الفقر والغنى في الكتاب المقدس

الفقر والغنى في الكتاب المقدس
مقدّمة:
الموضوع جميل جدّاً وقابل للتأوين والتأويل. موضوعنا هو موضوع الفقر والغنى والأغنياء والفقراء. وقد وعدنا يسوع أنّ الفقراء يبقَون معنا في كلّ حين. سنتكلّم عن نوعين من الفقراء: الفقراء المهمّشون والمشرّدون والبائسون الّذين فقدوا معنى حياتهم ومعنى الآخر ولم يعد لهم همّ سوى أن يجدوا اللّقمة الممزوجة بالعرق والدم. وهناك الفقراء الّذين عرفوا أن اللقمة الممزوجة بالعرق والدم أو اللقمة التي تؤخذ مع كأس وكيف لا تكفيان. هناك شيء أبعد. وهذان النوعان من الفقراء سيبقون معنا في كلّ حين.
يبدأ تأمّلنا بعرض سريع لموضوع الفقر والغنى في الكتاب المقدس ثم ننتقل الى تأوين لهذا الموضوع ونختم بخلاصة.
الفقراء في الكتاب:
العهد القديم:
لا يُغفل الكتاب المقدس الفقراء بل يُعطيهم مكانة هامّة في كلمة الله. الفقير هو أولاً الذي لا يملك شيئاً، حتى ما يكفيه للقوت والكسوة. وتختلف المواقف من الفقير في الكتاب المقدس. يتّهمون الفقير بالكسل بالتراخي، باللهو... لذا هو فقير، وبالتالي هو مزدرىً (راجع الكتب الحكمية) والفقير يُعتبر من الذين لم يُرضوا الرّب. لأنّ خيرات الدنيا هي علامة بركة الرّب. وهذه الفكرة تنبع من كون وحي العهد القديم لم يعرف حياة ما بعد الموت إلاّ متأخّراً.
أمّا موقف الأنبياء فيختلف عن هذين الموقفين اللّذين يحتقران الفقير. النبيُّ يرى الفقر كنتيجة لخطيئة المجتمع الفاسد ولظلم وجشع التاجر والحاكم والغني.. فالغنى لم يعد علامة بركة الرّب، لا بل إنّ الأغنياء هم الّذين جنَوا على الفقير وأغرقوه في بؤسه. ألم يظلم فرعون الغني شعب العهد القديم في مصر؟ أليس بؤسهم هو نتيجة ترف فرعون واستغلالهم. الفقر هو علامة من علامات خطيئة الشعب فالفقير يفضح خطيئة الإنسانيّة أو المجتمع. فاتّهام الفقير سهل على الغني كي يُريح ضميره. من هنا كلّ صرخات الأنبياء بوجه الجشعين والطامعين ومن هنا إعلانهم بأنّ الفقير هو دينونة للشعب وبأنّ "غضب الرّب: على الشعب هو وجود الفقير الذي أوجده الغني والملك. والملك هو في المبدأ ممثّل لملوكية الرّب على شعبه.
مع الأنبياء وفي المزامير وفي كتب الشريعة الخمسة وخاصة في تثنية الإشتراع كلام عن صرخة الفقير التي يسمعها الرّب. فالرّب يسمع صرخة الفقير كما سمع صرخة »دم هابيل«. فهو يلفت نظر الغني كي لا يترك قميص الفقير عنده الى غروب الشمس لأنّ صوت يصل الى مسمعي الرّب. فقد تكون أنت سبب فقره. هو مظلوم. قد تكون أنت الظالم وقد يكون مجتمعك. على أيّ حال فأنت متضامن مع مجتمعك.
بدأنا هنا نلمس أنّ ملجأ الفقير هو الرّب وليس الإنسان. فصرخة الفقير هي للرّب. فهل يطلب أحد الإنصاف من ظالمه أو ينصّب ظالمه ليقضي له. من هنا صرخة الفقير الى الذي أخرج شعبه من أرض مصر بذراع قويّة.
إنطلاقاً من هذا الكلام نصل الى موضوع ثانٍ هو موضوع "فقراء الرّب". هؤلاء هم الجماعة الّذين اختاروا الفقر. قد يكونون، ولكنّهم اكتشفوا أن "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". اكتشفوا أنّ الحياة أبعد من الحياة وأنّ القضيّة أبعد من القضايا وأنّ الجوع أبعد من الجوع الى العالم. فقد اختبروا أنّ الوعد بالنسل لم يكن كافياً وأنّ الأرض لم تكف وأنّ المؤسسة لم تكف فاسحق كاد يُذبح والأرض ضيّعت في مصر أو في أشور أو في بابل، لم يعد هناك ملك ولا هيكل في بابل. ... ماذا بقي؟ بقيت كلمة الرّب. اكتشف "فقراء الرّب" أنّ عليهم أن يُلغوا غنى المستغني وأن لا غنى حقيقيّاً إلاّ بالعلاقة. حلم الإنسان الأوّل كان أن يغتني بالإستغناء عن الله. هذا حلم لا يتحقق أبداً. ليس الغني انتفاء الحاجة كما تصوّره أغنياء العالم. فالغني المكتفي بذاته، الذي لم يعد يشعر بحاجة الى غيره هو الإنسان الذي يستغني في نهاية المطاف عن الله ويكتفي بذاته التي تصل الى العزلة التامة في القبر. وهذا الغنى هو على ضوء يسوع المسيح أصعب حالات الفقر كما سنرى. ففقراء الرّب هم الذين اكتشفوا أنّهم أغنى بكثير من أن يستغنوا وأنّ الغنى ليس في الطمع، إنّه في العلاقة. ومن خلال العلاقة مع الرّب يكتشفون أهميّة تضامنهم مع إخوتهم الّذين حرّرهم الرّب بذراع قويّة.
العهد الجديد:
يبدأ إنجيل متى بتطويب المساكين بالروح في العظة على الجبل، في أوّل عظة رسميّة ليسوع. جاء "المسيح" خاصة من أجل هؤلاء (راجع لوقا 4 وما قرأ يسوع من أشعيا في مجمع الناصرة). جاء يسوع يطوّب "المساكين بالروح" أي فقراء الرّب. فهؤلاء الفقراء هم أوّل من تكلّم عنهم يسوع ولم يتعامل معهم بفوقية بل ساواهم بنفسه. فهو مثلهم ليس له موضع يسند إليه رأسه. وقد فعل بطرس ويوحنّا ما فعله يسوع. أعطوا المخلّع ما أعطاه يسوع ولم يُعطوه فضّة. أمام الفقير تجلّى يسوع الفقير الذي يعرف أنّ غناه الحقيقي هو في علاقته بأبيه وهو لا يبحث عن فتى آخر. وستتجلى هذه العلاقة في مفهوم الحبّ. كثيرة الأمثلة حول الفقراء من مثل فلس الأرملة والغني ولعازر... لن أستغرق في عرض هذه الأمثلة.
ويسوع يدعونا الى الفقر، الى التجرّد... الأمثلة كثيرة... ولكن، هل من تناقض بين هذه الدعوة للتجرّد من قبل يسوع وما يقوله بولس عن رغبته بأن لا يثقّل على سامعيه بل يعمل بيده ويربح معيشته. المهمّ في كل ذاك أن يكون همّ الإنسان لا ما يعمل بل أن يكون همّه أن تصل كلمة الله الى الإنسان. هذا هو الفقر الحقيقي. أنت لا تهتمّ إلاّ بواحدة: أن تستقبل كلمة الله وأن تعلنها. أتعب وأشقى أو آكل عند من استضافني، لا أملك "حريّتي" في أن أتصرف كما أريد، فقد قرّرت حريّتي أن أكون خادم الكلمة. ثروتي الحقيقيّة هي علاقتي بالرّب وبالإنسان الذي يحبّه الرّب.
على الصليب صرخ يسوع "إلهي إلهي لم تركتني". وهذه الصرخة وردت في مزمور ثقة لكنّها تعبّر عن شعور إنسان متألّم يختبر فعلاً أنّه متروك. ألا يعيش كل واحد منّا هذه الخبرة في حياته؟ الفقير يعيش هذه الخبرة أكان فقره بسبب خطيئة البشريّة أم بسبب اختياره للفقر الروحي. موقف يسوع على الصليب وصل الى نهاية الفقر فاستودع روحه بين يدي أبيه. فهو في الاضطهاد يسلّم ذاته للآب وللذين يحبّهم يسوع ولم يكتشفوا بعد قيمة هذه المحبة. فأنت لأنّك تحبّ "وتشحد" المحبّة. فالآخر الذي يذهب ببطرس الى الصليب هو الروح والمضطهد.. الرائع أنّ الذي لم "يشتلق" على الحبّ يلتقي بمن هو الحبّ عندما تعرف أن تكون فقيراً.
تأوين وخاتمة:
وأعود الى سفر التكوين: "لا يحسن أن يكون آدم وحده، فلنصنع له عوناً بإزائه".
"شكراً لك يا سيّدي لأنّك كشفت للرجل فقره، وشكراً لك يا سيّدي لأنّك كشفت للمرأة فقرها. أشكرك سيّدي لأنّك أغنيت المرأة، أشكرك سيّدتي لأنّك أغنيت الرّجل. ما يؤسف سيّدتي، ما يؤسف سيّدي، أنّكما استغنيتما عن الله، ولكن لا تخافا، سيُداس رأس الحيّة".
لعازر الفقير مطروح على باب الغني. لمّا صرخ الغني "أرسل لعازر الى بيت أبي..." ألا يقول لنا أنّ لعازر كان موسى والأنبياء على باب الغني؟ كان كلمة الله على باب الغني. أليس لعازر يسوع الجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والمحبوس الذي ينتظر افتقادنا له؟ تعالوا نبحث على كلّ جوع وعطش وعري وغربة ومرض وأسر فينا وفي الآخر ونقول لكلّ آخر (الله والإنسان) نقول له: "إذا لم تشبع فأنا جائع جائع وإذا لم أشبع فأنت جائع، إذا لم ترتوِ فأنا عطشان، وإذا لم أرتوِ فأنت عطشان. ..."
الخوري داود كوكباني


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM