الفصل الثالث عشر التقوى الحقيقيّة

الفصل الثالث عشر
التقوى الحقيقيّة
6: 3- 10
يبدو أننا وصلنا إلى نهاية الرسالة. أعطى بولس جميع التعليمات الضروريّة لتلميذه الذي تركه في أفسس. والدليل نهاية 6: 2: "علّم هذا وعظ به". تبدو هذه العبارة بشكل ملخّص لما قاله بولس في 1تم. ولكن قبل أن يوقّع الرسول رسالته، أوجز في لوحة أخيرة الموضوعين الكبيرين في الرسالة: حرب على المعلّمين الكذبة (6: 3- 10). مسؤوليّة التلميذ (6: 11- 21). أما نحن فاخترنا عنوانًا آخر: التقوى الحقيقيّة التي يقابلها الرسول مع تقوى يرغب فيها صاحبُها سبيلاً إلى الربح الماديّ.

1- دراسة النصّ
تكلّم بولس مرّة أولى عن المعلّمين الكذبة في 1: 3- 20، أي في بداية الرسالة، فقابلهم بتيموتاوس الذي يجب أن يكون واعظ حقيقة الخلاص ومدافعًا عنها. وتكلّم مرّة ثانية (4: 1- 8) عن هؤلاء المعلّمين الذين أنبأنا الروح بظهورهم، في خطّ ما قاله يسوع: "سيظهر مسحاء دجّالون وأنبياء كذبة" (مت 24: 24). وقبل الآيتين الأخيرتين في الرسالة كلها (6: 20- 21) اللتين تبدوان بشكل "وصيّة" أخيرة تحذّر تيموتاوس من الذين زاغوا عن الايمان، تتوقّف الرسالة هنا على سبب العمى عند هؤلاء "المعلّمين": الكبرياء وحبّ الظهور مع أنهم لا يفهمون شيئًا. ثم الجشع وحبّ المال، وهذا ما يتعارض مع التقوى الحقيقّة التي تقترن بالقناعة. وكانت نتيجة هذه الكبرياء وهذا الجشع، فقدان الايمان. حكمَ الرسولُ على هذه الكبرياء، ودعا تلميذه إلى التقوى. وحكم على هذا الجشع ودعا تيموتاوس إلى قناعة تكتفي بالقوت والكسوة، ولا تطلب الغنى لئلاّ يقع صاحبها في التجربة.
وقبل التفسير، نتوقّف عند الدراسة النصوصيّة: في آ 3، قرأ السينائي واللاتينيّ "بروساخاتاي" (وافق). وقرأ تيشندورف في خطّ 1تم 1: 4؛ 4: 1؛ تي 1: 4، المصدر (بروساخاين). ولكن يجب أن نقرأ "بروسارخاتاي"، تعلّق، تمسّك. في آ 5، هناك من أضاف بعد "التقوى" عبارة تكمّل بناء جملة ناقصة: فابتعدْ عن هذه. هذا ما نجده في السريانيّة والأرمنيّة والذهبيّ الفمّ... في آ 7، نجد في السينائي "هوتي أودي إكسن..." لأنا لم نأت. في البازي "ديلون هوتي"، يظهر أن. أو "أليتس هوتي"، في الحقيقة إنّا. في آ 8، القوت هي في الجمع (دياتروفاس). وُضعت في المفرد في البازي، وغيره "دياتروفين). في آ 9، جُعل "إبليس" (ديابولو) بعد "فخ" (باغيدا)، مثل 3: 7. في آ 10، نجد في السينائي "بويكيلايس" بدل "بولايس"، كل. والشعبيّة اللاتينيّة قرأت "زرع" بدل "أصاب".

أ- رجل الكبرياء (6: 3- 5)
إن آ 2ج (علّم هذا وعظ به) هي انتقالة تُنهي ما سبق وتبدأ ما يلي. إن تعليم بعض الافسسيين ليس بصحيح (1: 13)، لأنهم لا يستقونه من الانجيل. الفعل "بروسارخاتاي" (خالف) يعود إلى العالم الحكميّ (سي 2: 1؛ عب 4: 16؛ 7: 25). إنه يفسّر مسيرة الايمان (إلتاين، 2: 4؛ 2تم 3: 5)، يدلّ على من يقترب من كلمات الصدق ويتعلّق بها (إرخاستاي، يو 1: 39؛ 3: 20- 21). هذه الأقوال هي وديعة (6: 20) نقلها الرسل ونشروها (1تس 1: 8؛ 2تس 3: 1) فشكّلت التعليم (ديدسكاليا) التقليديّ. وما يميّز هذا التعليم البيبلي هو أنه ليس استنباطًا ذاتيًا، ولا تنظيرًا مجرّدًا، ولا اعتبارات دنيويّة. هو دينيّ بشكل خاص، وهو قاعدة حياة. ويتوجّه كله نحو العيش المسيحي فيغذّيه وينمّيه حسب التقوى (تي 1: 1). في الكنيسة وحدها، التي هي عمود الحقّ وحارسة سرّ التقوى، يقيم المسيح (3: 15- 16). فيها نجد أقواله في صدقها وقيمتها الحياتيّة (يو 5: 24؛ 6: 63، 68).
أما المعلّم الكاذب فلا يغتذي من ينبوع المسيح، بل يقدّم تعاليم باطلة، لا ترتبط بحياة المؤمنين العميقة. إن هذا التعليم الجديد الذي يبني لاهوتًا مستقلاً عن المسيح (1كور 3: 11)، يصل بنا في النهاية إلى مؤسّسة دنيوية، لا إلى كنيسة المسيح.
فكيف يستهين هؤلاء بأقوال المسيح التي هي في متناول الجميع، ويتجرّأون أن يعرضوا تعليمًا يعتبر نفسه دينيًا مع أنه لا يكرم الله؟ هم عميان. دخل فيهم تجّار الباطل (3: 6؛ 2تم 3: 4). نقرأ "تاتيفوتاي" في صيغة المجهول الكامل، فنكتشف وضعًا مستمرًا: هناك بلاغة على مستوى الفكر يتبعها كلام غير مسؤول وأحلام فارغة تنسى العهد الجديد والعلم الوحيد الذي يحمل ثمرًا، علم يسوع المسيح. هم يتكلّمون لكي يتكلّموا. وهكذا، حين لا نبحث عن الحقيقة في ذاتها، نجادل ونتكلّم ونعود إلى الكلام حتّى ننتهي في الفراغ التام.
حين يترك المؤمن "التقوى" ويتعلّق "المماحكات"، يلد عنده عددٌ من الرذائل التي تناقض المحبّة: مزاحمة تريد السوء. حسد وغضب ضد معلّمين مزاحمين. وننتهي في مرارة المنازعات (غل 5: 20- 21؛ روم 1: 29). وهكذا يكون الانسان ضدّ ما ما هو نبيل، ما هو حكيم، ما هو سام. وفي النهاية، يصل إلى الهجوم على مستوى الشتائم والافتراءات (بلاسفيميا، 1: 13؛ 2تم 3: 2) في رفقة الظنون السىّئة (هيبونويا، سي 3: 24).
عندئذ تكثر المنازعات (آ 5) التي تدلّ على العنف... وتنتقل العدوى من أشخاص إلى القطيع كله (2تم 2: 17)، فتفعل فعل الجرب، كما قال الذهبيّ الفمّ. "ديافتايراين"، أفسد، دمَّر. هذا الفساد لا يُرى بالعين المجرّدة، لأنه أصاب العقول. ولكننا نرى نتائجه في الضرر الذي يُحدثه. اعتبر هؤلاء المعلّمون أنهم ربحوا، فاذا هم خسروا كل شيء. ابتعدوا عن الايمان (2: 4؛ 2تم 2: 25؛ 3: 7)، فماذا بقي لهم. ظنّوا (نوميزو، 1كور 7: 26، 36) أن في التقوى الربح الماديّ (بوريسموس). ولكن تجارة التقوى هي تجارة من نوع آخر. لا شكّ في أن خادم المذبح يعيش من المذبح، ولكن الخطأ هو جعل "التقوى" موضوع تجارة.

ب- بين الربح والقناعة (6: 6- 8)
تلاعب بولس على معنى لفظ "بوريسموس" (ربح)، فتحدّث عن ربح من نوع آخر. ربح يقترن بالقناعة. هذا هو الربح العظيم الذي يجعلنا نفيد من مواعيد الحياة الحاضرة والحياة الأبديّة (4: 8؛ 2بط 1: 3- 4): من جهة يكون لنا الغنى الحقيقيّ الذي هو القرب من الله. ومن جهة ثانية، ننال من الربّ كل عون. "اوتاركايا". نكفي حالنا بحالنا. القناعة. الموضوع: كميّة تكفي حاجاتنا. تجعلنا نكتفي بما عندنا ولا ننظر إلى الخارج. مثلُ هذه التقوى تحمل أكبر سعادة.
ماذا تقول الفلسفة البشريّة في هذا المضمار (آ 7)؟ ندخل بجسدنا ونخرج بجسدنا. لا نحمل معنا شيئًا لا في الدخول ولا في الخروج. قال أي 1: 2: "عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى بطن الأرض". وقال الفيلسوف سينيكا: "تفتّشُنا الطبيعة حين نغادر كما فتّشتنا حين دخلنا. لا يحقّ لنا أن نأخذ شيئًا لم نأت به معنا".
لهذا، ما يكفينا هو في الواقع شيء بسيط (آ 8). ما نأكله (دياتروفي، في الجمع) لئلا نموت من الجوع، وما نغطّي به أجسادنا. رج لو 12: 22- 24. هذا هو الضروريّ في العالم القديم. رج تك 28: 20؛ تث 10: 18؛ أش 3: 7.

ج- حبّ المال (6: 9- 10)
بعد أن ندّد الرسول بجشع بعض المعلّمين في أفسس، وهو وضعٌ يعارض كل المعارضة روح الانجيل، بل روح الحكمة البشريّة، ها هو يشجب نتائج حبّ المال وما فيها من خطر. نحن هنا في إطار بيبليّ تقليديّ: "من أحبّ الذهب لا يبرّر" (سي 31: 5؛ أم 15: 27؛ 23: 4). هناك الأغنياء. وهناك الذين يسعون إلى الغنى. هؤلاء سيجدون الفخاخ، ويقعون في التجارب (بايراسموس) بحيث يسقطون (امبيبتاين): يظلمون الناس، يكذبون، يحتالون، يسرقون. عميَ فكرُهم، وفسُد قلبُهم، فما عادوا يسمعون ويرون سوى المال.
ولكن رذيلة واحدة لا تبقى وحدها. وطلبُ المال هذا يجلب عددًا من الرذائل التي تقود إلى الدمار. نقرأ "بلاباروس": تعطلت الآلة. تعطّلت الصحّة. "بيتيزاين"، غرقت الباخرة في قعر البحر (لو 5: 7). وهكذا يخسرون كل شيء. على المستوى المادي. بل على المستوى الروحي: خسارة الايمان والخلاص.
كل هذا نجده في مثل "الغنيّ الجاهل" الذي أغلّت أرضه، فما بحث عن العطاء، بل عن تكديس الخيرات. قال ابن سيراخ إن المال هو في أصل شرور عديدة (سي 27: 1- 3). وقال التقليد اليهودي إن حبّ المال يقود إلى عبادة الأصنام. وقال الفلاسفة اليونان: سبب جميع الشرور هو سلطة نطلبها بالجشع. أصل (ريزا)، جذر، سبيل، نبع. بحبّ المال يبدأ كل شرّ. والنتيجة دمار على مستوى النفس كما على مستوى الجسد. استسلم (أوراغوماي، عب 11: 16) بعضهم لكل هذا، وها هم يقطفون ثمر ما زرعوا.

2- قراءة إجماليّة
يرسم الكاتب المعلّم الكاذب، الذي يعلّم تعاليم أخرى، في ثلاث سمات أساسيّة: عدم توافق مع تعليم الرسل. رفض كلمات المسيح. التخلّي عن التقوى الحقيقيّة. وهكذا نجد في آ 3 ثلاث عبارات تميّز الرسائل الرعائيّة. الأقوال الصادقة (1: 10). التقوى (2: 10). التعليم 1: 10). ماذا تعني عبارة "الكلمات الصادقة، كلمات ربنا يسوع المسيح". هي كلمات تلفّظ بها يسوع نفسه ونقلها التقليد (الشفهيّ والخطيّ). أو: هي كلمات عن يسوع المسيح، هي الكرازة الانجيليّة. نستطيع أن نفهم العبارة: أقوال يسوع الحاليّة كما عبّر عنها الرسل، على مثال ما كان الأنبياء يعبّرون عن كلام الله أمام الشعب. إن كانت 1تم دوّنت قبل سنة 67 وموت الرسول، فنكون أمام تقليد شفهيّ. وإن حوالي سنة 80 فنكون أمام أكثر من انجيل. في أي حال، نحن أمام كرازة حول يسوع المسيح.
وتجاه التقليد الصحيح حول يسوع المسيح، نجد المناقشات "المريضة" التي يقوم بها معلّمو الضلال. هم أشخاص مرضى انتفخ فكرهم كبرياء، فما عادوا يفهمون شيئًا. فسُد عقلهم واهترأ. وصار حسّهم الأبديّ مغلوطًا حتى الجذور، فما عادوا قادرين على بلوغ الحقيقة. محاولات صفّ كلام لا معنى لها ولا قوام. وثمارُ مثل "هذا النشاط" هي الحسد والخصومات والظنون الباطلة والافتراءات والمنازعات. وهكذا حلّ محلّ الوحدة التي يمنحها التعلّق بأقوال يسوع المسيح، فوضى تولّدها عودة حصريّة إلى حكم الشخص وحده دون العودة إلى الله.
بالاضافة إلى ذلك، هؤلاء المعلّمون أناس يحبّون المال. بل إن التقوى في نظرهم هي ينبوع ربح ومناسبة لجمع الثروة. ولكن الديداخي (11/6: 12) قال إن التجرّد هو علامة تميّز الرسل الصادقين من الرسل الكذبة. هؤلاء خلطوا بين عون ماديّ تقدّمه الجماعة للذين يخدمون فيها وبين انجيل هو "منجم" ذهب نستغلّه. لا شكّ في ذلك، قال بولس. التقوى ينبوع ربح، لا ماديّ، بل روحيّ. وهو الربح الوحيد الذي يستحقّ أن يهتمّ له المؤمن. فعلى مستوى الامكانيّات الماديّة، على المسيحي أن يعرف كيف يكتفي بما يملك. لا يتعلّق بشيء، فيفهم أن الأشياء لا تجعلنا سعداء، بل سعادتنا تحوّل الظـروف والأوضاع، بل إن الرب يحوّل كل شيء لخير الذين يحبّونه. وتبيّن آ 7 أن عدم اهتمام المسيحيّ بخيور الأرض، عائد إلى أن هذه الخيور لا ترتبط بالانسان في الصميم: فهو يأتي إلى الدنيا بدونها، ويعود إلى الآخرة بدونها. فلماذا يُتعب نفسه بأمور تافهة. لماذا لا يكتفي بالضروريّ على مستوى الطعام واللباس.
أما الذين يقتادهم طلبُ الغنى، فيحكمون على نفوسهم بحياة من الأوجاع تنتهي في الخراب والدمار. لأن الانسان الذي يقع في تجربة البحث عن الربح لن يعرف الراحة. تُلبّى رغباته فتنبت رغبات أخرى أقوى من الأولى، مثل شخص اعتاد على الكحول، فتصبح كل الوسائل صالحة ليشبع رغباته. من أمور بسيطة يصل إلى أمور أهم وقد يصل إلى الخطأ الكبير. ومن تجربة إلى تجربة، يؤخذ الانسان في فخاخ لا يستطيع أن يتخلّص منها. فيصل في النهاية إلى الدمار الزمنيّ والدمار الأبديّ.
لهذا، لا ندهش أن يكون بولس أعلن أن ينبوع كل الشرور هو محبّة الفضّة. لا شكّ في أن بولس يضخّم الأمور، هذا إذا لم يكن ما يقوله مثلاً معروفًا في الأوساط الرواقيّة. وقدّم صورة أولى عن الغنى: سيف يعبر في جسم الانسان. لا يشجب بولس كل ضلال، بل هذا التعطّش إلى المال الذي لا شيء يُشبعه.
خاتمة
جاء كلام بولس يشدّد على التعليم الصادق والتعليم الباطل، ويميّز بين الغنى الكاذب والباطل والغنى الصحيح. فالانسان يختار لنفسه طريق الايمان أو طريق الضلال، طريق السعادة أو طريق الشقاء. أما الطريق الأولى فهي طريق التقوى التي ترافقها أقوال الربّ. والطريق المعاكسة تقود إلى الباطل وإلى ما يقود إليه من رذائل. وتجاه الغنى الذي ينتهي في الدمار والهلاك، هناك غنى حقيقيّ يعطيه الربّ الذي لا ينسى طير السماء وزنابق الحقل، الذي يعرف حاجاتنا قبل أن نرفعها إليه. هناك الغنى الذي يرتبط بالقناعة، فيجعلنا نعيش يومًا بعد يوم الصلاةَ التي علّمنا إياها يسوع: "أبانا الذي في السماوات... أعطنا خبزنا كفاف يومنا".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM