الفصل الرابع عشر :تيموتاوس وجهاد الايمان

الفصل الرابع عشر
تيموتاوس وجهاد الايمان
6: 11- 21
بعد أن ندّد بولس مرّة أخيرة بتعليم الهراطقة ورذائلهم، دفعه الكلام عن حبّ المال إلى عرض فلسفة عن السعادة البشريّة (في إطار عالم الحكمة)، وإلى تقديم اللاهوت حول التقوى التي تقترن بالفضيلة فتجعل المسيحيّ كاملاً. فلم يبقَ سوى إنهاء الرسالة بتحريض لتيموتاوس لكي يكون ثابتًا في الايمان، مجاهدًا في الفضيلة. هكذا يبرز وجهُ الراعي المثالي تجاه معلّمي الكذب. وبعد أن يتحدّث الرسول عن أغنياء هذا الدهر، يذكّر تيموتاوس مرّة أخيرة بالوديعة التي سُلِّمت إليه.

1- دراسة النصّ
ينقسم النصّ خمسة أقسام مترابطة: يجب على تيموتاوس أن يدافع بشجاعة عن الايمان (آ 11- 12). وما يدعوه إلى ذلك ثلاثة أمور: ما ألزم نفسه به حين تقبّل المعموديّة. الشهود العديدون الذين سبقوه وتقبّلوا التزامه. وأخيرًا، مثال يسوع الذي شهد أحسن شهادة أمام بيلاطس (آ 13- 14). والقسم الثالث هو مجدلة (آ 15- 16) تذكر قدرة الله تجاه ضعف الرسول، ونورَ الله تجاه الظلال التي تؤثّر بعض الشيء على حياة الكنيسة. وفي آ 17- 19 نسمع نصائح للأغنياء. وأخيرًا (آ 20- 21) تنتهي الرسالة بإشارة إلى الموضوعين الأساسيين في الرسالة: احفظ وديعة الايمان. إسهر تجاه التعليم الضال.
ونبدأ في الدراسة النصوصيّة. في آ 11 نجد التعريف (تو) أمام "تيو" (الله) في السينائي... والذهبيّ الفمّ وتيودورس... في آ 13 نقر "سوي" (إليك) بعد "أوصيك" في الاسكندراني وغيره. كان في الأصل فعل نادر: يُحيي، فجعل السينائي وغيره فعلاً يتكرّر "صانع الحياة". وقلب السينائي والنسخة السريانيّة عبارة "المسيح يسوع" إلى "يسوع المسيح". في آ 17، جعل السينائي الاسم والفعل (تكون لك عواطف تكبّر) كما في روم 11: ،20 بينما نقرأ هنا الفعل: تكبّر. جعل الاسكندراني والبازي التعريف (تو) بين "إبي" و"تيو"، على الله. وقرأ آخرون: في (إن) الله. وأضافت السريانية والشعبيّة... في خط 4: 10: الحيّ، فصارت الجملة: على الله الحيّ. في آ 18 نجد "أغاتويس" (صالح في صيغة الجمع) محلّ "كالويس" (حسن، جميل). في آ 19، قرأت بعض المخطوطات "الأبدية" بدل "الحقة". أما نحن فنقرأ الحياة الحقّة، لا الحياة الأبديّة. في آ 26، قرأنا "معكم"، فرأت السريانية والارمنيّة: معك (يا تيموتاوس). وكانت النهاية "آمين" في السريانيّة والشعبيّة، لا في النصّ المعتمد، في النهاية أضاف الاسكندراني: كُتبت من اللاذقية. وقالت مخطوطات أخرى: كُتبت من اللاذقية (لاودكية) التي هي عاصمة فريجية. وفي مخطوط روسيّ نجد "من نيكوبوليس".

أ- الدفاع عن الايمان (6: 11- 12)
"أما أنت". هذا ما يقابل بقوّة "بعض" في آ 10، و"أحد" في آ 3. علامة النداء »هو« تدلّ على الإلحاح (روم 2: 1، 3؛ 9: 20). "رجل الله". لا نقرأ هذه العبارة إلاّ هنا وفي 2تم 1: 21. رج 2بط 1: 21. في العهد القديم "إيش الوهيم" هو أولاً النبيّ الذي يرسله الله فيتكلّم باسمه (ق1 13: 8؛ 1صم 2: 27؛ 1مل 12: 22). هو يقابل "رجل الفضّة" (آ 9- 10).
ضلّ الهراطقة فابتعدوا عن الايمان الحقيقيّ (آ 3- 10). أما تيموتاوس فأخذ التوجيه الدينيّ الصحيح. نقرأ هنا الفعلين "تجنّب، طلب..." رج 2تم 2: 22؛ روم 12: 9. حسب قول الفلاسفة: طبيعة كل انسان طلبُ الخير والهرب (تجنّب) من الشرّ. ممّ يهرب؟ من اللائحة التي ذُكرت في الآيات السابقة. ومقابل هذا، لاحقْ، إبحث، أطلب أن تقتني. أن تمارس ستًا من الفضائل الأساسيّة السبع في المسيحيّة، وهي التي تتعارض مع مماحكات المعلّمين الكذبة: البرّ والتقوى (تي 2: 12). أي استقامة السلوك خصوصًا في العلاقات مع رؤساء الجماعة (حك 1: 1؛ 2تم 3: 16). والتقوى التي تحمل الثمار ترتبط بالمسيح وشعائر العبادة، وهي كمال العلاقات الشخصيّة مع الله وفي شعائر العبادة. والمثلث "الايمان" المحبة، الصبر". (هيبوموني) نجده في 1تس 1: 3؛ تي 2: 2؛ 2تم 3: 10. هو بلا شكّ عبارة ليتورجيّة. أما الوداعة فضروريّة من أجل الراعي ليساعد الخطأة على النهوض (غل 6: 1؛ 2تم 2: 25)، ليُهدئ الخلافات (2كور 10: 1)، ليحتمل كل هجوم وكل نكران جميل بدون مرارة ولا عنف. تلك كانت فضيلة الرب (مت 11: 29). بمثل هذا السلاح يستعدّ التلميذ للجهاد.
"طلب الرسول من تيموتاوس من قبلُ، أن يتمرّس، يتروّض. والآن يدعوه إلى القتال" (تيودوريتس). نحن هنا أمام استعارة رياضيّة وحربيّة، بل اسكاتولوجيّة، لأنها تهيّئ التلميذ لساعة النهاية. فالحياة الأبديّة هي الهدف الأخير. ورجلُ الله هو أول من يقوم بهذه الحرب الخاصّة من أجل الايمان الحقيقيّ. والحرب تبدأ اليوم. وتمتدّ حتى النصر. إذن، لا تتوقّف. ولماذا هذا القتال؟ لسببين. الأول، لأن الله دعاه إلى ذلك (2تم 1: 9؛ 2تم 2: 14). ورجل الله يتجاوب مع هذه الدعوة حتّى النهاية. الثاني، لأنه قبلَ هذه الدعوة وألزم نفسه بها، وجب عليه أن يقبل بكل متطلّباتها. تلك هي الشهادة وذاك هو الاعتراف (هومولوغيساس): توافق، ثمّ وعدٌ والتزام. ولم يكن التلميذ وحده حين تعهّد. كان أمام شهود عديدين. هي شهادة الايمان، في المعموديّة، أو في الوقت الذي التزم بالرسالة حين وُضعت الايدي عليه. وقد تأتي شهادة من نوع آخر تجعل التلميذ يشبه معلّمه، تجعل تيموتاوس يشبه بولس الذي أنهى حياته موتًا في سبيل المسيح.

ب- يسوع الشاهد الأول (6: 13- 14)
ويتحوّل الكلام هنا فيصبح احتفاليًا. يستحلف الرسول تلميذه أمام الله والمسيح. الله هو الذي يعطي الحياة الأبديّة. والمسيح يعطي مثالاً عن الأمانة حتى الموت، وهو الذي سيدين خدّام كنيسته في عودته. الشاهد الأول هو الله الحيّ، الذي يعطي الحياة لكل شيء. والثاني، شهد أمام بيلاطس: أعلن أنه ملك. أعلن أنه الحقّ وبالتالي الطريق التي تقود إلى الآب. في الأصل: بونطيوس بيلاطس. هذا كان الوالي الروماني في اليهودية حين مات يسوع. وهكذا حُدِّد الحدث بشكل رسمي، وانتقل إلى قانون الايمان. أجل، إن الالتزام العمادي هو اقتداء بالمسيح (عب 12: 2- 4) ووعدٌ بالذهاب في الجهاد حتى الموت، كجنديّ صادق مع سيّده. "كما فعل هو (يسوع) عليك أنت أيضًا أن تفعل" (الذهبيّ الفمّ).
هذا ما يعطي أمر الرسول كل معناه (آ 14). هذا الذي تشهد له ومعه الآن، هو الذي تلتقيه حين يظهر. وهنيئًا لك إن وجدك الآب شبيهًا بابنه. فعلى التلميذ أن يحفظ (تيراين) الوصيّة (إنتولي) كاملة (يو 14: 15، 21). وأن يحفظها بكمال، فيكون في حفظها بعيدًا عن كل لوم، على مستوى الكلام كما على مستوى العمل. هكذا يتصرّف رجل الله فيحفظ بلا لوم سرَّ التقوى.
إن ملاحقة الفضيلة (آ 11) وجهاد الايمان (آ 12) وحفظ الوصيّة (آ 14)، كل هذا يتوجّه نحو ظهور الربّ الذي يُبرز عمَل خدّامه (1كور 4: 5، ليجازيهم الجزاء الحسن)، فيقابل منبر بيلاطس والي اليهوديّة. وشتّان بين "ظهور" و"ظهور" (إبيفايناستاي). فظهور المسيح كالملك والربّ، هو موضوع رجائنا الأخير (تي 2: 13؛ 2تم 4: 8)، لأنه يتطابق مع دخولنا في السعادة.

ج- مجدلة أخيرة (6: 15- 16)
بعد أن يؤكّد الرسول أن هذا الظهور سيتمّ في حينه، يقدّم لنا نشيدًا من الكنيسة يعلن المجد والخلود لله.
فالكنيسة التي هي عمود الحقّ، التي هي بيت متين، يجب أن تدوم، والزمن ما زال طويلاً قبل ظهور الربّ. ولكن الله هو الذي يحدّد الوقت المناسب (كايروس)، لا الانسان. وبما أن هذا الظهور يدلّ على نهاية التاريخ وعودة المسيح المجيدة، أنشد الرسول "ذلك السيّد المبارك" ("ماكاريوس"، سعيد، طوباويّ، 1: 11)، لأنه يمتلك ملء الكمال. والسعادة الكاملة هي خاصّة بالامبراطور، بالملك. لهذا قال النصّ "السيّد" (ديناستيس). غير أن ربّنا يملك على السماء والأرض (2مك 12: 15). فمن هم الملوك تجاهه؟ قال النشيد: وحده (مونوس). السعادة الكاملة لا يملكها سوى الله. هو ملك الملوك. هو أعظمهم. وربّ الأرباب (تث 10: 17؛ مز 136: 3). لا ربّ يقف تجاهه. بل كل ربّ على الأرض ليس بشيء تجاهه. هو باطل.
ألِّه الأباطرةُ فاعتبُروا خالدين. ولكن الله وحده (مونوس، مرّة ثانيّة) خالد. وحده لا يموت. هذا يعني أنه من عالم آخر، أنه "نور لا يُقترب منه" (مز 104: 2؛ أي 37: 21- 24). النور شعاع يخرج من ينبوع. وهذا الينبوع يدلّ على السعادة والقدرة والخلود في عالم الروح. الله نور (1يو 1: 15). هو أبو الأنوار (يع 1: 15). لهذا، فهو لا يُرى (1: 14) ولا نستطيع أن ندنو منه. هو كالجبل الذي لا يمكن ارتقاؤه (أبروسيتوس). هذا ما قاله العهد القديم (خر 33: 20: لا يرى الانسانُ وجهي) والعهد الجديد (يو 1: 18؛ 1يو 4: 12؛ روم 1: 20).

د- نصائح للأغنياء (6: 17- 19)
هنا تأتي معترضة تقطع السياق بين آ 16 وآ 20، فتقدّم نصائح للأغنياء. يا ليتها كانت بعد آ 1- 2 (حبّ الغنى) أو آ 9- 10 (أخطار الغنى). ما جاء بها إلى هنا، الاشارة إلى الخلاص والحياة الأبديّة.
جاءت 1تم سلسلة من التوصيات (1: 3) سيحملها تيموتاوس إلى مختلف الفئات في أفسس. والوصيّة الأخيرة تتوجّه إلى الأغنياء الذين يبدو أنهم كانوا كثرًا. هم مسيحيّون أغنياء (يتكرّر الجذر أربع مرات). إذن، لا يطلبون الغنى (آ 9). هذه الدنيا. أي الزمن الحاضر (وما فيه من ضعف وموت. فلا نهتمّ به). يقابل الزمن الآتي. بدأت القسمة بين الاثنين مع العالم اليهودي، وانتقلت إلى العالم المسيحيّ. رج روم 12: 2: 1كور 2: 6؛ 2كور 4: 4؛ 2تم 4: 10. ففي هذه الدنيا، على هذه الأرض (يع 2: 5)، تسير الحياة بحسب التقوى حتّى ظهور المسيح (تي 2: 12- 13). أول فضيلة في الفضائل السبع التي تميّز المسيحيّ الغني، والتي تشرف على سائر الفضائل، هي التواضع. قالها بولس بشكل نهْي: لا يتكبّر، لا يترفّع. لا يحتقر الصغار، ولا يحسب نفسه أفضل من الآخرين. وتردُ الفضيلة الثانية أيضًا بشكل نهْي (لا يتكّلوا) ثم تأكيد (بل على الله): لا نجعل ثقتنا في الغنى، بل في الله. نقرأ "إلبيكاناي" (اتكل) في المصدر الكامل. أي نمنع نفوسنا كليًا عن الاتكال على الأموال، لأنها غير ثابتة وغاشة. "أديلوتيس": لا ثبات لها. كيف نستند إلى ما نجهل، إلى الأوهام.
كل غنى من الله. هذا ما يتذكّره كل انسان، ولا سيّما الغنيّ. والغنيّ الحقيقيّ هو الذي يستغني عن المال ويحبّ أن يعطيه. أعطانا الله المال لكي نعطيه، لكي نستثمره عطاء.
وترد في آ 18 أربعة أفعال تصوّر فضائل يجب أن يمتلكها الأغنياء: يكون الانسان حرًا تجاه الخيرات الماديّة، صغيرها وكبيرها. يسود على غناه ويوجّهه من أجل الخير. لا يتعلّق بما له. لا يحزن إن هو خسره (أو أعطاه). "أغاتوبوياين" صنع الخير. يقابل عمل الله (أغاتورغاين، أع 14: 17) وفريضة المحبّة الأخويّة (لو 6: 35). يعني هذا الفعلُ أننا نعطي وبطريقة تليق بالله: طوعًا، مجانًا، دون تمنين. لا تعرف شمالنا ما تفعل يميننا. ونقرأ "اوماتادوتوس": يدلّ على السخاء الذي به نعطي. كما يدلّ على عزّة النفس والفرح (المعطي الفرحان كما قال بولس في 2كور 9: 7). وحين يشرك الغني إخوته في ماله، يدلّ حقًا أنه عضو في الجماعة، يجعل موهبته في خدمة الآخرين، كما يجعل المعلّم موهبة المعرفة في خدمة الكنيسة.
أتُرى حين يعطي الغني إخوته يفتقر؟ بل هو يغتني، لأنه "يستثمر" ما له حيث يجب أن يستثمر (لو 19: 13). وينمو كنزه (أبوتيساوريزو). يصبح رأسُ ماله أكبر بحيث يستطيع أن يعطي أكثر. هذا على المستوى المادي. وهناك غنى من نوع آخر، الحياة الحقيقيّة، في هذه الدنيا، وفي الأخرى (المستقبل). حين يعطي الغني المساكين، يكونون أول مستقبليه في المظال السماويّة (لو 16: 9).

هـ- خاتمة الرسالة (6: 20- 21)
نادى بولس تيموتاوس باسمه كما في 1: 18، فدلّ على محبّته، كم دلّ على ما في إرشاده من إلحاح، ولا سيّما مع المنادى في آ 11: "يا رجل الله". إن مؤسّس كنيسة أفسس ترك بشكل نهائي هذه الجماعة المسيحيّة الكبيرة بين يدي خلفه الشاب وتلميذه والمفضّل. هي كلمة واحدة يستعملها الرسول للمرة الأولى فتوجز عواطفه وتمنّيه الأخير وروح الرسالة كلها: احفظ الوديعة.
"فيلاكسون". حفظ. في العبرية: ف ق د (لو 5: 21، 23). رج طو 10: 13: قالت عدناء لطوبيا: "ها إني أسلّم ابني وديعة أمام الله". التشديد هنا على الأمانة: نحافظ على ما سلّم إلينا ونعيده سالمًا. هذه الوديعة هي مهمّة تيموتاوس الرعائيّة والتعليميّة والإداريّة والالتزام الذي اتّخذه أمام الرب، والوصيّة التي تلقّاها (آ 14)، بل نحن أمام "التعليم الصحيح" وسرّ التقوى الذي تسلّمته الكنيسة (3: 15- 16) والذي يعطي الحياة. نستطيع أن نقول: حفظُ الوديعة هو السهر لكي تبقى الكنيسة دومًا، في تواصل وجودها وكل وجهات حياتها، كنيسة يسوع المسيح الذي هو الربّ الواحد.
يحفظ تيموتاوس الوديعة. لا يضيف إليها. ولا يحذف منها. يحفظها، بصدق وحكمة، وهذا حتّى الموت. والسهرُ يفرض عليه أن يهرب في وقت الحاجة، ويقف ساعة يجب الوقوف. يهرب من "كانوفونيا"، أي أصوات لا مدلول لها ولا مفهوم. كلام ضبابيّ. عددُ هؤلاء الأشخاص ليس كبيرًا، ولكن تأثيرهم يُفسد الجماعة. لهذا أنهى بولس كلامه بالكلام عنهم. وطلب لنفسه ولتيموتاوس ولجماعة أفسس نعمة خاصّة من لدن الله.

2- قراءة إجماليّة
بعد أن انتقد بولس معلّمي الضلال، رسم وجهَ الراعي الحقيقيّ في شكل موجز: حثّ تيموتاوس على أن يكون جديرًا بنداء الله. فالتلميذ »رجل الله«، وبهذا يختلف عن الذين يحبّون الفضّة. رجل الله هذا يشبه إيليا وأليشاع وداود. هو رجل نال رسالة خاصّة يجب أن يكرّس لها حياته كلها (اعلان الكلمة، مسؤوليّة الرعاية). ورسالة تيموتاوس تدعوه لكي يهرب من الضلال الذي ندّد به بولس، ويحيا الفضائل التي تجعل منه مسيحيًا حقيقيًا وراعيًا لا لوم فيه.
وما يُطلب من مجهود من التلميذ، يقابَل بجهاد، بل بسباق في الحلبة. فالمتسابق يسعى إلى إكليل يفنى. أما المجازاة التي وُعد بها تيموتاوس، فتعني انتصار الايمان ونوال الحياة الأبديّة. لا شكّ في أن هذه الحياة ليست ثمرة مجهود الانسان. فهي تبقى عطيّة الله (روم 8: 22- 23). غير أن الله يريد من الانسان جهادًا وعزمًا يتوافقان مع النداء. كل شيء نعمة، ولكن النعمة تصبح باطلة إن أهملها الانسان. يعرف التلميذ أنه مدعوّ إلى الحياة الأبديّة برحمة الله، بدون استحقاق سابق. والنداء المذكور هنا ليس دعوة إلى الخدمة، بل نداء إلى الحياة في يسوع المسيح الذي يجعل من المؤمنين "مدعوّين" (روم 1: 6- 7؛ 1كور 1: 2). لهذا، نفسّر اعتراف الايمان (هومولوغيا) هنا، لا كتأكيد على إيمان مستقيم ساعة وضْع اليد، ولا كشهادة أمام المحاكم، بل كجواب المؤمن على نداء الله. "إن اعترفت بفمك أن يسوع ربّ، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من بين الأموات، تخلص" (روم 10: 9)
"من آمن أن يسوع هو المسيح، وُلد من الله" (1يو 5: 1). فالمعموديّة التي هي علامة الايمان، تنقل "الموعوظ" من الموت إلى الحياة (روم 6: 1ي). فالمؤمن خليقة جديدة (2كور 5: 17) في يسوع المسيح وبقدرة الله. لهذا، لا ندهش إن تحدّث الكاتب عن الله وقال إنه يعطي الحياة. أما الوصيّة التي ينبغي على تيموتاوس أن يحفظها، فليست قولاً يدعوه إلى الهرب من محبّة الفضّة. بل هي قاعدة حياة تصدر من الايمان والانجيل. كان يسوع قد تسلّم من الآب وصيّة بها يعطي حياته ويستعيدها (يو 10: 18). هذه الوصيّة هي الحياة الأبديّة (يو 12: 50). ويسوع بدوره أعطى تلاميذه وصيّته. لهذا، فالمسيحيّ يتسلّم هذه الوصيّة ويعد بأن يبقى أمينًا لها. وما يساعد التلميذ على هذه الأمانة فكرة مجيء الربّ.
كانت آ 5- 8 انتقادًا لطلب الربح، كما ظهر لدى عدد كبير من المعلّمين المضلّين، فيبقى أن يقدّم الرسول اعتبارات عامّة حول التعلّق بخيرات هذا العالم مع سؤالين: هل يجب على من يريد أن يكون تلميذ المسيح أن يتجرّد عن كل ما يملك؟ هل يمكن الانسان أن يكون مسيحيًا وغنيًا في الوقت عينه؟ تحدّث بولس عن الغنى، ودلّ أن هناك غنى هذا العالم الذي يعطي خيرات موقتة، وغنى العالم الآتي الذي يعطي الخيرات الحقيقيّة. رج مت 6: 19؛ لو 12: 16- 21؛ 16: 9. وكانت مقابلة بين هذا العالم، العالم الحاضر، الخاضع لقوى الشرّ التي تسعى لبلبلة أفكار البشر بحيث تمنعهم من البلوغ إلى الخلاص بالايمان بيسوع المسيح، وبين العالم الآتي. إن المسيح قهر هذه القوى الشيطانيّة فسارت في ركابه (كو 2: 15). والمسيحيّ مات عن عناصر العالم (كو 20: 10).
ومع ذلك، لا يطلب بولس من الأغنياء أن يتخلّوا عن أموالهم. فالفقر المادي (والعوز) ليس شرطًا ضروريًا لكي نكون مسيحيين. كل ما أراده بولس هو أن يحذّر أصحاب الأموال من تجربتين: احتقار الآخرين، الاتكال اللامحدود على المال. فهناك تجربة قد يقع فيها الغني حين ينظر من فوق إلى الناس، يحتقر الصغار والعمّال، يستغلّ الفقراء بلا رحمة. وهناك تجربة تجعله ينسى الله ويستغني عنه وعن عونه. فالرفاهيّة التي يُرمز إليها بالشحم الذي يغلّف الجسم، تمنع النفس من الارتفاع إلى الله (تث 31: 20؛ 31: 15؛ أي 15: 27). لهذا يصعب على المتخم الشبعان أن يكون قلبُه قلبَ فقير ليدخل إلى الملكوت. كان أجور (أم 30: 8- 9) قد طلب من الله أن يُبعد عنه الفقر والغنى. فإن شبع قال: "أين هو الرب". وهكذا يميل عن الله.
فللغنيّ المسيحيّ في الكنيسة مكانته، وله رسالته التي هي نبيلة مهما انتابها من الخطر: إنه وكيل الغنى الالهي الذي يمكن أن يجعله في خدمة الجماعة، ولا سيّما الفقراء فيها. هذا ما نقرأه في آ 18. فالغنيّ لا ينعم بغناه بروح أنانيّة بما يملك، بل يستعدّ للعطاء والمقاسمة. هناك عمل خارجيّ، الصدقة (اوماتادوتوس). وهناك استعداد داخليّ يدلّ على محبّة الاخوة (كوينونيكوس). أو هناك من يحسن للآخرين بقلب منفتح ولا ينتظر من يطلب منه (أم 22: 9؛ 2كور 9: 7). وذاك الذي يجعل ما عنده في خدمة المجموعة كلها، كما كان الوضع في كنيسة أورشليم (أع 2: 44؛ 4: 32). هكذا يتصرّف الوكيل الصالح.
وإن كان هذا الوكيل أمينًا لوكالته، كان له الربح الحقيقيّ. فهو يجمع من أجل المستقبل كنزًا يكون له رأس مال مهمًا جدًا. نجد هنا صورتين: الكنز الذي نحتفظ به. الأساس الذي نستند إليه. فكرة الكنز السماويّ معروفة في العهد الجديد (مت 6: 20؛ مر 10: 21). وحيث يكون كنزنا هناك قلبنا.
وتنتهي الرسالة بدعوة تيموتاوس إلى السهر والمحافظة على وديعة الايمان. ويفهمه بولس أن الرسالة وإن توجّهت إليه، فهي تتوجّه أيضًا إلى الكنيسة كلها. لهذا، لم ينه كلامه: "النعمة معك"، بل "النعمة معكم". لقد تمنّى بولس أن يرى نعمة الرب فائضة بوفرة في قلوب المؤمنين، في خط ما نقرأ في نهاية 2كور: "نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبّة الله، وشركة الروح القدس معكم أجمعين".

خاتمة
ظلّت 1تم محافظة على موضوعها الأساسيّ، فما انتهت مثل روم، مع السلامات والتمنيات. في البداية، أعطى الرسول وصيّته. وفي النهاية، طلب من تلميذه أن يحفظ الوديعة. منذ البداية حذّره من المعلّمين والمضلّين، وظلّ ينبّهه حتى النهاية من هذا الخطر الذي يهدّد كنيسة أفسس، ويهدّد اليوم كل كنيسة من كنائسنا. لهذا، وجب على تيموتاوس أن لا يخاف ولا يتردّد، بل ينطلق في طريق الجهاد، ولو كلّفه ذلك حياته. سيكون جنديًا ليسوع المسيح. أما سلاحه فغير سلاح البشر. البر، التقوى، الايمان، المحبّة، الصبر، الوداعة. بمثل هذه الفضائل، يمكنه أن ينطلق لكي يفوز بالحياة الأبديّة التي دُعي إليها. وليس هو وحده، بل جميع الذين سلّموا إلى رعايته. تلك هي التجارة الحقّة التي يقوم بها هذا التلميذ الصالح والوكيل الأمين والشاهد لحضور الربّ يسوع في الكنيسة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM