلّصهم "، كما يقول الكرونيكون الأشوري. كل هؤلاء تآمروا بالشر على أشورية. ولجأ أشعيا إلى الوسائل الكبرى ليمنع الشعب من الحماس (أش 20: 1 - 6). وهُزمت مملكة يهوذا بدون تعب (أش 22: 1- 14). ولكنّ سرجون لم يتابع انتصاره، لأنّه أجبر على الرجوع لاستعادة بابل ضدّ مردوك بلادان (710 ق. م.). أمّا حزقيا ففهم الأمثولة. بدّل قيّم البيت (أي الوزير الأول)، فحلّ الياقيم محلّ شبنا (أش 22: 15- 23؛ رج 2 مل 18:18).

2- حزقيا وسنحاربب
في سنة 705 مات سنحاريب بعد أن قتله جندي ني ساحة المعركة، فعصّت الثورة على أشورية. استعاد مردوك بلادان سلطته على بابل تسعة أشهر وأرسل بعثة إلى حزقيا ليستطع إمكاناته (أش 39؛ رج 2 مل 20: 12- 19). وحصّن الملك أورشليم وضم "المشنة" أو الحي الجديد، إلى أورشليم، وحفر قناة سلوام. وتنظّم حلف كبير بقيادة الفرعون الحبشي شباكة. وهكذا استعاد الفرعون سياسة مصر التقليدية. كان لولي الصيدوني محرّك هذه السياسة مع صدقي الأشقلوني الذي أزال الملك السابق شارولوداري، ومعِ حزقيا الذي قِبَل أن يحتفظ بفادي، ملك عقرون، في السجن لديه. فاتّخذ أشعيا موقفَا معارضاً لهذه السياسة (أش 30: 1- 7؛ 31: 1- 3)، وتنبّأ لها بالفشل. وفي الواقع، قام سنحاريب، خلف سرجون، فقهر بابل منذ سنة 753، وأخضع فينيقية سنة 702 فقدّمت له الجزية والهدايا. ثمّ هزم المصريين في ألتقيح على شاطئ فلسطية، وأعاد الملوك الذين أخلصوا له إلى عرشهم: أعاد فادي إلى عقرون، وشارولو داري إلى أشقلون، وميتنتي إلى أشدود، وسيليبال إلى غزة. واجتاح أرض يهوذا، فانعزلت أورشليم وصارت مثل "كوخ وسط البرية" (أش 1: 5-8 ؛ 29: أي)، وسُجن حزقيا "كعصفور في قفصه "كما تقول الحوليّات الأشورية. وفرض سنحاريب معاهدة قاسمة على حزقيا، فاقتطع 46 مدينة، وسلّمها الى الفلسطيين الذين ظلّوا أمناء له كما تقول الحوليّات (2 مل 13:18- 16). أقام سنحاريب في لاكيش وزاد طلباته محاصرًا أورشليم. ولكنّ أورشليم نجت بمعجزة. فعاد سنحاريب إلى أشورية مع جيش أبيد بالوباء. ويبدو أنّه لم يعد ثانية. أمّا ألياقيم الذي شارك في المفاوضات مع أشور، فقد عزل من منصبه (2 مل 18: 26؛ أش 22: 25).
ظلّ أشعيا أمينًا للسلالة الداودية رغم انتقاده للحكم القائم، وشجّع السكّان في ساعة الخطر، ولهذا كانت أقواله الأخيرة موجّهة إلى إعادة العدالة داخل المملكة لا إلى خلاص الإخوة في مملكة الشمال. وأنهى حزقيا ملكه خاضعًا لملك أشور، ولكنّه وجّه مملكة يهوذا إلى مصالحة مع الشمال.

3- في ظلال أشور
أسند أشعيا حزقيا في الساعات الحرجة. كان قد انتظر الكثير منه في أيّام يوتام وأحاز، ولكنّه ابتعد عنه وعن وزارئه "الحكماء" (أش 5: 21؛ 29: 14) بسبب سياسته الداخلية. وكان قد ندَّد بالشيوخ والأمراء (أي ضبّاط المملكة الكبار) خلال فوضى الحرب الأرامية الإفرائيمية يوم كان أحاز بعد وصيًا على العرش (أش 3: 12). وقام مع ميخا المورشتي على المحتكرين (أش 5: 8، مي 2: 1- 2) والقضاة الجشعين (أش 10: 1- 5؛ مي 3: 9- 11). كان ميخا ابن الريف، وقد تأثر بلدُه بالحروب، فبدا حاقدًا على أورشليم وأنبأ بدمارها. ولكنّ حزقيا تقرّب منه حين صار ملكًا (رج ار 26: 19). أمّا أشعيا فظلّ رافضاً لهذه السياسة (أش 14: 28- 29)، وعارض بقوة مشاريع التحالف المعادي للأشوريين. اعتبر أنّ البلاد ليست مقدّسة (أي: سائرة حسب شريعة الرب)، وأنّ على المشاريع السياسية أن تبدأ باعادة العدالة والهدوء (اش 30: 15 ي). نحن نعجب حين نقابل القول الملكي في أش 9: 5- 6 والمركّز على منظورات خلاص سياسي مع أش 11: 1- 9 حيث يُدعى فرع يسّى ليتمنطق السيف، لا من أجل حملة عسكرية، بل ليؤمّن العدالة والمساواة لوضعاء البلاد ويجعل التوافق سائدًا بين الفئات المتصارعة. ولكنّ هذا لم يتحقّق، كما يقول كتاب الملوك. وسيكون منسّى ضعيفًا مثل أبيه خلال أيّام ملكه الطويلة. وصلت أشورية إلى أقصى قوّتها مع أسرحدون وسنوات أشور بانيبال الأولى. فقد جاءت الجيوش الأشورية إلى شاطئ البحر المتوسط وهاجمت مصر وأخذت ممفيس (سنة 671) من طهرقة، كما أخذت طيبة سنة 664. سكت الأنبياء ودخلت الأزياء الأشورية حتّى إلى أورشليم (صف 1: 4- 9). كان أسرحدون ملكًا قلق على مصيره، فسعى إلى تأمين خلافته بمعاهدات تجعل الملوك تابعين له، وإن خانوه تحلّ عليهم لعنات الآلهة. عقد عهدًا مع بعل صور وتسلّم الجزية. وهكذا فعل أيضاً مع منسّى، ملك يهوذا، وسيليبال ملك غزة وملوك أخرى. وحين انشغل أشور بانيبال بثورات بابل وعيلام واستقل بساميتيك الأوّل في سائيس، حاول منسّى أن يستقل، ولكنّه عاد فخضع.

د- يوشيا
1- مقتل آمون
واعتلى أمون ابن منسى ووالد يوشيا، العرش حوالي سنة 641. وكان أشور بانيبال في أوج مجده، فجاء إلى شوش سنة 640 وسلبها. بعد سنة 639- 638 سكتت الحوليّات الأشورية سكوتًا طويلاً. فالمادايون والفرس قد احتلّوا عيلام القديم. وفي الغرب استقل بساميتيك الأوّل، وعقد مع جوجس (جوجو، جوج) محادثات لم ترق لنينوى عاصمة الأشوربين. وحوالي سنة 639، حاول بساميتيك أن يتوسّع فاحتلّ فلسطية مع أشدود التي حاصرها 29 سنة. في تلك الأثناء قُتل أمون على يد ضبّاطه (2 مل 23:21). فالحزب الموالي لمصر ظلَّ قويًّا في أورشليم، فاتفق مع بساميتيك وأنهى حُكم أمون. ولكنّ أشورية لم تزل قوّية خاصّة مع الوحدات الأسكوتية الذين سيُخلصون لأسيادهم حتى الأشهر الأخيرة التي سبقت سقوط نينوى سنة 612. وقد علم هيرودوتس من كهنة الهياكل المصرية الذين تأثّروا بحريق هيكل أشقلون على يد الإسكوتيين، فتحدّث عن تسلّط الإسكوتيين خلال 28 سنة. أمّا شعب الأرض فظلّ مواليًا للسلالة الداودية فلم يساند المتآمرين، فعمل من أجل يوشيا الصغير الذي كان عمره ثماني سنوات حين اعتلى العرش. وسيطر الحزب الموالي لأشور على الحكم خلال قصور يوشيا (2 مل 21 : 23 ؛ رج ار 18:2). والإطار الدولي الذي يفترضه سفر صفنيا (2: 4- 15) يوافق هذه الحقبة وما حملت من آمال. وهو لا يذكر مصر إلاّ من خلال نكبة السلالة الحبشية (صف 2: 12؛ 3: 10) التي ظلّت عالقة في كلّ ذاكرة. وإنّ مصائب فلسطية (صف 2: 4- 7) تعود إلى الهجوم الذي قام به بساميتيك وفشل. كان المؤابيون والعمونيون خصوم أورشليم وقد ظلّوا على إخلاصهم لأشورية (رج تث 23: 4- 5)، أمّا الأدوميون والمصريون فهم أهل للمديح كما في تث 8:23.

2- إصلاح يوشيا
ومات أشور بانيبال حوالي سنة 629 (لم تحدّد بعد سنة وفاته)، فأجبر خلفاؤه أشور إتيل إيلاني، سين سكوم ليشير، سين شارإيسكون، أن يواجهوا وضعًا تزداد صعوبته يومًا بعد يوم. وفي سنة 627- 626، إستعاد نبو فلاسر استقلال بابل. في هذا الوقت دعا الرب إرميا. وإذا عدنا إلى 2 أخ 34: 3، نرى أن يوشيا بدأ إصلاحا في خط الأمانة للإله الوطني حوالي سنة 628- 627، وفي السنة الثانية لملكه. ولكنّه سينتظر سنة 622 أي السنة الثامنة عشرة لملكه، ليحكم على ضعف أشورية ويبدأ بسياسة وطنية وإصلاح ديني نشيط. لقد تأسّس هذا الإصلاح على سفر التثنية الذي اكتُشف في الهيكل.
تقول الدراسات الحديثة إن نصّ التثنية هو مجموعة شرائع حملها اللاجئون من الشمال. ومن الغريب ان يكون الكهنة قد ذهبوا إلى نبية تقيم في حي اللاجئين، في المشنة، يسألونها عمّ يفعلون. لقد جُمعت الشرائع باسم تركيز شعائر العبادة في معبد "مختار"، بالنظر إلى ملك "اختاره" الرب من بني إسرائيل، لا من الغرباء (تث 17: 15). ولا يمكن أن تكون هذه السلالة الوطنية إلاّ سلالة داود، ولا يمكن أن يكون الهيكل إلاّ ذلك الذي بناه ابن داود (إر 31: 6، 12 ؛ 30: 9؛ هو 3: 5). وافق هذا النصّ موافقة تامّة نظرة يوشيا وحكومته التي استفادت من تضعضع أشورية لتعيد وحدة القبائل الاثنتي عشرة حول سلالة داود وعاصمتها وهيكلها.
لا تقول لنا الحوليات البابلية شيئًا خاصاً عن السنة 622- 621. من الممكن أن يكون يوشيا قد ضمّ إلى عاصمته مملكة الشمال القديمة. فقد أزال مذبح بيت إيل، بل سائر مذابح مدن السامرة (2 مل 23: 19). وسيحاول أن يتصدّى لملك مصر في مجدّو، قرب الكرمل، فيقتله ملك مصر (2 مل 23: 29 ي). وإنّ سياسة التوحيد هذه المؤسّسة على دستور صار شريعة دولة بعد أن استلهم العوائد الآتية من الشمال، قد اصطدمت بمعارضات خطيرة. فقبائل الشمال لا تزال تذكر بمرارة سياسة ملوك يهوذا: سليمان، رحبعام، آسا، امصيا، أحاز، وسيكون النبي هوشع صدى لهذه الخلافات: "انفخوا في البوق في جبعة، وفي النفير في رامة. اهرعوا إلى بيت آون، تحرّكوا للقتال يا بني بنيامين. بيت إفرائيم يصيرون خرابًا حين أؤدّبهم. ما أعلنه لكم، يا بني إسرائيل، لا بدّ من وقوعه. رؤساء بيت يهوذا يزرعون لصالحهم تخوم بني إفرائيم، فسأصبّ غيظي عليهم كالماء. بيت إفرائيم مظلومون وحقّهم مهضوم " (هو 8:5- 11).
بعد هذا، انغلقت قبائل الشمال على معابدها وأبعالها المحلية. ولمّا جاء السكان الأغراب الذين جلاهم ملوك أشور، إزداد الطابع التلفيقي على ديانة السامرة بسبب كهنة مشكوك فيهم (2 مل 17: 24- 34). كل هذا جرّ الشعب بعيدًا عن سلالة داود وتقاليد أورشليم الدينية. وأحاط يوشيا نفسه بمجموعة من المعلّمين مثل شافان أمين سر الدولة، وأحيقام ابنه، وعكبور بن ميخا، وعسايا (2 مل 22: 12). وإنّ المفوّضين الذين أرسلهم يوشيا ليدمّروا المذابح المشرفة، ويزيلوا الكهنة المحليين، أحسّوا حالاً بالمقاومة والمعارضة. وفي بعض الأمكنة، وجدوا لهم سندًا لدى السكّان المحلّيين. وفي بنيامين (الذي ضُمَّ إلى يهوذا)، تحزّب إرميا (كان من كهنة عناتوت المحليين) للفريق الذي يدمّر المعبد المحلّي، فانصبّ عليه غضب عائلته وكاد يُقتلَ (إر 11: 21؛ 12: 6). وإنّ كثيرًا من أقوال إرميا (ف 30- 31) التي تصيب السامرة وإفرائيم، تجد مكانها في كرازة إرميا الموجّهة إلى أهل الرامة وإفرائيم ليجعلهم يقبلون بالإصلاح الاشتراعي. أجل، سيجتمع الناس في السامرة وسيحجون إلى صهيون (إر 31: 6، 12). وهناك أقوال في إرميا 2- 3 تتوجّه إلى إسرائيل، لا إلى يهوذا، وهي ترتبط بهذه الكرازة عينها. وبالنظر إلى الإمكانات التي منحها سفر التثنية، فقد جاء إرميا وأقام في أورشليم ونعِم بصداقة حزب المصلحين الذين سيسندونه في الأوقات الحرجة (ار 26: 24). ولكنّ حقوقه كانت محدودة في شعائر العبادة في الهيكل، شأنه في ذلك شأن سائر اللاويين (2 مل 23: 9)، وسيصطدم بكهنة أورشليم (إر 20: 1ي، 26: 1 ي؛ 28: 1 ي). ما رآه في أورشليم دلّه على اتّساع الفساد (إر 5: 1 ي) وعلى قوة المعارضة لسياسة يوشيا.

3- يهوذا ونهاية أشور
وجاءت الضربة القاضية من الخارج، من مصر. يعلمنا الكرونيكون البابلي أنّه منذ سنة 616 بدّلت مصر سياستها وجاءت تسند في الحرب أشورية الضعيفة العاجزة. ثبتت وحداتُ الاسكوتيين في أشدود وغزة. ولكن تسارعت الأحداث. ففي سنة 615 فشل نبو فلاسر أمام أشورية، ولكن في سنة 614 احتل كواكساريس (ثالث ملوك ماداي من 633 إلى 584) المدينة وانضمّ إليه البابليون. وفي الأشهر التي تلت، ترك أومان مندا (بمن فيهم الاسكوتيون الذين يذكرهم هيرود وتس) الأشوريين. وسقطت نينوى (راجع أقوال النبي ناحوم) سنة 612 بعد حصار دام ثلاثة أشهر.
قُتل الملك سين شار إيشكون، أمّا أشور أو باليت، آخر ملوك أشور، فتراجع إلى حاران حيث قاوم أربع سنوات. انتظر معونة مصر، ولكنّ مصر لم تأت قبل سنة 610 كما يقول الكرونيكون البابلي، وذلك بسبب شيخوخة بساميتيك. ولكن سقطت حاران وما استطاعت الجيوش الأشورية والمصرية أن تستعيدها، وفي سنة 609 تدخلت الجيوش المصرية الكثيرة. ولكن لم يعد من وجود لأشور أو باليت ولا لبساميتيك. فقد اعتلى نكو الثاني العرش واحتلّ غزة، وكأنّي به يتقاسم والبابليين أسلاب الأشوريين. غير أنّ كتاب الملوك يقول إنِّ الفرعون صعد نحو أشور (2 مل 29:23)، فتصدّى له يوشيا. وهكذا مات يوشيا في مجدو سنة 609.

هـ- نهاية المملكة الداودية
1- الحماية المصرية
إستطاع الجيش اليهوذاوي أن يحمل جثمان يوشيا إلى أورشليم، ولم يكن الوقت كافيًا لنكو حتّى ينظّم أحوال يهوذا. ولهذا حاول حزب الإصلاح أن يتابع سياسة الملك الميت. فأبعد الابن الأكبر (الياقيم) الذي لا يوحي بالثقة، وجعل على العرش يوآحاز، ابن امرأة الملك الثانية. ولكن حين ثبّت نكو جبهة القتال، دعا ملك يهوذا إلى معسكره في ربلة، قرب حماة، بعد ثلاثة أشهر من الحكم. فأرسله أسيرًا إلى مصر حيث مات (2 مل 33:23؛ إر 22: 11- 12). وبعد أن فرض الفرعون جزية باهظة على أورشليم، جعل الياقيم (الذي صار يوياقيم) ملكًا. هذا يعني أنّ اسم الإله الوطني ظلّ معتبرًا، ولكنّه لن يكون يهوه سفر التثنية ويوشيا ولإرميا.
ولكن بقي أمل. فقد حاول إرميا بمساندة حزب الإصلاح في خطبة كبيرة، أن يذكر بالطابع المشروط لمواعيد يهوه، ويشير إلى دمار شيلو المعبد القديم (إر 7: 1ي؛ 26: 1 ي). كانت ردّة الفعل عنيفة لدى كهنة الهيكل وأنبيائه، والمعارضة قاسية لدى الشعب. ولكنّ ضبّاط الملك، ولاسيّمَا أحيقام بن شافان، كانوا مع إرميا فنجا بحياته (26: 44). وجاء الحدث فدفع الملك إلى ترك سياسة أبيه (الذي كان مع البابليين)، وهكذا وجد إرميا نفسَه في المقاومة.
ويبدو أنّ أورشليم ظلّت تسيطر على مملكة الشمال، وأقوال إرميا على العدوّ الآتي من الشمال (إر 4: 5- 31، 6: 1ي) نُشرت بالنظر إلى الزحف البابلي (أو الكلداني المهدد) ولمّحت إلى دان وإفرائيم. قد تكون هناك معارضات وثورات قُمعت بالقوة. وإنّ حبقوق (حب 2: 6- 20) يوبّخ أحد الملوك، كما وبخ إرميا يوياقيم (إر 22: 17) لأنّه أراق الدم الزكي. وينسب إليه حبقوق سلب أم عديدة ونهب بقية الشعوب (حب 8:2). فحبقوق وإرميا يندّدان بالملك، لأنّه يشيد الأبنية ولا يدفع ما يتوجّب عليه. رغم تراخيه، خسر يوياقيم شعبيته، فجعل من قصره قلعة تناهض مدينة أورشليم نفسها (حب 9:2 ي؛ إر 6:22 ي).

2- نبوكد نصر الثاني (605- 562 ق. م.)
كان نبوكد نصّر ابن نبو فلاسر وقائد جيشه. فتحارب مرارًا بين سنة 609 وسنة 605 مع الفرعون نكو بين حاران والفرات، قرب كركميش، وكان نصبيه النجاح تارة والفشل طورًا. ولكن وجب على الجيش المصري أن يهرب في ربيع (أو بداية صيف) سنة 605، بل أن يفنى في منطقة حماة. وهكذا سقطت سورية وفلسطين (بلاد حاطي كما يقول كتبة أشور وبابل في ذلك الزمان) في يد نبوكد نصّر الذي لم يقدر أن يحقّق النصر الكامل، لأنّ والده نبو فلاسر توفّي في منتصف شهر آب، فعاد نبوكد نصر سريعًا إلى بابل ليؤمّن خلافة أبيه لنفسه.
إنهارت قوة مصر في آسية، فكان لهذا الانهيار دويّ عميق في العواصم الصغيرة في يهوذا وأدوم وموآب وفلسطية. ونحن نجد صدى لكل هذا في إر 45- 49. وإنّ الحزب المعادي ليوياقيم والخاضع للتأثير المصري رفع رأسه واستعدّ لإزالة كل هذه الحكومات الخاضعة لسلطة مصر وعاد نبوكد نصرّ منذ الخريف إلى بلاد حاطي وثبّت مواقعه. ولكنّه انتظر خريف سنة 604 ليضع يده على الشاطئ ويصل إلى نهر مصر (2 مل 24: 7) بعد أن سلب أشقلون في تشرين الثاني (الكرونيكون البابلي). فاختار إرميا هذا الوقت ليقرأ في قلب الهيكل الدرج الذي أملاه على باروك منذ السنة الماضية والتي تضمّن أقوالاً قيلت منذ سنة 626 على إسرائيل ويهوذا وسائر الأمم (إر 26: 2، 5). ولكنّ نبوكد نصرّ كان قلقًا من الوضع في سائر أنحاء المملكة، فلم يتقدّم نحو مصر، بل تسلّم الجزية من هذه الأمم الصغيرة، ولاسيّمَا مملكة يهوذا التي ستخضع له ثلاث سنوات في شخص يوياقيم (2 مل 24: 1). ولكنّ إرميا وباروك أجبرا على الاختباء بعد هذه الأقوال النبوية.
وعاد نبوكد نصّر في ربيع سنة 603، ثمّ في سنة 602. جمع الأسلاب وحاصر المدن، ولكنّه لم يقم بمعركة حاسمة. ونجد في بردية صقارة نداء إلى مصر يطلقه أمير فلسطي يقيم على الساحل (أفيق). تدخّلت مصر سنة 601، ففشلت بابل، كما يقول الكرونيكون، فاستفاد يوياقيم من الظرف ليتمرّد على نبوكد نصّر (2 مل 24: 1) ويعود إلى حليفه القديم (أي مصر). لم يتحرّك ملك بابل سنة 600، ولكنّه تدخّل بجيوشه سنة 599 مع عصابات من الأراميين والموآبيين والعمونيين (2 مل 24: 2). فاجتاحوا البلاد يعيثون فيها خرابًا (إر 10: 17- 25؛ 12: 7- 13 ؛ 14: 17- 19). والريكابيون الذين رفضوا الإقامة في البيوت، بل في الخيام، لجأوا إلى أورشليم (إر 35: 12). وضايقت الهجمة البابلية العرب أيضاً. وأخيرًا، في خريف سنة 598 (شهر كسلو)، حاصر نبوكد نصّر أورشليم. فقُتل يوياقيم خارج الأسوار ولم تُدفن جثته (إر 22: 19). واعتلى العرش ابنه يوياكين، ولكنّه أُجبر على الاستسلام الأوّل (15- 16 آذار سنة 597).
ما زالت مصر تشكّل خطرًا على البابليين، ولهذا أراد نبوكد نصّر أن يؤمّن لنفسه حكومة مخلصة في أورشليم المحاذية لمصر عزل يوياكين، وأرسله أسيرًا إلى بابل مع الملكة الأمّ (إر 22: 26 ؛ 2 مل 24: 23) ونساء الملك وخصيانه والوجهاء. وهكذا سار إلى المنفى 10000 أو 7000 أو 3023 حسب المصادر (2 مل 24: 14، 16 ؛ إر 28:52)، بما في ذلك أصحاب الصناعات. وعرف ملك بابل أنّ الهيكل هو مركز الروح الوطنية فسلبه (2 مل 24: 13)، وأجلى الكهنة ومنهم حزقيال، الذي ظلّ أمينًا ليوياكين وأرَّخ أقواله بالنظر إلى سنوات هذا المَلك. وقدّم نبوكد نصّر الامتيازات للحزب المعارض. أمّا "الملك حسب قلبه " فسيكون الابن الثالث ليوشيا (أمّه هي أمّ يوآحاز): إنّه متنيا الذي سيصير صدقيا. هو صديق إرميا ومن حزب الإصلاح. كانت النشرة الأولى لكتيّب إرميا عن الملوك (إر 22: 11- 30 ؛ 23: 5- 6) قد امتدحت يوشيا وشجبت يوآحاز ويوباقيم ويوياكين. وسيُعلن إرميا وصول "الرب صدقنا" فيشير إشارة واضحة إلى صدقيا. ولكن في النشرة الأخيرة سيشجب النبي هذا الملك (22: 1- 10 ؛ 23: 1- 4)، فينتقل الاسم الإلهيّ من الملك إلى المدينة. يقول إر 33: 16: "في تلك الأيّام تنجو مملكة يهوذا، ويسكن الناس بأمان في أورشليم. وهذا هو الاسم الذي تسمَّى به: الرب صدقنا".
إنّ هذا الملك سيبتعد لأسباب خارجة عن إرادته عن إرميا وشافان الذي يمثلّه جدليا بن أحيقام وحفيد شافان. كانت الجزية باهظة وبابل بعيدة ومكروهة. وما زالت الحمّى الحماسية تلتهب حول الهيكل. تذكّر الناس خلاص أورشليم سنة 701، فامتلأ قلبهم بالحقد تجاه السلب الذي تمّ سنة 597. ونعرف بواسطة الكرونيكون أنّ نبوكد نصّر عاد إلى بلاد حاطي (أي سورية وفلسطين) سنة 594 و 593 رغم ثورة في بابل، ففرض ضرائب جديدة. أمّا بلاط أورشليم فما زال يتطلعّ إلى مصر ما أراد نكو الثاني أن يخرج من حدوده أقله بعد سنة 601، ولمّا خلفه بساميتيك الثاني سنة 594، وجب عليه أن يهتمّ بالنوبة (السودان الحالي). وسيأتي ليزور فينيقية في يوم من الأيّام. هل هذا يعني بداية سياسة نشيطة لمصر في آسية؟ لقد تحرّك النبي حنانيا في الهيكل، واجتمع رسل فينيقية وموآب وأدوم وعمون في أورشليم (إر 3:27 ي؛ 28: 1 ). ولكنّ هذه المحادثات لم تنجح. لقد تذرعّ بساميتيك بالفطنة مثل سلفه. فأجبر صدقيا على شرح موقفه في بابل (إر 51: 59). وأخذ إرميا برسائله (إر 28: 1 ي) وحزقيال بعظاته (دعاه الرب سنة 593) يهدّئان من ثورة المنفيين.

3- حصار أورشليم وسقوطها (587 ق. م.)
مات بساميتيك سنة 589 فحلّ محلّه خفرع الذي كان ملكًا نشيطاً وحكم عشرين سنة في جوّ من الفوضى. وتنظّم حلف جديد مع عمون (إر 41: 10؛ حز 21 : 23 ي). ظلّ موآب مخلصاً لبابل فاستفاد من الأسلاب. وسكتت مدن فينيقية بعد أن أرسل عليها خفرع أسطولاً من السفن. وكانت ردّة الفعل سريعة عند نبوكد نصّر فمنذ كانون الثاني سنة 588، استعدّ لحصار أورشليم التي ظلّت صامدة مع لاكيش وعزيقة (إر 34: 7). وتشهد على ذلك رسائل كُتبت على قطع فخّار وأرسلت إلى القائد الحربي في لاكيش. وعاد شعب أورشليم إلى العهد يمارسونه، فحرّروا العبيد (إر 8:34- 22). ولكن طُرحت مشكلة إقتصادية على إثر التحرير توقّف حصار أورشليم حين وصل جيش خفرع، وهدَّد مؤخّرة جيش نبوكد نصر (إر 4:37- 11، 8:32). ولكن ضاع الأمل سريعًا. فقد انسحب جيش مصر دون أن يقاتل، وعاد نبوكد نصّر يحاصر أورشليم وساد الجوع في المدينة. أمّا حزب المتطرّفين فألقى إرميا في السجن، وظنّ أنّ الملك يخون القضية (إر 27:38). وحين توصّل الكلدائيون إلى فتح ثغرة في السور في تموز سنة 587، حاول صدقيا أن يهرب عبر وادي قدرون فوصل إليه جيش العدوّ في أريحا واقتاده إلى ربلة أمام نبوكد نصر الذي قتل بنيه ثمّ فقأ عينيه (2 مل 7:25).
فُتحت الثغرة في التاسع من الشهر الرابع (رج إر 52: 12)، ولكنّ نبوزرادان دخل في العاشر من الشهر الخامس إلى المدينة فأحرقها مع الهيكل. لماذا هذا الفاصل الزمني؟ هل هناك اختلاف في الروزنامة؟ أمّ أنّ المدينة قاومت شهرًا في غياب الملك، كما قاومت السامرة ثلاث سنوات؟ هل كان هناك انتقام لإرميا ولحزب الإصلاح؟ من المعقول أنّ الحزب الذي شكّ في الملك حارب حتّى النهاية. لهذا قُتل رئيس الكهنة وأشراف الكهنة (2 مل 25: 16)، كما قُتل 67 ضابطاً وأميرًا (2 مل 25: 19- 21). وإذا عدنا إلى لائحة إر 52: 29 نجد أنّ الذين ذهبوا إلى المنفى كانوا 832، وهم أقلّ بكثير من الذين ذهبوا سنة 597. أمّا نصوص 2 مل 25 وإر 39 فهي لا تعطي أرقامًا.
دُمّرت أورشليم، وأزيل الفريق الحاكم، ولكنّ عدد الذين قُتلوا أو ذهبوا إلى الجلاء كان قليلاً. وكان نبوكد نصّر ووكلاؤه (مثل نبوزرادان) يعرفون نشاط إرميا (إر 39: 12) المرتبط بشافان. فجعلوا جدليا بن أحيقام بن شافان حاكم (فقيد) البلاد في مصفاة التي تذكّرنا بصموئيل وشاول لا بداود. وتمّ تجمّع أوّل قبل نهاية الصيف، فانضمّ إليه إرميا (إر 40: 6- 7). ولكنّ المحاولة فشلت. أغرى العمونيون بعض الناس فقتلوا جدليا والذين معه. أما الباقون فهربوا وأجبروا إرميا على الهرب معهم إلى مصر (إر 42: 1ي؛ 2 مل 25 : 26 ).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM