الفصل الثالث :محاربة المعلّمين الكذبة

 

الفصل الثالث
محاربة المعلّمين الكذبة
1: 3- 11
بدأ بولس فشدّد على سلطته الرسوليّة التي نالها من الله. أرسله الربّ يسوع، فأطاع أمرًا جاءه من الله. ووجّه كلامَه إلى تيموتاوس، طالبًا له النعمة الضروريّة لإتمام عمله، والعون في الصعوبات، والسلام في القلب.
والسؤال الذي يُطرح على خادم الله، هو التعليم الذي ينقله: هناك وجه سلبي: محاربة المعلّمين الكذبة. ووجه إيجابيّ: إيصال البشارة إلى المؤمنين. لهذا، يعود تيموتاوس إلى الشريعة الجديدة، تجاه خرافات تدخل إلى الكنيسة، تجاه مزج بين الحقّ والضلال، بحيث نبتعد عن مخطّط الله الخلاصيّ، وننسى العلاقة بين الايمان والمحبّة من جهة، والفضائل الأخلاقيّة من جهة ثانية.

1- التعليم الصحيح
تشدّد الرسائل الرعائيّة، أول ما تشدّد، على استقامة الايمان. وذلك في ردّ على تعليم الهراطقة. أما الردّ فيستند إلى مكانة الكتب المقدّسة في قلب الحياة المسيحيّة. لهذا نتوقّف عند أربعة ألفاظ: الانجيل أو البشارة. الكلمة. معرفة الحقّ. التعليم الصحيح.
لا نستطيع القول إن 1تم تورد النصّ الانجيليّ المكتوب، اللهمّ ما نقرأ في 5: 18: "العامل يستحقّ أجرته" (رج لو 10: 17). لهذا، فلفظ "انجيل" (أو: بشارة) يحتفظ بمعناه الأول: إعلان البشارة والخبر الطيّب. لسنا هنا أمام ملكوت الله كما في الأناجيل الإزائيّة، بل أمام شخص يسوع المسيح. في هذا المجال، نقرأ 2تم 2: 8: "أذكر يسوع المسيح، المتحدّر من نسل داود، الذي قام من بيت الأموات، بحسب انجيلي"، بحسب الانجيل الذي أبشّر به في كل مكان. فالانجيل هو القاعدة الأولى للتعليم. وهو يكشف مجد الله السيّد (1: 11)، وقدرة المسيح يسوع "الذي أباد الموت، وأبان (أشعّ) الحياة والخلود (= عدم الموت) بواسطة الانجيل" (2تم 1: 10). إذن، يليق بنا أن نتألّم من أجل الانجيل (2تم 1: 8).
وبعد الانجيل، يرد لفظ "الكلمة" (لوغوس) عشرين مرّة في الرسائل الرعائيّة. وهو يعني دومًا كلمة الله (لو 8: 11) التي هي زرع يُرمى في قلب المؤمنين. كما يعني "التعليم الموحى" (تي 1: 3). فينبغي على خادم الانجيل أن يتكرّس لكلام الله (5: 17)، وأن يُعلنه في وقته وفي غير وقته (2تم 4: 2). أما الكرازة فتتركّز في عبارات تبدو بشكل حجّة دامغة. هي "كلمات الايمان" (4: 6). وترد خمس مرّات عبارة "هذا القول صادق". رج 1: 15؛ 3: 1؛ 4: 9؛ 2تم 2: 11؛ تي 3: 8.
وهكذا نصل إلى معرفة الحق. إن لفظ الحق "أليتايا" لفظ مفتاح في الكتاب المقدّس، وهو يقع بين تقليدين: التقليد العبريّ الذي يشدّد على وجهة الأمانة (ا م ت) ويشير قبل كل شيء إلى الصدق في التزاماتنا بحيث يستطيع الآخرون أن يستندوا إلينا. والتقليد اليونانيّ يُبرز الوجهة العقليّة في المعرفة: الحقيقة هي كشف ما هو خفيّ، وتوافق الفكر مع معطيات الواقع. برز تيّار فلسفيّ في خط أفلاطون يقابل عالم الفوق محسوس مع عالم محسوس يبدو كالهباء، وقريبًا من التلاشي.
عاد لفظ "أليتايا" 14 مرّة في الرسائل الرعائيّة في معنى تعليميّ، فقابل الضلال الذي يتجسّد في الكذب (4: 1) ويصوّر من أغواه الكذبة المراؤون. و"معرفة الحق" عبارة ترد أربع مرّات في الرسائل الرعائيّة، فتدلّ على معرفة تسمو على المعرفة البسيطة (غنوسيس). ونحن نحصل على معرفة الحقّ بالتوبة (2: 25). في هذا الاطار، نقرأ 2: 4: "يريد الله مخلّصنا أن يخلص جميع البشر ويبلغوا إلى معرفة الحقّ". نحن أمام مسيرة تُلزم الانسانَ بكل كيانه، ولا تتوافق عند فضول بسيط نكتشفه عند نساء قالت عنهنّ 2تم 3: 7: "يتعلّمن على الدوام، ولا يبلغن أبدًا إلى معرفة الحقّ". ومهما كانت أهميّة استقامة المعرفة من أجل الخلاص، فلا نستطيع أن ننسى الوجهة الأخلاقيّة. فبكرازة الانجيل نسعى لكي نجيء بالمختارين إلى الايمان ومعرفة الحقّ "حسب التقوى) (تي 1: 1). ومعرفة الحقّ هذه التي نقتنيها بالايمان، تبدو كمبدأ حُكم يوجّه المؤمنين في حياتهم اليوميّة: خلق الله جميع الأطعمة "لكي يتناولها في شكر المؤمنون والعارفون بالحقّ" (4: 3).
أما التعليم الصحيح فتتحدّث عنه الرسائل الرعائيّة 28 مرّة مع ألفاظ ترتبط بجذر »ديدسك« (ديدسكالوس، ديداخي...)، وتُبرز أهمّيته.هو يعارض "التعليم الآخر"، تعليم الهراطقة. هو "حسن" (4: 6)، جميل (كالوس في اليونانيّة). أي قيمته كبيرة هو سام. رفيع. فيعارض ما هو قبيح ومشين. هذا التعليم أهل للمديح والكرامة، لأنه مستقيم.
أما الصفة التي تصف هذا التعليم فهي "صحيح". رج فعل "هيغياينو" (تسع مرّات)، نحن أمام استعارة عن صحّة الجسد، لكلام عن الاستقامة الخلقيّة (أفلاطون). وتحدّث فيلون الاسكندراني في مقال عن ابراهيم (233) عن الكلام الصحيح. في هذا المعنى نفهم أن الرذائل الواردة في 1: 9- 10 تعارض التعليم الصحيح (1تم 1: 10؛ رج 2تم 4: 3). فهذا التعليم يرتبط بالكلام الصحيح، "كلام ربنا يسوع المسيح" (6: 3). وأساسه كرازة الرسول لتلاميذه (2تم 1: 13؛ تي 2: 1). هذا التعليم هو ما يجب أن ينقله الشيوخ أو الكهنة (تي 1: 9).

2- دراسة النصّ
قبل الدراسة، نقدّم التقليد النصوصيّ. في آ 4، جعلت بعضُ المخطوطات والذهبيّ الفمّ وتيودوريتس "زيتيسايس" (المجرّد) بدل "إكزيتيسايس" (المزيد) الذي لا نقرأه في موضع آخر في البيبليا (يثير المجادلات). وقرأ البازي وايريناوس وأبيفانيوس والشعبيّة اللاتينية "اويكودومين" (بناء) بدل "اويكودوميان" (بناء). في آ 8، قرأ اكلمنضوس الاسكندراني "خريسيتاي" بدل "خريسيتاي" (طلب، مارس). في آ 11، جُعل الموصول (تي) قبل "كاتا" عند باسيليوس والشعبيّة اللاتينيّة (كوي): هكذا يرتبط التعليم الصحيح بالانجيل، ساعة يبدو الانجيل مشيرًا إلى التعارض مع الرذائل المذكورة، أو مع نظرة هؤلاء المعلّمين إلى الشريعة.

أ- تعليم وتعاليم (1: 3- 7)
يقابل الرسول بين التعليم الصحيح الذي هو واحد، وتعاليم الهراطقة المتعدّدة: هي في الواقع خرافات وجدالات لا نهاية لها.
أولاً: طلبتُ منك (آ 3)
كان بولس قد أقام في أفسس، فطلب من تلميذه قبل أن يمضي إلى مكدونية، أن يبقى حيث هو. نقرأ فعل "بروسمانو": لبث أيضًا في موضع محدّد، قرب شخص من الأشخاص. إذن، طُلب من تيموتاوس أن يبقى في مركزه، مهما كانت الصعوبات التي تنتظره. هذا يدلّ على أن تيموتاوس كان متردّدًا، كما قال الذهبيّ الفمّ وتيودورس المصيصي، لأن الأجواء غير مريحة. مثل هذا الارشاد للرسول، يعني أمرًا (2: 1) مع موضوع محدّد، سبق وتحدّث عنه.
وما هو هذا الأمر؟ التنبّه إلى التعليم الدينيّ الذي يُعطى في جماعة أفسس، فيدلّ على سلطته. نقرأ "باراغالو"، أوصى، أمر، فرض كما بأمر عسكريّ (أع 5: 28؛ 16: 23؛ 1كور 7: 10). على تيموتاوس أن يتصرّف بقوّة فيسدّ فم (تي 1: 11) الهراطقة، ويحرمهم اذا اقتضى الأمر، كما فعل بولس فعل طبيب يقطع العضو الفاسد (1: 20؛ 2تم 2: 18). يرفض الرسول الحوار مع أشخاص يتلهّون بالمباحثات السخيفة (2تم 2: 23). هو لا يذكر اسمهم، كما اعتاد أن يفعل في مناسبات أخرى (1كور 4: 18؛ 2كور 10: 2؛ غل 1: 7؛ فل 1: 5). نقرأ "بعض" (تينس) فنفهم أننا لسنا أمام مجموعة كبيرة، بل أمام أفراد قلائل. هم من أصحاب البلاغة (آ 7) الذين يعلّمون تعاليم غريبة عن الكرازة التقليديّة التي هي قاعدة الايمان. لسنا أمام تعليم يُناقض الانجيل، بل يناقض ما علّمه بولس. هو تعليم خطر يجب أن يتصدّى له تيموتاوس. وفي أي حال، هو تعليم لا يُفيد الحياة المسيحيّة لعُقمه.
ثانيًا: خرافات وأنساب (آ 4)
حين مرّ بولس في ميليتس، انتظر أن يقوم أناس "يحاولون بأقوالهم الفاسدة، أن يجتذبوا التلاميذ وراءهم" (أع 20: 30). وها هم حاضرون. هم يهتمّون (بروساخو، تمسّك) بخرافات وأنساب: يقرأون حياة الآباء وأقوالهم وأعمالهم بالنهج الاستعاريّ، ويضمّونها إلى الميتولوجيا اليونانيّة، كما يقابلون خبر الخلق في الكتاب المقدّس مع نظريات حول نشوء الكون في العالم اليونانيّ. كل هذا يرتبط بالعالم اليهوديّ (تي 1: 14؛ رج 1تم 1: 7. معلّمي الشريعة) وبمجادلات ترتبط بالشريعة (تي 3: 9).
مثل هذه المجادلات لا نهاية لها، وهي لا تصل إلى نتيجة (أبارانتوس). هنا نتذكّر كلام بولس في 1كور 4: 20: "ملكوت الله ليس بأقوال، بل بالقوّة". ويشدّد الشقّ الثاني من آ 4، على عدم جدوى هذا الجدال، بل على ضرره: نحن أمام لاهوت كاذب يخلق الخلافات في الجماعة (أع 15: 2). وهذا ما يخالف حكمة الله الخلاصيّة. نقرأ هنا "أويكونوميا" التي تعني تأمين ما يحتاجه البيت وأعضاؤه من أجل حياتهم اليوميّة. هي مخطّط الله الخلاصيّ الذي يتسجّل في مسيرة البشريّة (أف 1: 10؛ 3: 9). وهي وكالة تُسلّم إلى أشخاص من أجل تحقيق هذا الخلاص (1كور 9: 17؛ أف 3: 2؛ كو 1: 25).
وهكذا نفهم أن المعلّمين في الانساب، لا يمارسون خدمة توافق وضعهم كوكلاء في تدبير الله. عليهم أن يربّوا المؤمنين من أجل اقتناء الخلاص. فماذا يفعلون في الواقع؟ وهل يستند الخلاص إلى خطب ومناقشات، أم إلى إيمان نعيشه (1كور 1: 21)؟ بما أن الواعظ هو وكيل أسرار الله (1كور 4: 1)، يُمنع من أن يضيف إلى الايمان أفكاره الخاصّة وما فيها من استنباط. "ماذا يتوخّى تدبير الحكمة الالهيّة؟ أن نتقبّل قوّته، أن نُصلح ذواتنا، أن لا نشكّ ولا نجادل، أن نكون في راحة. ما يهيّئه الايمان ويبنيه، تقلبه تساؤلاتُنا" (الذهبيّ الفمّ).
ثالثًا: غاية الوصيّة (آ 5)
وظيفة تيموتاوس هي محاربة التعاليم الضالّة. ولكنّها وجهة جزئية. فما يجب أن يضعه نصب عينيه هو المحبّة (أغابي). المجادلات تخلق النزاع، والمسيحيّة المحبّة. ودور الوصيّة (بارانغاليا) هو إرساء ملكوت المحبّة (1: 14؛ 2: 15؛ 4: 12...). إن "تالوس" (غاية) تدلّ على النهاية والغاية، والنتيجة التي تقابل الاستعداد (روم 6: 21؛ 2كور 11: 5) مع تطلّع إلى النجاح (يع 5: 11) وإلى النجاح الكامل (يو 13: 1؛ روم 10: 4). ذاك يكون هدف تيموتاوس، وهدف وظيفته. في هذا المجال، كتب أوغسطينس إلى شماس يعلّم الموعوظين: »بما أنك وضعتَ أمامك هدفًا لعملك، هو المحبّة، فإليها تُعيد كل ما تقول. ومهما كان الموضوع الذي تتكلّم عنه، فقله بحيث إن الذي يسمعك يؤمن. وإذ يؤمن يرجو. وإذ يرجو يُحبّ".
بما أن المحبّة هي جوهر الانجيل وقوام الحياة المسيحيّة، حاول الرسل أن يبعدوا كل تقليد وتزييف. بما أن المحبّة هي من الله (روم 5: 5؛ غل 5: 22)، فهي مقدّسة، لا عيب فيها (أف 1: 4؛ 5: 27). هي طاهرة (كاتاروس)، نظيفة، نقيّة (يو 13: 10). وهذا ما يعارض الملطّخ والنجس (تي 1: 15). وترتبط المحبّة بالضمير (سينايديسيس) الذي يكوّن الانسان، ويجعله مسؤولاً، ويُفهمه كيف يميّز الخير من الشرّ (1كور 10: 25، 27). وهكذا يلتقي الضمير مع المحبّة في بغض الشرّ وحبّ الفضيلة. فنحن لا نستطيع أن نحبّ الله والقريب إن تنجّس ضميرُنا بالخطيئة ونوايا السوء. قال أوغسطينس: "أضاف إلى المحبّة "القلب الطاهر" لئلاّ نحبّ إلاّ ما يجب أن نحبّ".
"إيمان صادق"، لا غشّ فيه. "انيبوكريتوس". يرفض الطلاق بين ما نقول وما نفعل. شجب الربُّ الخبث والمراءاة (لو 12: 1)، فوصف الرسلُ في خطاه، الحكمة (يع 3: 17) أو المحبّة (روم 12: 9؛ 2كور 6: 6) التي هي بلا رياء: التعبير عن المحبّة في الخارج يقابل العواطف الداخليّة (1يو 3: 18، نحبّ في الحق). والايمان الذي نعلنه في الخارج، بلا رياء، يعبّر عمّا في القلب من يقين. وحده البار يحيا إيمانه، ويعيش من إيمانه (غل 2: 20). أما الهراطقة فيتميّزون بمظاهر دينيّة لا تقابل الواقع (تي 1: 16؛ 2تم 3: 18). وغياب الاستقامة (هي تُرى، أما استعداد القلب فلا يُرى) يجعلهم غير جديرين بالمحبّة. فما يقابل القلب الطاهر هو فساد العقل (نوس في اليونانيّة، 6: 5). وما يقابل الضمير الصالح، الضمير المكويّ بالحديد المحمّى (4: 2). وما يقابل الايمان الصادق، استبعاد عن الايمان وحياة في الكفر (2تم 3: 8).
رابعًا: معلّمون مدّعون (آ 6- 7)
إن الذين يشابهون "هيمينايس وفيليتس" (2تم 2: 17)، لا يتّخذون الوسائل (استقامة القلب والضمير والايمان) ليبلغوا إلى هذه الغاية التي هي المحبّة. لهذا، لن يبلغوا إلى الهدف. "أستوخيو". انحرف. اتّخذ الاتجاه الخاطئ. فشل وسقط. هذا ما يفعله الهرطوقي. من جهة، يبتعد ويضلّ عن الايمان (6: 21). ومن جهة ثانيّة، يغرق المؤمنُ في أفكاره الخاصّة فيتراجع أو يسير في طريق مسدودة. واستُعمل فعل "إكتراباين": انحرف عن الطريق. وهذا ما يعارض طريق الربّ (2بط 2: 15)، طريق البرّ والخلاص (مت 21: 32) والمحبّة (1كور 12: 31).
الاتجاه الكاذب الذي أخذه هؤلاء الهراطقة، دُعى "ماتايلوغيا". خطبة فارغة. كلام بكلام. نحن هنا أمام انحطاط دينيّ. أما التعليم الانجيليّ فليس بفلسفة تنحصر في عالم العقل، بل وحي إلهيّ، لا يفسّره "المعلّم" كما يشاء (2بط 1: 20)، ولا يُغرقه في عالم من الأدب واللغة المنمّقة (6: 20؛ 2تم 2: 16). التعليم الانجيلي يعارض حكمة البشر، ويرفض كل حكمة سوى حكمة الصليب (1كور 1: 17- 25).
أما أحد الأسباب التي تجعل المعلّمين يضلّون (آ 7)، فهو البحث عن الشهرة والمجد الباطل. يريدون أن يقدّموا ما هو "جديد"، ما لم يقله أحد، ما يلفت النظر ويثير الحواس. ذاك كان وضع المعلّمين في غلاطية: يريدون أن يفتخروا افتخارًا بشريًا (غل 6: 13). هم عمّال أشرار (فل 3: 2). يريدون أن يكونوا معلّمين في الشريعة. ولكنهم جهّال، لا يفهمون. نقرأ فعل "نوياوو" الذي يشدّد على التعارض بين ما يريدون أن يصلوا إليه، وضعف الوسائل التي بين أيديهم. لا يفهمون معنى الكلمات والألفاظ التي يتلفّظون بها. يخطأون حين يقولون الأقوال الفارغة (آ 6). ويزداد خطأهم حين يريدون أن يعلّموا أمورًا يجهلونها 60: 20).
ب- الشريعة صالحة (1: 8- 11)
ترتبط آ 8- 11 ارتباطًا وثيقًا بما يسبقها من آيات. هي تحدّد موقع الانجيل الجديد بالنسبة إلى دور الشريعة الموسويّة التي يُفرط الهراطقة في تقديرها، فيعودون إلى الوراء. اخترعوا الخرافات والانساب. وملأوا النصّ المقدّس حواشي وشروحات، فدلّوا على أنهم لم يفهموا حرف الكتاب المقدس ولا روحه. جهلوا "الهدف الذي تؤول إليه الشريعة، والزمن الذي فيه ينتهي دورها" (الذهبيّ الفمّ)، فأعلنوا أنها ما زالت صالحة للمسيحيين، مع أن شريعة الحريّة والمحبّة تسودهم (يع 1: 25؛ 2: 12؛ غل 5: 1، 13). أعلن بولس أن الشريعة صالحة، ولكنها تتوخّى قبل كل شيء وضع حدّ للرذائل. فهي لا تستطيع أن تجعلنا نحيا حياة النعمة (غل 3: 24).
أولاً: الشريعة والأشرار (آ 8- 9)
»ونحن نعلم«. جعل الرسول نفسه مع القرّاء. وصيغة الكامل تدلّ على أن هذه المعرفة هي يقين. وقد امتلكناها بشكل نهائيّ، لأنها معرفة الايمان (أويدا في اليونانيّة). هنا نتذكّر كلام بولس في روم 3: 19: "ونحن نعلم أن كل ما تقول الشريعة، إنما تخاطب به الذين يخضعون للشريعة". لا ننسى أن الشريعة صالحة (روم 7: 16)، لأن الله أعطاها. ولكن يبقى أن نعرف كيف نستعملها، وأن لا تطلب منها أكثر ممّا تقدر أن تعطي. إن فعل "خريتاي" يعني ممارسة عادة، خضوع لشريعة. إن الشريعة الموسويّة التي ألغاها يسوع (روم 10: 4)، كانت حاجزًا تمنعنا من الخطيئة، وتجعلنا نعي الشرّ (روم 7: 7). ولكنها لا تستطيع أن تبرّرنا (روم 3: 20)، لأنها غريبة عن التدبير المسيحي (غل 5: 20). فالتدبير المسيحيّ هو شريعة روح الحياة في المسيح يسوع (روم 8: 2).
في آ 9، يأتي المبدأ الشامل الذي يشرح كلام الرسول (لأننا نعرف، إيدوس)، بعد أن نستنتجه من الحياة الجديدة التي يُشرف عليها الروح (غل 5: 18). لم تعلَن هذه الشريعة للأبرار، بل للأشرار "نوموس" (ناموس، شريعة). "كايماي" (وُضعت، جُعلت). جعلها الله هنا، فتوخّت أن تمنع الخطيئة. فالابرار يتبرّرون بالمسيح. يعيشون بالايمان، لا حسب الشريعة (غل 3: 11؛ روم 1: 17؛ 5: 19؛ كو 2: 20- 22). هم الصادقون الذين يسلكون بحسب الحقّ (يع 5: 16؛ 1يو 3: 17). يعارضون "أنوموس"، من لاناموس له. هم أهل المحبّة (مت 25: ،37 46) الذين لا يحتاجون إلى ضوابط قانونيّة، لأن إيمانهم يعمل بالمحبّة (غل 5: 6، 14؛ روم 13: 8). "ديكايوس" (البارّ) يعني أولاً المعلّم، الرابي، النبيّ (مت 10: 41؛ 13: 43). يسخر بولس من هؤلاء المعلّمين فيقول لهم إن الناموس ليس لهم، لأنهم لا يعرفون أن يستعملوه.
ولكن يأتي القول المأثور: من ليس بارًا، لا يحتاج إلى شريعة. فهو يدوسها في كل وقت. فالشريعة وُضعت لتمنع الأشرار عن الشرّ وتصلحهم (روم 13: 1- 7؛ 1بط 2: 14)، وتجعل حدودًا لما يصنعونه. ويذكر بولس 14 فئة من الخطأة، مع ارتباط بالوصايا العشر. أولاً: الذين لا ناموس لهم (أنوموس). هم الوثنيون والخطأة بحسب المفهوم اليهوديّ (أع 2: 23؛ 2بط 2: 8). هم يتمرّدون على الشريعة (لو 22: 37). هذا يعني البشريّةَ كلها. ثم "أسابيس" (عكس أوسابيس، التقي) الذي يرفض الخضوع لله في قلبه، وفي ممارسة الشعائر الدينيّة. والفئة الثالثة، هم "الخطأة" (هامارتولوس) الذين يتعدّون الفرائض فيُغيظون الله. وتتواصل اللائحة: الفجّار (أنوسيوس). النجسون (بابيلوس، يقابل هاغيوس). إن "قاتلي الآباء والأمهات" يعارضون الوصيّة الرابعة: أكرم أباك وأمك. وفي النهاية، نصل إلى الوصيّة الخامسة التي تقول بشكل عام: لا تقتل.
ثانيًا: مخالفة التعليم (آ 10- 11)
وتتواصل لائحة "الأشرار" فتدلّ على الذين يخالفون التعليم الصحيح. لسنا فقط على مستوى ضلال في التعليم، بل ضلال في الحياة. ارتبط الزناة (آ 10) بالقتلة (رؤ 22: 15) وبعبّاد الأوثان (رؤ 21: 8؛ 1كور 6: 9)، فكان أمامنا كل أشكال الخطايا الجنسيّة التي تحرمُ الانسان من ملكوت الله (أف 5: 5؛ عب 13: 4. رج الوصيّة السادسة: لا تزن). وذُكر "مضاجعو الذكور"، ثم أولئك الذين يخطفون الناس ليبيعوهم. هذا هو معنى الوصيّة السابعة: لا تسرق. وفي النهاية، الكذب والحلف بالباطل (الوصيّة الثامنة). فتعاليم الهراطقة ليست فقط فارغة (1: 6). بل هي طعام يضعف الأخلاق. فمن أخذ بهذه التعاليم، شرب سمًا لا يمكنه إلاّ أن يسمّم حياته: فنحن نعرف الشجرة من ثمرها.
نقرأ في آ 11 نتيجة ما في آ 8- 10: هذا ما يعلّم الانجيل، الذي هوقاعدة الايمان وينبوع الخلاص (2تم 1: 8، 10)، على مستوى الشريعة التي لا معنى لها للبار، وعلى مستوى الرذائل التي لا تتوافق مع ما تعلّمه الكنيسة.
مجد الله (أف 1: 17) هو تجلّي قداسته (أش 6: 3) وقدرته (مز 24: 8). هو وحي (أش 35: 2) يدلّ على عمل الله. انجيل المجد يدلّ على سموّ التعليم الموحى. غير أن مضمون الانجيل هو الحدث أو تجلّي ابن الله (تي 2: 11؛ 3: 4)، وهو القدرة التي تحمل الخلاص والقداسة (2كور 3: 18؛ أف 3: 16). هذا الحضور الفاعل والمضيء، هو ما يسمّيه العهد الجديد "المجد" (روم 9: 23؛ 1بط 4: 14) الذي يليق بالانجيل، نورنا وقوّتنا (2تم 1: 10) في المسيح. بما أن الله يدلّ على رحمته وتساميه في تدبيره الخلاصيّ، صار مجدُ الله مرادفًا لتتميم الخلاص. أخيرًا، يدلّ "انجيل المجد" على الوجهة الاسكاتولوجيّة في التعليم الخلاصي، لمجد الله (أف 1: 14؛ 3: 21) والمسيحيّين (تي 2: 13؛ 1كور 2: 7).
أجل، التعليم المسيحيّ هو غذاء لنا. ونحن لا نعيش بعد من الشريعة ولا بالشريعة. بل بالحريّة والمحبّة. هذا ما يجب على الكنيسة أن تزرعه في قلوب المؤمنين.

3- قراءة إجمالية
كان بولس مع تيموتاوس في أفسس. فانطلق إلى مكدونية، وترك تلميذه في عاصمة آسية الصغرى. تقع هذه الأحداث بعد سجن بولس الأوّل في رومة. لا نعرف الموضع الذي منه أرسل بولس رسالته، ولكننا نعرف أن أهل أفسس أحبّوا التنظيرات، والممارسات السحريّة، وهدّدتهم عبادةُ الامبراطور والالاهة ارطاميس. لهذا، بدا بولسُ قلقًا. وإن هو ترك أفسس لكي ينطلق إلى مكدونية، فلأنه أجبر على ذلك: فجماعة أفسس معرّضة لكرازة معلّمين لم يوفدهم أحد. ويجب أن يسكتوا. فطلب من تيموتاوس أن يُسكت هؤلاء الذين يعلّمون تعاليم مغايرة، تبتعد عن التقليد الرسولي. لسنا أمام انجيل آخر، بل أمام نظريات تحوّل المؤمنين عن جوهر الايمان.
اعتبر بولس ما يقوله هؤلاء المعلّمون "خرافات، سخافات، أخبار عجائز" (4: 7)، تعليمًا لا جدّية فيه. يعتبرون نفوسهم معلّمي الشريعة، فيقدّم بولس نظرته إلى الشريعة الموسويّة. وسوف يحدّد في تي 1: 14 أننا أمام "خرافات يهوديّة". وفي تي 3: 9 أن المباحثات الخرقاء والأنساب "ترتبط بالشريعة". إذن، ينتمي هؤلاء المعلّمون الأفسسيون إلى الأوساط اليهوديّة التي اهتمّت بأخبار وأنساب نجدها في عدد من الكتب المنحولة.
غير أن هذه الأبحاث الفارغة، لا علاقة لها بتدبير الايمان، بقصد الله المؤسّس على الايمان. فلفظة "تدبير" تعني في المطلق مخطّط الله الذي قاد البشريّة إلى الخلاص، عبر العصور. أما هنا، فتُشير إلى الخلاص في طبيعته العميقة. تشير إلى سرّ ظلّ مخفيًا مدى الدهور، وتجلّى الآن في يسوع المسيح، وانكشف للوثنيين. فما يُطلب للخلاص، ليس تنظيرات في العهد القديم، بل قبول نعمة الخلاص في المسيح. وهي نعمة ننالها في الايمان وبالايمان (غل 3: 1- 5). المهمّ ليس أن نعتدّ بأنساب دُرست بدقّة، بل أن نكون أبناء ابراهيم بالايمان (غل 3: 7). في هذا الإطار عينه، تحدّثت كو 2 عن سرّ (آ 2) يتعارض مع غرور "الفلسفة" الباطل (آ 8) وتفاصيل الشريعة، من ختان (آ 11) وفرائض طعاميّة وكلندار يهوديّ (آ 16) ونسك مصطنع (آ 16). فبالايمان نخلص حين نتقبل المعموديّة (آ 12).
ولما طلب بولس من تيموتاوس أن يقاوم كرازة المعلّمين الكذبة (آ 5)، أراد أن يكون طلبُه أمرًا لا رجوع عنه. أما الهدف فهو المحبّة التي هي وصيّة الربّ، كمال الشريعة، وقلب التدبير الالهيّ، وعطيّة الروح القدس التي ننالها في التبرير (روم 5: 7). هنا تتعارض المحبّة مع بحث عقليّ عقيم ومنغلق على ذاته. فالعلم ليس بشيء. هو ينفخ. والايمان لا ينفع إن لم ترافقه المحبّة (1كور 13: 2).
والمحبّة التي هي موهبة الروح للانسان، لا يمكن أن تتفتّح إلاّ بشروط: قلب طاهر. ضمير صالح. إيمان صادق. القلب هو مركز الحبّ أولاً. وهو داخل الانسان وينبوع شخصه العميق. والقلب الطاهر هو القلب غير المنقسم. القلب الصادق، المعطى كلّه لله. والضمير هو أكثر من نور طبيعيّ. هو شهادة الروح القدس في أعماقنا. ضمير الخاطئ منجّس، طُبع بحديد محمّى كعبد فرّ من بيت سيّده. أما ضمير البار فصالح، طاهر، لا اعوجاج فيه.
لماذا كتب بولس ما كتب؟ لأن الخطر يتربّص بالجماعة. فبعضُ أعضائها أصيبوا بهذا المرض الذي اسمه المماحكات، الأحاديث الفارغة (6: 20)، المباحثات التافهة (6: 4). بما أنهم لم يفقدوا بعدُ إيمانهم، ولم يتركوا الكنيسة، لم يسمّهم باسمهم (قال بعضهم)، كما فعل مع هيمينايس والاسكندر اللذين انكسرت سفينتهما، فبدا إيمانهما وكأنه غرق في اللجج (1: 19- 20). لهذا حرمهما بولس.
وهذا ما يتهدّد المعلّمين في أفسس. ظنّوا أنهم حكماء، فإذا هم جهّال، لا يعرفون عمّا يتكلّمون. هم مشهورون بضعف معرفتهم وقلّة خبرتهم. افترقوا عن أصحاب الأزمة الغلاطيّة، فما أرادوا أن يفرضوا على الوثنيين التشريع الموسويّ، كشرط ضروريّ الخلاص، بل اعتبروا أنهم يقدرون أن يستخلصوا من الشريعة نظرياتهم، وما فيها من مخاطرة، ومتطلّباتهم النسكيّة وما فيها من تهوّر (4: 3).
جهلوا المعنى الحقيقيّ للشريعة، فقدّم لهم بولس النظرة المسيحيّة. فالشريعة في ذاتها ليست سيّئة. بل هي مقدّسة. ولكنها فقط شريعة وتنظيم خارجيّ لا يحمل أي وسيلة داخليّة للخلاص. لهذا، فحين يدخل المؤمن، بواسطة المسيح، في قلب الخلاص، يموت عن الشريعة (غل 2: 19) ولا يعود خاضعًا لها (غل 5: 18). وحياته التي يُلهمها الروح القدس، تُثمر ثمار المحبّة التي ليس ضدّها ناموس (غل 5: 23). في هذا المعنى، استطاع بولس أن يقول إن الشريعة لم تُجعل للبار، بل للأشرار.
وفي النهاية، حدّثنا الرسول عن التعليم الصحيح (آ 10- 11). هو التعليم الذي يتضمّنه انجيل مجد الله. هذا ما يكرز به بولس الذي يتحدّث عن سرّ رحمة الله. الذي يحنو على الانسان الخاطئ، والمحروم بالتالي من مجد الله (روم 3: 23). وإذ يمنحه التبريرَ بنعمة مجانيّة، يُشركه في مجده، في حياته. وهكذا يستطيع الانسان المبرّر أن يعرف الحريّة المجيدة، حرّية أبناء الله (روم 8: 21). إذا كان التدبير القديم، تدبير الشريعة، لم يُحرم من بعض المجد (2كور 3: 7- 11)، فبالأحرى التدبير الجديد، تدبير الروح يشعّ بمجد الله. فانجيل بولس هو إنجيل "مجد المسيح الذي هو صورة الله" (2كور 4: 4). وهو أيضًا "معرفة مجد الله الذي على وجه المسيح" (2كور 4: 6).

خاتمة
انطلقنا من نداء بولس إلى تيموتاوس، يدعوه فيه إلى محاربة التعاليم الضالّة، فوصلنا إلى كلام عن الشريعة التي لم تُجعل للأبرار، بل للأشرار والخطأة. فتلميذه بولس يعمل على إسكات أصوات تستطيب جدالات عقيمة لا بدّ أن تؤثّر على جوّ الجماعة المسيحيّة. ويُفهم بعضَ الذين يطلبون الشهرة على حساب الكنيسة، ما هي الشريعة وكيف يمكن عيشها، أو بالأحرى تجاوزها في شريعة الحريّة والمحبّة. هكذا كان تعليم بولس قاسيًا، بعدما رأى الخطر يتهدّد جماعة أفسس. أترى سيخاف تيموتاوس؟ هل يتردّد في اتّخاذ الخطوات اللازمة من أجل كنيسة قضى بولس فيها ثلاث سنوات، ولم يكفّ ليلاً ونهارًا، عن نصح كل واحد منهم بالدموع (أع 20: 31)؟


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM